الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة الرابعة
قوله تعالى عبس وتولى
أن جاءه الأعمى. هذا الأعمى هو ابن أم مكتوم. وسيأتي الخلاف في اسمه عند
ذكر اسمه. ويأتي ذكر أمه وهو الذي صار مؤذناً للنبي صلى الله عليه وسلم. وكان قد جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده صناديد قريش: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل ابن هشام، والعباس بن عبد المطلب، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الإسلام. فقال ابن أم مكتوم أقرئني وعلمني مما علمك الله. وكرر ذلك. فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع كلامه وأعرض عنه. فنزلت هذه الآيات. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرمه بعد ذلك ويقول إذا رآه مرحباً بمن عاتبني فيه ربي ويقول: هل لك من حاجة؟ واستخلفه على المدينة مرتين. وأورد الإمام فخر الدين رحمه الله تعالى هنا سؤالات.
الأول إبن أم مكتوم كان يستحق التأديب والزجر، فكيف عاتب الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه؟ واستحقاقه لوجوه: الأول: إنه وإن كان أعمى لا يرى القوم لكنه يسمع كلامهم وخطاب النبي صلى الله عليه وسلم لهم. وكان يعرف بواسطة كلامه لهم شدة اهتمامه بشأنهم وكان اعتراضه وإلقاء كلامه في الناس قبل تمام عرض النبي صلى الله عليه وسلم معصية.
قلت: يحتمل أن ابن أم مكتوم طلع عليهم دفعة واحدة ولم يسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم لهم ولا أحس بمن عنده من الصناديد. لأنه كان يعلم محل المذكورين فلا يقطع عليهم كلامه صلى الله عليه وسلم.
قال: والوجه الثاني. أن الأهم مقدم على المهم. وهو كان قد أسلم ويعلم ما يحتاج إليه من أمر الدين، وأولئك كانوا كفاراً وما أسلموا. وكان إسلامهم سبباً لإسلام جمع عظيم. فالقاء ابن أم مكتوم كلامه بين الناس سبب في قطع ذلك الخير العظيم.
قلت: هذا أيضاً مفرع على أن ابن أم مكتوم كان يعلم أن صناديد قريش كانوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد أبدينا الاحتمال فاندفع.
قال: الوجه الثالث. أنه تعالى قال: إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون. فهذا النداء الذي صار كالصارف للكفار عن قبول الإيمان، وكالقاطع على الرسول أعظم وكان أولى أن يكون ذنباً ومعصيةً وأن الذي فعله الرسول كان واجباً.
قلت: ليس قول ابن أم مكتوم: يا رسول الله علمني مما علمك الله كالذي ينادونه من وراء الحجرات: يا محمد! أخرج إلينا. فإن الرسول لو ألقى إليه ذلك الوقت شيئاً مما علمه الله لكان خيراً لمن يسمعه.
قال: السؤال الثاني انه تعالى عاتبه على مجرد كونه عبس في وجهه، ويكون ذلك تعظيماً عظيماً لابن أم مكتوم وكيف يليق بمثل هذا التعظيم أن يذكر باسم الأعمى. وإذا ذكر الإنسان بهذا الوصف اقتضى ذلك تحقيره.
قال السؤال الثالث الظاهر أنه كان صلى الله عليه وسلم مأذوناً له أن يعامل أصحابه على حسب ما يراه مصلحة. وكان كثيراً ما يؤدب أصحابه ويزجرهم عن أشياء. وكيف لا يكون ذلك، وهو إنما بعث ليؤدبهم ويعلمهم محاسن الآداب، وإذا كان كذلك كان التعبيس داخلاً في تأديب أصحابه. فكيف وقعت المعاتبة؟ قال رحمه الله تعالى: والجواب عن السؤال الأول من وجهين.
الأول أن الأمر وإن كان على انه تكريم إلا أن ظاهر الواقعة يوهم تقديم الأغنياء على الفقراء وانكسار قلوب الفقراء. فلهذا خلصت المعاتبة. ونظيره قوله تعالى ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي.
قلت: ما هو من ظاهر الواقعة، بل هو من صريح القرآن، لقوله تعالى: أما من استغنى فأنت له تصدى.
قال: الوجه الثاني لعل هذا العتاب ما وقع على ما صدر من الرسول من الفعل الظاهر، بل على ما كان منه في قلبه. وهو أنه صلى الله عليه وسلم كان قد مال قلبه إليهم بسبب قرابتهم، وكان ينفر طبعه عن الأعمى بسبب عماه وعدم قرابته وقلة شرفه فلما وقع
ذلك حصلت المعاتبة لا على التأديب بل على التأدب لهذا المعنى.
قلت: سبحان العليم بما كان في ذلك الوقت وهو خلاف ظاهر الواقعة.
قال والجواب عن السؤال الثاني أن ذكره بلفظ الأعمى ليس بتحقير له بل كأنه قيل: بسبب عماه استحق مزية الرفق له والرأفة فكيف يليق بك يا محمد أن تخصه بالغلظة؟ والجواب عن السؤال الثالث أنه صلى الله عليه وسلم كان مأذوناً له في تأديب أصحابه: لكن ههنا لما أوهم تقديم الأغنياء على الفقراء وكان ذلك ما يوهم ترجيح الدنيا على الدين، فلهذا السبب جاءت هذه المعاتبة.
قلت: ليس هذا مما فيه إيهام تقديم الدنيا على الدين لأن أولئك الكفار لو أسلموا لأسلم بإسلامهم جمع عظيم من أتباعهم وألزامهم وأزواجهم ومن يقول بقولهم. ولهذا المعنى رغب صلى الله عليه وسلم في إسلامهم وطمع فيه. وذلك غاية في الدين.
قال: المسئلة الثانية القائلون بصدور الذنب عن الأنبياء تمسكوا بهذه الآية. وقالوا: لما عاتبه في ذلك الفعل. دل على أن ذلك الفعل كان معصية، وهذا بعيد. فإنا قد بينا أن ذلك كان هو الواجب المتعين وهذا جار مجرى ترك الأفضل وترك الاحتياط. فلم يكن هذا ذنباً ألبتة.
وقوله تعالى: " وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن اله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور ". هذه أمثال ضربها الله تعالى في حق المؤمنين والكفار فقوله: الأعمى والبصير، أي العالم والجاهل والمؤمن والكافر، ولا الظلمات ولا النور، أي الكفر والإيمان، ولا الظل ولا الحرور، أي الجنة والنار أو ظل الليل وسموم النهار أو الحرور بمنزلة السموم وهي الريح الحارة ويكون ليلاً ونهاراً والسموم لا يكون إلا نهاراً. قال أبو عبيدة الحرور يكون في النهار مع الشمس. وما يستوي الأحياء ولا الأموات العلماء والجهال أو المؤمنون والكافرون.
فإن قلت ما فائدة تكثير الأمثلة ههنا وتكريرها. قلت: البصير وإن كان سليم العين بخلاف الأعمى فإنه لا يرى شيئاً ما لم يكن في
نور وضياء. فأتى بذكر النور لأجل البصير وهو الإيمان. فاستعان البصير وهو المؤمن بنور الإيمان على رؤية الهدى. وأتى بذكر الظلمات وهي الكفر لأجل الأعمى فكان الكافر في ظلمة البصر وظلمة الضلال. ثم قال: ولا الظل ولا الحرور فنبه على أن حالتي المؤمن والكافر متباينتان. لأن المؤمن بإيمانه في ظل وراحة والكافر في حرور وتعب.
ثم قال: وما يستوي الأحياء ولا الأموات. نبه على أن الأعمى يشارك البصير في بعض الادراكات فيكون في قرب ما من مساواته. لأن كلاً منهما حي متحرك حساس مدرك، وإن كان الأعمى أنقص إدراكاً من البصير. أما الحي والميت، فليس بينهما مساواة ولا مداناة بوجه ما في الإدراكات. فقال تعالى إن المؤمن لا يستوي مع الكافر، لأن المؤمن حي والكافر ميت فالبون بينهما بعيد، والفرق بينهما مبين. لأن الحي متحرك حساس مدرك والميت جماد عديم الحياة والحس الإدراك. فنافاه من كل وجه، وباينه في كل صفة.
فإن قلت كيف كرر حرف النفي في موضع دون موضع. قلت: التكرار إنما يؤتى به للتوكيد. وقد تقرر فيما تقدم أن الأعمى يشارك البصير في صفات كثيرة، وإنما باينه في الإحساس بالمرئيات. فما بينهما من التضاد والمنافاة كما بين النور والظلمة. وكما بين الظل والحرور، فالمنافاة في هذين الموضعين للذات، بخلاف الأعمى والبصير. لا سيما والمراد بهما المؤمن والكافر. فالكافر ليس بأعمى حقيقةً، وإنما استعير له ذلك لأنه لم ير الحق والصواب. ولذلك أتى بحرف النفي أيضاً بين الأحياء والأموات. لأن المنافاة متحققة هنا أيضاً.
فإن قلت: كيف أخر الأشرف في قوله تعالى والبصير وقوله تعالى ولا النور وقدم الأخس في قوله تعالى: الأعمى والظلمات. قلت: جاء به على أصل الواقع. لأن الكافر أعمى والكفار كانوا قبل البعثة. فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم آمن به من آمن. فانتقل من العمى إلى البصر. فكان الكفر متقدماً على الإيمان. فقدم ذكر الأعمى لذلك وعطف الظلمات على الأعمى وعطف النور على البصير.
فإن قلت: وهذا ينقض عليك بقية الآية وهو تقديم الأشرف على الأخس في مكانين وهو الظل والأحياء قدما على الحرور وعلى الأموات.
قلت: قد تقدم أنه لما ضرب المثل للمؤمن والكافر بالأعمى والبصير وأكد ذلك بالظلمات والنور، لأنهما أمس بالأعمى والبصير من الظل والحرور، ومن الحياة ومن الموت، انتقل بعد ذلك إلى بيان حاليهما. فقال إن حاليهما متباينان، فأتى به على القاعدة في تقديم الأشرف على الأخس. فقدم الظل على الحر، والحياة على الموت. ومن قال: إنما أتى بذلك طلباً للمناسبة بين رؤوس الآي، ليناسب بين البصير والنور والحرور فليس في شيء. والذي ذكرته أدخل في أقسام البلاغة وأثبت على محل الإعجاز.
فإن قلت: كيف أفرد لفظ الأعمى والبصير والنور والظل وجمع لفظ الظلمات والحرور والأحياء والأموات؟ قلت: أما إفراد الأعمى فيلزم منه على مقتضى الفصاحة إفراد البصير، وهكذا جمع الأحياء يلزم منه جمع الأموات، عملاً بمقتضى الفصاحة. وأما إفراد الأولين وجمع الثانيين فإن الإفراد معناه القلة والجمع معناه الكثرة. فأتى بذلك على الأصل الواقع لأن المؤمنين كانوا قليلين. ولما نشر الله الدعوة ودخل الناس في دين الله أفواجاً حسن أن يضرب المثل لهم بالكثرة. ويؤيد ما قلته أن السورة مكية. وفي ذلك بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم وأن أمر الإيمان والمؤمنين يؤول إلى الكثرة. وفي ذلك طمأنينة له صلى الله عليه وسلم وتثبيت ليعلم العاقبة من أمره. وأما إفراد النور، وجمع الظلمات. فقد تقرر أن هذه أمثلة ضربها الله تعالى للمؤمن والكافر. والمؤمن من اتبع الحق وآمن به. والحق هو شيء واحد وهو الإيمان بالله تعالى. وأما الكفر، فإنه جنس تحته أنواع متعددة الأباطيل: من عبادة الكواكب والإشراك بالله وعبادة الأصنام واعتقاد الدهريين إلى غير ذلك من المقالات الفاسدة التي يجمعها الكفر. فلذلك قال تعالى: ولا الظلمات ولا النور. أي لا يستوي أنواع الضلالات ونوع الهدى. هيهات! وقيل: النور لا يكون إلا باجتماع ثلاثة أشياء وهي المنور والنور نفسه والمستنير وهو الجسم الذي يقبل الاستنارة وعدم الحائل وكذلك الظلمة. فقد قابل الظلمات بشيء هو مجموع من هذه الأمور.
وهذا بعيد. والأول أولى.
وأما إفراد الظل وكون الحرور أتى بهذه الصيغة وهي فعول مثل قبول وطهور
للمبالغة. ولم يقل الظل ولا الحر لأن الظل هو شيء واحد يضاد أنواع الحر: من السموم، ومن حر النار، ومن تصاعد الأبخرة من الأرض الكبريتيه إلى غير ذلك مما يتوهج به الجو ويسخن به الهواء. فلذلك حسن إفراد الصيغة وتخصيص الحرور بهذه الصيغة.
فإن قلت: فقد قال تعالى تتفيأ ظلاله، فقد جمع الظل. قلت: إنما أراد هناك الجمع لأن الشمس إذا أشرقت ضرب ظل الشخص إلى جهة الغرب فكلما أخذت الشمس في الارتفاع أخذ الظل في التقلص شيئاً فشيئاً فصار كل قدر من الظل فرداً، ومجموع الأفراد من غاية الطول وهلم جراً إلى غاية القصر ظلال. وكذلك إذا جنحت الشمس ومالت عن الاستواء إلى جهة الغرب، برز الظل أقصر ما يكون، ثم تزايد شيئاً فشيئاً وتطاول إلى أن يبلغ الغاية في جهة المشرق. فثبت أن ظل الشرق وظل الغرب ظلال. والله الموفق للصواب.
وقوله تعالى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً. قال مجاهد والضحاك ومقاتل أعمى عن الحجة. وهو رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس. وقيل إن هذا القول ضعيف لأنهم في يوم القيامة لا بد وإن يعلمهم الله تعالى ببطلان ما كانوا عليه حتى يتميز الحق عن الباطل. ومن تكون هذه حاله لا يوصف بذلك إلا مجازاً. يراد أنه كان من قبل كذلك. وحينئذ لا يليق بهذا قوله وقد كنت بصيراً ولم يكن كذلك في الدنيا. قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى: ومما يؤيد هذا الاعتراض أنه تعالى علل ذلك العمى بأن المكلف نسى الدلائل. فلو كان العمى الحاصل في الآخرة عين ذلك النسيان، لم يكن للمكلف بسبب ذلك ضرر في الآخرة، كما انه لم يكن به ضرر في الدنيا. قال: الأرواح الحاصلة في الدنيا التي تفارق أبدانها جاهلة بكون جهلها سبباً لأعظم الآلام الروحانية.
قلت: قد أغرب الإمام في هذا الجواب. ومال في هذا إلى القول بالمعاد الروحاني وأعرض عن المعاد الجسماني. والصواب أن يقال فيه: إن من اعرض عن ذكر الله تعالى في الدنيا وقد كان بصيراً يحشره الله تعالى وهو في حيرة لا يهتدي إلى طريق يسلكها إلى الخلاص من العذاب. كالأعمى الذي يقف متحيراً بلا قائد يرشده ويقوده إلى النجاة. ولهذا قال الله تعالى وكذلك أتتك آياتنا فنسيتها. أي فلم تعمل بها ولم يقل فلم ترها.