الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة الثالثة
حد العمى
قيل في تعريفه: إنه عبارة عن عدم البصر عما من شأنه أن يبصر. وكذا الصمم عبارة عن عدم السمع عما من شأنه أن يسمع. فالعمى والصمم حينئذ معنيان وجوديان متضادان. وقد نازع الفلاسفة في هذا للمتكلمين نزاعاً شديداً. وقالوا إن تقابل السمع والصمم وتقابل العمى والبصر، تقابل العدم والملكة لا تقابل الضدين.
فصل من الناس من قال إن السمع أفضل من البصر. لأن الله تعالى حيث ذكرهما في كتابه العزيز، قدم السمع على البصر: حتى في قوله تعالى صم بكم عمي. فقدم متعلق السمع على متعلق العين، والتقدم دليل الفضيلة. ولأن السمع شرط في النبوة، بخلاف البصر. ولذلك لم يأت في الأنبياء صلى الله عليهم من كان أصم. وجاء فيهم من طرأ عليه العمى. وسيأتي الكلام على منع جواز العمى على الأنبياء صلى الله عليهم. قالوا وبالسمع تصل نتائج العقول. فالسمع كأنه سبب لاستكمال العقل بالمعارف والعلوم. وهو متصرف في الجهات الست، والبصر لا يتصرف إلا فيما يقابله من المرئيات. ولأن السمع أصل للنطق. ولهذا لا ترى الأخرس إلا أصم.
وقيل سبب خرسه أنه لم يسمع شيئاً ليحكيه. والبصر إذا بطل لم يبطل النطق. ومن قال إن البصر أفضل استدل بان قال: متعلق القوة الباصرة هو النور ومتعلق القوة السامعة هو الريح. والنور أفضل من الريح. قال صاحب الكشاف: البصر نور العين، كما أن البصيرة هي نور القلب. قلت: ولا شك أن أدلة فضيلة السمع أقوى من دليل فضيلة البصر.
وللشيخ تقي الدين أبي عباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى كراسة في ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم.
خاتمة الأعمى هل له حظ في الرؤيا أولاً.
بعض الناس قال: الأعمى يرى المنامات وبعضهم قال: لا يرى.
والصحيح أن المسألة ذات تفصيل. وهو أن الأعمى، إن كان قد طرأ عليه العمى بعد ما ميز الأشياء فهذا يرى. لأن القوة المتخيلة منه ارتسم فيها صور الأشياء من المرئيات، على اختلاف
أجناسها وأنواعها. والقوة المخيلة قادرة على أفعالها في جميع الأحوال، إلا أنها لا تتصور الأشياء باختيارها، لأنها ليست قوة إرادية. وإن كان الأعمى قد ولد أكمة ولم ير الوجود ولا ما فيه من المرئيات فهذا يرى الأحوال التي يقابلها ويباشرها. كما أنه يرى أنه يأكل أو أنه يشرب أو أنه راكب على فرس أو حمار أو أنه يخاصم آخر، إلى غير ذلك من الأحوال التي يباشرها. وقد قال الرئيس ابن سينا: إن المولود يضحك بعد الأربعين يوماً، ويرى الرؤيا بعد أربعة اشهر.
قلت: الظاهر أنه ما يرى إلا انه يرضع ثدي أمه. فإنا نشاهد كثيراً من الأطفال يكون نائماً وهو يرضع، ولا ثدي في فمه. وكذلك نرى كثيراً من الخيل وهو واقف نائماً، ثم إنه في أثناء ذلك يصهل وهو نائم، كأنه يرى أنه بين خيل يألفها أو ما أشبه ذلك. وقال أرسطو في كتاب الحيوان: إن الكلاب ترى الأحلام في منامها. وأما أن الأعمى الذي ولد أكمة ولم ير العالم فإنه لا يرى في نومه شمساً ولا قمراً ولا نجوماً ولا سماءً ولا أشجاراً ولا بحاراً ولا غير ذلك مما لم ترسمه المخيلة منه فهذا هو وجه الصواب في هذه المسالة على ما فصلته والله أعلم.
علاوة قال العابرون: من رأى في منامه أنه عمي دلت رؤياه على الغنى وإن حلف يميناً لم يحنث، لقوله تعالى: ليس على الأعمى حرج.
ومن رأى أنه أعمى فإنه ينسى القرآن، لقوله تعالى: قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى.
ومن رأى أن إنساناً أعماه فإنه يضله. وغن كان كافراً فرأى أن إنساناً أعماه فإنه يزيله عن رأيه.
قالوا: والأعمى رجل فقير يعمل أعمالاً لا تضر به في دينه لسبب فقره. فإن رأى كافراً أنه أعمى فإنه يصيب خسراناً أو غرماً أو هماً.
فإن رأى أنه أعمى ملفوف في ثياب جدد فإنه يموت.
قالوا: ومن رأى أنه أعمى فإن عليه غزوة أو حجة، لقوله تعالى: ولله على الناس حج البيت. فإن رأى أعمى أن ساقياً سقاه شراباً فإن الساقي يرشده إلى منافع تنزل به ويتوب ويتمول.
قالوا: وإن رأى صحيح أنه أعمى فإنه يخمل ذكره ولا يؤبه له في قوله. وربما كان تأويله أنه ينال حكماً وعلماً لقصة إسحاق ويعقوب عليهما الصلاة والسلام.
فإن رأى أعمى أنه استدبر القبلة فهو في ضلالة.
وقالت النصارى: من رأى كأن عينه قد عميت، فإنه حل يهتك الستر بينه وبين الله تعالى.
وأما فقء العين. فمن رأى أن عينه فقئت فإنه يتقاضى أو يجازى بشيء كان منه، لقوله تعالى: العين بالعين. فإن فقئت كلتاهما فإنه ينقطع عنه ولد قرة عين، أو يرى فيما تقر به عينه من مال أو ولد أو دار أو شيء مما يملكه ما يكره من عنف وشدة.
قالوا: وأما العمى فهو ضلالة عن الدين، وهو أيضاً ميراث كبير من عصبة قد كان له في أجداده مكفوف. وقد كان يعطى كل مكفوف سهماً من ميراث من يموت من عصبته. وقال أرطاميذورس: رأى إنسان كأن آخر يقول له لا تخف، فإنك لا تموت ولا تقدر أن تعيش، فصار أعمى وكان ذلك بالواجب. فإنه لم يمت ولكن عدم ضوء بصره.
وقال العابرون أيضاً: من رأى أن عينيه ذهبتا، مات أولاده أو إخوته أو أقاربه. رأى الحجاج بن يوسف الثقفي كأن عينيه سقطتا في حجره فلما أصبح نعي أخيه محمد وولده محمد. فإن كان الرائي فقيراً أو محبوساً، فإنه يدل على أنه لا يعود يرى شيئاً مما هو فيه من الشر. فإن رأى ذلك من يريد السفر فإنه يدل على أنه لا يرجع إلى الوطن. لأن المكفوف لا يمكنه أن يرى الغربة ولا أن يرى وطنه.
ومن رأى كأن عينيه عيناً إنسان آخر، فإن ذلك يدل على ذهاب بصره وعلى أن غيره يهديه الطريق. فإن عرف الرائي ذلك الغريب، فإنه يتزوج ابنة ذلك الرجل أو قريبته أو يناله منه خير.
تتمة هل يبصر الأعمى ملك الموت بعينيه أولاً ذكر ابن أبي الدنيا رحمه الله عن بعض السلف أنه قال فيه: إن الأعمى يرى ملائكة ربه عند قبض روحه.
قلت: ما لهذا خصوصية بالأعمى فإنا رأينا جماعة ممن كانوا في
السياق وهم يقولون السلام عليكم ويشيرون لمن يرونه ويخاطبونهم، ونحن لا نراهم. وهذا كثير مستفاض بين الناس.
فصل العميان أكثر الناس نكاحاً. وفي المثل: أنكح من أعمى. أورده الميداني في أمثاله. حكى ابن المرزبان في تاريخه عن الأصمعي أنه قال: هما طرفان ما ذهب من أحدهما زاد في الآخر.
قلت: ولهذا نرى الخدام وهم الخصيان يعمر الإنسان منهم وبصره قوي. والخادم إذا جب من أسفل لم تنبت له لحية. وكذا الإنسان إذا حصل له صداع في رأسه تحك رجلاه فيسكن الألم.
قيل إن بعض الخدام كان واقفاً على رأس سيده وهو في الفراش يشكو من وجع رأسه. فحضر الطبيب إليه فشكا ألمه. فقال: حك رجليلك يسكن الألم. فضحك الخادم وقال: سيدي يشكو أعلاه وأنت تداوي أسافله! فقال: أنت شاهدي على ذلك لأن خصيتك لما قطعت لم تنبت لك لحية.
فضل قال إبراهيم بن هانئ: من تمام آلة القصص أن يكون القاص أعمى، ويكون شيخاً بعيد مدى الصوت.
قلت: ومن شرط الأعمى، إذا كان سائلاً أن يكون يحفظ سورة يوسف عليه السلام.
قال أرسطو في كتاب الحيوان: الخطاطيف إذا عمين أكلن من شجرة يقال لها عين شمس، فيبصرن بعد العمى. وهذه الشجرة لها منفعة في العين التي لا تبصر والتي يخاف عليها من اجتماع الماء. قال: والحيات إذا ساخت في الأرض اظلم بصرها. فإذا خرجت إلى الأرض طلبت الرازيانج فمرت بعينها عليه فعند ذلك ينقى بصرها من الظلمة.
قلت: الرازيانج هو السمر وينبغي أن يغسل قبل أكله في أول دخوله لهذه العلة قال: والضب إذا خرج من جحره لا يبصر شيئاً إلى أن يستقبل الشمس ساعة، فحينئذ يرى.
وقال الرئيس أبو علي ابن سينا: وكل حيوان يلد حيواناً فله عينان إلا الخلد. ويشبه أن يكون له عينان لكنهما مغشيتان بجلد رقيق لضعفهما، وإنما يدركان الأظلال دون الألوان والأشكال والله أعلم.