الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والضمير في قوله: مِنْهُمْ يعود لليهود الذين اشتهروا بنقض العهود وقوله: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ يفيد الترقي إلى الأغلظ فالأغلظ، أى أن فريقا منهم عرف بنقضه للعهد، وأكثرهم عرف بكفره وجحده للحق.
قال صاحب الكشاف، واليهود موسومون بالغدر ونقض العهود، وكم أخذ الله الميثاق منهم ومن آبائهم فنقضوا، وكم عاهدوا رسول الله فلم يفوا الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ. «1»
وقال الرازي: «والمقصود من هذا الاستفهام الإنكار وإعظام ما يقدمون عليه لأن مثل ذلك إذا قيل بهذا اللفظ كان أبلغ في التوبيخ والتبكيت. ودل بقوله: أَوَكُلَّما عاهَدُوا على عهد بعد عهد نبذوه ونقضوه، بل يدل على أن ذلك كالعادة منهم، فكأنه- تعالى- أراد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عند كفرهم بما أنزل عليه من الآيات، بأن بين له أن ذلك ليس ببدع منهم، بل هو سجيتهم وعادتهم وعادة سلفهم
…
» «2»
ثم تحدث القرآن بعد ذلك عن نبذ اليهود لكتاب الله، واتباعهم للسحر والأوهام، فقال- تعالى-:
[سورة البقرة (2) : الآيات 101 الى 103]
وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَاّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103)
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 227.
(2)
تفسير الفخر الرازي ج 1 ص 417.
والمعنى: وحين جاء اليهود وأحبارهم رسول من عند الله، وهو محمد صلى الله عليه وسلم الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة، طرح فريق كبير منهم تعاليم التوراة التي تشهد بصدقه، وراء ظهورهم، حتى لكأنهم يجهلون أنها من عند الله، واتبعوا ما قصته واختلقته الشياطين من السحر والأوهام والمفتريات على عهد سليمان- عليه السلام ومن هذه المفتريات والأكاذيب زعمهم أن سليمان- عليه السلام كان ساحرا، وما تم له ملكه العريض، ولا ظهرت على يديه المعجزات الباهرة من تسخير الجن والريح إلا بهذا.
وقد أكذبهم الله- تعالى- في هذا الزعم بقوله: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ أى: بتعلم السحر والعمل به، كما يزعم هؤلاء «ولكن الشياطين» هم الذين «كفروا» بتعلم السحر وتعليمه للناس، وتعليمهم- أيضا- ضربا آخر منه وهو ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ من وصف السحر وماهيته وكيفية الاحتيال به، ولقد كان الملكان لا يعلمان أحدا من الناس السحر حتى ينصحاه بقولهما: إن السحر الذي نعلمك إياه. القصد منه التمييز بين المطيع والعاصي، وبين السحر والمعجزة، فحذار أن تستعمله فيما نهيت عنه فتكون من الكافرين، بخلاف الشياطين فإنهم تعلموه وعلموه لغيرهم لاستعماله في الشرور والآثام، ولإحداث التفرقة بين الزوجين، ولكن هذا السحر الذي يتعاطاه الشياطين وأتباعهم لن يضر أحدا بذاته، وإنما ضرره يتأتى إذا أراد الله تعالى- ذلك وشاءه، ولقد علم أولئك النابذون لكتاب الله المؤثرون عليه اتباع السحر، أن من استبدل السحر بكتاب الله، فليس له نصيب من نعيم الجنة، وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ علما نافعا. وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا
بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم كما أرشدتهم إليه التوراة، وَاتَّقَوْا المعاصي والآثام لأثيبوا مثوبة من عند الله هي خير لهم مما آثروه واختاروه على كتاب الله لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.
وقوله تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ.. إلخ الآية.
بيان لما صدر عن اليهود من تكذيب للرسول صلى الله عليه وسلم وطرح لتعاليم كتابهم التي أمرتهم باتباعه.
أخرج ابن جرير عن السدى قال في قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ: كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ. أى لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم عارضوه بالتوراة فخاصموه بها.
فاتفقت التوراة والقرآن، فنبذوا التوراة والقرآن وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت، فذلك قول الله كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ أى كأن هؤلاء الذين نبذوا كتاب الله من علماء اليهود، فنقضوا عهد الله، لا يعلمون ما في التوراة من الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه «1» .
وفي وصف الرسول بأنه آت من عند الله تعظيم له، ومبالغة في انكار عدم إيمانهم به، وإغراء للناس جميعا بالدخول في دعوته، لأنه ليس رسولا من تلقاء نفسه، وإنما هو رسول من عند الله- تعالى-:
والمراد «بما معهم» التوراة. وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم لها، معناه أن ما جاء به من تعاليم موافق لها في أصول الدين، وأن ما جاءت به من صفات للرسول المنتظر بعد عيسى- عليه السلام لا تنطبق إلا عليه صلى الله عليه وسلم.
وعبر- سبحانه- عن تركهم العمل بالكتاب الذي نزل لهدايتهم بالنبذ، مبالغة في عدم اعتدادهم، وتناسيهم إياه، لأن أصل النبذ طرح وإلقاء ما لا يعتد به.
وفي إسناد النبذ إلى فريق من الذين أوتوا الكتاب، سخرية بهم، واستجهال لهم، لأن الذين أوتوه هم الذين نبذوه، ولو كان النابذون من المشركين لكان لهم بعض العذر لجهلهم، ولكن أن يكون التاركون للنور هم الذين أوتوه وأكرموا به، فذلك هو الضلال المبين.
والمراد من كِتابَ اللَّهِ الذي نبذوه لما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم التوراة، لأنهم لو كانوا مؤمنين بها حقا، لاتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ذكرت صفاته فيها، والذي وجب عليهم بمقتضى كتابهم التوراة الإيمان به، فهم بجحودهم لنبوته، يكونون جاحدين لتوراتهم التي شهدت له بالصدق.
(1) تفسير ابن جرير ج 1 ص 443 بتصرف وتلخيص.
وقيل المراد بكتاب الله الذي نبذوه القرآن، لأنهم لم يؤمنوا به، بل تركوه بعد سماعه، وتناسوا ما اشتمل عليه من هداية وإرشاد، مع أنه كان من المتحتم عليهم أن يتلقوه بالقبول.
والذي نراه أن الرأى الأول أرجح، لأن النبذ يقتضى سابقة الأخذ، في الجملة. وهو متحقق بالنسبة للتوراة، بخلاف القرآن الكريم فإنهم لم يسبق لهم أن تمسكوا به، ولأن مذمتهم تكون أشد وجحودهم أكثر، إذا كان المراد بالكتاب الذي نبذوه، هو عين الكتاب الذي نزل لهدايتهم وآمنوا به وهو التوراة.
وقوله تعالى: وَراءَ ظُهُورِهِمْ كناية عن إعراضهم الشديد عنه، وتوليهم عن تعاليمه.
تقول العرب: جعل هذا الأمر وراء ظهره، أى تولى عنه معرضا، لأن ما يجعل وراء الظهر لا ينظر إليه، ففي هذه الجملة الكريمة تصوير صادق لإعراضهم عن كتاب الله- تعالى- حيث شبه- سبحانه- تركهم لكتابه، بحالة شيء يرمى به وراء الظهر استهانة به. وفي إضافة الوراء إلى الظهر، تأكيد لنبذ ما ترك بحيث لا يؤخذ بعد ذلك.
قال الأستاذ الإمام: ليس المراد بنبذ الكتاب وراء ظهورهم أنهم طرحوه برمته، وتركوا التصديق به في جملته وتفصيله. وإنما المراد أنهم طرحوا أجزاء منه وهو ما يبشر بالنبي صلى الله عليه وسلم ويبين صفاته ويأمرهم بالإيمان به واتباعه. فهو تشبيه لتركهم إياه وإنكاره، بمن يلقى الشيء وراء ظهره حتى لا يراه فيتذكره، وترك الجزء منه كتركه كله، لأن ترك البعض يذهب بحرمة الوحى من النفس، ويجزئ على ترك الباقي «1»
…
وقوله تعالى: كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ جملة حالية، أى طرحوه وراء ظهورهم مشبهين بحال من لا يعلم منه شيئا، ومن لا يعرف أنه كتاب الله.
وشبههم بمن لا يعلمون مع أنهم في الواقع يعلمون أنه من عند الله- حق العلم- لأنهم نبذوه مكابرة وعنادا، ولأنهم لم يعملوا بمقتضى علمهم ومن كان هذا شأنه فهو والجاهل سواء، في جحود الحق والانغماس في الآثام.
وقال- سبحانه-: كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ بنفي الحال والاستقبال للإشعار بأنهم قوم لا أمل في توبتهم وإنابتهم، بل هم تمر بهم الأيام، وتتوالى عليهم العظات، ومع ذلك لا يتوبون ولا يرجعون إلى الحق، فهم مستمرون على طرح كتاب الله في كل وقت وآن، ومصممون على ذلك.
ثم حكى- سبحانه- لونا آخر من زيغهم وضلالهم واتباعهم للأباطيل بعد أن وبخهم على
(1) تفسير المنار ج 1 ص 346.
نبذهم لكتابه فقال تعالى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ.
اتبعوا: من الاتباع وهو الاقتداء، والضمير فيه يعود على اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم.
وتتلو: من التلاوة بمعنى الاتباع أو القراءة، وقال الراغب: تلا عليه كذب عليه.
والشياطين: جمع شيطان، وهو كائن حي خلق من النار، ويطلق على الممتلئ شرا من الأنس.
والمعنى: إن هؤلاء اليهود نبذوا كتاب الله، واتبعوا الذي كانت تتلوه وتقصه الشياطين على عهد ملك سليمان، وفي زمانه، من الأكاذيب والكفر ومن ذلك زعمهم أن ملكه قام على أساس السحر، وأنه ارتد في أواخر حياته، وعبد الأصنام إرضاء لنسائه الوثنيات إلى غير ذلك من الأكاذيب التي ألصقوها به- عليه السلام وهو برىء منها.
قال صاحب الكشاف: وقوله تعالى: عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ أى على عهد ملكه وفي زمانه، وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلفقونها ويلقونها إلى الكهنة، وقد دونوها في كتب يقرءونها ويعلمونها للناس، وفشا ذلك في زمان سليمان- عليه السلام حتى قالوا: إن الجن تعلم الغيب، وكانوا يقولون: ما تم لسليمان ملكه إلا بهذا العلم وبه يسخر الإنس والجن والريح التي تجرى بأمره «1» .
وقوله تعالى: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا معناه: وما كفر سليمان ولكن الشياطين هم الذين كفروا إذ تعلموا السحر وعلموه لغيرهم بقصد إضلالهم، وصرفهم عن عبادة- الله- تعالى- إلى عبادة غيره من المخلوقات.
ففي الجملة الكريمة تنزيه لسليمان- عليه السلام عن الردة والشرك وتبرئة له من عمل السحر الذي كان يتعاطاه أولئك الشياطين وينسبونه إليه زورا وبهتانا، ودلالة على أن ذلك السحر الذي نسبوه إليه وباشرته الشياطين نوع من الكفر.
وقد كان اليهود يعتقدون كفر سليمان، وأنه ارتد في آخر عمره، وعبد الأصنام وبنى لها المعابد، وكانوا عند ما يذكر النبي صلى الله عليه وسلم سليمان بين الأنبياء يقولون: انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل، يذكر سليمان مع الأنبياء، وإنما كان ساحرا يركب الريح.
فإن قال قائل: ما الحكمة في نفى الكفر عن سليمان مع أن صدر الآية لا يفيد أن أحدا نسب إليه ذلك.
فالجواب: أن اليهود الذين نبذوا كتاب الله، واتبعوا ما تلته الشياطين من السحر أضافوا
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 222.
هذا السحر إلى سليمان، وقالوا إنه كان يسخر به الجن والإنس والريح، فأكذبهم الله- تعالى- بقوله: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا كما بينا.
والضمير في قوله تعالى: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ يعود على الشياطين الذين افتروا الأكاذيب على سليمان- عليه السلام.
ويجوز أن يعود على اليهود الذين نبذوا كتاب الله واتبعوا ما تلته الشياطين على سليمان.
قال الأستاذ الإمام: في قوله تعالى يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ: وجهان:
أحدهما: أنه متصل بقوله تعالى: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا أى: أن الشياطين هم الذين يعلمون الناس السحر.
والثاني: وهو الأظهر أنه متصل بالكلام عن اليهود وأن الكلام في الشياطين قد انتهى عند قوله تعالى كَفَرُوا وانتحال اليهود لتعليم السحر أمر كان مشهورا في زمن التنزيل ولا يزالون ينتحلون ذلك إلى اليوم، أى أن فريقا من اليهود نبذوا كتاب الله واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وهاهنا يقول القائل: بماذا اتبعوا أولئك الشياطين الذين كذبوا على سليمان في رميه بالكفر وزعمهم أن السحر استخرج من كتبه التي كانت تحت كرسيه؟ فأجاب على طريق الاستئناف البياني يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ.
ونفى الكفر عن سليمان والصاقه بالشياطين الكاذبين ذكر بطريق الاعتراض، فعلم- أيضا- أنهم اتبعوا الشياطين بهذه الفرية، وإنما كان القصد إلى وصف اليهود بتعلم السحر، لأنه من السيئات التي كانوا متلبسين بها، ويضرون بها الناس خداعا وتمويها وتلبسا «1» .
وإنما أضاف الله- تعالى- إلى اليهود أنهم اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان خاصة مع أنه كان معروفا قبل سليمان- عليه السلام كما أخبر به القرآن عن سحرة فرعون، وإنما أضاف ذلك إليهم، لأن هذا كان هو الواقع منهم، ولأن سحر هؤلاء الشياطين الذين كانوا على عهد سليمان، كان مدونا في صحف اليهود من قديم، وتوارثه خلفهم عن سلفهم إلى أن وصل إلى من عاصر النبي صلى الله عليه وسلم منهم ولأن سليمان- عليه السلام أعطاه الله تعالى ملكا واسعا، وسخر له الإنس والجن والريح، فعزت الشياطين ذلك كله إلى تعلمه السحر.
وما في قوله تعالى: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ موصولة، وهي معطوفة على السحر في قوله تعالى: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ أى يعلمون الناس السحر، ويعلمونهم الذي أنزل على الملكين.
(1) تفسير المنار ج 1 ص 401.
والذي أنزل عليهما هو وصف السحر وماهيته وكيفية الاحتيال به. ليعرفاه الناس فيجتنبوه، على حد قول الشاعر:
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه
…
ومن لا يعرف الشر من الناس يقع فيه.
فالشياطين عرفوه فعملوا به، وعلموه للناس ليستعملوه في الشرور والمآثم بينما المؤمنون عرفوه واستفادوا من الاطلاع عليه فتجنبوه «1» .
هذا، واختصت بابل «2» بالإنزال، لأنها كانت أكثر البلاد عملا بالسحر، وكان سحرتها قد اتخذوا السحر وسيلة لتسخير العامة لهم في أبدانهم وعقولهم وأموالهم، ثم جروهم إلى عبادة الأصنام والكواكب فحدث فساد عظيم، وعمت الأباطيل فألهم الله- تعالى- هاروت وماروت أن يكشفا للناس حقيقة السحر ودقائقه، حتى يعلموا أن السحرة الذين صرفوهم عن عبادة الله إلى عبادة الكواكب وغيرها قد خدعوهم وأضلوهم، وبذلك يعودون إلى الصراط المستقيم.
واللام في الْمَلَكَيْنِ مفتوحة في القراءات العشر المتواترة، وقرئ شاذا الْمَلَكَيْنِ بكسر اللام.
قال بعض المفسرين: المراد بالملكين- بفتح اللام- رجلان صالحان اطلعا على أسرار السحر التي كانت تفعلها السحرة، فعلماها للناس ليحذراهم من الانقياد لتلبيسات الشياطين، وسميا ملكين مع أنهما من البشر لصلاحهما وتقواهما، ويؤيد هذا الرأى قراءة الملكين- بكسر اللام- وإن كانت شاذة:
وقال جمهور المفسرين: إنهما ملكان على الحقيقة أنزلهما الله- تعالى- ليعلما الناس السحر ابتلاء لهم، ليفضحا مزاعم السحرة الذين كانوا يدعون النبوة كذبا، ويسخرون العامة لهم ويخرجونهم إلى عبادة غير الله، (وهاروت وماروت) اسمان للملكين الذين أنزل عليهما السحر، وهما بدل أو عطف بيان للملكين.
(1) ويجوز أن تكون (ما) معطوفة على قوله تعالى: ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ والمعنى على هذا الرأى. واتبع اليهود بعد أن نبذوا كتاب الله السحر الذي تلته الشياطين على عهد سليمان واتبعوا كذلك السحر الذي أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وعلى هذا الرأى يكون قوله تعالى: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يعلمون الناس السحر جملة معترضة بين المتعاطفين قصد بها تبرئة سليمان من السحر وإضافته إلى الشياطين، وبيان أنهم هم الذين تعلموه وعلموه الناس بقصد إضلالهم. هذا وفي إعراب (ما) في قوله تعالى:(وما أنزل على الملكين) آراء أخرى اكتفينا عنها بما ذكرناه لوفاته بالغرض.
(2)
بابل: مدينة بالعراق ينسب إليها السحر والخمر.
وقوله تعالى: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ بيان لما كان ينصح به الملكان من يريد تعلم السحر منهما. والجملة حالية من هاروت وماروت.
والفتنة، المراد بها هنا الابتلاء والاختبار، تقول: فتنت الذهب في النار، أى: اختبرته لتعرف جودته ورداءته.
والمعنى: أن الملكين لا يعلمان أحدا من الناس السحر إلا وينصحانه بقولهما إن ما نعلمك إياه من فنون السحر الغرض منه الايتلاء والاختبار لتمييز المطيع من المعاصي. فمن عمل به ضل وغوى، ومن تركه فهو على هدى ونور من الله، ولإظهار الفرق بين المعجزة والسحر.
فحذار أن تستعمل ما تعلمته فيما نهيت عنه فتكون من الكافرين. كما كفر السحرة بنسبتهم التأثيرات إلى الكواكب وغيرها من المخلوقات.
فالمقصود من تعليم الملكين للناس السحر، فضح أمر السحرة الذين كثروا في تلك الأيام، وادعوا ما لم يأذن به الله، وإظهار الفرق بين المعجزة والسحر حتى يعلم الناس أن هؤلاء السحرة الذين قد يزعمون بمرور الأيام أنهم أنبياء ليسوا كذلك، وإنما هم أفاكون، وأخبروا على أنفسهم بطريق القصر بأنهم فتنة للمبالغة في الإقرار بأنهما لا يملكان نفعا ولا ضرا لأحد، وإنما هما فتنة محضة، وابتلاء من الله لعباده لتمييز المطيع من العاصي.
ثم بين- سبحانه- لونا من السحر البغيض الذي استعمله أولئك السحرة في الأذى فقال تعالى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ أى فيتعلم بعض الناس من الملكين ما يحصل به الفراق بين المرء وزوجه.
فالجملة الكريمة تفريع عما دل عليه قوله تعالى قبل ذلك: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ لأنه يقتضى أن التعليم حاصل، وأن بعض المتعلمين قد استعملوه في التفريق بين الزوجين.
وخصص سبحانه هذا اللون من السحر بالنص عليه للتنبيه على شدة فساده. وعلى شناعة ذنب من يقوم به. لأنه تسبب عنه التفريق بين الزوجين اللذين جمعت بينهما أواصر المودة والرحمة.
والضمير في قوله تعالى: فَيَتَعَلَّمُونَ راجع لأحد، وصح عود ضمير الجمع عليه مع أنه مفرد، لوقوعه في سياق النفي، والنكرة إذا وردت بعد نفى كانت في معنى أفراد كثيرة، فصح أن يعود ضمير الجمع إليه كذلك.
ثم نفى- سبحانه- أن يكون السحر مؤثرا بذاته فقال تعالى: وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ
أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ
أى: أن أولئك السحرة لن يضروا أو ينفعوا أحدا بسحرهم إلا بإذن الله وقدرته، فالسحر سبب عادى لما ينشأ عنه من الاضرار ويجوز أن يتخلف عنه مسببه إذا أذن الله بذلك.
والجملة الكريمة معترضة لدفع توهم أن يكون السحر مضرا بذاته، بحيث لا يتخلف عنه الضرر متى تعاطاه الساحر.
والمراد بِإِذْنِ اللَّهِ هنا. تخليته- سبحانه- بين المسحور وضرر السحر، أى: إن شاء حصل الضرر بسبب السحر، وإن شاء منعه فلا يصيب المسحور منه شيء من الأذى.
وعبر- سبحانه- عن هذا المعنى بطريق القصر، مبالغة في نفى أى تأثير للسحر بذاته، وإغراء للناس بتكذيب ما يزعمه السحرة من أن لهم قوى غيبية سوى الأسباب التي ربط الله بها المسببات، وإرشادا لهم إلى حسن الاعتقاد، وسلامة اليقين.
ثم بين- سبحانه- أن أولئك المتعلمين السحر للأذى وللتفرقة بين المتحابين يتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم، فقال تعالى: وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ أى: أن أولئك الذين تعلموا السحر ليضروا به غيرهم، ولم يتعلموه ليفرقوا به بين الحق والباطل، أو ليدفعوا به الشر عن أنفسهم، قد سلكوا بهذا التعليم الطريق الذي يضرهم ولا ينفعهم، وأصبحوا بذلك عاصين لما نصحهم به الملكان عند تعليم السحر.
وفي هذه الجملة الكريمة زيادة تنبيه على تفاهة عقول المشتغلين بالسحر للأذى ومبالغة في تجهيل المصدقين لهم، لأن الساحر- مهما بلغت براعته- فلن يستطيع أن يمنع شيئا أراده الله، ولا أن يأتى بشيء منعه الله مادام الأمر كذلك فالمشتغل به، والمصدق له كلاهما وقع في ضلال مبين.
وقد أفادت الجملة الكريمة بجمعها بين إثبات الضر ونفى النفع مفاد الحصر فكأنه- سبحانه- يقول: ويتعلمون ما ليس إلا ضررا بحتا.
ثم بين- سبحانه- مآل أولئك اليهود التاركين للحق، والمتبعين للباطل فقال تعالى:
وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ أى: ولقد علم أولئك اليهود الذين نبذوا تعاليم كتابهم واتبعوا السحر، أن من استبدل السحر بكتاب الله ليس له من حظ في الجنة، لأنه قد اختار الضلال وترك الهدى، وعلمهم مرجعه إلى أن التوراة قد حرمت عليهم تعلم السحر أو تعليمه للأذى والضرر، وشددت العقوبة على مرتكبه، وعلى متبع الجن والشياطين والكهان.
فالضمير في عَلِمُوا يعود إلى أولئك اليهود الذي تركوا كتاب الله واستبدلوا به السحر.
والاشتراء هو اكتساب شيء ببذل غيره، والمراد أنهم اكتسبوا السحر الذي تتلوه الشياطين بعد أن بذلوا في سبيل ذلك إيمانهم ونصيبهم من الجنة، وغدوا مفلسين من حظوظ الآخرة، لإقبالهم على التمويه والكذب، واستبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير.
وأكد- سبحانه- علمهم بضرر السحر بقوله وَلَقَدْ عَلِمُوا للإشارة إلى أن اختيارهم للسحر لم ينشأ عن جهلهم بضرره، وإنما هم الذين اختاروه ومالوا إليه متعمدين وعالمين بعاقبته السيئة.
ثم قال تعالى: وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.
شروا: بمعنى باعوا، وبيع الأنفس هنا معناه بيع نصيبها من الجنة. ونعيمها.
والمعنى: ولبئس شيئا باع به أولئك السحرة حظوظ أنفسهم تعلم ما يضر من السحر والعمل به، ولو كانوا ممن ينتفعون بعلمهم لما فعلوا ذلك.
وأثبت لهم العلم في قوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ثم نفاه عنهم في قوله تعالى:
لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ جريا على الأسلوب المعروف في فنون البلاغة من أن العالم بالشيء إذا لم يعمل بموجب علمه نزل منزلة الجاهل ونفى عنه العلم كما ينفى عن الجاهلين.
وإلى هذا المعنى الذي قررناه أشار صاحب الكشاف بقوله.
فإن قلت كيف أثبت لهم العلم أولا في قوله: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ على سبيل التوكيد القسمي، ثم نفاه عنهم في قوله: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ؟
قلت: معناه لو كانوا يعملون بعلمهم. جعلهم حين لم يعملوا به كأنهم منسلخون عنه «1» .
ثم بين- سبحانه- المنافع التي تعود عليهم لو اتبعوا الحق، بعد أن بين الاضرار التي ترتبت على اتباعهم للباطل فقال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أى: لو أن أولئك اليهود النابذين لكتاب الله المتبعين للأوهام والأباطيل، آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم أو بالتوراة إيمانا حقا، واتقوا الله، فاجتنبوا ما يؤثمهم ومنه السحر والتمويه، لكانت لهم مثوبة «2» من عند الله، هي خير لهم من السحر وغيره، ولو كانوا من اولى العلم النافع لفهموا ذلك، واستبدلوا بالسحر الإيمان والتقوى، ولكنهم قوم لا يعقلون.
فقوله تعالى: لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ جواب للو الشرطية، وأصل التركيب، لأثيبوا مثوبة
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 228.
(2)
المثوبة: اسم مصدر أثاب أعطى الثواب، والثواب الجزاء الذي يعطى للغير. [.....]
من عند الله خيرا مما شروا به أنفسهم، فحذف الفعل، وغير السبك إلى ما عليه النظم الكريم، للدلالة على ثبوت المثوبة لهم والجزم بخيريتها.
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف «1» بقوله: (فإن قلت: كيف أوثرت الجملة الاسمية على الفعلية في جواب لو؟ قلت: لما في ذلك من الدلالة على ثبات المثوبة واستقرارها، كما عدل عن النصب إلى الرفع في سلام عليكم لذلك.
وقال الإمام الآلوسى: (المثوبة: اسم مصدر أثاب إذا أعطى الثواب، والثواب الجزاء الذي يعطى للغير. ولم يقل- سبحانه- لمثوبة الله مع أنه أخصر، ليشعر التنكير بالتقليل فيفيد أن شيئا قليلا من ثواب الله- تعالى- في الآخرة الدائمة، خير من متاع كثير في الدنيا الفانية، فكيف وثواب الله- تعالى- كثير دائم، وفيه من الترغيب والترهيب المناسبين للمقام ما لا يخفى «2» .
وقوله تعالى: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ شرط آخر محذوف الجواب لدلالة ما تقدم عليه، وحذف مفعول يُعَلِّمُونَ لدلالة لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ عليه. أى: لو كانوا يعلمون مثوبة الله لما اشتروا السحر بالإيمان.
وبذلك تكون الآيات الكريمة التي سقناها في هذا المبحث قد دمغت بنى إسرائيل بجحود الحق، ونبذهم لتعاليم كتابهم وإيثارهم عليها الأكاذيب والأباطيل، وسيرهم في طريق الشر عن تعمد وإصرار، وعدم عملهم بما يعلمون لانحراف طباعهم، وحماقة تفكيرهم وسوء تدبيرهم.
واستحواذ الشيطان عليهم.. فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ.
هذا، ويحسن بنا قبل أن نختم هذا البحث، أن نذكر كلمة موجزة عن السحر فنقول:
السحر: في أصل اللغة معناه: الصرف، ومنه قوله تعالى فَأَنَّى تُسْحَرُونَ أى: فكيف تصرفون عن الحق إلى الباطل.
وقد ذكر السحر في القرآن والسنة، واتفق علماء المسلمين على أن هناك شيئا يسمى سحرا، إلا أنهم اختلفوا في تصويره.
فجمهور أهل السنة ذهب إلى أن للسحر آثارا حقيقية، وأن الساحر قد يأتى بأشياء غير عادية، إلا أن الفاعل الحقيقي في كل ذلك هو الله- تعالى- واستدلوا على ذلك بأدلة منها.
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 228.
(2)
تفسير الآلوسى ج 1 ص 384.
أولا: أن الله- تعالى- قد أمر نبيه صلى الله عليه وسلم، أن يستعيذ به مِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ وهم السحرة- على أرجح الأقوال.
قال الإمام ابن كثير: قوله تعالى وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ قال مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والضحاك، يعنى السواحر قال مجاهد «إذا رقين ونفثن في العقد» «1» .
فالآية الكريمة تدل على أن للسحر آثارا حقيقة، وإلا لما أمر الله- تعالى- نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ من شرور السحرة.
ثانيا: قال الإمام البخاري: - في باب هل يستخرج السحر-: حدثني عبد الله بن محمد، قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: أول من حدثنا به ابن جريج يقول: حدثني آل عروة عن عروة، فسألت هشاما عنه فحدثنا عن أبيه عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر حتى كان يرى أنه يأتى النساء ولا يأتيهن، قال سفيان: وهذا أشد ما يكون من السحر إذا كان كذلك. فقال: «يا عائشة أعلمت أن الله قد أفتانى فيما استفتيته فيه؟ أتانى رجلان فقعد أحدهما عند رأسى والآخر عند رجلي، فقال الذي عند رأسى للآخر، ما بال الرجل: مطبوب، قال ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم- رجل من بنى زريق حليف اليهود كان منافقا- قال.
وفيم: قال: في مشط ومشاطه، قال: وأين؟ قال في جف طلعة ذكر تحت راعوفة في بئر ذروان. قالت: فأتى البئر حتى استخرجه، فقال:«هذه البئر التي أريتها وكأن نخلها رءوس الشياطين» قال فاستخرج- أى السحر- قالت: فقلت أفلا- أى- تنشرت؟ فقال: «إن الله قد شفاني وأكره أن أثير على أحد من الناس شرا» «2» .
فهذا الحديث الصحيح يفيد أن السحر قد أثر في جسم الرسول صلى الله عليه وسلم بنوع من المرض أو الثقل، دون أن يكون لذلك أدنى تأثير في عقله.
(1) تفسير ابن كثير ج 4 ص 573.
(2)
فتح الباري: لابن حجر ج 12 ص 245 طبعة الحلبي.
وهذا تفسير موجز لمفردات الحديث: «هشام» هو ابن عروة بن الزبير ومعنى: «أفتانى فيما استفيته فيه» : أجابنى فيما دعوته من أن يطلعني على حقيقة ما «مطبوب» أى مسحور يقال: طب الرجل- بالضم- إذا سحر.
«المشط» : الآلة التي يسرح بها شعر الرأس واللحية «والمشاطة» : ما يخرج من الشعر إذا مشط «وجف طلع نخلة ذكر» هو الغشاء الذي يكون على الطلع ويطلق على الذكر والأنثى فلهذا قيده بالذكر. «والراعوفة» حجر يوضع على رأس البئر يقوم عليه المستقى وقد يكون في أسفلها «وبئر ذروان» : اسم لموضع البئر» كأن ماءها نقاعة الحناء» : يعنى أحمر اللون. «أفلا أى تنشرت» : النشرة- بالضم- ضرب من العلاج يعالج به من يظن أن به سحرا أو مسا من الجن قيل لها ذلك: لأنه يكشف بها عما خالطه من الداء.
قال الإمام ابن القيم: هذا هو الحديث الذي رواه البخاري، وهو ثابت عند أهل العلم بالحديث لا يختلفون في صحته، وقد اتفق أصحاب الصحيحين على تصحيحه، ولم يتكلم فيه أهل الحديث بكلمة واحدة، والقصة مشهورة عند أهل التفسير والسنن والحديث والتاريخ والفقه، وهؤلاء أعلم بأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأيامه «1» .
وقال الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي. قال المازري: «مذهب أهل السنة وجمهور علماء الأمة على إثبات السحر وأن له حقيقة كحقيقة غيره من الأشياء الثابتة. خلافا لمن أنكر ذلك ونفى حقيقته وأضاف ما يقع منه إلى خيالات باطلة لا حقائق لها. وقد ذكره الله- تعالى- في كتابه وذكر أنه مما يتعلم. وذكر فيه إشارة إلى أنه مما يكفر به. وأنه يفرق بين المرء وزوجه. وهذا كله لا يمكن فيما لا حقيقة له، وهذا الحديث أيضا مصرح بإثباته. وأنه أشياء دفنت وأخرجت ولا يستنكر في العقل أن الله- سبحانه- يخرق العادة عند النطق بكلام ملفق أو تركيب أجسام، أو المزج بين قوى على ترتيب لا يعرفه إلا الساحر. قال: وقد أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث لسبب آخر. فزعم أنه يحط من منصب النبوة ويشكك فيها، وأن تجويزه يمنع الثقة بالشرع وهذا الذي ادعاه بعض المبتدعة باطل لأن الدلائل القطعية قد قامت على صدقه وصحته وعصمته فيما يتعلق بالتبليغ والمعجزة شاهدة بذلك. قال القاضي عياض: وقد جاءت روايات مبينة أن السحر إنما تسلط على جسده وظواهر جوارحه، لا على قوله وقلبه واعتقاده، ويكون معنى قوله في الحديث: «حتى يظن أنه يأتى أهله ولا يأتيهن» أن يظهر من نشاطه ومتقدم عادته القدرة عليهن، فإذا دنا منهن أخذته أخذة السحر فلم يأتهن ولم يتمكن من ذلك كما يعترى المسحور «3» .
أما المعتزلة فقد ذهبوا إلى أن السحر لا حقيقة له، وإنما هو تخييل وتمويه كما قال تعالى في سحرة فرعون فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى فأخبر- سبحانه-
(1) التفسير القيم لابن القيم- تفسير سورة الفلق.
(2)
تفسير القرطبي ج 2 ص 64.
(3)
صحيح مسلّم «كتاب السلام» باب السحر ج 4 ص 1719 شرح وتحقيق الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي.
أن ما ظنوه سعيا منها لم يكن سعيا على الحقيقة إنما كان تخييلا وتمويها. وقال تعالى في سحرة فرعون أيضا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ أى فلما ألقوا عصيهم موهوا على الناس حتى ظنوا أن حبالهم وعصيهم تسعى، وأرهبوهم بما فعلوه، وجاءوا بسحر عظيم في فنه.
والذي نراه أن السحر على أضرب منها:
أولا: ضرب يترتب على مزاولته قلب الحقائق كقلب الإنسان حيوانا وعكسه، وهذا قد منعه المعتزلة بحجة أن الساحر لو أمكنه ذلك لا لتلبس فعله هذا بمعجزات الأنبياء. وأهل السنة أجازوا وقوعه وإن كان لم يقع فعلا. ويفرقون بينه وبين المعجزة إن وقع، بأن المعجزة خارق يظهر على يد من يدعى النبوة على سبيل التحدي والمعارضة، والسحر ليس فيه دعوى نبوة ولا معارضة.
هذا، مع ملاحظة أن السحر يمكن تعلمه وتعليمه، ولا يظهر إلا على يد شرير بخلاف المعجزة.
قال فضيلة المرحوم الشيخ محمد الخضر حسين: وهذا النوع لم يقع لنا دليل في الشريعة على وقوعه، وربما كانت الحاجة إلى الفرق بين المعجزة والسحر فرقا واضحا تقتضي عدم وقوعه، فالساحر لا يبلغ أن يقلب العصا ثعبانا، ولا أن يفلق البحر فتمر بين فرقيه الجيوش ولا أن يجعل الماء ينبع بين الأصابع فتروى منه العطاش، أعنى أنه لا يجرى على يده من خوارق العادات، مثل ما يجرى على أيدى الأنبياء للإعجاز «1» .
ثانيا: أن يزاول بعض أرباب النفوس الخبيثة أفعالا يترتب عليها الضرر بدون مماسة ولا ملابسة لمن وقع عليه الضرر، وهذا الضرب قد جوز وقوعه أهل السنة ومنعه المعتزلة، ومن أمثلته ما يفعله السحرة للتفريق بين المرء وزوجه والظاهر في هذا الضرب قول أهل السنة لأن القرآن الكريم قد حكى عن السحرة انهم يتعلمون من السحر ما يفرقون به بين المرء وزوجه، وقد صح الحديث أن لبيد بن الأعصم اليهودي سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه حينما استخرج السحر خف جسمه صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال.
ثالثا: مزاولة أسباب يترتب عليها آثار ظاهرية لا حقيقية وهذا الضرب واقع باتفاق بين أهل السنه والمعتزلة، وقد حكاه القرآن الكريم عن سحرة فرعون في قوله تعالى: فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ
(1) مجلة لواء الإسلام السنة الثالثة العدد الثالث ص 8.