الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
علي بن أبى طالب مستخفيا من عمه أبى طالب، ومن جميع أعمامه وسائر قومه، فيصلّيان الصلوات، فإذا أمسيا رجعا، فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا، ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوما وهما يصليان، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي ما هذا الدين الذى أراك تدين به؟ قال «أي عمّ هذا دين الله ودين ملائكته ودين رسله ودين أبينا إبراهيم، بعثنى الله رسولا إلى العباد، وأنت أي عمّ أحقّ من بذلت له النصيحة ودعوته إلى الهدي، وأحقّ من أجابنى إليه وأعاننى عليه» ، فقال أبو طالب:«أى ابن أخي، إنى لا أستطيع أن أفارق دين ابائى وما كانوا عليه، ولكن والله لا يخلص إليك بشيء تكرهه ما بقيت» .
كفالته عليّا:
وكان مما أنعم الله به على عليّ بن أبى طالب رضى الله عنه وأراده من الخير أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس، وكان من أيسر بنى هاشم: يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا إليه فلنخفّف من عياله؛ اخذ من بنيه رجلا وتأخذ رجلا فنكفيهما عنه» ، قال العباس:
نعم. فانطلقا حتّى أتيا أبا طالب فقالا له: إنّا نريد أن نخفّف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال لهما أبو طالب: إذا تركتما لى عقيلا فاصنعا ما شئتما، ويقال:«عقيلا وطالبا» ، وكان لأبى طالب: عليّ، وجعفر، وعقيل، وطالب، وكان عليّ أصغر من جعفر بعشر سنين، وجعفر أصغر من عقيل بعشر سنين، وعقيل أصغر من طالب بعشر سنين. أسلم منهم عليّ وجعفر وعقيل، ومات طالب على دين قومه. فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّا فضمه إليه، وأخذ العباس جعفرا فضمه إليه، فلم يزل عليّ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى بعثه الله نبيا فاتّبعه وامن به وصدّقه، ولم يزل جعفر عند العباس حتّى أسلم واستغنى عنه.
* واختلف العلماء في مقامه بمكة بعد أن أوحى إليه؛ فقيل عشر سنين، وقيل ثلاث عشرة سنة وهو الصحيح، ولعل الذى قال عشر سنين أراد بعد إظهار الدعوة؛ فإنه بقى ثلاث سنين يسرّها، ثم نزل عليه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك الأمر بالإعلان، وذلك في قوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فأعلن صلى الله عليه وسلم بالدعوة، وجاهره قومه بالعداوة واشتد الأذى عليه وعلى المسلمين حتّى أذن
لهم في الهجرة إلى الحبشة كما سيأتي.
ولما نزل قوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] دعا عليّا فقال: اصنع لنا صاعا من طعام، واجعل لنا عليه رجل شاة، واملأ لنا عسّا (أي قدحا عظيما) من لبن، واجمع لى بنى المطلب حتّى أكلّمهم وأبلغهم ما أمرت به» ففعل، ودعاهم، وهم أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصون، فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس، وأحضر عليّ الطعام فأكلوا حتّى شبعوا، قال عليّ:
لقد كان الرجل الواحد منهم ليأكل جميع ما شبعوا كلهم منه «1» ، فلما فرغوا من الأكل وأراد النبى صلى الله عليه وسلم أن يتكلم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال:«سحركم محمد صاحبكم» ، فتفرّق القوم ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال: يا عليّ قد رأيت كيف سبقنى هذا الرجل إلى الكلام فاصنع لنا في غد كما صنعت اليوم واجمعهم ثانيا. فصنع عليّ في الغد كذلك، فلما أكلوا وشربوا اللبن، قال لهم صلى الله عليه وسلم:«ما أعلم إنسانا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرنى الله أن أدعوكم عليه، فأيكم يؤازرنى على هذا الأمر ويكون أخى ووصيّى وخليفتى فيكم؟ فأحجم القوم عنها جميعا، قال علي: فقلت وإنى أحدثهم سنا، وأرمضهم عينا وأعظمهم بطنا وأحمشهم «2» ساقا: أنا يا نبى الله أكون وزيرك عليهم، قال: فأخذ برقبتى ثم قال: «إن هذا أخي ووصيّى وخليفتى فيكم فاسمعوا وأطيعوا» ، فقام القوم يضحكون ويقولون لأبى طالب: قد أمرك أن تسمع لعلّى وتطيع.
واستمرّ صلى الله عليه وسلم على ما أمره الله تعالى لم يبعد عنه قومه، ولم يردّوا عليه، حتى سبّ الهتهم وعابها، ونسب قومه واباءهم إلى الكفر والضلال، فأجمعوا على عداوته إلا من عصمه الله بالإسلام. وذبّ عنه عمّه أبو طالب، فجاء أبا طالب رجال من أشراف قريش فقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد عاب ديننا وسفّه أحلامنا «3» وضلّل «4» اباءنا؛ فانهه عنا أو خلّ بيننا وبينه. فردّهم أبو طالب ردّا حثيثا. واستمر صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه، فعظم عليهم، وأتوا أبا طالب ثانيا، وقالوا:
(1) هذا من بركته صلى الله عليه وسلم بكفاية الطعام القليل العدد الكسر.
(2)
أنحفهم وأدقهم.
(3)
عقولنا.
(4)
وصفهم بالضلال.
إن لم تنهه وإلا نازلناك وإياه حتّى يهلك أحد الفريقين. فعظم عليه، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي إن قومك قالوا لى كذا وكذا. فظنّ صلى الله عليه وسلم أنّ عمّه خاذله، فقال:
«يا عمّ لو وضعوا الشمس في يمينى والقمر في شمالى ما تركت هذا الأمر» ، ثم استعبر «1» فبكي، وقام صلى الله عليه وسلم، فناداه أبو طالب: أقبل يا ابن أخي وقل ما أحببت، فو الله لا أسلمك لشيء أبدا.
فأخذت كل قبيلة تعذّب كلّ من أسلم منها؛ فمن لا عشيرة له تمنعه يعذبونه بأنواع التعذيب، ويقال له:«لا تزال هكذا حتّى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزّي» ومن المسلمين من مات من تعذيب المشركين، وكان بعض المشركين يؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم: إنّ ما جاء به من الايات سحر يؤثر، ومن قول البشر، وأساطير الأولين.
ومنع الله رسوله بعمّه أبى طالب، ومع ذلك فلا زال أذاهم شديدا عليه صلى الله عليه وسلم حتى أسلم عمّه حمزة، فقلّ أذاهم، وكان إسلامه سنة خمس من النبوة، قبل إسلام عمر بن الخطاب بثلاثة أيام. وفي «المواهب اللدنية» «2» قال حمزة حين أسلم:
خمدت الله حين هدى فؤادي
…
إلي الإسلام والدين الحنيف
لدين جاء من ربّ عزيز
…
خبير بالعباد بهم لطيف
إذا تليت رسائله علينا
…
تحدّر دمع ذى اللّب الحصيف
رسائل جاء أحمد من هداها
…
بايات مبيّنة الحروف
وأحمد مصطفى فينا مطاع
…
فلا تغشوه بالقول العنيف
فلا والله نسلمه لقوم
…
ولمّا نقض فيهم بالسيوف
وفي هذه السنة أعز الله الإسلام أيضا بإسلام عمر بن الخطاب رضى الله عنه كما سيأتى.
(1) هو استفعل من القبرة، وهى تحلّب الدمع.
(2)
للقسطلاني.
وسبب إسلام حمزة أن النبى صلى الله عليه وسلم كان عند الصفا، فمرّ به أبو جهل بن هشام، فشتم النبيّ صلى الله عليه وسلم فلم يكلمه، وكان حمزة في القنص*، وكان على دين قومه، فلما حضر أنبأته مولاة لعبد الله بن جدعان بشتم أبى جهل لابن أخيه صلى الله عليه وسلم، فغضب حمزة وقصد البيت ليطوف به وهو متوشح قوسه، فوجد أبا جهل بن هشام قاعدا مع جماعة، فضربه حمزة بالقوس فشجه، ثم قال:«أتشتم محمدا؟! أنا على دينه» . فكان إسلامه ببركته صلى الله عليه وسلم، فقامت رجال من بنى مخزوم لينصروا أبا جهل، فقال أبو جهل: دعوه فإني سببت ابن أخيه سبّا قبيحا. ودام حمزة على إسلامه، وعلمت قريش أن النبى صلى الله عليه وسلم قد عزّ وامتنع بإسلام حمزة، فكفّوا عن بعض ما كانوا يتناولون منه، وبقيت عداوتهم له، وكانوا يسمونه صابئا؛ لكونه خرج عن دين قومه؛ لأن الصابيء عند العرب من مال عن دين قومه إلى غيره.
حكى ابن الجوزى في بعض مجالس وعظه فقال: «ما خلق الله رئيسا في الخير إلا وله مقابل من أهل الشر: خلق الله ادم وإبليس، والخليل والنمروذ «1» ، وموسى وفرعون، ومحمدا صلى الله عليه وسلم وأبا جهل، وهكذا أبدا» .
وكانت كنية أبى جهل أبا الحكم، فكناه النبى صلى الله عليه وسلم أبا جهل، وهو عمرو بن هشام، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«إن لكل أمة فرعونا، وإن فرعون هذه الأمة أبو جهل» «2» .
ويحكى بمناسبة ذلك أن السلطان محمود الأوّل «3» الغازى ذهب إلى قطب الأقطاب أبى الحسن الخرقاني «4» ليزوره، فقال: حدّثنا حديثا عن أبى يزيد (5) لنسمعه منك، فقال الشيخ: كان أبو يزيد رجلا من أبصره نجا، ومن نظر إليه اهتدي، فقال السلطان محمود: أهو أعظم من حضرة محمد صلى الله عليه وسلم؟! فقد كان أبو
(1) الخليل: هو إبراهيم عليه السلام، والنمروذ: هو الفرعون الذى حاج إبراهيم في ربه.
* رحلة صيد.
(2)
وعن قتادة قال: إن لكل أمة فرعونا، وفرعون هذه الأمة أبو جهل قتله الله شر قتله» . السيرة الحلبية ص 184 ج 2.
(3)
أحد سلاطين العثمانيين، ولد 1108 هـ، 1696 م وتوفى 1168 هـ، 1754 م حكم 25 سنة واتصف بالعدل وكثرة الفتوحات، وكان محبا للعلم.
(4)
كلاهما من أولياء الله الصالحين.