الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السلام نبي صادق ومسيح موعود بريء عن دعوى الألوهية، وافترى أهل التثليث عليه في هذا الأمر" وقد ذكر رحمت الله مائة وخمسة وعشرين اختلافا (1).
القسم الثاني في بيان الأغلاط: وهي غير الأغلاط التي مر ذكرها في القسم الأول. وأورد رحمت الله مائة وعشرة غلطا.
أمثلة:
[1]
وقع في الآية الأربعين من الباب الثاني عشر من سفر الخروج أن مدة إقامة بني إسرائيل في مصر كانت أربعمائة وثلاثين سنة، وهذا غلط، لأن هذه المدة مائتان وخمس عشرة سنة، وقد أقر مفسروهم ومؤرخوهم أيضاً أنه غلط.
[2]
وقع في الباب الأول من سفر العدد أن عدد الرجال الذين بلغوا عشرين سنة من غير اللاويين من بني إسرائيل كانوا أزيد من ستمائة، وأن اللاويين مطلقاً ذكوراً كانوا أو إناثاً وكذلك إناث جميع الأسباط الباقية، وكذا ذكورهم الذين لم يبلغوا عشرين سنة خارجون عن هذا العدد. وأورد إلى مائة وعشرة خطأ ورد عليهم بوجوه عدة.
أما الفصل الرابع فقد أبطل إلهامية الكتب المقدسة ويدل على بطلانه وجوه كثيرة اكتفى رحمت الله بسبعة عشر وجهاً (2).
منهج رحمت الله في رد الكتاب المقدس كما بينه:
- إن التوراة الأصلي، وكذا الإنجيل الأصلي فقدا قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، والموجود الآن بمنزلة كتابين من السير مجموعين من الروايات الصحيحة والكاذبة، ولا نقول إنهما كانا موجودين على أصالتهما إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثم وقع فيهما التحريف.
- كلام بولس على تقدير صحة النسب إليه أيضاً ليس بمقبول عندنا لأنه عندنا من الكاذبين الذين كانوا قد ظهروا في الطبقة الأولى، وإن كان مقدساً عند أهل التثليث، فلا نشتري قوله بحبة.
- والحواريون الباقون بعد عروج عيسى عليه السلام إلى السماء نعتقد في حقهم الصلاح، ولا نعتقد في حقهم النبوة، وأقوالهم عندنا كأقوال المجتهدين الصالحين محتملة للخطأ.
- وفقدان السند المتصل إلى آخر القرن الثاني، وفقدان الإنجيل العبراني الأصلي لمتى، وبقاء ترجمته التي لم يعلم اسم صاحبها أيضاً الآن باليقين، ثم وقوع التحريف فيها صارت أسباباً لارتفاع الأمان عن أقوالهم.
- في كثير من الأوقات ما كانوا يفهمون مراد المسيح من أقواله.
(1) انظر المرجع السابق، ص 168 وما بعدها.
(2)
انظر: المرجع السابق، ص 353 - 425.
- ولوقا ومرقس ليسا من الحواريين، ولم يثبت بدليل كونهما من ذوي الإلهام أيضاً، والتوراة عندنا ما أُوحي إلى موسى عليه السلام، والإنجيل ما أُوحي إلى عيسى عليه السلام في سورة البقرة {ولَقَد آتَيْنَا مُوسَى الْكِتابَ} وفي سورة المائدة في حق عيسى عليه السلام {وآتيناه الإنجيل} وفي سورة مريم نقلاً عن عيسى عليه السلام {وآتانِيَ الْكتابَ} أي الإنجيل ووقع في سورة البقرة وآل عمران {وما أُوتي مُوسَى وَعيسَى} أي التوراة والإنجيل.
- وأما هذه التواريخ والرسائل الموجودة الآن ليست التوراة والإنجيل المذكورين في القرآن، فليسا واجبا التسليم، بل حكمهما وحكم سائر الكتب من العهد العتيق أنّ كل رواية من رواياتها إن صدَّقها القرآن فهي مقبولة يقيناً، وإن كذّبها القرآن فهي مردودة يقيناً، وإن كان القرآن ساكتاً عن التصديق والتكذيب فنسكت عنه فلا نصدق ولا نكذب.
كما حرر رحمت الله مصطلح السند المتنازع عليه من خلال التغليظ حيث ذكر: (الأول) أن علماء البروتستنت يدّعون تارة لتغليط العوام: أنه يوجد سند لهذه الأناجيل في القرن الأول والثاني، لأنه قد شهد بوجودها كليمنس أسقف الروم وأكاثيوس وغيرهما من العلماء الذين كانوا في القرنين الأولين. (الثاني) أن مرقس كتب إنجيله بإعانة بطرس، وأن لوقا كتب إنجيله بإعانة بولس، وبطرس وبولس كانا ذوي إلهام فهذان الإنجيلان بهذا الاعتبار إلهاميان.
وفي جواب التغليط ذكر:
إن السند المتنازعَ بيننا وبينهم السند المتصل، وهو عبارة أن يَرْويَ الثقة بواسطة أو بوسائط عن الثقة الآخر بأنه قال إن الكتاب الفلاني تصنيف فلان الحواري أو فلان النبي، وسمعت هذا الكتاب كلّه مِنْ فيه أو قرأته عليه أو أقر عندي أن هذا الكتاب تصنيفي، وتكون الواسطة أو الوسائط من الثقات الجامعين لشروط الرواية. إن مثل هذا السند لا يوجد عندهم من آخر القرن الثاني أو أوّل القرن الثالث إلى مصنف الأناجيل، وطلب رحمت الله هذا السند مراراً وتتبعه في كتب إسنادهم فما نال المطلوب، بل اعتذر القسيس فرنج في مجلس المناظرة أنه لا يوجد السند الكذائي عندهم لأجل وقوع الحوادث العظيمة في القرون الأولى من القرون المسيحية إلى ثلثمائة وثلاث عشرة سنة، فهذا السند لا يوجد في كلام كليمنس أسقف الروم، ولا أكناثيوس ولا غيرهما إلى آخر القرن الثاني. إن الظن والقرائن لا تسمى سنداً، ولا ينكر رحمت الله اشتهار هذه الأناجيل في آخر القرن الثاني أو ابتداء القرن الثالث وما بعده اشتهاراً ناقصاً قابلاً للتحريف، غير مانع عنه، بل يقر بالاشتهار الناقص الذي لا يمنع عن التحريف.
تحدث في الباب الثاني عن إثبات التحريف
المقصد الأول: في إثبات التحريف اللفظي بالتبديل (1)
(1) انظر المرجع السابق، 427 وما بعدها.
يقول رحمت الله في بيان نسخ العهد القديم عند أهل الكتاب: " إن النسخ المشهورة للعهد العتيق عند أهل الكتاب ثلاث نسخ:
(الأولى) العبرانية وهي المعتبرة عند اليهود، وجمهور علماء البروتستنت.
(والثانية) النسخة اليونانية، وهي التي كانت معتبرة عن المسيحيين إلى القرن الخامس عشر من القرون المسيحية، وكانوا يعتقدون إلى هذه المدة تحريف النسخة العبرانية، وهي إلى هذا الزمان أيضاً معتبرة عند الكنيسة اليونانية، وكذا عند كنائس المشرق، وهاتان النسختان تشتملان على جميع الكتب من العهد العتيق.
(والثالثة) النسخة السامرية، وهي المعتبرة عند السامريين، وهذه النسخة هي النسخة العبرانية لكنها تشتمل على سبعة كتب من العهد العتيق فقط؛ أي الكتب الخمسة المنسوبة إلى موسى عليه السلام، وكتاب يوشع وكتاب القضاة؛ لأن السامريين لا يسلمون الكتب الباقية من العهد العتيق، وتزيد على النسخة العبرانية في الألفاظ والفقرات الكثيرة التي لا توجد فيها الآن، وكثير من محققي علماء البروتستنت مثل: كي كات وهيلز وهيوبي كينت وغيرهم يعتبرونها دون العبرانية، ويعتقدون أن اليهود حرفوا العبرانية، وجمهور علماء البروتستنت أيضاً يضطرون في بعض المواضع إليها ويقدمونها على العبرانية وفي ذلك شواهد:
(الشاهد الأول) إن الزمان من خلق آدم إلى طوفان نوح عليه السلام على وفق العبرانية 1656 سنة، وعلى وفق اليونانية 2262 سنة، وعلى وفق السامرية 1307 سنة.
(الشاهد الثاني) وقع في الآية التاسعة من الباب الرابع والعشرين من سفر صموئيل الثاني: "بنو إسرائيل كانوا ثمانمائة ألف رجل شجاع وبنو يهودا خمسمائة ألف رجل شجاع" وفي الآية الخامسة من الباب الحادي والعشرين من سفر الملوك الأول: "فبنو إسرائيل كانوا ألف ألف رجل شجاع، ويهودا كانوا أربعمائة ألف وسبعون ألف رجل شجاع" فإحدى العبارتين ههنا محرفة، قال آدم كلارك في المجلد الثاني من تفسيره ذيل عبارة صوئيل:"لا يمكن صحة العبارتين، وتعيين الصحيحة عسير، والأغلب أنها الأولى، ووقعت في كتب التواريخ من العهد العتيق تحريفات كثيرة بالنسبة إلى المواضع الأخرى، والاجتهاد في التطبيق عبث والأحسن أن يسلم من أول الوهلة الأمر الذي لا قدرة على إنكاره بالظفر، ومصنفو العهد العتيق، وإن كانوا ذوي إلهام لكن الناقلين لم يكونوا كذلك" فهذا المفسر اعترف بالتحريف، لكنه لم يقدر على التعيين واعترف أن التحريفات في كتب التواريخ كثيرة، وأنصف فقال إن الطريق الأسلم تسليم التحريف من أول الوهلة".
المقصد الثاني: في إثبات التحريف بالزيادة (1)
يذكر رحمت الله عدة شواهد:
(الشاهد الأول) اعلم أن ثمانية كتب من العهد العتيق كانت مشكوكة غير مقبولة عند المسيحيين إلى ثلثمائة وأربع وعشرين سنة.
(1) انظر المرجع السابق: إظهار الحق، ص 463 - 513.
حيث كانت محرفة غير إلهامية جعلها أسلاف المسيحيين في المجالس المتعددة واجبة التسليم، وأدخلوها في الكتب الإلهامية، وأجمع الألوف من علمائهم على حقيقتها وإلهاميتها، والكنيسة الرومانية إلى هذا الزمان تصر على كونها إلهامية، فظهر من هذا أنه لا اعتبار لإجماع أسلافهم، وليس هذا الإجماع دليلاً ضعيفاً على المخالف فضلاً عن أن يكون قوياً، فكما أجمعوا على هذه الكتب المحرفة الغير الإلهامية يجوز أن يكون إجماعهم على هذه الأناجيل المروّجة مع كونها محرفة غير إلهامية، ألا ترى أن هؤلاء الأسلاف كانوا مجمعين على صحة النسخة اليونانية، وكانوا يعتقدون تحريف النسخة العبرانية، وكانوا يقولون إن اليهود حرفوها في سنة مائة وثلاثين من السنين المسيحية. والكنيسة اليونانية وكذا الكنائس المشرقية إلى هذا الحين أيضاً مجمعون على صحتها واعتقادها كاعتقاد الأسلاف، وجمهور علماء البروتستنت أثبتوا أن إجماع الأسلاف وكذا اختلاف المقتدين بهم غلط، وعكسوا الأمر فاعتقدوا وقالوا في حق العبرانية ما قال أسلافهم في حق اليونانية، وكذلك أجمعت الكنيسة الرومانية على صحة الترجمة اللاطينية وعلماء البروتسنت أثبتوا أنها محرفة، بل لم تحرف ترجمة مثلها. قال هورن في المجلد الرابع من تفسيره نسخة سنة 1822 صفحة 463:"وقع التحريفات والإلحاقات الكثيرة في هذه الترجمة من القرن الخامس إلى القرن الخامس عشر" ثم قال في الصفحة 467: "لا بد أن يكون ذلك الأمر في بالك أن ترجمة من التراجم لم تحرَّف مثل اللاطينية.
آراء العلماء في إلحاقية الآب والكلمة والروح القدس:
وقع في الباب الخامس من رسالة يوحنا الأولى هكذا: 7 لأن الذين يشهدون في السماء ثلاثة وهم الأب والكلمة والروح القدس، وهؤلاء الثلاثة واحدة والشهود الذين يشهدون في الأرض ثلاثة وهم الروح والماء والدم، وهؤلاء الثلاثة تتحد في واحد" ففي هاتين الآيتين كان أصل العبارة على ما زعم محققوهم هذا القدر:
"لأن الشهود الذين يشهدون ثلاثة وهم الروح والماء والدم وهؤلاء الثلاثة تتحد في واحد"، فزاد معتقدو التثليث هذه العبارة "في السماء ثلاثة وهم الأب والكلمة والروح القدس وهؤلاء الثلاثة واحدة والشهود الذين يشهدون في الأرض" فيما بين أصل العبارة وهي ملحقة يقيناً، وكريسباخ وشولز متفقان على إلحاقيتها، وهورن مع تعصبه قال إنها إلحاقية واجبة الترك، وجامعو تفسير هنري واسكات اختاروا قول هورن، وآدم كلارك أيضاً مال إلى إلحاقيتها، وأكستاين الذي كان أعلم العلماء المسيحية التثليثية في القرن الرابع من القرون المسيحية، وهو إلى الآن مستند أهل التثليث أيضاً كتب على هذه الرسالة عشر رسائل، وما نقل في رسالة من هذه الرسائل هذه العبارة، وهو كان من معتقدي التثليث، وكان مناظِراً مع فرقة أيرين التي تنكر التثليث، فلو كانت هذه العبارة في عهده لتمسك بها ونقلها في إثباته، ولما ارتكب التكلف البعيد الذي ارتكبه في الآية الثامنة فكتب في الحاشية:"أن المراد بالماء الأب وبالدم الابن وبالروح الروح القدس" ذكر رحمت الله أن هذا التكلف ضعيف جداً، ويظن أنه لما كان هذا التوجيه بعيداً جداً اخترع معتقدو التثليث هذه العبارة التي هي مفيدة لعقيدتهم وجعلوها جزءاً من عبارة الرسالة؛ فينقل رحمت الله خلاصة الخلاصة من هذا التفسير فيقول:" قال جامعو هذا التفسير: "كتب هورن دلائل الطرفين ثم ثناها، وخلاصة تقريره الثاني هذا للذين يثبتون أن هذه العبارة كاذبة وجوه" الأول: "أن هذه العبارة لا توجد في نسخة من النسخ اليونانية
التي كتبت قبل القرن السادس عشر" والثاني "أنها لا توجد في النسخ المطبوعة التي طبعت بالجد والتحقيق التام في الزمان الأول" والثالث "أنها لا توجد في ترجمة من التراجم القديمة غير اللاطينية" والرابع "أنها لا توجد في أكثر من النسخ القديمة اللاطينية أيضاً" والخامس "أنها لم يتمسك بها أحد من القدماء ومؤرخي الكنيسة" والسابع "أن أئمة فرقة البروتستنت ومصلحي دينهم إما أسقطوها أو وضعوا عليها علامة الشك". وضرب رحمت الله عدة أمثلة حية على التحريف
…
ثم يقول: " فاعلم أيها اللبيب أن لوثر الإمام الأول لفرقة البروتستنت والرئيس الأقدم من مُصلحي الملة المسيحية لما توجه إلى إصلاح هذه الملة ترجم الكتب المقدسة في اللسان الجرمني ليستفيد بها متبعوه، ولم يأخذ هذه العبارة في ترجمته، وطبعت هذه الترجمة مراراً في حياته، فما كانت هذه العبارة في هذه النسخ المطبوعة، ثم لما كبر وعلم أنه سيموت، وأراد طبعها مرة أخرى، وشرع في الطبع سنة 1546 من الميلاد وكان واقفاً من عادة أهل الكتاب عموماً وعادة المسيحيين خصوصاً، أوصى في مقدمة هذه الترجمة أن لا يحرف أحد في ترجمته، لكن هذه الوصية لما كانت مخالفة لعادة أهل الكتاب لم يعملوا بها، وأدخلوا هذه العبارة الجعلية في ترجمته، وما مضى على موته ثلاثون سنة، وصدر هذا التحريف أولاً عن أهل (فرينك فارت) فإنهم طبعوا هذه الترجمة في سنة 1574 م وأدخلوا هذه العبارة، لكنهم خافوا بعد ذلك من الله أو من طعن الخلق فأسقطوها في المرات الأخر التي طبعوا الترجمة فيها، ثم ثقل على أهل التثليث تركها فأدخل أهل وتن برك في سنة 1596 وسنة 1599 من الميلاد، وكذا أهل هيم برك في سنة 1596 م هذه العبارة فيها، لكن خاف أهل وتن برك من طعن الخلق كما خاف أهل فرينك فارت فأسقطوها في الطبع الآخر، ثم بعد ذلك ما رضي أهل التثليث من معتقدي المترجم بإسقاطها فشاع إدخالها في هذه الترجمة عموماً على خلاف وصية إمامهم.
وكَتَبَ الفيلسوف المشهور إسحاق نيوتن (1) رسالة حجمها بقدر خمسين صفحة وأثبت فيها أن العبارة المذكورة، وكذا الآية السادسة عشرة من الرسالة الأولى إلى طيمورثاوس محرفتان والآية المذكورة هكذا:"وبالإجماع عظيم هو سر التقوى، الله ظهر في الجسد، تبرّز في الروح تَراءى للملائكة، كِرُزبه بين الأمم، أو من به في العالم، رُفع في المجد" وهذه الآية أيضاً نافعة لأهل التثليث جداً فزادوا تحريفاً لإثبات عقيدتهم الفاسدة. وأورد رحمت الله خمسة وأربعين شاهدا على ذلك.
المقصد الثالث: في إثبات التحريف بالنقصان (2)
وأورد تسعة عشر شاهدا وعشرين قولا وخمس مغالطات منها:
(مثال حي آخر في المقابل ولكن على عدم تحريف القرآن) إن نسخ الكتب المقدسة كانت منتشرة شرقاً وغرباً فلا يمكن التحريف لأحد كما لا يمكن في كتابكم فيرد رحمت الله بقوله:
(1) في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين، شغل العديد من علماء الرياضيات بمسائل تتطلب حساب التفاضل والتكامل، حتى قام كل من إسحاق نيوتن وغوتفريت لايبنيز، كل على حدة، باكتشاف النظرية الأساسية لحساب التفاضل والتكامل. وبسبب هذا الاكتشاف، يطلق عليهما اسم مؤسسي علم حساب التفاضل والتكامل. الموسوعة العربية العالمية السعودية، مرجع سابق.
(2)
انظر المرجع السابق، ص 513 - ص 641.
"جوابها ظاهر على من طالع المقاصد الثلاثة وجواب المغالطة الأولى، فإذا وقع التحريف بالفعل بإقرارهم فأي محل لعدم إمكانه، وقياس هذه الكتب على القرآن المجيد قياس مع الفارق؛ لأن هذه الكتب قبل إيجاد صنعة الطبع كانت قابلة للتحريف، وما كان اشتهارها بحيث يكون مانعاً عن التحريف، ألا ترى كيف حرف اليهود وملحدو المشرق على ما أقرت به فرقة البروتستنت وفرقة الكاثلك الترجمة اليونانية، مع أن اشتهارها شرقاً وغرباً كان أزيد من اشتهار النسخة العبرانية، وكيف أثر تحريفهم وهذا بخلاف القرآن المجيد فإن اشتهاره وتواتره كانا في كل قرن من القرون مانِعَيْن عن التحريف، والقرآن في كل طبقة كما كان محفوظاً في الصحائف فكذا كان محفوظاً في صدور أكثر المسلمين، ومن كان شاكاً في هذا الباب فليجرب في هذا الزمان أيضاً لأنه لو رأى المجرب في الجامع الأزهر فقط من جوامع مصر وجد في كل وقت أكثر من ألف شخص يكونون حافظين للقرآن كله على سبيل التجويد التام، ووجد كل قرية صغيرة من قرى الإسلام من مصر لا تخلو عن الحفاظ، ولا يوجد في جميع ديار أوربا في هذه الطبقة من المسيحيين مع فراغ بالهم وتوجههم التام إلى العلوم والصنائع وكونهم أكثر من المسلمين عدداً عدد حفاظ الإنجيل بحيث يساوي عدد الحفاظ الموجودين في الجامع الأزهر فقط، بل لا يكون عددهم في جميع ديار أوربا يبلغ عشرة، ويؤكد أنهم ما سمعوا أحداً أيضاً يكون حافظاً لجميع الإنجيل فقط في هذه الطبقة فضلاً أن يكون حافظاً للتوراة وغيره أيضاً، فجميع ديار أوربا من المسيحيين في هذا الباب ليسوا في مقابلة قرية صغيرة من قرى مصر، وليس الكبار من القسيسين في هذا الأمر خاصة في مقابلة الحمارين والبغالين من أهل مصر، وكان عُزَيْزالنبي عليه
السلام يُمْدَحُ بحفظ التوراة في أهل الكتاب، ويوجد في الأمة المحمدية في هذه الطبقة أيضاً مع ضعف الإسلام في أكثر الأقطار أزيد من مائة ألف من حفاظ القرآن في جميع ديار الإسلام، وهذا هو الفضل البديهي لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ولكتابهم، وهذا الأمر أيضاً معجزة لنبيهم ترى في كل طبقة من الطبقات".
ثم ذكر (حكاية) يعضد بها قوله: جاء يوماً أمير من أمراء الإنكليز في مكتب في بلدة سهار تفور من بلاد الهند ورأى الصبيان مشتغلين بتعلم القرآن وحفظه، فسأل المعلم: أي كتاب هذا. فقال: القرآن المجيد، فقال الأمير: أحفظ أحد منهم القرآن كله؟ ، فقال المعلم: نعم، وأشار إلى عدة منهم فلما سمع استبعد فقال: اطلب واحداً منهم وأعطني القرآن أمتحن، فقال المعلم: اطلب أيهم شئت فطلب واحداً منهم كان ابن ثلاثة عشرة أو أربعة عشرة وامتحنه في مواضع فلما تيقن أنه حافظ لجميع القرآن تعجب، وقال: أشهد أنه ما ثبت تواتر لكتاب من الكتب كما ثبت للقرآن، يمكن كتابته من صدر صبي من الصبيان مع غاية صحة الألفاظ، وضبط الأعراب.
شبهات وردود: كيف ضاعت النسخ وكيف حدث التحريف!
ثم أورد أموراً يزول بها استبعاد وقوع التحريف في كتبهم في نظرهم (الأمر الأول) كان موسى عليه السلام كتب نسخة التوراة وسلمها إلى الأحبار وسائر كبراء بني إسرائيل وأوصاهم بمحافظتها ووضعها في جنب صندوق الشهادة وإخراجها إلى الناس بعد كل سبعة سبعة من السنين في يوم العيد لأجل سماع بني إسرائيل، فكانت هذه النسخة موضوعة في جنب الصندوق وكانت الطبقة الأولى على وصية موسى عليه السلام، فلما انقرضت هذه الطبقة تغير حال بني إسرائيل فكانوا يرتدون تارة ويُسْلمون أخرى، وهكذا كان حالهم إلى أول سلطنة داود عليه السلام، وحسنت حالهم في تلك السلطنة وصَدْرَ سلطنة سليمان عليه السلام
وكانوا مؤمنين، لكن لأجل الانقلابات المذكورة ضاعت تلك النسخة الموضوعة في جنب الصندوق، ولا يُعْلم جزماً متى ضاعت ولما فتح سليمان الصندوق في عهده ما وجد فيه غير اللَّوْحين اللذين كانت الأحكام العشرة فقط مكتوبة فيهما كما هو مصرح في الآية التاسعة من الباب الثامن من سفر الملوك الأول وهي هكذا:"ولم يكن في التابوت إلا اللوحان الحجريان اللذان وضعهما موسى بحوريت حيث عاهد الرب بني إسرائيل وأخرجهم من أرض مصر" ثم وقع الانقلاب العظيم في آخر سلطنة سليمان عليه السلام على ما تشهد به كتبهم المقدسة بأن ارتد سليمان والعياذ بالله تعالى في آخر عمره بترغيب الأزواج وعَبَد الأصنام وبنى المعابد لها، فإذا صار مرتدا أو وثنياً ما بقي له غرض بالتوراة، وبعد موته وقع انقلاب أعظم وأشد من الأول بأن تفرق أسباط بني إسرائيل وصارت السلطنة الواحدة سلطنتين، فصارت عشرة أسباط في جانب والسبطان في جانب، وصار يوربعام سلطاناً على عشرة أسباط وسميت تلك السلطنة الإسرائيلية، وصار رحبعام بن سليمان سلطاناً على السبطين وسميت تلك السلطنة سلطنة يهودا، وشاع الكفر والارتداد بين السلطنتين لأن يوربعام بعد ما جلس على سرير السلطنة ارتد، وارتدت الأسباط العشرة معه، وعبدوا الأصنام، ومن
بقي منهم على ملة التوراة من الكهنة هاجر إلى مملكة يهودا، فهذه الأسباط من هذا العهد إلى مائتين وخمسين سنة كانوا كافرين عابدين الأصنام ثم أبادهم الله بأن سلط الأسوريين عليهم فأسروهم وفرقوهم في الممالك، وما أبقوا في تلك المملكة إلا شرذمة قليلة، وعمروا تلك المملكة من الوثنيين فاختلطت هذه الشرذمة القليلة بالوثنيين اختلاطاً شديداً، فتزاوجوا وتناكحوا وتوالدوا وسميت أولادهم السامريين فمن عهد يوربعام إلى آخر السلطنة الإسرائيلية ما كان لهذه الأسباط غرض بالتوراة، وكان وجود نسخ التوراة في تلك المملكة كوجود العنقاء. هذا حال الأسباط العشرة والسلطنة الإسرائيلية
…
وهكذا.
(مغالطة مهمة من فندر وردت في المناظرة) إن بعض نسخ الكتب المقدسة التي كتبت قبل زمان محمد صلى الله عليه وسلم موجودة إلى الآن عند المسيحيين وهذه النسخ موافقة لنسخنا [فيرد رحمت الله]: "أولاً إن في هذه المغالطة دعوتين الأولى أن هذه النسخ الموجودة كتبت قبل محمد صلى الله عليه وسلم، والثانية أنها موافقة لنسخنا وكلتاهما غير صحيحتين.
أما الأولى لأنه لم يصل إلى مصححي العهد العتيق نسخة عبرانية كتبت في المائة السابعة والثامنة، بل لم تصل إليهم نسخة عبرانية كاملة تكون مكتوبة قبل المائة العاشرة؛ لأن النسخة القديمة التي حصلت لكني كات هي نسخة تسمى بكودكس لاديانوس وقال إنها كتبت في المائة العاشرة، وقال موشيودي روسي إنها كتبت في المائة الحادية عشرة، ولما طبع واندرهوت النسخة العبرانية بادعاء التصحيح الكامل خالف هذه النسخة في أربعة عشر ألف موضع، منها أزيد من ألفي موضع في التوراة فقط فانظر إلى كثرة غلطها، وأما نسخ الترجمة اليونانية فثلاث منها قديمة عندهم جداً".
الباب الثالث: في إثبات النسخ (1)
يعرف رحمت الله مصطلح النسخ:
(1) انظر المرجع السابق، ص 641 - ص 667.
النسْخ في اللغة الإزالة، وفي اصطلاح أهل الإسلام بيان مدة انتهاء الحكم العملي الجامع للشروط؛ لأن النسخ لا يطرأ عندنا على القصص ولا على الأمور القطعية العقلية مثل أن صانع العالم موجود، ولا على الأمور الحسية مثل ضوء النهار وظلمة الليل، ولا على الأدعية، ولا على الأحكام التي تكون واجبة نظراً إلى ذاتها مثل آمنوا ولا تشركوا، ولا على الأحكام المؤبَّدة مثل {ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً} [النور: 4] ولا على الأحكام المؤقتة قبل وقتها المعين مثل {فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره} [البقرة: 109] بل يطرأ على الأحكام التي تكون عملية محتملة للوجود والعدم غير مؤبدة وغير مؤقتة، وتسمى الأحكام المطلقة، ويشترط فيها أن لا يكون الوقت والمكلف والوجه متحدة، بل لا بد من الاختلاف في الكل أو البعض من هذه الثلاثة، وليس معنى النسخ المصطلح أن الله أمر أو نهى أو لاً وما كان يعلم عاقبته ثم بدا له رأيٌ فنسخ الحكم الأول ليلزم الجهل، أو أمر أو نهى ثم نسخ مع الاتحاد في الأمور المسطورة ليلزم الشناعة عقلاً. وليست قصة من القصص المندرجة في العهد العتيق والجديد منسوخة عندنا.
ثم يوضح ذلك بقوله: نعم بعضها كاذب مثل أن لوطاً عليه السلام زنى بابنتيه وحملتا بالزنا من الأب كما هو مصرح به في الباب التاسع عشر من سفر التكوين، أو أن يهود بن يعقوب عليه السلام زنى بثامار زوجة ابنه وحملت بالزنا منه وولدت توأمين فارض وزارح كما هو مصرح به في الباب الثامن والثلاثين من السفر المذكور، وداود وسليمان وعيسى عليهم السلام كلهم من أولاد فارض المذكور كما هو مصرح به في الباب الأول من إنجيل متى، أو أن داود عليه السلام زنى بامرأة أوريا، وحملت بالزنا منه فأهلك زوجها بالمكر وأخذها زوجة له كما هو مصرح به في الباب الحادي عشر من سفر صموئيل الثاني، أو أن سليمان عليه السلام ارتد في آخر عمره وكان يعبد الأصنام بعد الارتداد وبنى المعابد لها كما هو مصرح به في الباب الحادي عشر من سفر الملوك الأول، أو أن هارون عليه السلام بنى معبداً للعجل وعبده، وأمر بني إسرائيل بعبادته كما هو مصرح به في الباب الثاني والثلاثين من سفر الخروج.
هل كل القصص وأمثالها منسوخة؟
فيقول: "إن هذه القصص وأمثالها كاذبة باطلة عندنا ولا نقول إنها منسوخة، وكذا لا تكون الأدعية منسوخة فلا يكون الزبور الذي هو أدعية منسوخاً بالمعنى المصطلح عندنا، ولا نقول قطعاً إنه ناسخ للتوراة ومنسوخ من الإنجيل كما افترى هذا الأمر على أهل الإسلام صاحبُ ميزان الحق وقال إن هذا مصرح به في القرآن والتفاسير، وإنما منعنا عن استعمال الزبور والكتب الأخرى من العهد العتيق والجديد لأنها مشكوكة يقيناً بسبب عدم أسانيدها المتصلة وثبوت وقوع التحريف اللفظي فيها بجميع أقسامه كما عرفت في الباب الثاني، ويجوز النسخ في غير المذكورات من الأحكام المطلقة الصالحة للنسخ فنعترف بأن بعض أحكام التوراة والإنجيل من الأحكام التي هي من جنس الصالحة للنسخ منسوخة في الشريعة المحمدية ولا نقول إن كل حكم من أحكامهما منسوخة، كيف وإن بعض أحكام التوراة لم تنسخ يقيناً مثل: حرمة اليمين الكاذبة والقتل والزنا واللواطة والسرقة وشهادة الزور والخيانة في مال الجار وعرضه ووجوب إكرام الأبوين، وحرمة نكاح الآباء والأبناء والأمهات والبنات والأعمام والعمات والأخوال والخالات، وجمع الأختين وغيرها من الأحكام الكثيرة وكذا بعض أحكام
الإنجيل لم تنسخ يقيناً، مثلاً وقع في الباب الثاني عشر من إنجيل مرقس هكذا: 29 "فقال له عيسى وهو يحاوره: إن أول الأحكام قوله اسمع يا إسرائيل فإن الرب إلهنا رب واحد" 30 " وأن تحب الرب إلهك بقلبك كله وروحك كله وإدراكك كله وقواك كلها هذا هو الحكم الأول" 31 "والثاني مثله وهو أن تحب جارك كنفسك وليس حكم آخر أكبر من هذين" فهذان الحكمان باقيان في شريعتنا على أوكد وجه، وليسا بمنسوخين والنسخ ليس بمختص بشريعتنا بل وجد في الشرائع السابقة أيضاً بالكثرة بكلا قسميه أعني النسخ الذي يكون في شريعة نبي لاحق لحكم كان في شريعة نبي سابق، والنسخ الذي يكون في شريعة نبي لحكم آخر من شريعة هذا النبي، وأمثلة القسمين في العهد العتيق
والجديد غير محصورة
…
أورد رحمت الله واحدا وعشرين شاهدا على ذلك، كما أورد رحمت الله اثنا عشر مثالا على أمثلة القسم الثاني" (1).
الباب الرابع: في إبطال التثليث (2)
وهو مشتمل على مقدمة وثلاثة فصول
أما المقدمة ففي بيان اثني عشر أمراً تفيد الناظر بصيرة في الفصول منها: أن كتب العهد العتيق ناطقة بأن الله واحد أزلي أبدي لا يموت، قادر يفعل ما يشاء ليس كمثله شيء لا في الذات ولا في الصفات، بريء عن الجسم والشكل، وهذا الأمر لشهرته وكثرته في تلك الكتب غير محتاج إلى نقل الشواهد.
الفصل الأول: في إبطال التثليث بالبراهين العقلية (3)
أورد سبعة براهين يفند التثليث ويبطله:
(البرهان الأول) لما كان التثليث والتوحيد حقيقيين عند المسيحيين بحكم الأمر العاشر من المقدمة فإذا وجد التثليث الحقيقي لا بد من أن توجد الكثرة الحقيقية أيضاً بحكم الأمر التاسع من المقدمة ولا يمكن بعد ثبوتها التوحيد الحقيقي وإلا يلزم اجتماع الضدين الحقيقيين بحكم الأمر السابع من المقدمة وهو محال، فلزم تعدد الوجباء وفات التوحيد يقيناً. كيف وإن الواحد الحقيقي ليس له ثلث صحيح والثلاثة لها ثلث صحيح، وهو واحد وأن الثلاثة مجموع آحاد ثلاثة، والواحد الحقيقي ليس مجموع آحاد رأساً، وإن الواحد الحقيقي جزء الثلاثة فلو اجتمعا في محل واحد يلزم كون الجزء كلاً والكل جزءاً وأن هذا الاجتماع يستلزم كونَ الله مركّباً من أجزاء غير متناهية بالفعل لاتحاد حقيقة الكل والجزء على هذا التقدير، والكل مركب، فكل جزء من أجزائه أيضاً مركب من الأجزاء التي تكون عين هذا الجزء وهلم جرّا، وكون الشيء مركّباً من أجزاء غير متناهية بالفعل باطل قطعاً، وأن هذا الاجتماع يستلزم كون الواحد ثُلث نفسه وكون الثلاثة ثلاثة أمثال نفسها، والواحد ثلاثة أمثال الثلاثة.
(البرهان الثاني) لو وُجِد في ذات الله ثلاثة أقانيم ممتازة بامتياز حقيقي كما قالوا فمع قطع النظر عن تعدد الوجباء يلزم أن لا يكون الله حقيقة محصَّلة بل مركباً اعتبارياً فإن التركيب الحقيقي لا بد فيه من الافتقار بين الأجزاء.
(1) انظر المرجع السابق، ص 667 - 676.
(2)
انظر المرجع السابق، ص 683 - ص 725.
(3)
انظر المرجع السابق، ص 725 - ص 736.
(البرهان الثالث) فرقة البروتستنت ترد على فرقة الكاثلك في استحالة الخبز إلى المسيح في العشاء الرباني بشهادة الحس وتستهزئ بها، فهذا الرد والهزء يرجعان إليهما أيضاً لأن الذي رأى المسيح ما رأى منه إلا شخصاً واحداً إنساناً، وتكذيب أصدق الحواس الذي هو البصر يفتح باب السفسطة في الضروريات، فيكون القول به باطلاً كالقول بالاستحالة.
أورد حكاية تفيد عدم معرفتهم بمعنى التثليث بدقة كما يدعونه:
نقل أنه تنصر ثلاثة أشخاص وعلمهم بعض القسيسين العقائد الضرورية سيما عقيدة التثليث أيضاً، وكانوا في خدمته فجاء محب من أحبَّاء هذا القسيس وسأله عمن تنصر؟ فقال: ثلاثة أشخاص تنصروا، فسأل هذا المحب: هل تعلموا شيئاً من العقائد الضرورية، فقال: نعم، وطلب واحداً منهم ليرى محبه فسأله عن عقيدة التثليث، فقال: إنك علمتني أن الآلهة ثلاثة أحدهم الذي هو في السماء والثاني تولد من بطن مريم العذراء والثالث الذي نزل في صورة الحمام على الإله الثاني بعد ما صار ابن ثلاثين سنة، فغضب القسيس وطرده، وقال: هذا مجهول، ثم طلب الآخر منهم وسأله فقال: إنك علمتني أن الآلهة كانوا ثلاثة وصلب واحد منهم فالباقي إلهان، فغضب عليه القسيس أيضاً وطرده، ثم طلب الثالث وكان ذكياً بالنسبة إلى الأولين وحريصاً في حفظ العقائد فسأله فقال: يا مولاي حفظت ما علمتني حفظاً جيداً وفهمت فهماً كاملاً بفضل الرب المسيح أن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد وصلب واحد منهم ومات فمات الكل لأجل الاتحاد، ولا إله الآن وإلا يلزم نفي الاتحاد!
ثم يتعجب رحمت الله من عقلاء الكاثلك ومَنْ تبعهم أنهم تارةً يبطلون حكم الحس والعقل معاً، ويحكمون أن الخبز والخمر اللذين حدثا بين أعيننا بعد مدة أزيد من ألف وثمانمائة سنة من عروج المسيح عليه السلام يتحولان في العشاء الرباني إلى لحمه ودمه حقيقة فيعبدونهما ويسجدون لهما، وتارةً يبطلون حكم العقل والبداهة وينبذون البراهين العقلية وراء ظهورهم، ويقولون: التثليث الحقيقي والتوحيد الحقيقي يمكن اجتماعهما في أمر واحد شخصي في زمان واحد من جهة واحدة، والعجب من فرقة البروتستنت أنهم خالفوهم في الأولى دون الثانية، فلو كان العمل على ظاهر النقل ضرورياً وإن كان مخالفاً للحس والعقل فالإنصاف أن فرقة الكاثلك خير من فرقتهم لأنها بالغت في إطاعة ظاهر قول المسيح عليه السلام حتى اعترفت بمعبودية ما يصادمه الحس والبداهة
…
أورد رحمت الله سبعة براهين على ذلك.
الفصل الثاني: في إبطال التثليث بأقوال المسيح ((1)
أورد رحمت الله اثني عشر قولا، على سبيل المثال:
(القول الأول): في الآية الثالثة من الباب السابع عشر من إنجيل يوحنا قول عيسى عليه السلام في خطاب الله هكذا: (وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته) فبين عيسى عليه السلام أن الحياة الأبدية، عبارة عن أن يعرف الناس أن الله واحد حقيقي وأن عيسى عليه السلام رسوله. وما قال إن الحياة الأبدية أن يعرفوا أن ذاتك ثلاثة أقانيم ممتازة بامتياز حقيقي وأن عيسى إنسان وإله، أو أن عيسى إله مجسم ولما كان هذا القول في خطاب الله في الدعاء فلا احتمال ههنا للخوف من اليهود فلو كان اعتقاد
(1) انظر المرجع السابق، ص 736 - ص 750.
التثليث مدار النجاة لبينه، وإذ ثبت أن الحياة الأبدية اعتقاد التوحيد الحقيقي لله واعتقاد الرسالة للمسيح فضدهما يكون موتاً أبدياً وضلالاً بيناً ألبتة.
الفصل الثالث: في إبطال الأدلة النقلية على ألوهية المسيح (1)
فسر رحمت الله الأقوال التي يتمسك بها المسيحيون في أنها غالباً مجملة منقولة من إنجيل يوحنا وعلى ثلاثة أقسام: -
- بعضها لا يدل بحسب معانيها الحقيقية على مقصودهم؛ فاستنباط الألوهية منها مجرد زعمهم، وهذا الاستنباط والزعم ليسا بمعتدّين ولا جائزين في مقابلة البراهين العقلية القطعية والنصوص العيسوية كما عرفت في الفصلين المذكورين.
- وبعضها أقوال يفهم تفسيرها من الأقوال المسيحية الأخرى ومن بعض مواضع الإنجيل ففيها أيضاً لا اعتبار لرأيهم.
- وبعضها أقوال يجب تأويلها عندهم أيضاً فإذا وجب التأويل فنقول لا بد أن يكون هذا التأويل بحيث لا يخالف البراهين والنصوص، وأنى لهم ذلك؟ ! فلا حاجة إلى نقل الكل بل أنقل الأكثر ليتضح منه للناظر حال استدلالهم ويقيس الباقي عليه.
[ثم أورد أمثلة على ذلك]:
• من إطلاق لفظ ابن الله على المسيح عليه السلام فيقول: هذا الدليل في غاية الضعف بوجهين:
أما أولاً: فلأن هذا الإطلاق معارض بإطلاق ابن الإنسان وبإطلاق ابن داود فلا بد من التطبيق بحيث لا يثبت المخالفة للبراهين العقلية ولا يلزم منه محال، وأما ثانياً: فلأنه لا يصح أن يكون لفظ الابن بمعناه الحقيقي؛ لأن معناه الحقيقي باتفاق لغة أهل العالم من تولد من نطفة الأبوين وهذا محال ههنا، فلا بد من الحمل على المعنى المجازي المناسب لشأن المسيح وقد علم من الإنجيل أن هذا اللفظ في حقه بمعنى الصالح. الآية التاسعة والثلاثون من الباب الخامس عشر من إنجيل مرقس هكذا:(ولما رأى قائد المائة الواقف مقابله أنه صرح هكذا وأسلم الروح قال حقاً كان هذا الإنسان ابن الله) ونقل لوقا قول القائد في الآية السابعة والأربعين من الباب الثالث والعشرين من إنجيله هكذا: (بالحقيقة كان هذا الإنسان باراً) ففي إنجيل مرقس لفظ ابن الله وفي إنجيل لوقا بدله لفظ البار.
في الآية الثالثة والعشرين من الباب الثامن من إنجيل يوحنا هكذا: (فقال لهم أنتم من أسفل أما أنا فمن فوق، أنتم من هذا العالم أما أنا فلست من هذا العالم) يعني أني إله نزلت من السماء وتجسمت.
يقول: لما كان هذا القول مخالفاً للظاهر لأن عيسى عليه السلام كان من هذا العالم فأولوا بهذا التأويل وهو غير صحيح بوجهين: (الأول): أنه مخالف للبراهين العقلية والنصوص. (والثاني): أن عيسى عليه السلام قال مثل هذا القول في حق تلاميذه أيضاً في الآية التاسعة عشرة من الباب الخامس عشر من إنجيل يوحنا هكذا: (لو كنتم من العالم لكان
(1) انظر المرجع السابق، ص 751 - ص 773.
العالم يحب خاصته، ولكن إنكم لستم من العالم بل أنا اخترتكم من العالم لذلك يبغضكم العالم). وفي الباب السابع من إنجيل يوحنا هكذا 14:(لأنهم ليسوا من العالم كما أني أنا لست من العالم)] 16 [(ليسوا من العالم كما أني أنا لست من العالم) فقال في حق تلاميذه: إنهم ليسوا من العالم، وسوّى بينه وبينهم في عدم الكون من هذا العالم، فلو كان هذا مستلزماً للألوهية كما زعموا، لزم أن يكونوا كلهم آلهة والعياذ بالله، بل التأويل الصحيح: أنتم طالبو الدنيا الدنية وأنا لست كذلك، بل طالب الآخرة ورضاء الله، وهذا المجاز شائع في الألسنة يقال للزهاد والصلحاء إنهم ليسوا من الدنيا. وأورد رحمت الله أربعة أدلة على ذلك.
الباب الخامس: في إثبات كون القرآن كلام الله ومعجزاً ورفع شبهات القسيسين وضممت إلى مبحث القرآن مبحث إثبات صحة الأحاديث النبوية المروية في كتب الصحاح من كتب: أهل السنة والجماعة (1).
وجعل هذا الباب مشتملاً على أربعة فصول:
الفصل الأول: في إثبات أن القرآن كلام الله
الأمور التي تدل على أن القرآن كلام الله كثيرة، اكتفى منها على اثني عشر أمراً على عدد حواري المسيح وترك الباقي.
(الأمر الأول): كونه في الدرجة العالية من البلاغة التي لم يعهد مثلها في تراكيبهم وتقاصرت عنها درجات بلاغتهم، وهي عبارة عن التعبير باللفظ المعجب عن المعنى المناسب للمقام الذي أورد فيه الكلام، بلا زيادة ولا نقصان في البيان، والدلالة عليه، وعلى هذا كلما ازداد شرف الألفاظ ورونق المعاني ومطابقة الدلالة كان الكلام أبلغ وتدل على كونه في هذه الدرجة وجوه:
(أولا) أنه تعالى راعى فيه طريقة الصدق وتنزه عن الكذب في جميعه، وكل شاعر ترك الكذب والتزم الصدق نزل شعره ولم يكن جيداً، ولذلك قيل أحسن الشعر أكذبه. وترى أن لبيد بن ربيعة (2)
وحسان بن ثابت (3) رضي الله عنهما لما أسلما نزل شعرهما ولم يكن شعرهما
(1) انظر المرجع السابق، ص 774 - ص 1000.
(2)
لبيد بن ربيعة (؟ - 41 هـ، ؟ - 661 م). لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب العامري الصحابي، يعد من شعراء المعلقات بإجماع الرواة، ومن أشهر الشعراء المخضرمين المعمرين. قدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم سنةَ وَفَدَ قومه بنو جعفر بن كَلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة فأسلم وحسن إسلامه. وكان يقال لأبيه ربيع المقُتِرين لجوده وسخائه، وقتلته بنو أسد في حرب بينهم وبين قومه. نشأ لبيد كريمًا كأبيه وآلى على نفسه في الجاهلية ألا تهب الصَّبا إلا أطعم الناس حتى تسكن، وظل على نذره في الإسلام. ويكنى لبيد أبا عقيل. وصفه ابن سلام فقال: وكان لبيد في الجاهلية خير شاعر لقومه يمدحهم ويرثيهم ويعد أيامهم ووقائعهم وفرسانهم. وعدّه ابن قتيبة من شعراء الجاهلية وفرسانهم. وذكر الأصفهاني في ترجمته أن عمه هو أبو بَرَاء عامر بن مالك ملاعب الأسنة. أما أمه فهي تامرة بنت زنباع القيسية، إحدى بنات حذيمة بن رواحة. ويكاد الرواة يجمعون على أن لبيداً هجر الشعر منذ هداه الله إلى الإسلام، ويزعمون أنه لم يقل شعرًا في الإسلام إلا بيتًا واحدًا، يختلفون فيه وفي نسبته، وهو قوله: الحمد لله إذ لم يأتني أجلي
…
حتى اكتسيت من الإسلام سربالا. الموسوعة العربية العالمية السعودية، مرجع سابق.
(3)
حسان بن ثابت (؟ - 54 هـ، ؟ - 674 م). حسان بن ثابت بن المنذر الأنصاري، من الشعراء المخضرمين، وشاعر الرسول 3، ينتمي إلى قبيلة الخزرج الأزدية، إحدى قبائل اليمن المشهورة. يتصل نسبه من جهة أبيه ببني مالك بن النجار، وهم بطن مشهور من بطون الخزرج. وقد اجتمع لحسان عراقة النسب والحسب وموهبة الشعر؛ فهو من بني النجار أخوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وكان أبوه ثابت بن المنذر بن حرام الأنصاري من سادة قومه وأشرافهم، أما جده المنذر، فقد كان حكمًا بين الأوس والخزرج يوم سُمَيْحَة، وهو يوم من أشهر أيامهم. وأمه الفُريْعة بنت خالد بن حُنَيْس، وقيل بل أخت خالد لا ابنته، وذكر ابن حجر أنها أدركت الإسلام فأسلمت وبايعت. وكنيته أبو الوليد، وأبو عبدالرحمن، وقد عُد من المعمَّرين، حيث يقال إنه عاش ستين عامًا في الجاهلية ومثلها في الإسلام. واختلف الدارسون في سنتي ميلاده ووفاته. الموسوعة العربية العالمية السعودية، مرجع سابق.
الإسلامي كشعرهما الجاهلي، والقرآن جاء فصيحاً مع التنزه عن الكذب والمجازفة.
(ثانيا) أن الكلام الفصيح إنما يتفق في القصيدة في البيت والبيتين والباقي لا يكون كذلك، بخلاف القرآن فإنه مع طوله فصيح كله، بحيث يعجز الخلق عنه. ومن تأمل في قصة يوسف عليه السلام عرف أنها مع طولها وقعت على الدرجة العالية من البلاغة.
(ثالثا) أن الشاعر أو الكاتب إذا كرر مضموناً أو قصة لا يكون كلامه الثاني مثل الأول، وقد تكررت قصص الأنبياء وأحوال المبدأ والمعاد والأحكام والصفات الإلهية، واختلفت العبارات إيجازاً وإطناباً وتفنناً في بيانها غيبة وخطاباً، ومع ذلك كل واحد منها في نهاية الفصاحة ولم يظهر التفاوت أصلاً.
(رابعا) أنه اقتصر على إيجاب العبادات وتحريم القبائح والحث على مكارم الأخلاق وترك الدنيا واختيار الآخرة، وأمثال هذه الأمور توجب تقليل الفصاحة؛ ولذلك إذا قيل لشاعر فصيح أو كاتب بليغ أن يكتب تسع أو عشر من مسائل الفقه أو العقائد في عبارة فصيحة مشتملة على التشبيهات البليغة والاستعارات الدقيقة يعجز.
(خامسا) أن كل شاعر يحسن كلامه في فن فإنه يضعف كلامه في غير ذلك الفن، كما قالوا في شعراء العرب: إن شعر امرئ القيس يحسن عند الطرب وذكر النساء وصفة الخيل، وشعر النابغة (1)
عند الخوف وشعر الأعشى (2)
عند الطلب ووصف الخمر وشعر زهير (3)
(1) النابغة الذبياني (ت نحو 604 م). زياد بن معاوية، ينتهي نسبه إلى سعد بن ذبيان بن بغيض. وأمه عاتكة بنت أنيس من بني أشجع الذبيانيين، فهو ذبياني أبًا وأمًا، وكان يكنى بأبي أمامة وأبي ثمامة، وله ابنة تُسمى عقرب وربما كني بها أيضًا. ويلقب بالنابغة وبهذا اللقب عرف واشتهر. واختلف الرواة في تعليل هذا اللقب، فقالوا: لُقِّب به لقوله: ̧فقد نبغت لنا منهم شؤون·، أو لأنه لم يقل الشعر حتى صار رجلاً، أو لنبوغه في الشعر وتفوقه فيه. من أعلام الشعراء الجاهليين أصحاب المعلقات ومطلع معلقته: يادار مية بالعلياء فالسّند
…
أقوتْ وطال عليها سالف الأمد
والمعلومات حول فترة طفولته وشبابه شحيحة. وقد اكتفى الرواة بالقول: إن النابغة كان من أشراف ذبيان وبيوتاتهم، وكان معاصرًا لحرب داحس والغبراء التي دارت رحاها بين قبيلته وقبيلة عبس بين عامي (568 و 608 م). ولعله لم يشهد نهايتها، إذ لم يرد في أشعاره أي شيء يتصل بانتهائها. والنابغة عند بعض الرواة من الشعراء الأشراف. وفد على النعمان بن المنذر أمير الحيرة (580 و 602 م)، فلزمه ومدحه بكثير من غرِر قصائده. وفي هذه الفترة حقق النابغة شهرته الأدبية ومكانته الاجتماعية المتميزة، فقد كان يضرب له في سوق عكاظ قبة فتأتيه الشعراء، فتعرض عليه أشعارها. الموسوعة العربية العالمية السعودية، مرجع سابق.
(2)
الأَعْشَى (؟ - 7 هـ، ؟ - 629 م). ميمون بن قيس ابن جندل بن شراحيل؛ من شعراء المعلقات. وينتهي نسبه إلى ضُبَيْعَة بن قيس بن ثعلبة أحد الفروع التي تفرعت إليها قبيلة بكر. وكانت بكر تنزل في المنطقة الشرقية من الجزيرة العربية على امتداد ما بين وادي الفرات واليمامة في الجنوب الشرقي من نجد، وكانت قيس تنزل في إقليم اليمامة. لُقِّب بالأعشى لضعف بصره ويكنى أبا بصير. وسُمّىَ صناجة العرب؛ لأنه كان يتغنى بشعره. وأمه بنت علس أخت المسيب بن علس الشاعر، وعنه حمل الشعر الأعشى إذ كان راويته. عاش الأعشى في أواخر العصر الجاهلي وولد بقرية باليمامة يقال لها منفوحة (أصبحت إحدى ضواحي مدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية). وقد أدرك الإسلام، ولكنه لم يُسْلم، وتروى له قصيدة في مدح الرسول 3، تناولها عدد من الدارسين المحدثين بالنقد، وساقوا أدلة تثبت انتحالها عليه. وتشير أخباره في المصادر العربية وقصائده في الديوان إلى أنه كان كثير التنقل والأسفار، وأن تطوافه في أنحاء الجزيرة كان الهدف منه مدح السادة والأشراف؛ فقد مدح طائفة من أشراف العرب في نجد والحجاز، وأطراف اليمن، وفي الحيرة وبادية الشام. ولهذا حط من قدر نفسه بالتكسب بشعره. وإن كان هذا هو رأي القدماء فيه؛ فإن الدارسين المحدثين يعدّونه أهم شاعر حوّل المدح في الشعر الجاهلي إلى احتراف خالص من أجل التكسب والعيش. الموسوعة العربية العالمية السعودية، مرجع سابق.
(3)
زهير بن أبي سُلْمى (؟ - 627 م). ربيعة بن رباح المزني. جاهليٌ من شعراء المعلقات، اختلف الرواة في نسبه، فبعضهم ينسبه إلى غطفان، وآخرون يردونه إلى مزينة، ولا يعرف بالتحديد متى وُلِدَ، ولكن يجمع الرواة على أنه عاش =
عند الرغبة والرجاء. وقالوا في شعراء فارس إن النظامي والفردوسي وحيدان في بيان الحرب، والسعدي (1) فريد في الغزل، والأنوري في القصائد
…
والقرآن جاء فصيحاً على غاية الفصاحة في كل فن ترغيباً كان أو ترهيباً، زجراً كان أو وعظاً أو غيرهما. (وأورد ههنا بطريق الأنموذج من كل فن آية آية) ففي الترغيب قوله {من قرة أعين} [السجدة: 17] وفي الترهيب قوله {وخاب كل جبار عنيد. من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد. يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت. ومن ورائه عذاب غليظ} [ابراهيم: 14 - 17] وفي الزجر والتوبيخ قوله {فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً. ومنهم من أخذته الصيحة. ومنهم من خسفنا به الأرض. ومنهم من أغرقنا. وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} [العنكبوت: 40] وفي الوعظ قوله {أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون} [الشعراء: 205 - 207] وفي الإلهيات قوله {الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار. عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال} [الرعد: 8 - 9].
(الأمر الثاني): تأليفه العجيب وأسلوبه الغريب في المطالع والمقاطع والفواصل، مع اشتماله على دقائق البيان وحقائق العرفان، وحسن العبارة، ولطف الإشارة، وسلامة التركيب، وسلامة الترتيب، فتحيرت فيه عقول العرب العرباء، وفهوم الفصحاء. والحكمة في هذه المخالفة أن لا يبقى لمتعسف عنيد مظنة السرقة، ويمتاز هذا الكلام عن كلامهم ويظهر تفوقه؛ لأن البليغ ناظماً كان أو ناثراً يجتهد في هذه المواضع اجتهاداً كاملاً، ويمدح ويعاب عليه
= في الفترة التي سبقت ظهور الإسلام، وأنه شهد حرب داحس والغبراء ويوم جبلة. كما عاصر نفرًا من شعراء العصر الجاهلي منهم النابغة الذبياني، وأوس بن حجر، وعنترة بن شداد العبسي. ونستنتج من شعره أنه عمّر طويلاً .. وكان من أحزم الناس رأيًا، لذلك كانت غطفان تستشيره إذا أرادت الغزو وتصدر عن رأيه. وقد انقطع زهير لهرم بن سنان، وقال فيه جل مدائحه، وشهد حرب داحس والغبراء بين عبس وذبيان. ونظم فيها معلقته التي مطلعها: أمن أم أوفى دمنة لم تكلّم
…
بحومانة الدراج فالمتثلّم
…
وأما الأسباب الأخلاقية، فإنها تتصل بقيمتي الصدق والإخلاص في التعبير عنده، ولذا أعجب عمر بن الخطاب رضي الله عنه بشعر زهير للصدق في منطقه، ولأنه لايحسن في صناعة الشعر أن يُعطى الرجل فوق حقه من المدح. ومن أعمق شعره وأشده تأثيرًا في النفس تلك الأبيات من معلقته التي يصدر فيها عن تجربة في الحياة ومعرفة بالأحياء من حوله. يقول:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعشْ
ثمانين حولاً لا أبالك يسأم
وأعلم مافي اليوم والأمس قبلَه
ولكنني عن علم مافي غدٍ عَمِ
رأيت المنايا خبط عشواء من تصبْ
تُمتِه ومن تخطئْ يُعَمَّرْ فيهرَمِ
ومن لم يُصانعْ في أمور كثيرةٍ
يضرّس بأنياب ويَوُطأ بمَنسْمِ
ومن يجعل المعروف من دون عْرضِه
يَفِرْه ومَنَ لايتّقِ الشتم يُشتَمِ .. الموسوعة العربية العالمية السعودية، مرجع سابق (بتصرف).
(1)
سعدي (1213 - 1292 م). كاتب وشاعر فارسي مشهور يعرف سعدي الشيرازي، له مؤلفات كثيرة في مجالي الشعر والنثر. أشهر مؤلفاته كتابه المسمى: جلستان (حديقة الورود) وهو مجموعة من الحكايات النثرية القصيرة معها بعض الأشعار التهذيبية. تتميز كتابات سعدي بأسلوبها الجزل الواضح وبما فيها من روح التسامح والعواطف الإنسانية. ولعل ماتميزت به كتاباته من سهولة وقيم خلقية رفيعة، هو ماجعله أكثر كُتَّاب الفرس شعبية.
ولد سعدي في شيراز، وعاش في فترة اضطراب سياسي مما جعله يقضي أغلب فترات حياته متنقلا من مكان إلى آخر، ومتجولا من نصير إلى آخر. الموسوعة العربية العالمية السعودية، مرجع سابق.
غالباً في هذه المواضع كما عيب على مطلع امرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل .. بسقط اللوى بين الدخول فحومل؛ بأن صدر البيت جمع بين عذوبة اللفظ وسهولة السبك وكثرة المعاني؛ فإنه وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الحبيب والمنزل، وأن الشطر الثاني لا يوجد فيه شيء من ذلك
…
وعيب على مطلع أبي النجم الشاعر المشهور فإنه دخل على هشام بن عبد الملك (1)،
فأنشده:
صفراء قد كادت ولما تفعل .. كأنها في الأفق عين الأحوال
وكان هشام أحول فأخرجه وأمر بحبسه.
وعيب على مطلع جرير، فإنه دخل على عبد الملك وقد مدحه بقصيدة حائية. أولها:
أتصحو أم فؤداك غير صاح
فقال له عبد الملك: بل فؤادك يا ابن الفاعلة.
وعيب على مطلع البحتري فإنه أنشد يوسف بن محمد قصيدته التي مطلعها:
لك الويل من ليل تقاصر آخره
فقال: بل لك الويل والخزي
…
وعيب على مطلع إسحاق الموصلي الأديب الحاذق، فإنه دخل على المعتصم وقد فرغ من بناء قصره بالميدان وأنشده قصيدته التي مطلعها:
يا دار غيرك البلى ومحاك * يا ليت شعري ما الذي أبلاك! ! فتطير المعتصم من هذا المطلع وأمر بهدم القصر على الفور.
(الأمر الثالث): كون القرآن منطوياً على الإخبار عن الحوادث الآتية، فوجدت في الأيام اللاحقة على الوجه الذي أخبر.
كقوله تعالى: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون [{الفتح: 27].فوقع كما أخبر، ودخل الصحابة المسجد الحرام آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين غير خائفين. 2 - وكقوله تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً} [النور: 55]. فكان الله وعد المؤمنين بجعل الخلفاء منهم وتمكين الدين المرضي لهم، وتبديل خوفهم بالأمن، فوفى وعده في مدة قليلة بأن ظهر في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم أن أهل الإسلام تسلطوا على مكة، وخيبر والبحرين، ومملكة اليمن، وأكثر ديار العرب، وأن إقليم الحبش صار دار الإسلام بإيمان النجاشي الملك، وأن أناساً من هجر وبعض المسيحيين من نواحي الشام قبلوا الإطاعة وأداء الجزية.
(1) هشام بن عبد الملك (71 - 125 هـ، 690 - 743 م). من خلفاء الدولة الأموية بالشام. ولد في دمشق، وبويع بالخلافة فيها بعد وفاة أخيه يزيد عام (105 هـ - 723 م). سار في بداية حكمه على نهج عمر بن عبدالعزيز في العدل والاستقامة، ولكن صرفته بطانة السوء عن هذا النهج؛ فكثر أعداؤه، واستفحلت في عهده العصبية القبلية بين المضرية واليمانية. واندلعت فتن كثيرة في عهده، مثل ثورة الخوارج في العراق والشيعة في الكوفة بزعامة زيد بن علي بن الحسين بن علي، والبربر في المغرب، فقضى عليها بحلمه ودهائه وحنكته. نقل مقر الخلافة من دمشق إلى الرصافة على الفرات، خوفًا من الطاعون الذي كان يغزو دمشق من حين إلى آخر. واهتم بتنظيم الدواوين، وأحسن معاملة أهل الذمة. وعمل على تعزيز العلم والثقافة في الشام، وترجمت الكتب في عهده. وعمل على إصلاح الزراعة في العراق، فجففت المستنقعات، وزادت بذلك رقعة الأرض الزراعية، فزادت الغلات .. واهتم بالفتوح، وحقق انتصارات كبيرة في الجبهة الرومية وجبهة جنوبي بحر الخزر. وشهدت بلاد الشام الأمن في عهده. مات هشام بالرصافة. وكان عهده نهاية لعهود الخلفاء الأمويين الأقوياء. الموسوعة العربية العالمية السعودية، مرجع سابق.
(الأمر الرابع) ما أخبر من أخبار القرون السالفة والأمم الهالكة، وقد علم أنه كان أمياً ما قرأ ولا كتب ولا اشتغل بمدارسة مع العلماء ولا مجالسة مع الفضلاء، بل تربى بين قوم كانوا يعبدون الأصنام ولا يعرفون الكتاب، وكانوا عارين عن العلوم العقلية أيضاً، ولم يغب عن قومه غيبة يمكن له التعلم فيها من غيرهم، والمواضع التي خالف القرآن فيها في بيان القصص والحالات المذكورة] في [كتب أهل الكتاب كقصة صلب المسيح عليه السلام وغيرها فهذه لمخالفة قصدية: إما لعدم كون بعض هذه الكتب أصلية: كالتوراة والإنجيل المشهورين، وإما لعدم كونها إلهامية، ويدل على ما ذكرت قوله تعالى:{إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون} [النمل: 76].
(الأمر الخامس) ما فيه من كشف أسرار المنافقين؛ حيث كانوا يتواطئون في السر على أنواع كثيرة من المكر والكيد، وكان الله يطلع رسوله على تلك الأحوال حالاً فحالاً، ويخبره عنها على سبيل التفصيل، فما كانوا يجدون في كل ذلك إلا الصدق، وكذا ما فيه من كشف حال اليهود وضمائرهم.
(الأمر السادس) جمعه لمعارف جزئية وعلوم كلية لم تعهد العرب عامة ولا محمد صلى الله عليه وسلم خاصة من علم الشرائع، والتنبيه على طرق الحجج العقلية والسير والمواعظ والحكم، وأخبار الدار الآخرة ومحاسن الآداب والشيم.
(الأمر السابع) كونه بريئاً عن الاختلاف والتفاوت مع أنه كتاب كبير مشتمل على أنواع كثيرة من العلوم، فلو كان ذلك من عند غير الله لوقعت فيه أنواع من الكلمات المتناقضة؛ لأن الكتاب الكبير الطويل لا ينفك عن ذلك. ولما لم يوجد فيه ذلك علمنا أنه ليس من عند غير الله كما قال الله تعالى:{أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} [النساء: 82].
(الأمر الثامن) كونه معجزة باقية متلوّة في كل مكان مع تكفل الله بحفظه، بخلاف معجزات الأنبياء فإنها انقضت بانقضاء أوقاتها، وهذه المعجزة باقية على ما كانت عليه من وقت النزول إلى زماننا هذا، وقد مضت مدة ألف ومائتين وثمانين وحجتها قاهرة، ومعارضته ممتنعة وفي الأزمان كلها القرى والأمصار مملوءة بأهل اللسان وأئمة البلاغة، والملحد فيهم كثير والمخالف العنيد حاضر ومهيأ، وتبقى إن شاء الله هكذا ما بقيت الدنيا وأهلها في خير وعافية. ولما كان المعجز منه بمقدار أقصر سورة فكل جزء منه بهذا المقدار معجزة، فعلى هذا يكون القرآن مشتملاً على أكثر من ألفي معجزة.
(الأمر التاسع) أن قارئه لا يسأمه وسامعه لا يمجه، بل تكراره يوجب زيادة محبته، ولكن هذا الأمر بالنسبة إلى من له قلب سليم لا إلى من له طبع سقيم.
(الأمر العاشر) كونه جامعاً بين الدليل ومدلوله؛ فالتالي له إذا كان ممن يدرك معانيه يفهم مواضع الحجة والتكليف معاً في كلام واحد باعتبار منطوقه ومفهومه، لأنه ببلاغة الكلام يستدل على الإعجاز، وبالمعاني يقف على أمر الله ونهيه ووعده ووعيده.
(الأمر الحادي عشر) حفظه لمتعلميه بالسهولة، كما قال الله تعالى:{ولقد يسرنا القرآن للذكر} [القمر: 22] فحفظه ميسر على الأولاد الصغار في أقرب مدة، ويوجد في هذه الأمة في هذا الزمان أيضاً مع ضعف الإسلام في أكثر الأقطار أزيد من مائة ألف من حفاظ القرآن، بحيث يمكن أن يكتب القرآن من حفظ كل منهم من الأول إلى الآخر، بحيث لا يقع الغلط في الإعراب فضلاً عن الألفاظ ولا يخرج في جميع ديار أوربا عدد حفاظ الإنجيل بحيث يساوي الحفاظ في قرية من قرى مصر مع فراغ بال المسيحيين وتوجههم إلى العلوم والصنائع منذ ثلثمائة سنة، وهذا هو الفضل البديهي لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ولكتابهم.
(الأمر الثاني عشر) الخشية التي تلحق قلوب سامعيه وأسماعهم عند سماع القرآن، والهيبة التي تعتري تاليه، وهذه الخشية قد تعتري من لا يفهم معانيه ولا يعلم تفسيره، فمنهم من أسلم لها لأول وهلة ومنهم من استمر على كفره، ومنهم من كفر حينئذ ثم رجع بعده إلى ربه.
روي أن نصرانياً مر بقارئ فوقف يبكي فسئل عن سبب البكاء فقال الخشية التي حصلت له من أثر كلام الرب، وأن جعفر الطيار رضي الله عنه لما قرأ القرآن على النجاشي وأصحابه ما زالوا يبكون حتى فرغ جعفر رضي الله عنه من القراءة، وأن النجاشي أرسل سبعين عالماً من العلماء المسيحية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليهم سورة (يس) فبكوا وآمنوا فنزل في حق الفريقين أو أحدهما قوله تعالى: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين { .. [المائدة: 83]. ثم ختم هذا الفصل ببيان ثلاث فوائد منها:
سبب كون معجزة نبينا من جنس البلاغة أيضاً أن بعض المعجزات تظهر في كل زمان من جنس ما يغلب على أهله أيضاً، لأنهم يبلغون فيه الدرجة العليا فيقفون فيه على الحد الذي يمكن للبشر الوصول إليه، فإذا شاهدوا ما هو خارج عن الحد المذكور علموا أنه من عند الله، وذلك كالسحر في زمن موسى عليه السلام فإنه كان غالباً على أهله وكاملين فيه، ولما علم السحرة الكملة أن حد السحر تخييل لما لا ثبوت له حقيقة ثم رأوا عصاه انقلبت ثعباناً يتلقف سحرهم الذي كانوا يقلبونه من الحق الثابت إلى المتخيل الباطل من غير أن يزداد حجمها، علموا أنه خارج عن السحر ومعجزة من عند الله فآمنوا به. وأما فرعون فلما كان قاصراً في هذه الصناعة ظن أنه سحر أيضاً، وإن كان أعظم من سحر سحرته. وكذا الطب لما كان غالباً على أهل زمن عيسى عليه السلام، وكانوا كاملين فيه، فلما رأوا إحياء الميت وإبراء الأكمه علموا بعلمهم الكامل أنهما ليسا من حد الصناعة الطبية، بل هو من عند الله. والبلاغة قد بلغت في عهد الرسول عليه السلام إلى الدرجة العليا وكان بها فخارهم حتى علقوا القصائد السبع بباب الكعبة تحدياً لمعارضتها كما تشهد به كتب السير، فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم بما عجز عن مثله جميع البلغاء عُلم أن ذلك من عند الله قطعاً.
الفصل الثاني: في رفع شبهات القسيسين على القرآن (1)
ذكر رحمت الله أنه: "لا ورود له في حق القرآن، لأنه مملوء من أوله إلى آخره بذكر سبعة وعشرين أمرا، ولا تجد آية طويلة فيه تكون خالية من ذكر أمر من هذه الأمور مثل:
(1) انظر: المرجع السابق، إظهار الحق، ص 821 - ص 891.
(الأول) الصفات الكاملة الإلهية مثل: كونه واحداً وقديماً وأزلياً وأبدياً وقادراً وعالماً وسميعاً وبصيراً ومتكلماً وحكيماً وخبيراً وخالق السماوات والأرض ورحيماً ورحماناً وصبوراً وعادلاً وقدوساً ومحيياً ومميتاً وغيرها. (الثاني) تنزيه الله عن المعايب والنقائص مثل: الحدوث والعجز والجهل والظلم وغيرها
…
الخ".
شبهات وردود أخرى:
يوجد في القرآن أن الهداية والضلال من جانب الله تعالى، وأن الجنة مشتملة على الأنهار والحور والقصور، وأن الجهاد على الكفار مأمور به وهذه المضامين قبيحة تدل على أن القرآن ليس كلام الله، وهذه الشبهة أيضاً من أقوى شبههم قلما تخلو رسالة من رسائلهم تكون في رد أهل الإسلام ولا توجد فيها هذه الشبهة، ولهم في بيانها على قدر اختلاف أذهانهم تقريرات عجيبة يتحير الناظر من تعصباتهم بعد ملاحظة هذه التقريرات.
[أجاب رحمت الله]: في الجواب عن الأمر الأول أنه قد وقع في مواضع من كتبهم المقدسة أمثال هذا المضمون فيلزم عليهم أن يقولوا إن كتبهم المقدسة ليست من جانب الله يقيناً، ونقل بعض الآيات عنها ليظهر الحال للناظر - الآية الحادية والعشرون من الباب الرابع من سفر الخروج هكذا:(وقال له الرب وهو راجع إلى مصر انظر جميع العجائب التي وضعتها بيدك أعملها قدام فرعون فأنا أقسي قلبه فلا يطلق الشعب). ثم قول الله في الآية الثالثة من الباب السابع من سفر الخروج هكذا: (إني أقسي قلب فرعون وأكثر آياتي وعجائبي في أرض مصر) وفي الباب العاشر من سفر الخروج هكذا: 1: (وقال الرب لموسى ادخل عند فرعون لأني قسيت قلبه وقلوب عبيده لكي أصنع به آياتي هذه) 20: (وقسى الرب قلب فرعون ولم يطلق بني إسرائيل) 27: (فقسى الرب قلب فرعون ولم يشأ أن يرسلهم) وفي الآية العاشرة من الباب الحادي عشر من سفر الخروج هكذا: (وقسى الرب قلب فرعون فلم يرسل بني إسرائيل من أرضه) فظهر من هذه الآيات أن الله كان قد قسى قلوب فرعون وعبيده لتكثير معجزات موسى عليه السلام في أرض مصر.
(وأما الجواب عن الأمر الثاني) فهو أنه لا قبح في كون الجنة مشتملة على الحور والقصور وسائر النعيم عند العقل، ولا يقول أهل الإسلام إن لذات الجنة مقصورة على اللذات الجسمانية فقط كما يقول علماء بروتستنت غلطاً أو تغليطاً للعوام، بل يعتقدون بنص القرآن أن الجنة تشتمل على اللذات الروحانية والجسمانية، والأولى أفضل من الثانية ويحصل كلا النوعين للمؤمنين.
قال الله في سورة [التوبة: 72]: {وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم} فقوله ورضوان من الله - الآية - معناه أن رضواناً من الله أكبر منزلة من كل ما سلف ذكره من الجنات والأنهار والمساكن الطيبة وهذا القول يدل على أن أفضل ما يعطي الله في الجنة هي اللذات الروحانية وإن كان يعطي اللذات الجسمانية أيضاً؛ ولذلك قال ذلك هو الفوز العظيم؛ لأن الإنسان مخلوق من جوهرين لطيف علوي وكثيف سفلي جسماني، وانضم إليهما حصول سعادة وشقاوة، فإذا حصلت الخيرات الجسمانية وانضم إليها حصول السعادات الروحانية، كان الروح فائزاً بالسعادات اللائقة به والجسد واصلاً إلى السعادات اللائقة به، ولا شك أن ذلك هو الفوز العظيم
…
ألا يرون أن الملائكة الثلاثة الذين ظهروا لإبراهيم وأحضر
لهم إبراهيم عليه السلام عجلاً حنيذاً وسمناً ولبناً أكلوا هذه الأشياء كما صرح به في الباب الثامن عشر من سفر التكوين، وأن الملكين اللذين جاءا إلى لوط عليه السلام وصنع لهما وليمة وخبزاً فطيراً أكلا كما صرح به في الباب التاسع عشر من سفر التكوين، والعجب أنهم لما اعترفوا بالحشر الجسماني فأي استبعاد في اللذات الجسمانية، نعم لو كانوا منكرين للحشر مطلقاً كمشركي العرب، أو كانوا منكرين للحشر الجسماني ومعترفين بالحشر الروحاني كاتباع أرسطو لكان لاستبعادهم وجه بحسب الظاهر. وعندهم تجسد الله وما انفك عنه الأكل والشرب وسائر اللوازم الجسدية باعتبار أنه إنسان، ولما لم يكن عيسى عليه السلام مرتاضاً مثل يحيى في الاجتناب عن الأطعمة النفسية وشرب الخمر كان المنكرون يطعنون عليه بأنه أكول وشريب كما هو مصرح به في الباب الحادي عشر من إنجيل متى.
وعندنا هذا الطعن مردود لكنا نقول إنه لا شك أن عيسى عليه السلام باعتبار الجسمية كان إنساناً فقط، فكما أن الأطعمة النفيسة وشرب الخمر ما كانا مانعين في حقه عليه السلام عن اللذات الروحانية مع كونه في هذه الدار الدنيا بل كان على حضرته غلبة الأحكام الروحانية، فكذلك اللذات الجسمانية لا تكون مانعة عن اللذات الروحانية لأهل الجنة مع كونهم في النشأة الأخرى. وأورد رحمت الله خمس شبه.
الفصل الثالث: في إثبات صحة الأحاديث النبوية في كتب الصحاح من كتب أهل السنة والجماعة.
وهذا الفصل مشتمل على ثلاث فوائد (1). الفصل الرابع: في دفع شبهات القسيسين الواردة على الأحاديث: أورد خمس شبهات (2).
الباب السادس: (في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ودفع مطاعن القسيسين وهو مشتمل على فصلين)(3)
الفصَّل الأول: (في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وفيه ستة مسالك).
] معجزات النبي صلى الله عليه وسلم [
يقول رحمت الله:
(المسلك الأول) أنه ظهرت معجزات كثيرة على يده صلى الله عليه وسلم ويذكر نبذاً منها في هذا المسلك من القرآن والأحاديث الصحيحة بحذف الإسناد وأوردها في نوعين.
ولا شناعة عقلاً ونقلاً في اعتبار الروايات اللسانية المشتملة على شروط الرواية المعتبرة عند علمائنا رحمهم الله تعالى.
(أما النوع الأول) ففي بيان أخباره عن المغيبات الماضية والمستقبلة، أما الماضية فكقصص الأنبياء عليهم السلام وقصص الأمم البالية من غير سماع من أحد، وقد أشير إليه بقوله
(1) انظر المرجع السابق، ص 891 - ص 922.
(2)
انظر المرجع السابق، ص 922 - ص 1000.
(3)
انظر المرجع السابق، ص 1000 - ص 1214.
تعالى: {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا} [هود: 49].
يقول: وقد عرفت اثنين وعشرين خبراً من الأخبار المندرجة في القرآن وقال الله تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب} [البقرة: 214].
فوعد الله المسلمين في هذا القول بأنهم يزلزلون حتى يستقيؤه ويستنصروه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (سيشتد الأمر باجتماع الأحزاب عليكم والعاقبة لكم عليهم). وقال أيضاً: (أن الأحزاب سائرون إليكم تسعاً أو عشراً)(1). فجاء الأحزاب كما وعد الله ورسوله وكانوا عشرة آلاف وحاصروا المسلمين وحاربوهم محاربة شديدة إلى مدة شهر وكان المسلمون في غاية الضيق والشدة والرعب وقالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وأيقنوا بالجنة والنصر. كما أخبر الله تعالى بقوله: {ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً} [الأحزاب: 22]. وقد خرج أئمة الحديث رضي الله عنهم:
1 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر الصحابة بفتح مكة وبيت المقدس واليمن والشام والعراق.
2 -
وأن الأمن يظهر حتى ترحل المرأة من الحيرة إلى مكة لا تخاف إلا الله.
3 -
وأن خيبر تفتح على يد علي رضي الله عنه في غد يومه.
4 -
وأنهم يقسمون كنوز ملك فارس وملك الروم.
5 -
وأن بنات فارس تخدمهم. وهذه الأمور كلها وقعت في زمن الصحابة رضي الله عنهم كما أخبر.
6 -
وأن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة.
7 -
وأن فارس نطحة أو نطحتان ثم لا فارس بعد هذا أبداً، والروم ذات قرون كلما هلك قرن خلف مكانه قرن أهل صخر وبحر هيهات آخر الدهر. والمراد بالروم الفرنج والنصارى وكان كما أخبر ما بقي من سلطنة الفرس أثر ما بخلاف الروم، فإن سلطنتهم وإن زالت عن الشام في عهد خلافة عمر رضي الله عنه وانهزم هرقل من الشام إلى أقصى بلاده لكن لم تزل سلطنتهم بالكلية بل كلما هلك قرن خلفه قرن آخر.
8 -
وأن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها (2). والمعنى جمع الله لي الأرض مرة واحدة بتقريب بعيدها إلى قريبها حتى اطلعت على ما فيها، وستفتحها أمتي جزءاً فجزءاً حتى تمتلك جميع أجزائها، ولأجل تقييدها بمشارقها ومغاربها انتشرت ملته في المشارق والمغارب ما بين أرض الهند التي هي أقصى المشرق إلى بحر طنجة الذي في أقصى المغرب، ولم تنتشر في الجنوب والشمال مثل انتشارها في المشرق والمغرب، ولعل في إتيانهما بلفظ الجمع، وفي تقديم المشارق، إيماء إلى ما هنالك وإلى ظهور كثرة العلماء منهما بالنسبة إلى غيرهما، وأن علماء المشرق أكثر وأظهر من علماء المغرب.
(1) رواه عبد الله بن عباس، ابن حجر العسقلاني في الكافي الشاف ص 225.
(2)
رواه ثوبان مولى الرسول في سنن أبي داوود ص 4252.
9 -
وأنه لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة. وفي حديث آخر رواية أبي أمامة: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك وقيل: يا رسول الله وأين هم قال: ببيت المقدس)(1) والمراد عند جمهور العلماء بأهل الغرب أهل الشام لأنه غرب الحجاز بدلالة رواية وهم بالشام.
10 -
وأن الفتن لا تظهر ما دام عمر حياً وكان كما أخبر، وكان عمر رضي الله عنه سد باب الفتنة.
وذكر ثلاثين مثلا ثم أتبعها بمثيلها في الإنجيل - باثني عشر مثالا - لكنها أشياء لم تتحقق كما تم ذكرها والنص عليها (2).
--
وأما النوع الثاني ففي الأفعال التي ظهرت منه عليه السلام على خلاف العادة وهي تزيد على ألف واكتفى على ذكر أربعين منها:
قال الله تعالى في سورة الإسراء: 1: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا} .
فهذه الآية والأحاديث الصحيحة تدل على أن المعراج كان في اليقظة بالجسد، أما دلالة الأحاديث ففي غاية الظهور، وأما دلالة الآية فلأن لفظ العبد يطلق على مجموع الجسد والروح. قال الله تعالى:(أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى)[العلق: 9 - 10]، وقال أيضاً في سورة الجن:{وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا} [الجن: 19].
ولا شك أن المراد في الموضعين من العبد مجموع الروح والجسد، فكذا المراد بالعبد ههنا. ولأن الكفار استبعدوا هذا المعراج وأنكروه وارتد بسماعه ضعفاء المسلمين وافتتنوا به فلو لم يكن المعراج بالجسد وفي اليقظة لما كان سبباً لاستبعاد الكفار وإنكارهم وارتداد ضعفاء المسلمين وافتتانهم؛ إذ مثل هذا في المنامات لا يعد من المحال ولا يستبعد ولا ينكر ألا ترى أن أحداً لو ادعى أنه سار في نومه مرة في الشرق ومرة في الغرب وهو لم يتحول عن مكانه ولم تتبدل حاله الأولى، لم ينكره أحد ولم يستبعد، ولا استحالة فيه عقلاً ونقلاً.
أما عقلاً فلأن خالق العالم قادر على كل الممكنات، وحصول الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحد في جسد محمد صلى الله عليه وسلم ممكن، فوجب كونه تعالى قادراً عليه وغاية ما في الباب أنه خلاف العادة والمعجزات كلها تكون كذلك.
وأما نقلاً فلأن صعود الجسم العنصري إلى الأفلاك ليس بممتنع عند أهل الكتاب (3).
وقدم بعد ذلك خمسة مسالك أخر وهي:
المسلك الثاني: أخلاقه وأوصافه.
المسلك الثالث: ما اشتملت عليه شريعته.
المسلك الرابع: ظهور دينه على سائر الأديان في مدة قليلة.
(1) رواه مسلم عن ثوبان مولى الرسول برقم 1920.
(2)
انظر المرجع السابق، ص 1000 - ص 1022.
(3)
انظر المرجع السابق، ص 1001 - ص 1073.
المسلك الخامس: ظهوره في وقت كان الناس بحاجة إليه.
المسلك السادس: تقدم بثمانية أمور ثم المسلك بإخبار النبيين المتقدمين عليه عن نبوته ثم ثماني عشرة بشارة وخمس شبه على الشبهة الثامنة عشرة الأخيرة (1).
ومن البشارات الواردة في هذا الباب:
البشارة الثامنة عشرة (2): وهذه البشارة واقعة في آخر أبواب إنجيل يوحنا، وهو ينقل عن التراجم العربية المطبوعة سنة 1821 م وسنة 1831 م وسنة 1844 م في لندن، فيقول: " في الباب الرابع عشر من إنجيل يوحنا هكذا: 15 (إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي 16 وأنا أطلب من الأب فيعطكم فارقليط آخر ليثبت معكم إلى الآبد 17 روح الحق الذي لن يطيق العالم أن يقبله لأنه ليس يراه ولا يعرفه، وأنتم تعرفونه لأنه مقيم عندكم، وهو ثابت فيكم 26 والفارقليط روح القدس الذي يرسله الأب باسمي، هو يعلمكم كل شيء، وهو يذكركم كل ما قلته 30 والآن قد قلت لكم قبل أن يكون حتى إذا كان تؤمنون).
وفي الباب الخامس عشر من إنجيل يوحنا هكذا: (26 فأما إذا جاء الفارقليط الذي أرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذي من الأب ينبثق هو يشهد لأجلي 27 وأنتم تشهدون لأنكم معي من الابتداء).
وفي الباب السادس عشر من إنجيل يوحنا هكذا: (7 لكني اقول لكم الحق: إنه خير لكم أن أنطلق لأني إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليط فأما إن انطلقت أرسلته إليكم 8 فإذا جاء ذاك فهو يوبخ العالم على خطية وعلى بر وعلى حكم 9 أما على الخطية فلأنهم لم يؤمنوا بي 10 وأما على البر فلأني منطلق إلى الأب ولستم ترونني بعد 11 وأما على الحكم فإن أركون هذا العالم قد دين 12 وإن لي كلاما كثيرا أقوله لكم ولكنكم لستم تطيقون حمله الآن 13 وإذا جاء روح الحق ذاك فهو يعلمكم جميع الحق، لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بكل ما يسمع ويخبركم بما سيأتي 14 وهو يمجدني لأنه يأخذ مما هو لي ويخبركم 15 جميع ما هو للأب فهو لي، فمن أجل هذا قلت: إن مما هو لي يأخذ ويخبركم).
وقبل بيان الاستدلال يقدم رحمت الله بهذه العبارات أمرين:
الأمر الأول: إنك قد عرفت أن أهل الكتاب سلفا وخلفا وعادتهم أن يترجموا غالبا الأسماء، وإن عيسى عليه السلام كان يتكلم باللسان العبراني لا باليوناني، فإذا لا يبقى شك في أن الإنجيلي الرابع ترجم اسم المبشر به باليوناني بحسب عادتهم، ثم مترجمو العربية عربوا اللفظ اليوناني بفارقليط، [ومنهم من يقول] أن اللفظ معرب من اللفظ اليوناني، فإن قلنا:(إن هذا اللفظ اليوناني الأصل باركلي طوس، فيكون بمعنى المعزي والمعين والوكيل، وإن قلنا: إن اللفظ الأصل بيركلو طوس يكون قريبا من معنى محمد وأحمد، فمن استدل من علماء الإسلام بهذه البشارة فهم أن اللفظ الأصل ((بيركلو طوس)) ومعناه قريب من معنى محمد وأحمد،
(1) انظر المرجع السابق، ص 1073 - ص 1214.
(2)
انظر المرجع السابق، ص 1185 - ص 1214.
فادعى أن عيسى عليه السلام أخبر بمحمد أو أحمد، لكن الصحيح أنه بارا كلي طوس) انتهى ملخصا من كلامه.
[يستدرك رحمة الله] ويقول: إن التفاوت يسير جدا، وإن الحروف اليونانية كانت متشابهة، فتبدل ((بير كلوطوس ببارا كلي طوس)) في بعض النسخ من الكاتب قريب القياس، ثم رجح أهل التثليث المنكرين هذه النسخة على النسخ الأخر، ومن تأمل في الباب الثاني من هذا الكتاب، والأمر السابع من هذا المسلك بنظر الانصاف، اعتقد يقينا بأن مثل هذا الأمر من أهل التثليث ليس ببعيد، بل لا يبعد أن يكون من المستحسنات. ثم أورد شبهات النصارى فيها ورد عليها جميعها.
الفصل الثاني: (في دفع المطاعن)(1)
يقول رحمت الله في عصمة الأنبياء:
إن المسيحيين يدعون أن الأنبياء إنما يكونون معصومين في تبليغ الوحي فقط، تقريراً كان أو تحريراً. وأما في غير التبليغ، فليسوا بمعصومين لا قبل النبوّة ولا بعدها. فيصدر عنهم بعدها جميع الذنوب قصداً، فضلاً عن الخطأ والنسيان، فيصدر عنهم الزنا بالمحارم فضلاً عن الأجنبيات، ويصدر عنهم عبادة الأوثان، وبناء المعابد لها، ولا يخرج عندهم نبي من إبراهيم إلى يحيى عليهما السلام لا يكون زانياً أو من أولاد الزنا أعاذنا الله من أمثال هذه العقائد الفاسدة في حق الأنبياء عليهم السلام.
فيجيب رحمت الله: وقد عرفت أن ادعاءهم العصمة في التبليغ أيضاً باطل لا أصل له على أصولهم، ويصدر هذا الادعاء عنهم لتغليط العوام، فمطاعنهم على محمد صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور التي يفهمونها ذنوباً في زعمهم الفاسد، لا تقدح في نبوته على أصولهم. وإنه وإن كان يستكره أن ينقل ذنوب الأنبياء والكفريات المفتريات عن كتبهم ولو إلزاماً، ولا يعتقد في حضرات الأنبياء إنصافهم بهذه الذنوب والكفريات حاشا وكلا. لكنه لما رأى أن علماء بروتستنت أطالوا ألسنتهم إطالة فاحشة في حق محمد صلى الله عليه وسلم في الأمور الخفيفة، وجعلوا الخردلة جبلاً لتغليط العوام الغير الواقفين على كتبهم، وكان مظنة وقوع السذج في الاشتباه بتمويهاتهم الباطلة، نقل بعضها إلزاماً، ويتبرأ عن اعتقادها بألف لسان وليس نقلها إلا كنقل كلمات الكفر، ونقل الكفر ليس بكفر، وقدم نقلها على نقل مطاعنهم في محمد صلى الله عليه وسلم والجواب عنها، وكتب القسيس وليم اسمت من علماء بروتستنت كتاباً في لسان أردو وطبعه في البلد مرزابور من بلاد الهند في سنة 1848 من الميلاد، وسماه طريق الأولياء، وكتب فيه حال الأنبياء من آدم إلى يعقوب عليهم السلام ناقلاً عن سفر التكوين وتفاسيره المعتبرة عند علماء بروتستنت، فنقل بعض المواضع عن هذا الكتاب أيضاً.
ثم أورد رحمت الله أربعة مطاعن: مطعن الجهادثم مطعن معجزاته صلى الله عليه وسلم ثم مطعن النساء وبقية المطاعن الأخرى (2).
(1) انظر المرجع السابق، ص 1256 وما بعدها.
(2)
انظرالمرجع السابق، ص 1306 وما بعدها.
مثال:
(مطعن) أن محمد صلى الله عليه وسلم كان مذنباً، وكل مذنب لا يصح أن يكون شافعاً للمذنبين الآخرين (1). أما الصغرى فلما وقع:
في سورة [غافر: 55]{فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار} .
وفي سورة [محمد: 19]{فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} .
وفي سورة [الفتح 1 - 3]: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} .
وفي الحديث: (فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت)(2). ونحوه مما وقع في الأحاديث الأخرى.
(والجواب) أن الصغرى والكبرى كلتاهما غير صحيحتين، فالنتيجة كاذبة يقيناً، ويمهد رحمت الله لتوضيح بطلانهما أموراً خمسة:
(الأمر الأول) أن الله رب وخالق، والخلق كله مربوب ومخلوق، فكل ما صدر عن حضرة الرب الخالق في حق العبد المربوب المخلوق، من الخطاب والعتاب والاستعلاء فهو في محله ومقتضى المالكية والخالقية. وكذا كل ما يصدر عن العباد، من الأدعية والتضرعات إليه، فهو في موقعه أيضاً، ومقتضى المخلوقية والعبودية والأنبياء عباد الله المخلصون، فهم أحق من غيرهم، والحمل على المعنى الحقيقي في كل موضع، من أمثال هذه المواضع، في كلام الله وفي أدعية الأنبياء وتضرعاتهم خطأ وضلال وشواهده كثيرة في كتب العهدين، سيما الزبور. وينقل على سبيل الأنموذج بعضاً منها.
(الأمر الثاني) أن أفعال الأنبياء كثيراً ما تكون لتعليم الأمة، لتستن بهم. ولا يكونون محتاجين إلى هذه الأفعال لأجل أنفسهم.
(الأمر الثالث) أن الألفاظ المستعملة في الكتب الشرعية، مثل: الصلاة والزكاة والصوم والحج والنكاح والطلاق وغيرها، يجب أن تحمل على معانيها الشرعية ما لم يمنع عنها مانع، ولفظ الذنب في هذا الاصطلاح الشرعي، إذا استعمل في حق ألأنبياء، يكون بمعنى الزلة؛ وهي عبارة عن أن يقصد معصوم عبادة أو أمراً مباحاً، ويقع بلا قصد وشعور في ذنب لمجاورة العبادة أو الأمر المباح بهذا الذنب، كما أن السالك يكون قصده قطع الطريق، لكنه قد يزل قدمه أو يعثر بسبب طين أو حجر واقع في ذلك الطريق، أو يكون بمعنى ترك الأولى.
(الأمر الرابع) أن وقوع المجاز في كلام الله وكلام الأنبياء كثير، وأن حذف المضاف كثير في كتبهم المقدسة.
(الأمر الخامس) أن الدعاء قد يكون المقصود به محض التعبد كما في قوله تعالى: {ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك} [آل عمران: 194] فإن إيتاء ذلك الشيء واجب، ومع ذلك أمرنا
(1) انظر المرجع السابق، ص 1352 ومابعدها.
(2)
رواه عبد الله بن عباس في صحيح البخاري برقم 6317.
بطلبه. كقوله تعالى: (رب احكم بالحق)[الأنبياء: 112] مع أنا نعلم أنه لا يحكم إلا بالحق.
وإذا عرفت الأمور الخمسة، أقول أن الاستغفار طلب الغفران، والغفران الستر على القبيح، وهذا الستر يتصور على وجهين:
الأول: بالعصمة منه لأن من عصم فقد ستر عليه قبائح الهوى.
والثاني: بالستر بعد الوجود.
2 -
كتاب التنبيهات والقضايا المثارة (1)
يتحدث في المقدمة أن أكثر أبناء هذا الزمان مالوا في إنكار الاحتياج إلى البعثة إلى رأي جمهور البراهمة والتناسخية فاعتقدوا بأن العقل البشري كاف في تمييز الأشياء النافعة عن المضرة، ومالوا في إنكار الحشر مطلقا جمسانيا كان أو روحانيا إلى رأي القدماء من الفلاسفة الطبيعيين. ثم أورد التنبيهات اللازمة.
التنبيه الأول:
أن الإنسان مدني بطبعه؛ يحتاج إلى قانون ينظم علاقاته مع الآخرين، ولا يمكن وصول هذا الشرع بلا واسطة ومن جهتين؛ فتلك الخصوصية تكون من الله في البعث والنبوة فثبت أن المحققين من الفلاسفة أيضا يقرون بلا احتياج إلى البعثة والنبوة.
التنبيه الثاني:
إن العقول متفاوتة؛ وقد يرى الإنسان في الخمر سعادة وفي الحقيقة ندامة، وأن ما لا يدرك حسنه وقبحه قد يكون حسنا في الواقع يجب فعله، وقد يكون قبيحا فيه يجب تركه، وأن ما يخالف العقل قد لا يكون مع الجزم؛ فالعقل غير كاف ولابد من الاحتياج إلى نبي، وهذا النبي يعاضد العقل ويؤكد حكمه ويجعله موثوقا به، وإن أمكن معرفة التكاليف، فالنبي أولى بعدم الاستغناء لأنه امتاز عن غيره بالتجريد.
التنبيه الثالث:
التفكير في معجزات النبي وتكاليف الإله والحكم منها.
التنبيه الرابع:
قد توجد في الشرائع أحكام تعبدية لا تظهر حكمة مشروعيتها للعقول القاصرة.
التنبيه الخامس:
حصول الاطلاع على المغيبات الماضية والآتية للنبي لا تستنكره الفلاسفة ولا تحصل للشخص العادي إلا بطريق الرياضة والمجاهدة فكيف بالنبي.
(1) انظر: رحمت الله الهندي، كتاب التنبيهات، (القاهرة: دار البصائر، ط 1، 2006).
التنبيه السادس:
ظهور الأفعال الخارقة للعادة - من النبي- ليس بمستنكر عند الفلاسفة؛ حيث النفوس القدسية أعلى إرادة من النفوس العادية.
التنبيه السابع:
إذا ظهرت المعجزة على يد مدعي النبوة، خلق الله العلم الضروري بصدقه - قطعا - على ما جرت به العادة، ولا تنافيه الاحتمالات الصرفة، والتجويزات العقلية المحضة؛ لأنها لا تنافي العلوم العادية الضرورية القطعية.
التنبيه الثامن:
التواتر إذا كان جامعا للشروط المفصلة في علم الأصول، فلا شك أنه يفيد العلم الضروري بما تواتر الإخبار عنه، إذ لاسبيل إلى العلم بالبلاد البعيدة والأشخاص الماضية سوى التواتر.
التنبيه التاسع:
نزول الوحي بواسطة الملك المصور بصورة المحسوس، وسماع الكلام منه، لا يستنكر عقلا؛ لأن رؤية الملائكة والسماع منهم - وإن لم يكونا متصورين - على ظاهر كلام الفلاسفة عبارة عن ذوات مجردة دون أجسام
…
التنبيه العاشر:
الإنسان ليس عبارة عن هيكل محسوس بماله مزاج مخصوص، بل هو عبارة عن الجوهر المجرد - كما هو المختار عند محققي الفلاسفة علماء المسلمين - وتعلقه ببدنه جائز، مادام حصل للمشاهد في المرة الأولى.
وتمييز المنكرات هي من العدل الإلهي، لكن ترتيب الوعد والوعيد لتصارع الشهوات مع الخير والاقتصاص من الظالم للمظلوم، والرؤى والمنامات - إن أرشده الميت لشيء ما - تؤيد عدم فناء الشخص بالكلية.
التنبيه الحادي عشر:
أتم السعادات هو الجمع بين البدن والنفس في ملذاتها، وروحها العالية، ولا تحصل إلا في المرة الثانية من النفس المجردة لبدن آخر جديد بعدما استحال الجمع بين الشيئين في الأولى.
التنبيه الثاني عشر:
وذلك للنظر في القادر الذي جمع المني من أماكن متفرقة حتى يصير دما، ثم شهوة تقذف به ليصبح إنسانا، لهو قادر على جمعه مرات ومرات.