الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
منهج رحمت الله
تنبه الشيخ رحمت الله لأخطار التنصير المحدقة بمسلمي الهند، ولضخامة الجهود التي يبذلها المنصرون بمساعدة الاستعمار الانجليزي، فترك وظيفته في التدريس وتفرغ لمقارعة المنصرين، والرد عليهم بالقلم واللسان، فدرس النصرانية - في مصادرها الأصلية - حتى فاق علماءها المتخصصين فيها، ثم بدأ يؤلف كتبه للرد على المنصرين؛ ولذلك تركزت معظم مؤلفاته في هذا المجال، ولما تمتاز به مؤلفاته من تحقيق علمي وتدقيق لم يسبق إليه، كان الشيخ رحمت الله في عصره أستاذ الهند - بلا منازع - في علم مقارنة الأديان والرد على النصارى (1).
طبع كتاب إظهار الحق بالفارسية عام 1849 م، وطبع بالأردو عام 1850 م، وسبقته محاولات من علماء سبقوه، للرد على المنصرين أمثال ((2):
- جيروم كزافييه (1026 هـ - 1617 م) في كتابه (المرآة المرئية للحق) ورد عليه أحمد بن زين العابدين في (الأنوار الإلهية في دحض خطأ المسيحية).
- هنري مارتين وقد ترجم الإنجيل إلى الفارسية والأردية.
- فندر ترجم كتابه " ميزان الحق " من الفارسية إلى الأردية عام 1833 م، وألف كذلك كتاب طريق الحياة، ومفتاح الأسرار، وحل الإشكال، وإظهار الدين النصراني، ورد عليه الشيخ ناصر الدين أبو المنصور الدهلوي في كتابه " ميزان الميزان "، وكذلك رد عليه الشيخ محمد آل حسن الرضوي في كتابه " الاستفسار"، وظهر كتاب فندر " معدل اعوجاج الميزان " بالأردية، و"إزالة الأوهام" بالفارسية، و"ميزان الحق" بالعربية، فظهر بالانجليزية عامي 1833 م و 1843 م وبالفارسية عام 1849 م وبالأردية عام 1850 م وبعدة لغات عام 1983 م في سويسرا.
ظهرت أول نسخة من إظهار الحق- نسخة السلطان عبد العزيز خان - عام 1284 هـ / 1867 م تلاها نسختين في القاهرة - نسخة السلطان عبد الحميد خان - الأولى عام 1294 هـ والثانية 1305 هـ بدار الطباعة العامرة، ثم نسخة 1309 هـ بالمطابع الخيرية، ثم نسخة 1316 هـ بالمطبعة العلمية، ثم نسخة 1317 هـ بالمطبعة المحمودية، ثم نسخة 1384 هـ بمطبعة الرسالة بعابدين، ثم طباعة نفس النسخة مرتين في الدوحة بقطر، ثم نسخة منارة لفراج ودار التراث للسقا 1398 هـ.
شملت النسخة المحققة للدكتور الملكاوي من كتاب إظهار الحق النسخة العربية والتركية وجميع النسخ المختلفة، كما شملت هذه النسخة - كذلك - جل ما كتبه رحمت الله من كتبه السابقة - إجمالا - وتفصيلا - ومن خلال أهم المسائل.
(1) إظهار الحق، تحقيق د. الملكاوي، ص 16.
(2)
انظر: إظهار الحق، تحقيق: الملكاوي، ص 53 ومابعدها.
أما عن خطورة كتاب ميزان الحق فتكمن في الهجوم الشديد على دين الإسلام (1)؛ فقد كان في ردوده على الشيخ هادي علي - مؤلف كتاب كشف الأستار للرد على مفتاح الأسرار لفندر - لا يتورع عن نسبته إلى الكفر، والعمى، والتعصب، والتكبر، وسوء الفهم، كما قال في حق الشيخ محمد آل حسن - مؤلف كتاب الاستفسار للرد على ميزان الحق - كلاما في غاية القبح، ونسبه إلى الكفر، وعدم المبالاة، وأن فهمه أنقص من فهم الوثني، وأن الإنصاف والإيمان غائبان عن قلبه، كما نسب د. محمد وزير خان إلى الدهريين، بينما غضب فندر غضبا شديدا من نسبة الشيخ رحمت الله لفظ الفرار إليه عندما حاول التهرب من المناظرة (2).
إن كتب رحمت الله الأخرى مكتوبة إما بالفارسية أو الأردية، ولا يعرف الباحث تلك اللغات ماعدا رسالة بالعربية تتعلق بالتنبيهات على الاحتياج إلى البعثة والحشر، أما كتبه الأخرى فمفقودة. أما عن فندر فقد اعتمد الباحث فيه على ما توفر باللغة العربية والإنجليزية من كتبه، وما تكلم فيه عن المسائل الخمس خصوصا، وأقوال الغربيين في فندر.
اعترف فندر وفرنج بتحريف كتب أهل الكتاب في سبعة أو ثمانية مواضع أصلية، وبوجود أربعين عبارة اختلاف، ولأن هذه المناظرة جرت في مجلس عام ضم حوالي 1000 شخص فسميت بالمناظرة الكبرى (3).
ولو كان فندر يعلم أن مجيئه إلى تركيا، وكذبه على السلطان عبد العزيز خان، وتزويره أخبار المناظرة سيكون سببا في تأليف هذا الكتاب لفضل البقاء في بلاده
…
؛ لأنه لما سمع السلطان أخبار المناظرة الكبرى من فندر استدعى الشيخ رحمت الله من مكة لمناظرة فندر في تركيا
…
، وطلب من الشيخ أن يقص خبر المناظرة، فلما استبان للسلطان طول باع الشيخ في هذه الموضوعات وتمكنه منها، طلب منه تأليف كتاب باللغة العربية يضم مسائل المناظرة الخمس (4).
وفي الصفحة الأولى من المخطوطة أقسم الشيخ رحمت الله على كل من أبصر خطه
- كتاب إظهار الحق - بهذا القسم: " أقسم بالله على كل من أبصر خطي حيثما أبصر أن يدعو الرحمن لي مخلصا بالعفو والتوبة والمغفرة "(5).
(من أسباب ذيوع الكتاب):
أرى أن من أسباب ذيوع الكتاب شرقا وغربا هو إخلاص الشيخ - نحسبه والله حسيبه -عند كتابة الكتاب، ويتبين ذلك فيما ورد عنه:
سلم النسخة الأولى منه بخط يده العربي إلى رئيس الوزراء خير الدين باشا التونسي، فقرأ في المقدمة أن تأليفه كان استجابة لرغبة الشيخ أحمد دحلان إمام المسجد الحرام بمكه فراجعه رئيس الوزراء بهذا الخصوص وأنه هو والسلطان طلبا منه ذلك ولم يذكرهما، لا للسمعة
(1) المرجع السابق، ص 17.
(2)
المرجع السابق، ص 32.
(3)
المرجع السابق، ص 32.
(4)
المرجع السابق، ص 44 (بتصرف يسير).
(5)
المرجع السابق، ص 123.
والرياء ولكن تقريرا للحق والواقع، وإكراما لمركز الخلافة، فأجابه الشيخ رحمت الله بأن هذا غرض ديني سام، يجب أن يكون خالصا لوجه الله ولا يشوبه أي غرض دنيوي أو تزلف إلى سلطان، وأن الشيخ دحلان هو أول من اقترح عليه ذلك، فكان جوابه مقبولا، وارتفع في عين السلطان، وعرف أنه من طلاب الآخرة (1).
قواعد رحمت الله مقارنة بسابقيه: - من منظور الدكتور ملكاوي- من خلال ما خبر من تحقيقاته العلمية (2):
ولئن كان العلماء قديما وحديثا يعدون العدالة في البحث، وعدم ظلم الخصم وتقرير حجته كما وردت، والابتعاد عن الفحش والبذاءة والتجريح، من صفات البحث النزيه، ومن علامات الباحث عن الحق، فإن هذه الأشياء تجدها واضحة في كتاب (إظهار الحق)، ونلمح بالإضافة إليها المميزات التالية التي امتاز بها هذا الكتاب.
- خطة الهجوم
كثير من العلماء الذين كانوا يتعرضون للرد على المنصرين والمستشرقين يضعون دينهم موضع المتهم ويقفون موقف الدفاع عنه فقط، إلا أن الشيخ رحمت الله في كتاب إظهار الحق - وكذا في مناظرته - لم يكتف بموقف الدفاع عن العقائد الإسلامية، بل سلك مسلك الهجوم على الخصم وعقائده وأدلته وكتبه، وألجأ خصمه إلى موقف الدفاع بدل الهجوم، ولا يخفى ما في خطة الهجوم هذه من تأثير في أفكار الخصم، وزلزلة معتقداته التي استعلى بها زمنا طويلا.
- كتب العهدين تاريخ غث
كثير من العلماء يضعون التوراة والإنجيل والقرآن على قدم المساواة أثناء ردودهم، وهذا ما يريده أعداء الإسلام؛ لأن كتبهم المحرفة الوضعية ترتفع بذلك إلى منزلة تكسبها الثقة والتقدير، علما بأن أهل الكتاب لا يدعون أنها كلام الله بألفاظها ونصوصها، فأبان الشيخ رحمت الله في كتابه إظهار الحق عن هذه الحقيقة التي يجب على المتعرض لهذا الموضوع اصطحابها، وعلى المقارن بين الكتب الثلاثة أن يعرف ابتداء أن كتب العهدين لا تعدو أن تكون روايات تاريخية مختلطة والغث منها كثير، ولا تصل بأية حال إلى مستوى أقل كتب السيرة شأنا عند المسلمين، وأنها ألفت في فترات زمنية مختلفة، وفيها أقوال وأفعال منسوبة لغير واضعيها، بل قد يكون السفر منها بأكمله منسوبا لغير كاتبيه، وعلى فرض صحته فالسند مفقود.
- أدلة واضحة ونتائج علمية قاطعة
(1) المرجع السابق، ص 45 (بتصرف يسير).
(2)
المرجع السابق، ص 83 وما بعدها.
لم يجنح الشيخ رحمت الله إلى الأدلة الغامضة والاستنباطات المعقدة، بل ساق أدلته في إظهار الحق بكل وضوح وسهولة في الاستنباط والترتيب، فجاءت كأنها نتائج رياضية علمية لا يختلف فيها اثنان. وقد ابتعد في أدلته عن الفرعيات التي تكون عادة مثار جدل طويل، وركز على نقد العقائد الأساسية التي يكفي إبطال الواحدة منها لهدم الأصول التي يعتمد الخصم عليها.
- أدرج مقدمات وفوائد وتنبيهات
- كثرة أدلته وشواهده
إثباته لوقوع التحريف اللفظي بأنواعه الثلاثة (بالتبديل، والزيادة، والنقصان) وكشف أخطاء كثيرة بين النسخ المختلفة زمنا ولغة، فتجده يشير إلى النسخة العبرانية واليونانية والسامرية، أو الترجمة الإنجليزية والعربية والفارسية والأردية، وهذه القدرة على المقارنة بين النسخ والترجمات والطبعات القديمة والحديثة لكتب العهدين، وتقسيمه ما بينها من فوارق إلى اختلافات وأغلاط، واستشهاده على ذلك بمئات الشواهد، وتقسيمه التحريف إلى أنواعه الثلاثة، وإشاراته إلى مفارقات لم يكن يعلم بها علماؤهم، كل ذلك يدل على تمكنه التام في هذا الفن، وأنه أعلم بكتب العهدين من علمائها، بل إنه يجيب على الاعتراضات التي يمكن أن يجاب بها على وجود هذه الاختلافات والأغلاط والتحريفات.
ثم توصل إلى أن كتاب تقع فيه مثل هذه الاختلافات والأغلاط والتحريفات الزيادية والحذفية والتبديلية لا يمكن أن يطلق عليه أنه كتاب سماوي، ولا أن تكون كتابته بطريق الإلهام، وأن الاحتجاج به ساقط عن الاعتبار.
وقد وضح الشيخ أن فندر في ميزان الحق كان ينقل أقوال علماء المسلمين ويزيد فيها أو يحذف منها أو يبدل حسب المصلحة، وأنه كان يعكس المنقول أحيانا ويجيب عليه، وأنه كان يطلع على كتب الردود الإسلامية ويأخذ اعتراضات العلماء على الخصم ويجعلها أقوالا لهم ليؤيد بها حجته، وإن وجد لهم أكثر من قول يترك القوي منها ويأخذ أضعفها فيقويه ويزعم أنه ما وجد غيره. وعليه فلا مبالغة في القول بأن إظهار الحق هو الميزان الصحيح لميزان الحق.
- التزامه بما يسلم به خصمه من أسفار وأقوال كبار العلماء والمحققين والمفسرين لديهم
فأما الأدلة العقلية فهي معطلة عندهم في مقابل النصوص المحرفة، بل صرح كثير من علمائهم أنه يتوجب على من يريد قراءة كتب العهدين أن يلغي عقله أولا؛ لذا تسلح الشيخ بسلاحهم، وغاص في بطون كتبهم، فاستخرج مما فيها بطلان ما فيها، وأثبت تحريفها ونسخها بنفس آياتها، وأثبت وحدانية الله تعالى ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم بنفس آيات أسفارها التي حرفت قصدا لإنكارهما.
- ذكره لأمهات المسائل
وكان ترتيب الشيخ لأبواب هذا الكتاب بحسب رغبته في ترتيب موضوعات المناظرة، فبدأ بالتحريف فالنسخ فالتثليث فإعجاز القرآن، ثم ختمها بموضوع النبوة، ولا شك أن هذا هو أنسب ترتيب علمي منطقى متصل الحلقات في هذه الموضوعات الخمسة المهمة، فقدم موضوع التحريف على النسخ؛ لأن الكتاب المحرف لا يبقى شك في أنه سينسخ بغيره، وإذا ثبت التحريف والنسخ ناسب أن يذكر بعدهما موضوع التثليث وألوهية المسيح.
وإذا ثبت بطلان كتبهم بالتحريف والنسخ، وبطلان عقيدتي التثليث وألوهية المسيح - وإنكارهما مدار إبطال النبوة عندهم - ثبت أنه لم يبق لهم دليل ولا حجة ضعيفة في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولما كانت المعجزة دليلا من أدلة النبوة ناسب تقديم الحديث عن إعجاز القرآن قبل موضوع النبوة.
يعد إظهار الحق هو خلاصة كتب الشيخ ومجموع ما ألف في الهند في تلك الفترة. تحدى الشيخ رحمت الله في مقدمته للكتاب القسيس فندر وسائر علماء النصارى أن يردوا على ما في كتابه.
يقول د. الملكاوي: "ولما توافرت لي هاتان النسختان العربية والتركية - اللتان لم تتوفرا قط لأحد من قبلي، ولما كنت أنا أول من حقق المناظرة الكبرى، وصار عندي خبرة واسعة بالشيخ ومؤلفاته وأسلوبه وكتاباته، رأيت واجبا علي الإقدام على تحقيق هذا الكتاب العظيم"(1).
يعتبر العمل الذي قام به رحمت الله قمة نضج المنهج الإسلامي في الرد على النصارى؛ فهو ضبط للمنهج يجمع بين الحجة المنطقية، والتعويل على استمداد المعلومة من النص المقدس عند أهل الكتاب.
تعتبر الهند لمساحتها القارية من أكبر البلاد ثراء دينيا وتنوعا عرقيا، إذ تجتمع على أرضها تقريبا جميع الديانات، السماوية منها، والوضعية. ولعوامل تاريخية، وأخرى حادثة، يمكن تقسيم الحالة الدينية إلى قسمين:
أولا: يعتبر الإسلام العدو الرئيس بالنسبة للإنجليز المحتلين لذلك عملت على محاصرته وترويضه ثم القضاء عليه بجميع الوسائل ففرقت بين عامة المسلمين وبين العلماء.
ثانيا: تم إنشاء أول هيئة تنصيرية بروتستانتية عام 1792 م. جمعية لندن التبشيرية عام 1795 م. جمعية التبشير للكنيسة الإنجيلية 1799 م.
ومن خلال نشر الفكرة القومية المخالفة للإسلام، والعمل على إنشاء فرق ضالة تدعي الإسلام مثل: القاديانية والبهائية (2)؛ حيث"عرف الإنجليز أن عقيدة الجهاد من أعظم العقائد عند المسلمين؛ فظلوا يبحثون عن كاتب مسلم يستطيع أن يقف مع الإنجليز ويعلن إلغاء
(1) المرجع السابق، ص 97.
(2)
القاديانية: التي نشأت في ظل الاستعمار الانجليزي في الهند، وهي نحلة هدامة وطائفة كافرة تتخذ من اسم الإسلام شعارا لستر أغراضها الخبيثة وعقائدها الفاسدة ومن أخطرها: دعوى النبوة لزعيمها، وتحريف نصوص القرآن، وإبطال الجهاد، وتكفير المسلمين وموالاة الأعداء، البابية ثم البهائية: نسبة إلى زعمائها وقد ادعوا الرسالة والنبوة وقد انبثقت من الوسط الشيعي المسلم في أرض فارس، مستغلة الانحرافات والخرافات التي سادت الوسط الشيعي، مستغلة النفس الشيعية الفارسية لتقبل الأفكار الغريبة المنحرفة، التي استنكرها المذهب الشيعي نفسه وحاربها فكريا ورسميا .. منقول من عبد المنعم أحمد النمر، البابية والبهائية (القاهرة: مكتبة التراث الإسلامي، بدون ط، بدون سنة)، ص 5. ناصر بن عبد الله القفاري، ناصر بن عبد الكريم العقل، الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة (الرياض: دار الصميعي للنشر والتوزيع، ط 1، 1992)، ص 143، 155 ومابعدهما. محمد الفاضل بن علي اللافي، دراسة العقائد النصرانية، ص 95.