الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال الإمام ابن كثير: «فمتى كان العمل خالصا ولم يكن صوابا لم يتقبل، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» فعمل الرهبان ومن شابههم وإن فرض أنهم مخلصون فيه لله فإنه لا يتقبل منهم حتى يكون ذلك متابعا للرسول صلى الله عليه وسلم المبعوث فيهم وإلى الناس كافة، وفي أمثالهم قال الله- تعالى- وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً وأما إن كان العمل موافقا للشريعة في الصورة الظاهرة، ولكن لم يخلص عامله القصد لله، فهو أيضا مردود على فاعله، وهذا حال المرائين والمنافقين ولهذا قال تعالى: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً «1» .
وبذلك تكون الآيتان الكريمتان قد أبطلتا دعوى اليهود أن الجنة لهم دون غيرهم، وأثبتتا أن مزاعمهم هذه ما هي إلا من قبيل الأمانى والأوهام وكذبتهم في أن يكون عندهم أى برهان أو دليل على ما يدعون ثم أصدرتا حكما عاما وهو أن الجنة ليست خاصة لطائفة دون أخرى، وإنما هي لكل من أسلّم وجهه لله وهو محسن.
ثم بين القرآن بعد ذلك أن أهل الكتاب قد دأبوا على تضليل بعضهم البعض، وأن الخلاف بينهم قد أدى إلى التنازع والتخاصم فقال:
[سورة البقرة (2) : آية 113]
وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
فالآية الكريمة معطوفة على قوله- تعالى- قبل ذلك: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى.. إلخ، لزيادة بيان طبيعة أهل الكتاب، المعوجة، وأن رمى المخالف لهم بأنه ضال شنشنة فيهم.
والشيء: يطلق على الموجود، أو ما يصح أن يعلم ويخبر عنه، وقد ينفى مبالغة في عدم الاعتداد به واليهود كفرت عيسى- عليه السلام وما زالوا يزعمون أن المسيح المبشر به في التوراة لم يأت، وسيأتى بعد، فهم يعتقدون أن النصارى باتباعهم له ليسوا على أمر حقيقى من
(1) تفسير ابن كثير ج 1 ص 154.
التدين، والنصارى تكفر اليهود لعدم إيمانهم بالمسيح الذي جاء لإتمام شريعتهم، ونشأ عن هذا النزاع عداوة اشتدت بها الأهواء والتعصب حتى صار كل فريق منهم يطعن في دين الآخر، وينفى عنه أن يكون له أصل من الحق.
وجملة وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ حالية، والكتاب للجنس. أى: قالوا ذلك وحالهم أنهم من أهل العلم والتلاوة للكتب، إذ اليهود يقرءون التوراة والنصارى يقرءون الإنجيل، وحق من حمل التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله وآمن به ألا يكفر بالباقي، لأن كل واحد من الكتابين مصدق للثاني، شاهد بصحته وكذلك كتب الله جميعا متواردة على تصديق بعضها البعض.
وقوله: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ معناه: كما أن أهل الكتاب قد قال كل فريق منهم فيمن خالفه إنه ليس على شيء من الدين الحق. فكذلك قال الذين لا يعلمون، وهم مشركو العرب، في شأن المسلمين: إنهم ليسوا على شيء من الدين الحق، فتشابهت قلوب هؤلاء وقلوب أولئك في الزيغ والضلال.
والهدف الذي ترمى إليه هذه الجملة، هو أن إنكار اليهود والنصارى لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم لا ينبغي أن يثير شبهة على عدم صحتها، حيث يسبق إلى أذهان الضعفاء من الناس أن تلاوتهم للكتاب تجعلهم أعرف بالنبوة الصادقة من غيرها. فكأن القرآن يقول: إن تلاوتهم للكتاب وحدها لا ينبغي أن تكون شبهه.
ألا ترون اليهود والنصارى وهم يتلون الكتاب كيف أنكر كل فريق منهما أن يكون الآخر على شيء حقيقى من التدين، فسبيلهم في إنكار دين الإسلام كسبيل المشركين الذين أنكروه عن جهالة به.
وفي هذه الجملة توبيخ شديد لأهل الكتاب، حيث نظموا أنفسهم- مع علمهم- في سلك من لا يعلم.
وقوله: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. صدر بالفاء، لأن التوعد بالحكم بينهم يوم القيامة، وإظهار ما أكنته ضمائرهم من الهوى والضلال، متفرع عن هذه المقالات ومسبب عنها، وهو خبر المقصود منه التوبيخ والوعيد.
والضمير المجرور بإضافة بين إليه راجع إلى الفرق الثلاث، وما كانوا فيه يختلفون يعم ما ذكر وغيره وقيل الضمير يعود على اليهود والنصارى.
والاختلاف: تقابل رأيين فيما ينبغي انفراد الرأى فيه.