الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المراد من سوء العذاب هنا تذبيح الأبناء واستحياء النساء.
وأما في سورة إبراهيم. فقد جاء سياق الآيات لتعداد المحن التي حلت ببني إسرائيل، فكان المراد بجملة يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ نوعا منه، والمراد بجملة وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ نوعا آخر من العذاب، لذا وجب العطف، لأن الجملة الثانية ليست مفسرة للأولى وإنما هي تمثل نوعا آخر من المحن التي حلت بهم.
هذا، وقد تكرر تذكير بنى إسرائيل بنعمة إنجائهم من عدوهم في مواضع متعددة من القرآن الكريم، وذلك لجلال شأنها، ولحملهم على الطاعة والشكر.
1-
من ذلك قوله تعالى في سورة الأعراف: وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ «1» .
2-
وقوله تعالى في سورة طه: يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي، وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى «2» .
فهذه الآيات الكريمة وغيرها مما هي في معناها فيها تذكير لبنى إسرائيل بنعمة من أجل نعم الله عليهم، حيث أنجاهم- سبحانه- ممن أراد لهم السوء، وعمل على قتلهم وإبادتهم واستئصال شأفتهم، وفي ذلك ما يدعوهم إلى الاجتهاد في شكر الله- عز وجل لو كانوا ممن يحسنون شكر النعم.
ثالثا: نعمة فرق البحر بهم.
ثم ذكرهم- سبحانه- بعد ذلك بنعمة ثالثة عظيمة حصل بها تمام الإنجاء وتجلى فيها إكرام الله لهم، وهي نعمة فرق البحر بهم فقال تعالى:
[سورة البقرة (2) : آية 50]
وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)
والمعنى: واذكروا يا بنى إسرائيل من جملة نعمنا عليكم، نعمة فرق البحر بكم، وانفصاله بعد اتصاله، حين ضربه موسى بعصاه، فأصبحت فيه طريق يابسة فولجتموها، وسرتم فيها
(1) الآية 141.
(2)
الآيات 80- 82.
هربا من فرعون وجنده؟ بذلك تمت لكم النجاة، وحصل الغرق لأعدائكم، وقت أن عبروا وراءكم وقد شاهدتموهم والبحر يلفهم بأمواجه، مشاهدة لا لبس فيها ولا غموض. ولقد كان فيما رأيتم ما يدعو إلى الاتعاظ، ويحمل على الشكر الجزيل لله العزيز الرحيم.
فالآية الكريمة تشير إلى قصة نجاة بنى إسرائيل وغرق فرعون وقومه، وملخصها:
أن الله- عز وجل أوحى إلى نبيه- موسى- عليه السلام أن يرحل ببني إسرائيل ليلا من أرض مصر التي طال عذابهم فيها إلى أرض فلسطين، ونفذ موسى- عليه السلام ما أمره به الله- تعالى- وعلم فرعون أن موسى وقومه قد خرجوا إلى أرض الشام، فتبعهم بجيش كبير، وأدركهم مع طلوع الشمس قرب ساحل البحر الأحمر، وأيقن بنو إسرائيل عند ما رأوه أنه مهلكهم لا محالة. ولجئوا إلى موسى- عليه السلام يشكون إليه خوفهم وفزعهم، ولكنه رد عليهم بقوله: إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ وأوحى الله إليه أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فضربه فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وأمر موسى- عليه السلام بنى إسرائيل أن يعبروا فعبروا بين فرقى الماء دون أن يمسهم أذى. واقتفى فرعون وجنوده أثرهم طمعا في إدراكهم وعند ما عبر بنو إسرائيل البحر ولم يبق منهم أحد بين المياه المنحسرة، كان فرعون وجنده ما زالوا بين فرقى البحر، فأطبق عليهم وعاد كما كان أولا، فغرقوا جميعا، وبنو إسرائيل ينظرون إليهم في دهشة وسرور.
وأسند- سبحانه- فرق البحر إلى ذاته الكريمة. ليدل على أن القوم عبروه وقطعوه وهم بعنايته، وقوله تعالى: فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ بيان للمنة العظمى التي امتن بها عليهم، والتي ترتبت على فرق البحر، لأن فرق البحر لهم ترتب عليه أمران.
أولهما: نجاتهم.
وثانيهما: إهلاك عدوهم وكلاهما نعمة عظيمة.
والإيمان الصحيح يقضى بأن تفهم واقعة انفصال البحر لموسى وقومه على أنها معجزة كونية له، وقد زعم البعض أنها كانت حادثة طبيعية منشؤها المد والجزر، وهو زعم لا سند له ولا دليل عليه.
واقتصرت الآية هنا على ذكر إغراق آل فرعون أى جنده وأنصاره، وصرحت آيات أخرى بغرقه مع آله، من ذلك قوله تعالى: فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً «1» وقوله تعالى:
(1) سورة الإسراء الآية 103. [.....]
َخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ
«1» ومن تمام النعمة أن الله- تعالى- أهلك مع فرعون كل مناصر له:
وقوله تعالى وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ أى: أغرقنا آل فرعون وأنتم تشاهدونهم بأعينكم، فكان ذلك أدعى لليقين بهلاك عدوكم، وأبلغ في الشماتة به، وأرجى لشكر النعمة- ولا شك أن مشاهدة المنعم عليه للنعمة فيها لذة كبرى، ورؤيته لهلاك عدوه فيها عبرة عظمى، ومعاينته لانفراق البحر فيها تقوية لإيمانه، وتثبيت ليقينه، إذا كانوا ممن يحسنون الانتفاع بما يشاهدون.
قال الإمام الرازي ما ملخصه: (اعلم أن هذه الواقعة- أى واقعة فلق البحر- تضمنت نعما كثيرة على بنى إسرائيل في الدين والدنيا، أما نعم الدنيا فمن وجوه:
أولها: أنهم لما اقتربوا من البحر أصبحوا في موقف حرج، لأن فرعون وجنوده من ورائهم والبحر من أمامهم، فإن هم توقفوا أدركهم عدوهم وأهلكهم، وإن هم تقدموا أغرقوا.
فحصل لهم خوف عظيم، جاءهم بعده الفرج بانفلاق البحر وهلاك عدوهم.
ثانيها: أن الله- تعالى- خصهم بهذه النعمة العظيمة والمعجزة الباهرة تكريما ورعاية لهم.
ثالثها: أنهم بإغراق فرعون وآله تخلصوا من العذاب، وتم لهم الأمن والاطمئنان، وذلك نعمة عظمى، لأنهم لو نجوا دون هلاك فرعون لبقي خوفهم على حاله، فقد يعود لتعذيبهم مستقبلا، لأنهم لا يأمنون شره، فلما تم الغرق تم الأمان والاطمئنان لبنى إسرائيل.
أما نعم الدين فمن وجوه:
أولها: أن قوم موسى لما شاهدوا تلك المعجزة الباهرة. زالت عن قلوبهم الشكوك والشبهات، لأن دلالة مثل هذا المعجز على وجود الصانع الحكيم وعلى صدق موسى، تقترب من العلم الضروري.
ثانيها: أنهم لما شاهدوا ذلك صار داعيا لهم على الثبات والانقياد لأوامر نبيهم.
ثالثها: أنهم عرفوا أن الأمور كلها بيد الله، فإنه لا عز في الدنيا أكمل مما كان لفرعون، ولا ذل أشد مما كان لبنى إسرائيل، ثم إن الله- تعالى- في لحظة واحدة جعل العزيز ذليلا، والذليل عزيزا، والقوى ضعيفا، والضعيف قويا، وذلك يوجب انقطاع القلب عن علائق الدنيا، والإقبال كلية على اتباع أوامر الخالق- عز وجل «2» .
هذا، ونعمة فرق البحر لبنى إسرائيل، وإنجائهم من عدوهم قد تكرر ذكرها في القرآن،
(1) سورة الذاريات الآية 40.
(2)
تفسير الرازي بتصريف ج 1 ص 360.