الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سوى علام الغيوب، ففي وصفهم بأنهم يَظُنُّونَ إشارة إلى خوفهم، وعدم أمنهم مكر الله- تعالى- وهكذا يكون المؤمن دائما بين الخوف والرجاء.
ومن هذا العرض لمعنى الآية الكريمة يتبين لنا، أن من فسر الظن هنا بمعنى اليقين والعلم، يرى أن لقاء الخاشعين لله معناه الحشر بعد الموت، ورجوعهم إليه معناه مجازاتهم على أعمالهم.
والحشر والمجازاة يعتقد صحتهما الخاشعون اعتقادا جازما.
أما من فسر الظن هنا بمعنى الاعتقاد الراجح، فيرى أن لقاء الخاشعين لله معناه توقعهم لقاء ثوابه، ورجوعهم إليه معناه ظفرهم بجناته، وتوقع الثواب والظفر بالجنات يرجح الخاشعون حصولهما لأن مرجعهما إلى فضل الله وحده.
والذي نراه أن الرأى الأول أكثر اتساقا مع ظاهر معنى الآية الكريمة وبه قال قدماء المفسرين، كمجاهد وأبى العالية وغيرهما.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة توبيخ أحبار اليهود على نصحهم لغيرهم وتركهم لأنفسهم وإرشادهم إلى العلاج الذي يشفيهم من هذا الخلق الذميم، ومن غيره متى استعملوه بصدق وإخلاص، وهذا العلاج يتمثل في تذرعهم بالصبر. ومداومتهم على الصلاة، وشكرهم لله- تعالى- على نعمه التي فصلت الآيات بعد ذلك الحديث عنها، وها نحن نذكرها مرتبة كما ساقها القرآن الكريم.
أولا: نعمة تفضيلهم على العالمين: قال- تعالى-:
[سورة البقرة (2) : آية 47]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47)
أعاد القرآن الكريم نداءهم، تأكيدا لتذكيرهم بواجب الشكر، واهتماما بمضمون الخطاب وما يشتمل عليه من أوامر ومنهيات، وتفصيلا لما أسبغه الله عليهم من منن بعد أن أجملها في النداء الأول، ليكون التذكير أتم والتأثير أشد، والشكر عليها أرجى.
وقد جرت سنة القرآن الكريم أن يكرر الجمل المشتملة على أمور تستوجب المزيد من العناية كما في حال ذكر النعم، لأن تكرارها يغرى النفوس الكريمة بطاعة مرسلها، والسير على الطريق القويم.
وقوله تعالى: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ عطف على نعمتي، أى واذكروا تفضيلي إياكم على العالمين، وهذا التفضيل نعمة خاصة، فعطفه على نِعْمَتِيَ من عطف الخاص على العام للعناية به، وهو- أى: التفضيل مبدأ تفصيل النعم وتعدادها، والمقصود منه الحض على الاتصاف بما يناسب تلك النعم، ويستبقى ذلك الفضل.
وقد ذكر الله- تعالى- بنى إسرائيل المعاصرين للعهد النبوي بهذه النعم مع أنها كانت لآبائهم. كما يدل عليه سياق الآيات لأن النعم على الآباء نعم على الأبناء لكونهم منهم، ولأن شرف الأصول يسرى إلى الفروع، فكان التذكير بتلك النعم فيه شرف لهم، وحسن سمعة تعود عليهم، وتغريهم بالإيمان والطاعة- لو كانوا يعقلون-.
ومن مظاهر، تفضيل الله لبنى إسرائيل على عالمي زمانهم، جمعه لهم من المحامد قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم. ما لم يجمع لغيرهم. فقد حياهم بكثير من النعم، وبعث فيهم عددا كبيرا من الأنبياء، ونجاهم من عدوهم، ولم يعجل العقوبة عليهم رغم عصيانهم واعتدائهم، واقترافهم شتى ألوان المنكرات عن تعمد وإصرار، ولم ينزل بهم قارعة تستأصلهم بذنوبهم كما استأصل غيرهم كقوم عاد وثمود.
ولكن بنى إسرائيل لم يقابلوا نعم الله بالشكر والعرفان. بل قابلوها بالجحود والطغيان فسلبها الله عنهم، ومنحها لقوم آخرين لم يكونوا أمثالهم ولقد حكى القرآن ألوانا من النعم التي منحها الله لبنى إسرائيل ولكنهم قابلوها بالبطر والكفران فأزالها الله عنهم. من ذلك قوله تعالى:
سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ، وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ «1» .
أى: سل- يا محمد- بنى إسرائيل المعاصرين لك. سؤال تقريع وتوبيخ. كم آتاهم الله على أيدى أنبيائهم من النعم الجليلة، والمعجزات الباهرة، ولكنهم بعد أن جاءتهم هذه الآيات، وتمكنوا منها وعقلوها قابلوها بالعناد والاستهزاء، وجعلوها من أسباب ضلالهم مع أنها مسوقة لهدايتهم وسعادتهم، فكانت نتيجة ذلك أن ضرب الله عليهم الذلة والمسكنة في الدنيا، وتوعدهم بشديد العقاب في الآخرة.
ومن الآيات التي صرحت بأن الله- تعالى- أعطى بنى إسرائيل نعما وفيرة، ولكنهم لم يحمدوه عليها. قوله تعالى:
(1) سورة البقرة الآية 211. [.....]
وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ. وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ «1» .
أى: ولقد نجينا بفضلنا وكرمنا بنى إسرائيل من العذاب المهين الذي كان ينزله بهم فرعون وجنده، بأن أغرقناه ومن معه أمام أعينهم لأنه كان ظلوما غشوما، وفضلا عن ذلك فقد اصطفينا بنى إسرائيل- على علم منا بما يكون منهم- على عالمي زمانهم وآتيناهم من النعم والمعجزات. ما فيه اختبار لقلوبهم، وامتحان لنفوسهم. فكانت نتيجة هذا الاختبار والامتحان أن كفروا بنعم الله، وكذبوا برسله وقتلوهم. فتوعدهم الله في الدنيا بأن يسلط عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة. أما في الآخرة فمأواهم جهنم وبئس المهاد.
- وأيضا- من الآيات التي ساقت أنواعا من نعم الله على بنى إسرائيل ولكنهم لم يشكروه عليها قوله تعالى:
وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ. وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ. إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ «2» .
والمعنى: ولقد آتينا بنى إسرائيل التوراة لتكون هداية لهم ومنحناهم الحكمة والفقه في الدين، وجعلنا النبوة في عدد كبير منهم، ورزقناهم من طيبات الأغذية والأشربة، وفضلناهم على من عاصرهم من الأمم قيل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وفضلا عن ذلك فقد سقنا لهم على أيدى أنبيائهم الكثير من المعجزات والدلائل التي تقوى إيمانهم، وتهديهم إلى الطريق المستقيم ولكنهم لم ينتفعوا بهذه النعم. بل جعلوا علمهم بالدين الحق سببا للخلاف والشقاق، والسير في طريق الضلال، وسيعاقبهم الله بما يستحقونه جزاء جحودهم وعنادهم.
والعبرة التي نستخلصها من هذه الآيات وأمثالها. أن الله- تعالى- فضل بنى إسرائيل على غيرهم من الأمم السابقة على الأمة الإسلامية. ومنحهم الكثير من النعم، ولكنهم لم يقابلوا ذلك بالشكر. بل قابلوه بالتمرد والحسد والبطر. فسلب الله عنهم ما حباهم من نعم، ووصفهم في كتابه بأقبح الصفات وأسوأ الطباع. كقسوة القلب، ونقض العهد، والتهالك على شهوات الدنيا، والتعدي على الغير. والتحايل على استحلال محارم الله، ونبذهم للحق واتباعهم الباطل
…
إلى غير ذلك من الصفات التي توارد ذكرها في القرآن الكريم.
(1) سورة الدخان الآيات 30- 33.
(2)
سورة الجاثية الآية 17، 18.