الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كما بينا، والإشارة حينئذ من قبيل التكرير المغني عن العطف كما في قوله تعالى: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ.
والمعنى أن هؤلاء اليهود قد لزمتهم الذلة والمسكنة، وصاروا أحقاء بسخط الله بسبب كفرهم بآياتنا. وقتلهم أنبياءنا، وخروجهم عن طاعتنا وتعديهم لحدودنا.
وعلى هذا الرأى يكون ذكر أسباب العقوبة التي حلت بهم في الدرجة العليا من حسن الترتيب، فقد بدأ- سبحانه- بما فعلوه في حقه وهو كفرهم بآياته، ثم ثنى بما يتلوه في العظم وهو قتلهم لأنبيائه، ثم وصمهم بعد ذلك بالعصيان والخروج عن طاعته ثم ختم أسباب العقوبة بدمغهم بالاعتداء، وتخطى الحدود، وعدم المبالاة بالعهود، وهذا الترتيب من لطائف أسلوب القرآن الكريم في سوق الأحكام، مشفوعة بعللها وأسبابها.
وبهذا تكون الآية الكريمة قد وصفت بنى إسرائيل بجحود النعم، وسوء الأدب وحمق التفكير، وهوان النفس، وبلادة الطبع، وبطر الحق، والبغي على أنفسهم وعلى غيرهم، وما وصفتهم به أيدته الأيام وصدقته الأحداث في كل زمان ومكان.
وبعد أن بين القرآن الكريم ما حل باليهود من عقوبات بسبب جحودهم لنعم الله، وكفرهم بآياته- أردف بذلك ما وعد الله به المؤمنين من جزيل الثواب.
فقال- تعالى-:
[سورة البقرة (2) : آية 62]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
ففي هذه الآية الكريمة حدثنا القرآن عن أربع فرق من الناس:
أما الفرقة الأولى: فهي فرقة الذين آمنوا، والمراد بهم الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وصدقوه.
وابتدأ القرآن بهم للإشعار بأن دين الإسلام دين قائم على أساس أن الفوز برضا الله لا ينال إلا بالإيمان الصادق والعمل الصالح، ولا فضل لأمة على أمة إلا بذلك، كما قال- تعالى-:
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ.
وأما الفرقة الثانية: فهي فرقة الذين هادوا، أى: صاروا يهودا، يقال: هاد وتهود، أى دخل في اليهودية، وسموا يهودا نسبة إلى يهوذا أكبر أولاد يعقوب- بقلب الذال دالا في
التعريب- أو سموا يهودا حين تابوا من عبادة العجل، من هاد يهود هودا بمعنى تاب. ومنه (إنا هدنا إليك) أى: تبنا.
والفرقة الثالثة: هي فرقة النصارى، جمع نصران بمعنى نصراني، كندامى وندمان والياء في نصراني للمبالغة، وهم قوم عيسى- عليه السلام قيل سموا بذلك لأنهم كانوا أنصارا له، وقيل إن هذا الاسم مأخوذ من الناصرة وهي القرية التي كان عيسى- عليه السلام قد نزلها.
وأما الفرقة الرابعة: فهي فرقة الصابئين جمع صابئ، وهو الخارج من دين إلى دين، يقال:
صبا الظلف والناب والنجم- كمنع وكرم- إذا طلع. والمراد بهم الخارجون من الدين الحق إلى الدين الباطل، وهم قوم يعبدون الكواكب أو الملائكة، ويزعمون أنهم على دين صابئ بن شيث بن آدم.
وذكر القرآن الصابئة في هذا المقام وهم من أبعد الأمم ضلالا. لينبه على أن الإيمان الصحيح والعمل الصالح يرفعان صاحبهما إلى مرتقى الفلاح. حتى ولو سبق له أنه بلغ في الكفر والفجور أقصى غاياته.
والإيمان المشار إليه في قوله- تعالى-: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. إلخ، يفسره بعض العلماء بالنسبة لليهود والنصارى بمعنى صدور الإيمان منهم على النحو الذي قرره الدين الحق، فمن لم تبلغه منهم دعوة الإسلام، وكان ينتمى إلى دين صحيح في أصله بحيث يؤمن بالله واليوم الآخر ويقدم العمل الصالح على الوجه الذي يرشده إليه دينه، فله أجره على ذلك عند ربه.
أما الذين بلغتهم دعوة الإسلام من تلك الفرق ولكنهم لم يقبلوها فإنهم لا يكونون ناجين من عذاب الله مهما ادعوا بأنهم يؤمنون بغيرها، لأن الشريعة الإسلامية قد نسخت ما قبلها والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:«لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعى» .
ويفسرونه- أى الإيمان- بالنسبة للمؤمنين المشار إليهم بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا..
على أنه بمعنى الثبات والدوام والإذعان، وبذلك ينتظم عطف قوله- تعالى-: وَعَمِلَ صالِحاً على قوله آمَنَ مع مشاركة هؤلاء المؤمنين لتلك الفرق الثلاث فيما يترتب على الإيمان والعمل الصالح من ثواب جزيل، وعاقبة حميدة.
وبعض العلماء يرى أن معنى مَنْ آمَنَ أى: من أحدث من هذه الفرق إيمانا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء من عند ربه، قالوا: لأن مقتضى المقام هو الترغيب في دين الإسلام، وأما بيان من مضى على دين آخر قبل نسخه فلا ملابسة له بالمقام، فضلا عن أن الصابئين ليس لهم دين تجوز رعايته في وقت من الأوقات.