الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دينار» .
ثم سكت ورقة وتكلّم أبو طالب، وقال: قد أحببت أن يشركك عمها. فقال عمها: اشهدوا عليّ يا معشر قريش أنى قد أنكحت محمد بن عبد الله خديجة بنت خويلد، وشهد على ذلك صناديد قريش» .
وقال في السمط الثمين: «وأصدقها رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين بكرة، ويمكن الجمع بتقويم الثمن بذلك، أو أنّ أحد الشيئين مهر والاخر هدية من عمه لخديجة رضى الله تعالى عنها، أو أنه صلى الله عليه وسلم زاد ذلك في صداقها على صداق أبى طالب، فكان الكل صداقا اهـ.
وهذه الخطب بهذه المثابة تدل على أن قريشا في ذلك الزمن كانت على حظ وافر من التأنس، ولها نصيب جسيم من المهابة.
ولما تزوج خديجة رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر جزورا أو جزورين وأطعم الناس، وهى أول وليمة أولها صلى الله عليه وسلم.
وقال في المنتقي: «فأمرت خديجة جواريها أن يرقصن ويضربن بالدفوف.
وعاشت خديجة بعد النكاح أربعا وعشرين سنة وخمسة أشهر وثمانية أيام؛ خمس عشر سنة قبل الوحي، والباقية بعده، وكانت وفاتها في السنة العاشرة من النبوة، وكان تزوّجه بها بعد قدومه من الشام بشهرين وأيام، وكان سنّه صلى الله عليه وسلم يومئذ نحو خمس وعشرين سنة، وسنها أربعون سنة، فكان زواجها بأشرف العرب على الإطلاق، زواج كفاءة جليلة وحسن تراض ووفاق، وولدت له صلى الله عليه وسلم، وبقي الخلف منهما ما تكون منه المجد في الافاق.
[أولاده من خديجة] :
ولما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصيّ قبل الإسلام، ولدت منه القاسم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه كان يكني، وقد مشى وهو ابن سنتين.
وهل يجوز أن يكنى غيره صلى الله عليه وسلم بأبى القاسم أو لا؟ خلاف. وإليه أشار بعضهم بقوله:
في كنية بقاسم خلف وقع
…
فالشافعى مطلقا لها منع
ومالك جوّز، والنّهى حمل
…
على الحياة، والنواوىّ جعل
هذا هو الأقرب، أما الرافعى
…
منع من سمّى محمدا، فع
وقد روى الشيخان عن أنس رضى الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشى بالبقيع، فسمع قائلا يقول: يا أبا القاسم، فردّ رأسه «1» إليه، فقال الرجل: يا رسول الله إنى لم أعنك إنما دعوت فلانا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تسمّوا باسمى ولا تكنوا بكنيتي، فإني جعلت قاسما أقسم بينكم» «2» ويكنى أيضا بأبى إبراهيم، وأبى الأرامل، ذكره ابن دحية، وأبى المؤمنين من قراءة أبيّ بن كعب النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [وهو أب لهم] «3» [الأحزاب: 6] .
وولدت له أيضا زينب، وهى أكبر بناته صلى الله عليه وسلم، تزوجها أبو العاص بن الربيع، واسمه لقيط بن الربيع، وهو ابن خالتها، وأمه هالة بنت خويلد بن أسد، وكان تزويجه إياها قبل الإسلام، فلما أكرم الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالرسالة أسلمت خديجة «4» كما سيأتى وبناته، وصدّقته زينب، وثبت أبو العاص على دين قريش، وكان من معدودى قريش ورجال مكة مالا وأمانة وتجارة، فمشت إليه وجوه قريش، فقالوا:
اردد على محمد بنته، ونحن نزوّجك أية امرأة أحببت من قريش، فقال: لا، والله إذن لا أفارق صاحبتى فإنها خير صاحبة. وكانت هاجرت قبله وتركته على شركه. وقد أسلم أبو العاص بعد أمور طويلة، فردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب عليه
(1) فى الأدب المفرد للبخارى رضى الله عنه: «عن أبى هريرة يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان ربعة وهو إلى الطول أقرب، شديد البياض، أسود شعر الرأس، حسن الثغر، أهدب أشفار العينين، بعيد ما بين المنكبين، مفاض الخدين، يطأ بقدميه جميعا، ليس لها إخمص، يقبل جميعا ويدبر جميعا، لم أر مثله قبل ولا بعده» . فمسألة رد الرأس هذه خطأ، وإنما يلتفت بجسمه الشريف كله، وهذه معروفة عنه صلى الله عليه وسلم.
(2)
فى الأدب المفرد عن أنس بن مالك: كان النبى صلى الله عليه وسلم في السوق، فقال رجل: يا أبا القاسم، فالتفت إليه النبى صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إنما دعوت هذا، فقال النبى صلى الله عليه وسلم:«تسموا باسمى ولا تكنوا بكنيتي» . وفي حديث اخر: «تسموا ولا تكنوا بكنيتي، فإنما أنا قاسم» وفي ثالث: «
…
والله يعطى وأنا أقسم» . وقد ذكر جماعة من أهل العلم أن عدم التسمية تحرم في حياته فقط، لئلا يلتبس به أحد، أما بعده فقد أمن اللبس، فلذلك لا يحرم. والله تعالى أعلم.
(3)
نسخ هذا اللفظ فيما نسخ من القران في حياة النبى صلى الله عليه وسلم.
(4)
فى الأصل (هاجرت خديجة) وهو خطأ طباعى واضح.
بنكاح جديد، ويقال بل ردّها بالنكاح الأوّل بعد سنتين، وقيل قبل انقضاء العدة، وكان ذلك في المحرم سنة سبع من الهجرة.
ولما أسلم أبو العاص أتى مكة ثم رجع إلى المدينة، فكان بها، فلما فتحت مكة أقام بها ولم يقاتل مع النبى صلى الله عليه وسلم، وتوفى سنة اثنتى عشرة، وأوصى إلى الزبير ابن العوام وهو ابن خاله. وكان لأبى العاص بن الربيع من زينب: عليّ وأمامة؛ فأما عليّ فمات وهو غلام، ولم يعقب، وأما أمامة فتزوجها علي بن أبى طالب بعد وفاة فاطمة رضى الله تعالى عنها فولدت له محمدا الأوسط «1» ، وقتل رضى الله عنه وهى عنده، فحملها ابن همها عبد الرحمن بن محمد إلى المدينة، وكتب معاوية رضى الله عنه إلى مروان بن الحكم يأمره أن يخطبها عليه، ففعل، فجعلت أمرها إلى المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وهو الذى كان الحسين بن علي استخلفه على الكوفة حين سار إلى المدائن، فأشهد المغيرة عليها برضاها بكل ما يصنع، فلما استوثق منها قال:«قد تزوجتها وأصدقتها أربعمائة دينار» فكتب مروان بذلك إلى معاوية، فكتب إليه: هى أملك بنفسها فدعها وما اختارت «2» . ثم إنه بعد ذلك سيّر المغيرة إلى الصفراء فمات وماتت بالصفراء، وولدت للمغيرة ولدا اسمه يحيى كان يكنى به ولم يعقب، وتوفيت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة ثمان من الهجرة بالمدينة، وصلّى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل في قبرها ومعه أبو العاص، وجعل لها نعشا، فكانت أوّل من اتّخذ لها النعش، والتى أشارت باتخاذه أسماء بنت عميس، رأته بالحبشة وهى مع زوجها جعفر بن أبى طالب رضى الله عنه.
* وولدت خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم رقيّة (وهى أكبر بناته بعد زينب) ، تزوجها عتبة بن أبى لهب، فلما نزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ قالت أمه (أم جميل) حَمَّالَةَ الْحَطَبِ:«هجانا محمد» ، وعزمت على ابنها عتبة أن يطلّق رقية، وعزم عليه أبوه أيضا، ففعل. فزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم من عثمان بن عفان
(1) فى الأصل «محمد بن الحنفية» وهو خطأ واضح؛ قال المسعودى في مروج الذهب: محمد بن الحنفية، هو: محمد بن علي بن أبى طالب، وأمه خوله بنت إياس (من بنى حنيفة) وقيل ابنة جعفر بن قيس بن مسلمة الحنفي. اهـ. ملخصا والله تعالى أعلم.
(2)
رواه الطبراني عن جرير بن عبد الله البجلى رضى الله عنه.
بمكة، فولدت له بأرض الحبشة عبد الله، وبه كان يكني، مات عبد الله سنة أربع في جمادى الأولى وهو ابن ست سنين، نقر عينه ديك فورم وجهه، فمرض من ذلك ومات، وصلّى عليه النبى صلى الله عليه وسلم وقبره أبوه، ولمّا مات عبد الله ابن عثمان وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره ودمعت عليه عيناه، وقال:«إنما يرحم الله من عباده الرحماء» «1» ، وتوفيت رقية في أيام بدر، وهى عند عثمان، ودفنت بالبقيع، وصلّى عليها عثمان وغسلتها أم أيمن، ولم يحضرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لكونه كان غائبا ببدر، ولما عزّى بها قال:«الحمد لله دفن البنات من المكرمات» .
* وولدت خديجة رضى الله تعالى عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أم كلثوم، ولا يعرف لها اسم، وإنما تعرف بكنيتها، تزوجها عتيبة بن أبى لهب، فلما نزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ أمر ابنه بفراقها ففعل، فلما توفيت رقية زوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم كلثوم من عثمان أيضا، فلم تزل عنده حتّى توفيت في سنة تسع، وصلّى عليها أبوها) ، ولم تلد من عثمان، فبكى عثمان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك؟ قال: انقطاع صهرى منك يا رسول الله، فقال:«كلا إنه لا يقطع الصهر الموت إنما يقطعه الطلاق، ولو كانت عندنا ثالثة لزوّجناك» «2» .
* وولدت خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: فاطمة، وهى أصغر بناته، ولدت قبل النبوة بخمس سنين «3» أيام بناء البيت، وتوفيت بعده عليه السلام بستة أشهر، وتلقّب بالبتول من البتل: وهو القطع لانقطاعها عن نساء الأمة، فضلا ودينا وحسبا ونسبا، وتلقب أيضا بالزهراء «4» ، وسمّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة بإلهام من الله تعالى؛ لأن الله تعالى «فطمها وذريتها من النار» «5» وكانت أحبّ أولاده صلى الله عليه وسلم،
(1) رواه الخطيب عن عبد الله بن عمر.
(2)
وفي أسد الغابة: «لو كان لنا ثالثة لزوّجناك» . وعن أمير المؤمنين علي بن أبى طالب رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لو أن لى أربعين بنتا لزوجت عثمان واحدة بعد أخرى، حتى لا تبقى منهن واحدة» .
(3)
وفي الإصابة لابن حجر أنها ولدت عام 41 من ميلاد النبى صلى الله عليه وسلم.
(4)
البيضاء المشرقة الوجه. وقيل: لأنها لم تحض كما تحيض النساء. والله أعلم.
(5)
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن فاطمة أحصنت فرجها فحرّمها الله وذريتها على النار» رواه البزار وأبو يعلي، والطبراني، والحاكم عن ابن مسعود.
فكانت إذا دخلت عليه صلى الله عليه وسلم قام لها إجلالا، والأحاديث في فضلها كثيرة، ولما بلغت خمس عشرة سنة تزوجها علي بن أبى طالب بالمدينة، فولدت له:
الحسن والحسين رضى الله عنهما ومحسن، درج «1» صغيرا، وولدت له من البنات: زينب، وأم كلثوم، ورقية. وسيأتى الكلام عليهن.
وقد اختص ولداها السبطان بمزايا لا توجد في غيرهما، فنسبوا إليه صلى الله عليه وسلم خصوصية لهم، فلم تكن الأشرفية المطلقة إلا لعقب الحسن والحسين فقط؛ لاختصاص ذريتهما بشرف النسب، وقد انقرض نسبه صلى الله عليه وسلم إلا من فاطمة رضى الله عنها، طاب أصلها أمّا وأبا، وانتشر نسله الشريف منها من جهة السبطين، ويقال لأولهما حسنى، وللثانى حسيني، وانعقد الإجماع بأن المراد بال البيت في الاية الشريفة: على وفاطمة والحسن والحسين وذريتهما، وهم أهل العباءة.
وعن عائشة رضى الله تعالى عنها: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة وعليه مرط مرجّل من شعر أسود (المرط بالكسر كساء من صوف أو خز والجمع مروط وربما أطلق على ما نسج من الشعر، قال بعضهم وهو خاص بالإزار والخمار) فجاء الحسن، فأدخله، ثم جاء الحسين فأدخله، ثم فاطمة، ثم علي، ثم قال: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب: 33] وقال:
«اللهمّ هؤلاء أهل بيتى وخاصتى أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا «2» ثم قال: أنا حرب لمن حاربهم وسلّم لمن سالمهم، وعدوّ لمن عاداهم «3» » .
وهذه الاية دلّت على منبع فضائل أهل البيت النبوي؛ لاشتمالها على غرر من ماثرهم والاعتناء بشأنهم، حيث ابتدئت بإنما المفيدة لحصر إرادته تعالى في
(1) درج: مات.
(2)
وأخرج الترمذى والحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط مسلم. قالت أم سلمة لما نزلت: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فاطمة وعلى والحسن والحسين فقال: هؤلاء أهل بيتي» . وقال يزيد ابن زريع عن روح بن القاسم عن عمرو بن دينار: قالت عائشة: «ما رأيت قط أحدا أفضل من فاطمة غير أبيها» أخرجه الطبراني فى ترجمة إبراهيم بن هاشم (من المعجم الأوسط وسنده صحيح على شرط الشيخين إلى عمرو) .
(3)
وأخرج الترمذى من حديث زيد بن أرقم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «على وفاطمة والحسن والحسين أنا حرب لمن حاربهم وسلّم لمن سالمهم» .
إذهاب الرجس أى الإثم عنهم، وتطهيرهم من سائر الأخلاق والأحوال المذمومة، وتحريمهم علي النار الذى هو فائدة ذلك التطهير وغايته؛ إذ منه الإلهام والإنابة إلى الله وإدامة الأعمال الصالحة، ومن ثمّ لما ذهبت عنهم الخلافة الظاهرة لكونها صارت ملكا عضوضا ولم تتم للحسن، عوّضوا عنها الخلافة الباطنة، وهى القطبية، فلم يكن قطب إلا منهم في كل زمان، وهو المختار خلافا للمرسي.
ومن تطهيرهم أيضا تحريم الصدقة عليهم فرضا بالإجماع. ونفلا على قول للإمام مالك؛ لأنها أوساخ الناس، مع كونها تنبئ عن ذل الاخذ وعز المأخوذ منه، وعوّضوا عنها خمس الخمس من الفيء والغنيمة المنبىء عن عز الاخذ وذل المأخوذ منه، فاختصوا بمشاركته صلى الله عليه وسلم في تحريم الصدقات، ولما أخذ الحسن ابن علي رضى الله عنهما تمرة من تمر الصدقة ووضعه في فيه قال له النبى صلى الله عليه وسلم:«كخّ كخ ارم بها أما علمت أنّا لا نأكل الصدقة» «1» وفي رواية «إنّ ال محمد لا يأكلون الصدقة» وحكمة ختم الاية «2» به المبالغة في وصولهم لأعلاه، ودلت هذه الاية أيضا على نبوته صلى الله عليه وسلم، وعلى فضل أهل الكساء رضى الله تعالى عنهم.
وقد قيل في ذلك:
إنّ النبيّ محمدا ووصيّه
…
وابنيه وابنته البتول الطاهره
أهل العباءة إنّني بولائهم
…
أرجو السلامة والنّجا في الاخره
وقال غيره:
هم القوم من أصفاهم الودّ مخلصا
…
تمسّك في أخراه بالسبب الأقوي
هم القوم فاقوا العالمين مناقبا
…
محاسنها تحكى واياتها تروي
موالاتهم فرض، وحبّهم هدي
…
وطاعتهم حزم، وودّهم تقوي
فلا خفاء أن من انتسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم أو أب ففيه سريان لحمه ودمه الكريمين، فالمنتمى إليه هو بعضه في وجوب الإجلال والتعظيم والتعزيز
(1) متفق عليه عن أبى هريرة، وفي الفتح الكبير «أما شعرت» بدل «أما علمت» .
(2)
أى بقوله يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً.
والتوقير والبر والنصيحة؛ فبعضه صلى الله عليه وسلم كجميعه، كما قيل في مدح شريف:
هو بعض النبي والله قد صا
…
غ جميع النبىّ والبعض طهرا
وتوضيح ذلك أن فاطمة رضى الله عنها بضعته صلى الله عليه وسلم، وأولادها بضعة منها، فهم بضعة من تلك البضعة، فيكونون بضعة بواسطة تلك البضعة، وهكذا بنوهم وبنو بنيهم وهلم جرا، فكل من يوجد منهم في كل زمان بضعة منه بالواسطة؛ فأقيم وجودهم مقام وجوده صلى الله عليه وسلم، وفي هذا من مزيد الكرامة والتشريف ما لا يخفي، وحرمته صلى الله عليه وسلم ميتا كحرمته حيا، وقد قال تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشوري: 23] أى أن تودوا قرابتي.
ويطلق أهل البيت إطلاقا اخر على كل حسنى وحسيني، وعلويّ من ذرية محمد ابن الحنفية أو غيره من أولاد علي بن أبى طالب أو جعفر، أو عقيلىّ أو عباسيّ فيطلق عليه اسم الشريف، ولذلك تجد تاريخ الحافظ الذهبى مشحونا في التراجم بذلك، يقول: الشريف العباسى، الشريف العقيلي، الشريف الجعفرى، الشريف الزينبي، فلما ولى الخلافة الفاطميون بمصر قصروا اسم الشريف على ذرية الحسن والحسين فقط؛ لكونهم علويين، فاستمر بذلك إلى الان.
قال الحافظ ابن حجر في كتاب «الألقاب» : «الشريف ببغداد لقب لكل عباسي، وبمصر لقب لكل علوي» . اهـ.
قال العلامة الصبّان: «ولا شك أن المصطلح القديم أولي؛ وهو إطلاقه على كل علوى وجعفرى وعقيلى وعباسى كما صنعه الذهبي، وكما أشار إليه الماوردي، ومثله قول ابن مالك في الألفية:
* واله المستكملين الشّرفا*
وقد يقال على اصطلاح أهل مصر: الشرف أنواع: عامّ: لجميع أهل البيت، وخاصّ: بالذرية فيدخل فيه الزينبيون وجميع أولاد بناته، وأخصّ منه: وهو شرف النسبة، وهذا مختص بذرية الحسن والحسين.» انتهي.
وبالجملة فيجب تعظيم الجميع؛ لأنهم جميعا قربى وأشراف بالمصطلح العام.
وقد أراد بعض العلماء أن يقبّل يد بعض كبار الأشراف، فمنعه من ذلك، فأنشده:
أتمنعني اللثم من راحة
…
نماها إلى الهاشمي الكرام
كأنّي إذا أنا قبّلتها
…
لثمت يديه عليه السلام
وحسب أهل البيت من الكرامة قوله صلى الله عليه وسلم: «وعدنى ربى في أهل بيتي: من أقرّ منهم بالواحدانية، ولى بالبلاغ: ألايعذّبه» «1» .
ومن الاثار الواردة عن سيدنا الحسين بن علي رضى الله عنهما أنه قال:
«الزموا مودتنا أهل البيت؛ فإنّ من لقى الله عز وجل وهو يودّنا دخل الجنة بشفاعتنا» .
ولنا أبيات في ذلك وهي:
انتمائي لكم بصفو صفاتي
…
يا ال بيت الزهراء أزهي صفاتي
جدّكم في الوجود شمس وأنتم
…
أنجم زهر غير منكسفات
أنتم بضعة النبيّ نشأتم
…
عن صفيّ من بضعة مصطفاة
سيّد الكونين أصلا وفرعا
…
في شعاب علي العلي مشرفات
أبطحيّ، لولاه ما فاح من م
…
كة عرف التعريف في عرفات
لا ولا كان أهل بدر بدورا
…
يتبوأن في علي الغرفات
لسواكم ما رمت قطّ التفاتا
…
وإليكم صرفت كلّ التفاتى
حاش لله أن أضام وأنتم
…
ملجأ اللائذين كهف العفاة
ويقينى أرجو به أن يقينى
…
من عظيم الأهوال والافات
كم مجير منكم حمي مستجيرا
…
وأغاث الملهوف بالمرهفات
كم لكم بالنّوال دنيا وأخرى
…
من أياد علي الوري عاطفات
بخلوص المديح أرجو خلاصى
…
من مساوي أيامي السالفات
إن نظمتم رفاعة في ولاكم
…
حاز أمنا من سطوة المرجفات
فأمانى من حادثات زمانى
…
انتمائي لكم بصفو صفاتى
(1) رواه الحاكم عن أنس.
ومن خصوصيات السيدة فاطمة رضى الله تعالى عنها أنه يحرم التزوج عليها؛ مخافة إيذائها بالغيرة التى هى من طبع النساء، للأحاديث الدالة على تحريم النكاح عليها حتّى تأذن، ولقوله تعالى: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ [الأحزاب: 53] وليس ذلك شاملا لجميع بناته صلى الله عليه وسلم بل هو خاصّ كما استصوبه الحافظ ابن حجر بفاطمة الزهراء؛ لأنها أصيبت بأمها وأخواتها واحدة واحدة، ولم يبق لها من تستأنس به ممن يخفّف عنها ألم الغيرة «1» . وتوفيت رضى الله عنها في ثالث رمضان ولها من العمر تسع وعشرون سنة، بعد وفاته صلى الله عليه وسلم بستة أشهر، وصلّى عليها العباس رضى الله عنه «2» .
* وولدت السيدة فاطمة رضى الله عنها زينب وأمّ كلثوم ورقيّة.
فأما زينب فقد تزوجها ابن عمها عبد الله بن جعفر بن أبى طالب فولدت له عليا وعونا الأكبر وعباسا ومحمدا، وأمّ كلثوم.
وأما أم كلثوم فإنه تزوجها عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فولدت له زيدا ورقية، ولم يعقبا، وقتل عمر بن الخطاب عنها، ثم تزوجها بعده ابن عمها عون ابن جعفر بن أبى طالب فمات عنها، ثم تزوجها بعده أخوه محمد فمات عنها، ثم تزوجها بعده أخوه عبد الله فماتت عنده، ولم تلد لأحد من الثلاثة شيئا،
(1) روى النسائى في كتابه (خصائص أمير المؤمنين علي بن أبى طالب) عن المسور بن مخرمة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن بنى هشام بن المغيرة استأذنونى أن ينكحوا ابنتهم عليّ بن أبى طالب (رضى الله عنه) فلا اذن، ثم لا اذن، إلا أن يريدابن أبي طالب أن يطلق ابنتى وينكح ابنتهم؛ فإنما هى بضعة مني، يريا بنى ما رابها، ويؤذينى ما اذاها، ومن اذى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد حبط عمله، وذلك أنهم أرادوا أن يزوّجوه بنت أبى جهل لعنه الله، وكان أعدى أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن هنا نعرف أن عدم إباحة الرسول) الزواج لعلي، إنما كان لئلا يجتمع تحت سقف واحد بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت عدو الله. والمسألة دينية بحتة لا دخل لها في الغيرة وغيرها من أمور الدنيا. غفر الله لنا وله. (والحديث متفق عليه، ورواه أحمد وأبو داود والترمذى وابن ماجه) بلفظ النسائى تقريبا.
(2)
وروى الواقدى من طريق الشعبى قال: «صلى أبو بكر رضى الله عنه على فاطمة رضى الله عنها» .
وتوفيت أم كلثوم وابنها زيد في يوم واحد «1» وصلّى عليهما عبد الله بن عمر رضى الله عنهما.
وأما رقية فماتت قبل البلوغ.
وولدت السيدة خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: عبد الله، وهو الملقب بالطيّب والطاهر، سمى بهذين الاسمين لأنه ولد بعد المبعث وتوفى بمكة؛ فقال العاص بن وائل:
قد انقطع ولد محمد فهو أبتر، فأنزل الله عز وجل: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [الكوثر: 3] وانكسفت الشمس* يوم موته، فقالوا: كسفت لموته، فقال عليه الصلاة والسلام:«إن الشمس والقمر ايتان من ايات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة» «2» وسبب ذلك أنه إذا أراد الله أن يرى عباده اية يخوّفهم بها أظهر لهم شيئا من عظمته وسلطانه. ولما مات بكى عليه صلى الله عليه وسلم، وقال:«البكاء من الرحمة والصراخ من الشيطان» «3» ، وقال:«من لا يرحم لا يرحم» «4» . ورأى صلى الله عليه وسلم خللا في قبر إبراهيم فقال: «إن الله يحب من العبد إذا عمل عملا أن يتقنه» 5 «5» .
(1) ولم يعرف من السابق منهما في الوفاة حتّى يرث الاخر.
* المعروف أن حادثة كسوف الشمس كانت في وفاة إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم من مارية القبطية.
(2)
رواه الطبراني عن عقبة بن عامر، والإمام أحمد عن محمود بن لبيد، والبخارى وأحمد والنسائى عن جرير، وابن حبان عن أبى بكرة، وأحمد والبخارى ومسلم والنسائى وابن ماجه عن عبد الله بن مسعود الأنصاري، وأحمد والبخارى ومسلم والنسائى عن ابن عمر، وأحمد، والبخارى ومسلم عن المغيرة بن شعبة، وأبو داود عن جابر، والنسائى عن أبى هريرة، والنسائى وابن ماجه عن عائشة، والطبراني عن ابن مسعود، ولفظ الفتح الكبير:«إن الشمس والقمر ايتان من ايات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبّروا وصلوا وتصدقوا، يا أمة محمد والله ما من أحد أغير من الله أن يزنى عبده أو تزنى أمته، يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، اللهمّ هل بلغت» . (رواه مالك وأحمد وأبو داود والنسائى عن عائشة، وهو حديث متفق عليه) .
(3)
رواه ابن عساكر عن بكير بن عبد الله الأشج: مرسلا.
(4)
متفق عليه، ورواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذى عن أبى هريرة، والبخارى ومسلم عن جرير. وروى الإمام أحمد قوله) :«من لا يرحم لا يرحم ومن لا يغفر لا يغفر له» وروى الطبراني عن جرير: «من لا يرحم لا يرحم ومن لا يغفر لا يغفر له، ومن لا يتب لا يتاب عليه» .
(5)
وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله يحب من العامل إذا عمل أن يحسن» (رواه البيهقى في شعب الإيمان) .
فهؤلاء أولاده صلى الله عليه وسلم، كلهم من خديجة الكبرى أم المؤمنين رضى الله عنها.
وأما ابنه إبراهيم فمن مارية بنت شمعون القبطية «1» . ومات جميع أولاده صلى الله عليه وسلم في حياته إلا فاطمة فبعده بستة أشهر، ولم يكن له صلى الله عليه وسلم أولاد من غيرهما، وقيل: إن عائشة أسقطت سقطا ولم يثبت. توفى إبراهيم صغيرا مرضعا، وكان مولده في ذى الحجة سنة ثمان من الهجرة بالعالية، وهى مال من أموال بنى النضير كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وعقّ عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة، وفي رواية بكبشين يوم سابعه، وحلق رأسه وتصدّق بزنة شعره فضة على المساكين، وأمر بشعره فدفن في الأرض، وسمّاه يومئذ، ودفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أم بردة خولة بنت المنذر زوج البراء بن أوس أحد بنى النجار، فكانت ترضعه. والعقيقة هذه إحدى الولائم.
الثانية: وليمة العرس. الثالثة: الخرس (بضم الخاء المعجمة ويقال بالصاد المهملة) طعام الولادة وهى غير العقيقة. الرابعة: الإعذار (بكسر الهمزة وبالعين المهملة والذال المعجمة) للختان. الخامسة: الوكيرة «2» لبناء الدار. السادسة:
النقيعة للمسافر «3» من النقع، وهو الغبار، وقيل: إن المسافر يصنع الطعام، وقيل يصنعه له غيره، السابعة: الوضيمة «4» بفتح الواو وكسر الضاد المعجمة: طعام عند المأتم. الثامنة: المأدبة بضم الدال وفتحها (طعام يتخذ ضيافة بلا سبب) ونظمها العلّامة بهرام المالكى رحمه الله فقال:
ثمانية أسماء أطعمه أتت
…
عن العرب نقلا لا تري بقياس
وليمة عرس، ثم إعذار خاتن،
…
نقيعة سفر، ثم خرس نفاس
ومأدبة في دعوة، ووكيرة
…
لأجل بناء محكم بأساس
عقيقة مولود، كذاك حذاقه «5»
…
إذا حذقه حاذي وقيت من الباس
(1) القبط: قومية لا ديانة.
(2)
الوكيرة: طعام يعمل لفراغ البنيان.
(3)
النقيعة: طعام الرجل ليلة يملك، والنقيع أيضا: ما ينقع في الماء من الدواء والنبيذ، والنقيع: البئر الكثيرة الماء.
(4)
الوضيمة: حرم من الناس فيهم مائتا إنسان أو ثلاثمائة، والقوم القليل ينزلون على قوم، وطعام المأتم.
(5)
الحذافة: حذق الصبى القران: تعلّمه كله ومهر فيه، وحذق الشيء يحذقه حذقا: قطعه أو مدّه ليقطعه بمنجل ونحوه.
لكنه جعل الحذاق بدل الوضيمة، فهى حينئذ تسعة، وزيد أيضا الإملاك:
للعقد، والعتيرة: ذبيحة لأوّل شهر رجب، وعلى هذا فأسماء الأطعمة أحد عشر.
وذيّل الشمس التتائى بالثلاثة:
وتاسعة الإملاك للعقد قد أتت
…
عتيرة ذبح للأصبّ مواسي
وحادية للعشر فعل وضيمة
…
بميت حماك الله شرّ أناس
وقد ورد في حديث أنس عن البيهقي: أنه صلى الله عليه وسلم عقّ عن نفسه بعد النبوةّ، فلو كان ما ذبحه جده في سابع ولادته صلى الله عليه وسلم عقيقة، لم يعيدها النبى صلى الله عليه وسلم ويعق عن نفسه؟ وأجيب عنه بأن ما فعله النبى صلى الله عليه وسلم بعد النبوّة ليس إعادة للعقيقة، وإنما هو إظهار للشكر على إيجاد الله إياه رحمة للعالمين، وتشريع لأمته كما كان صلى الله عليه وسلم يصلّى على نفسه كذلك. والجواب المشهور أن ما فعله جده عبد المطلب من العقيقة لم يقع عنه؛ لأن ذلك كان قبل الشرع، فلا يتعلق به حكم، والعقيقة التى فعلها صلى الله عليه وسلم عنه بعد النبوّة- على تقدير صحتها- كانت بعد الشرع؛ فهي المشروعة والواقعة عنه؛ لأنه بعد ولادته لم يقع عنه عقيقة مشروعة، على أن ما ورد من أنه صلى الله عليه وسلم عقّ عن نفسه بعد النبوّة إنما هو حديث منكر كما قاله بعضهم.
وقد نظم بعضهم عدة أولاد النبى صلى الله عليه وسلم بقوله:
فأوّل ولد المصطفي القاسم الذي
…
به كنية المختار فافهم وحصّلا
وزينب تتلوه، رقيّة بعدها
…
وفاطمة الزهراء جاءت علي الولا
كذا أم كلثوم تعدّ، وبعدها
…
في الاسلام عبد الله جاء مكمّلا
وكلّهم كانوا أتوا من خديجة
…
وقد جاء إبراهيم في طيبة تلا
وتوفيت السيدة خديجة رضى الله تعالى عنها في سنة عشر من المبعث «1» قبل الهجرة بثلاث سنين، وبعد مضى عشر سنين من مبعثه صلى الله عليه وسلم، ودفنت بالحجون، وهى ابنة خمس وستين سنة وستة أشهر، وللنبى صلى الله عليه وسلم عند وفاتها تسع وأربعون
(1) فى رمضان.
سنة وثمانية أشهر وأربعة عشر يوما، وذلك قبل موت أبى طالب بثلاثة أيام، فعظمت المصيبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بموتهما، وقال «ما نالتنى قريش بشيء أكرهه حتّى مات أبو طالب» «1» وذلك أن قريشا وصلوا من إيذائه بعد موت أبى طالب إلى ما لم يكونوا يصلون إليه في حياته. وكان عليه الصلاة والسلام يسمى ذلك العام عام الحزن. ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبر السيدة خديجة.
وكانت خديجة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أبى هالة هند بن زرارة بن النباش فولدت له هند بن أبى هالة، سمى باسم أبيه، ثم خلف عليها بعده عتيق بن عائذ ابن عبد الله، فطلقها، فتزوجها النبى صلى الله عليه وسلم كما تقدّم «2» ، وكانت مسمّاة لورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصى بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤى وهو ابن عم خديجة لأنها بنت خويلد بن أسد، فاثر الله عز وجل بها نبيّه صلى الله عليه وسلم، وكانت خديجة ولدت لعتيق السابق ذكره جارية فتزوجها صيفى بن أمية، فولدت له محمدا؛ فيقال لبنى محمد بن صيفى بالمدينة بنو الطاهرة. قالت عائشة رضى الله عنها:«إنّى لأغار على خديجة وإن كنت بعدها؛ لما كنت أسمع من ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لها، ولقد سمعته يقول «كانت خديجة خير نساء العالمين» «3» وقال «إن لخديجة بيتا في الجنة من قصب (أى قصب اللؤلؤ) لا صخب فيه ولا نصب (الصخب: الضجة واضطراب الأصوات للخصوم، ولا نصب: أي لا تعب) وإنّى لأعرف فصلها رحمها الله» «4» .
(1) السيرة الحلبية ج 1 ص 391 طبع التجارية. وفي سيرة ابن هشام: قال ابن إسحاق: فحدثنى هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير قال: لما نثر ذلك السفية على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهى تبكى ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها: لا تبكى يا بنية؛ فإن الله مانع أباك، قال: ويقول بين ذلك: ما نالت منى قريش شيئا أكرهه حتّى مات أبو طالب» .
(2)
ويقال: أول من تزوجها عتيق ثم أبو هالة. انظر ترجمتها في الإصابة لابن حجر.
(3)
ولهذا قال العلماء- توفيقا بين هذا الحديث وحديث تفضيل السيدة فاطمة رضى الله عنها: «إن فاطمة أفضل من أمها من ناحية أنها بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسيدة خديجة أفضل من جهة الأمومة
…
والله تعالى أعلم.
(4)
وقال صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أبشر خديجة ببيت في الجنة لا صخب فيه ولا نصب» . (رواه الإمام أحمد وابن حبان والحاكم عن عبد الله بن جعفر. والحديث متفق عليه عن عبد الله بن أبى أوفى وعن عائشة رضى الله عنها) . وورد فيها أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: «خديجة خير نساء عالمها، وفاطمة خير نساء عالمها» . رواه الحارث عن عروة: مرسلا.
* قال بعض الصوفية: إن أربعة من النساء أحببن أربعا من الأنبياء عليهم السلام فوجدن بذلك المغفرة:
أولاهنّ خديجة بنت خويلد: أحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدت بذلك المغفرة والقربة والإسلام والنجاة من عبادة الأصنام، وكانت أوّل امرأة أسلمت من نساء عصرها، وبشّرها جبريل بقصرها.
والثانية: اسية بنت مزاحم: أحبت موسى الكليم، فأوردها حبّه جنة النعيم، وبنى الله لها بيتا في الجنة وأعظم لها المنّة.
والثالثة بلقيس: أحبت سليمان بن داود عليهما السلام، فكان حبها إياه سببا لدخولها في الإسلام، وكانت تعبد الشمس من دون الخالق، حتى بانت لها الحقائق، ووصل إليها كتاب كريم إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) [النمل: 30، 31] ولما صحّ عندها ما يدعو إليه سليمان من الإيمان خالفت رأي قومها الظالمين، وقالت بِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
[النمل: 44] .
والرابعة: زليخا، أحبت يوسف الصدّيق فبانت لها أبواب التحقيق، وال أمرها أن دعاها إلى الإسلام فأسلمت بين يديه، ودخلت في حظيرة أنسه، فكان دخولها فى الملة سببا للدنوّ والوصلة.
* وكان صلى الله عليه وسلم محترما في قومه، معظما في عشيرته، رئيس قبيلته، وأرادوا تجديد بناء الكعبة؛ لكونها كانت قصيرة البناء، فأرادوا رفعها وسقفها، فهدمتها قريش ثم بنوها، فلمّا وصلوا في البناء إلى الموضع الذى يوضع فيه الحجر الأسود اختلفوا في وضعه، وقالت كل قبيلة: نحن أحق بوضعه، حتى هموا بالقتال، ومكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا انقطع الخلاف بينهم برضا قريش بحكمه، وكان قد بلغ خمسا وثلاثين سنة، وذلك أنهم اجتمعوا وتشاوروا، فقال أبو أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو ابن مخزوم، وكان يومئذ أسنّ قريش: يا معشر قريش اجعلوا بينكم حكما فيما تختلفون فيه أوّل من يدخل من باب الحرم ليقضى بينكم. ففعلوا، فكان أوّل داخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، هذا محمد، رضيناه، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر، قال صلى الله عليه وسلم:«هلمّوا إليّ ثوبا» فأتى به، فأخذ الحجر فوضعه فيه بيده، ثم قال: «لتأخذ
كل قبيلة بطرف من الثوب، ثم ارفعوه جميعا» ، ففعلوا ذلك، فلما بلغوا به موضعه وضعه النبى صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة، ثم بنى عليه حتّى أتموا بناء الكعبة، فأرضى الكلّ صلوات الله عليه. وكانت قريش تسمّى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه الوحى «الأمين» ، وفي الجامع الصغير عن الطبراني عن أبى رافع أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:«أما والله إنّى لأمين في السماء وأمين في الأرض» .
وكان بناء الكعبة قبل الهجرة بثمانى عشرة سنة، وفي قضية التحكيم قال هبيرة بن وهب المخزومي:
تشاجرت الأحياء في فصل خطّة
…
جرت بينهم بالنّحس من بعد أسعد
تلاقوا بها بالبعض بعد مودة
…
وأوقد نارا بينهم شرّ موقد
فلما رأينا الأمر قد جدّ جدّه
…
ولم يبق شيء غير سلّ المهنّد
رضينا وقلنا العدل أوّل طالع
…
يجئ من البطحاء من غير موعد
ففاجأنا هذا الأمين محمد
…
فقلنا رضينا بالأمين محمّد
بخير قريش كلّها أمس شيمة
…
وفي اليوم مع ما يحدث الله في غد
فجاء بأمر لم ير الناس مثله
…
أعمّ وأرضي في العواقب والبد
أخذنا بأطراف الرداء وكلّنا
…
له حصّة من رفعها قبضة اليد
فقال ارفعوا حتّى إذا ما علت به
…
أكفّهم وافى به غير مسند
وكلّ رضينا فعله وصنيعه
…
فأعظم به من رأى هاد ومهتدى
وتلك يد منه علينا عظيمة
…
يروح بها هذا الزمان ويغتدى
وكانت كسوة الكعبة في زمن الجاهلية المسوح والأنطاع؛ فإنّ أوّل من كساها الأنطاع تبّع الحميري؛ ثم كساها الثياب الحبرة، وفي رواية: كساها الوصائل، وهى برود حمر فيها خطوط خضر تعمل باليمن، وكانت قريش تشترك في كسوة الكعبة، حتى نشأ أبو ربيعة بن المغيرة، فقال لقريش: أنا أكسو الكعبة سنة واحدي، وجميع قرش سنة، واستمر يفعل ذلك إلى أن مات، فسمّته قريش
العدل «1» لأنه عدل قريشا واحده في كسوة الكعبة، ويقال لبنيه بنو العدل. وكانت كسوتها لا تنزع، فكان كلما تجدّد كسوة تجعل فوق، فاستمر ذلك إلى زمنه صلى الله عليه وسلم، ثم كساها النبى صلى الله عليه وسلم الثياب اليمانية، وكساها أبو بكر وعمر وعثمان وعلى رضى الله عنهم القباطي «2» ، وكساها معاوية رضى الله عنه الديباج يوم عاشوراء، والقباطي في اخر رمضان، وكساها المأمون الديباج الأحمر والديباج الأبيض والقباطى أيضا، فكانت تكسى الديباج الأحمر يوم التروية، والقباطى يوم هلال رجب، والديباج الأبيض يوم سبع وعشرين من رمضان.
قال بعضهم: وهكذا كانت تكسى في زمن المتوكّل العباسي، ثم في زمن الناصر العباسي، كسيت السواد من الحرير، واستمر ذلك إلى الان في كل سنة، وكانت كسوتها من غلة قريتين «3» يقال لهما «بسوس» و «سندبيس» «4» من قرى القاهرة بإرصاد الملك الصالح بن الناصر محمد بن قلاوون في سنة سبعمائة وإحدى وخمسين، إلى أن صارت الكسوة من القاهرة المعزية، على طرف الخزينة المصرية الخديوية. وقد سئل الإمام البلقيني: هل يجوز كسوة الكعبة بالحرير المنسوج بالذهب؟ ويجوز دورانها في المحمل الشريف؟ فأجاب بجواز ذلك، قال: لما فيه من التعظيم لكسوتها الفاخرة، التى يرجى لمن يكسوها الخلع السنية في الدنيا والآخرة، ويجوز إظهارها في دوران المحمل الشريف؛ فإن في ذلك من التفخيم المناسب للحمل المنيف ما يليق بالحال. هذا كلامه.
وأوّل من حلّى بابها بالذهب جدّه صلى الله عليه وسلم: عبد المطلب؛ فإنه لما حفر بئر زمزم وجد فيها الأسياف والغزالين من الذهب، فضرب الأسياف بابا، وجعل في ذلك الباب الغزالين، فكان أوّل ذهب حلّيت به الكعبة، وقد سبق ذلك في حفر زمزم فى الفصل الأوّل من الباب الأوّل.
وأوّل من ذهّب الكعبة في الإسلام عبد الملك بن مروان، وقيل عبد الله بن
(1) العدل: النظير، ومنه قوله تعالى: أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً.
(2)
القباطي: ثياب كانت تصنع في مصر.
(3)
وقف كسوة الحرمين الشريفين.
(4)
وهى وقف على خدام الحجرة الشريفة. وهذه القرية وما قبلها من أعمال محافظة القليوبية. اهـ. من «التحفة السنية بأسماء البلاد المصرية» .
الزبير رضى الله عنهما، جعل على أساطينها صفائح الذهب، وجعل مفاتيحها من الذهب، وجعل الوليد بن عبد الملك الذهب علي الميزاب، يقال إنه أرسل لعامله على مكة ستة وثلاثين ألف دينار، يضرب منها على باب الكعبة وعلى الميزاب، وعلى الأساطين التى داخلها، وعلى أركانها من داخل.
وذكر أن الأمين بن هارون بن الرشيد أرسل إلى عامله بمكة ثمانية عشر ألف دينار، ليضربها صفائح الذهب على باب الكعبة، فقلع منها ما كان على الباب من الصفائح، وزاد عليها ذلك، وجعل مساميرها وحلقتى الباب والعتبة من الذهب، وأن أم المقتدر (الخليفة العباسي) أمرت غلامها لؤلؤا أن يلبس جميع أسطوانات البيت ذهبا، ففعل، وقد سبق التنويه إلى ذلك في الفصل الثانى من الباب الثالث من المقالة الرابعة من كتابنا «أنوار توفيق الجليل» «1» .
ولما بلغ صلى الله عليه وسلم الأربعين وأرسل بخصوصه إلى الإنس والجن أجمعين أتاه جبريل من الله بالوحي، وهو بغار حراء (الجبل المشهور بأعلى مكة على ثلاثة أميال منها) الذى كان يخلو فيه للمجاورة والعبادة، وخاطبه بالرسالة الاتية بالشريعة المطهرة والحنيفية السمحة إلى كافة الخلق، فكان ذلك سببا لإسعادهم، وموجبا لصلاح معاشهم ومعادهم، وكان ذلك على فترة من الرسل؛ ليس للناس شرائع ولا أحكام، ولا علم بالتوحيد، ولا أمر شرعى يحفظ دماءهم وأموالهم، فجاءت شريعته جامعة للأحكام والحكم التى لا تحصي، والنعم التى لا تستقصي، فيا له من بعث محا الضلالة والوعث «2» .
(1) هو كتاب في تاريخ مصر القديمة طبع عام 1285 هـ.
(2)
الوعث: كل أمر شاق من تعب وغيره.