المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأول في ذكر وفاته صلى الله عليه وسلم وما يتعلق بذلك - نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز - جـ ١

[رفاعة الطهطاوى]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الناشر

- ‌[عملنا في هذا الكتاب]

- ‌مؤلفاته ومترجماته

- ‌الباب الأوّل فى مولده الشريف إلى بعثته صلى الله عليه وسلم

- ‌آباؤه:

- ‌طهارة نسبه صلى الله عليه وسلم:

- ‌ومن كلام عمه أبى طالب:

- ‌[مولده] :

- ‌[أسماؤه صلى الله عليه وسلم] :

- ‌[طهارة مولده وشرفه] :

- ‌[زواج أبيه بأمه] :

- ‌[تعبده صلى الله عليه وسلم قبل البعثة] :

- ‌[رضاعه] :

- ‌الفصل الثانى فى ذكر عمل مولده الشريف، وإشهاره كلّ سنة وفيما جرى في مولده وفيما بعده من الوقائع

- ‌[الاحتفال بالمولد] :

- ‌والبدعة من حيث هى منقسمة إلى خمسة أقسام:

- ‌واجب:

- ‌وحرام:

- ‌ومندوب إليه:

- ‌ومكروه:

- ‌ومباح:

- ‌الفصل الثالث فى زواجه بخديجة بنت خويلد رضى الله تعالى عنها وما رزقه الله من الذرية منها

- ‌[أولاده من خديجة] :

- ‌الباب الثانى فى مبعثه صلى الله عليه وسلم، ودعائه الناس إلى الدين الحق. وهجرة المسلمين* إلى الحبشة، وخروجه إلى الطائف

- ‌الفصل الأوّل فى رسالته صلى الله عليه وسلم على رأس الأربعين إلى كافة الناس بشيرا ونذيرا

- ‌كفالته عليّا:

- ‌[اشتداد الأذى عليه صلى الله عليه وسلم] :

- ‌الفصل الثانى فى الهجرتين إلى الحبشة

- ‌[مسألة الغرانيق وما سمّوه الايات الشيطانية] :

- ‌ وأما الهجرة الثانية:

- ‌الفصل الثالث فى خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف قبل هجرته إلى المدينة المشرّفة

- ‌الفصل الرابع في الإسراء به صلى الله عليه وسلم ليلا من المسجد الحرام وعروجه من المسجد الأقصي إلى السموات العلى

- ‌[مسألة رؤية الله] :

- ‌الباب الثالث فى هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وما ترتب على ذلك من المظاهر الإسلامية والظواهر التعليمية. وفيه فصول

- ‌الفصل الأوّل فى الأسباب الباعثة علي هذه الهجرة والتمهيد لها

- ‌الهجرة إلى المدينة:

- ‌[التامر على الرسول صلى الله عليه وسلم في دار الندوة] :

- ‌الفصل الثانى فى سيره مهاجرا إلى المدينة مع صاحبه: صدّيقه رضى الله تعالى عنه وهو ابتداء التاريخ الإسلامى

- ‌مبدأ التأريخ الإسلامى:

- ‌[مسألة: الرسول صلى الله عليه وسلم والشّعر]

- ‌هجرة بقايا المسلمين من مكة:

- ‌[فرق اليهود] :

- ‌الأولى: التوراة، وهى خمسة أسفار

- ‌المرتبة الثانية: أربعة أسفار: تدعى الأولي:

- ‌المرتبة الثالثة: أربعة أسفار تدعى: الأخيرة:

- ‌المرتبة الرابعة: تدعى: الكتب، وهى أحد عشر سفرا:

- ‌الفصل الثالث في ذكر الظواهر الحادثة بعد الهجرة إجمالا

- ‌الباب الرابع فى تفاصيل الظواهر التى حدثت بعد هجرته عليه الصلاة والسلام إلى وفاته صلى الله عليه وسلم، وفيه فصول

- ‌الفصل الأوّل فى ظواهر السنة الأولى من الهجرة وما فيها من الغزوات

- ‌[المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار]

- ‌الفصل الثانى في ظواهر السنة الثانية من الهجرة، وما فيها من الغزوات

- ‌[إسلام عمير بن وهب] :

- ‌الفصل الثالث في ظواهر السنة الثالثة من الهجرة وما فيها من الغزوات

- ‌الفصل الرابع في ظواهر السنة الرابعة من الهجرة وما فيها من الغزوات

- ‌غزوة بنى النضير:

- ‌الفصل الخامس فى ظواهر السنة الخامسة وما فيها من الغزوات

- ‌الفصل السادس في ظواهر السنة السادسة وما فيها من الغزوات

- ‌الفصل السابع في ظواهر السنة السابعة ما فيها من الغزوات

- ‌الفصل الثامن في ظواهر السنة الثامنة وما فيها من الغزوات

- ‌ وأما النساء الست اللاتى أهدر النبى صلى الله عليه وسلم دماءهن يوم الفتح

- ‌الفصل التاسع في ظواهر السنة التاسعة وما فيها من الغزوات

- ‌الفصل العاشر فيما وقع من وفود العرب عليه صلى الله عليه وسلم، وفي حجة الوداع

- ‌الباب الخامس في وفاته صلى الله عليه وسلم وذكر بعض أخلاقه وصفاته، ومعجزاته، وأزواجه. وأعمامه، وعماته، وأخواله، ومواليه وخدمه، وحشمه صلى الله عليه وسلم، وفيه فصول

- ‌الفصل الأوّل في ذكر وفاته صلى الله عليه وسلم وما يتعلق بذلك

- ‌الفصل الثانى فى ذكر بعض أخلاقه وصفاته صلى الله عليه وسلم

- ‌وخصائصه صلى الله عليه وسلم على أضرب:

- ‌الأوّل الواجبات:

- ‌الثانى

- ‌الثالث المباحات:

- ‌الرابع ما

- ‌الفصل الثالث في ذكر معجزاته

- ‌[كيفية نزول القران] :

- ‌الفصل الرابع فى ذكر أزواجه صلى الله عليه وسلم وقرابته ومواليه

- ‌جدول يضبط ما تفرّق من الغزوات التي سبق ذكرها تفصيلا

الفصل: ‌الفصل الأول في ذكر وفاته صلى الله عليه وسلم وما يتعلق بذلك

‌الباب الخامس في وفاته صلى الله عليه وسلم وذكر بعض أخلاقه وصفاته، ومعجزاته، وأزواجه. وأعمامه، وعماته، وأخواله، ومواليه وخدمه، وحشمه صلى الله عليه وسلم، وفيه فصول

‌الفصل الأوّل في ذكر وفاته صلى الله عليه وسلم وما يتعلق بذلك

لما أكمل الله له ولأمته الدّين، وأتمّ عليهم نعمته أجمعين، نقله إلى دار كرامته شهيدا من أكله الذراع المسموم المهدى له بخيبر، فجمع بين الرسالة والشهادة، والنبوة والسعادة، فابتدأ به المرض في العشر الأخير من صفر، عام أحد عشر من الهجرة الشريفة، وكان قد قدم صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع. سنة عشر من الهجرة، وأقام بالمدينة إلي أن شكا صلى الله عليه وسلم الوجع، ومرض مرضه، ولما اشتد به صلى الله عليه وسلم مرضه، قال لعائشة رضي الله عنها:«يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذى أكلته بخيبر، فهذا أوانه، وإنى وجدت انقطاع أبهرى من ذلك السم» «1» .

وكان ابتداء ذلك المرض في بيت ميمونة بنت الحارث، وكان يدور على نسائه حتي اشتد مرضه، فجمع نساءه، واستأذنهن أن يمرّض في بيت إحداهن، فأذنّ له أن يمرّض في بيت عائشة رضي الله عنها، فانتقل إليها في غير ليالى القسم؛ لأنه كان يدور عليهن في بعض الأحيان في يوم واحد وليلة، ويختم بعائشة.

ولما حضر صلى الله عليه وسلم إلي بيت عائشة أمر مناديا فنادى في المدينة: أن اجتمعوا لوصية النبى صلى الله عليه وسلم، فاجتمع كلّ من في المدينة من ذكر وأنثي، وكبير وصغير، تركوا أبوابهم ودكاكينهم مفتّحة، وخرج صلى الله عليه وسلم وهو متوعك بين الفضل بن العباس، وعلي بن أبى طالب رضى الله عنهما، حتى جلس على المنبر، فحمد الله، ثم

(1) رواه ابن السنى، وأبو نعيم في الطب، وغيرهما.

ص: 403

قال: «يا أيها الناس من كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهرى فليستقد (أى يقتصّ) منّي، ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضى فليستقد منّي، ومن أخذت له مالا فهذا مالي فليأخذ منه، ولا يخشي الشحناء من قبلي، فإنها ليست من شأني» .

ثم نزل وصلّى الظهر، ثم رجع إلي المنبر فعاد إلي مقالته، فادّعى عليه رجل بثلاثة دراهم، فأعطاه عوضها، ثم قال:«ألا إنّ فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة» ثم صلّى علي أصحاب أحد، واستغفر لهم، ثم قال:«إنّ عبدا خيّره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده» فبكى أبو بكر، وقال: فديناك بأنفسنا.

ثم أوصى صلى الله عليه وسلم بالأنصار.

ولما اشتد وجعه قال: «ائتونى بدواة وبيضاء «1» أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا» . فقال بعضهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلبه الوجع، وعندكم القران، حسبنا كتاب الله. ثم اختلفوا واختصموا، فمنهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا، ومنهم من يقول غير ذلك، فلما كثر اللغو والتنازع قال:«لا ينبغى عند نبيّ تنازع» فذهبوا يعيدون عليه، فقال:«دعوني؛ فما أنا فيه خير مما تدعوننى إليه» .

وكان في أيام مرضه يصلى بالناس، وإنما انقطع ثلاثة أيام، فلما أذّن بالصلاة أوّل ما انقطع، قال:«مروا أبا بكر فليصلّ بالناس» ، فقالت عائشة رضى الله عنها:«إنّ أبا بكر رجل أسيف «2» (أى رقيق القلب) ، وإنه متى يقوم مقامك لا يسمع الناس من البكاء، فلو أمرت عمر» فقال:«مروا أبا بكر أن يصلّى بالناس» ، فقالت عائشة لحفصة:«قولى إن أبا بكر رجل أسيف، وإنه متى يقوم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر» فقال: «إنكن صواحب يوسف» (أى مثل صاحبة يوسف عليه الصلاة والسلام وهى زليخا) أظهرت خلاف ما تبطن، أظهرت للنساء التى جمعتهن أنها تريد إكرامهن بالضيافة، وإنما قصدها أن ينظرن لحسن يوسف عليه الصلاة والسلام ويعذرنها في حبه، والنبى صلى الله عليه وسلم فهم

(1) يقصد: شيئا يكتب فيه العهد الذى سيعهد فيه للمسلمين.

(2)

كان رضى الله عنه يشمّ من فيه رائحة الشواء من احتراق كبده من خوف الله عز وجل.

ص: 404

من عائشة رضي الله عنها أنها تظهر كراهة ذلك، مع محبتها له باطنا، هكذا يقتضيه ظاهر اللفظ، والمنقول عن عائشة رضي الله عنها أنها إنما قصدت بذلك خوف أن يتشاءم الناس أبا بكر فيكرهونه، حيث قام مقامه صلى الله عليه وسلم، فقد جاء عنها رضي الله عنها أنها قالت:«ما حملنى علي كثرة مراجعتى له صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم يقع في قلبى أن يحب الناس بعده رجلا قام مقامه أبدا، ولا كنت أرى أنه يقوم أحد مقامه إلا تشاءم الناس منه» «1» ، فصلي بهم ثلاثة أيام في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض الأيام خفّة، فقام يتهادى بين رجلين، ورجلاه يخطّان في الأرض؛ حتى دخل المسجد، فلما سمع أبو بكر رضي الله تعالى عنه صوته ذهب يتأخّر، فأومأ إليه صلى الله عليه وسلم ألايتأخر، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى جلس عن يسار أبي بكر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدا وأبو بكر يصلى قائما، اقتداء بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس يقتدون بصلاة أبى بكر رضي الله عنه، فلما فرغ النبيّ صلى الله عليه وسلم وجلسوا قال صلى الله عليه وسلم:«معاشر المسلمين؛ ما من نبيّ يموت حتي يصلّى خلف رجل صالح من أمته» وأن النبي صلّى به رجلان من أمته: عبد الرحمن بن عوف في السفر، وأبو بكر الصدّيق في الحضر.

وأما ما رواه البخارى بإسناده إلي عروة عن أبيه عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يصلّى بالناس في مرضه، فكان يصلّي بهم، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه خفّة فخرج إلي المحراب، وكان أبو بكر يصلى بصلاة رسول الله، والناس يصلّون بصلاة أبى بكر، أى بتكبيره، فهو إنما كان في وقت اخر. وفي المواقف أيضا: أن النبى صلى الله عليه وسلم استخلف أبا بكر في الصلاة حال مرضه، واقتدي به وما عزله، ولذلك قال عليّ:«قدّمك رسول الله في أمر ديننا، أفلا نقدمك في أمر دنيانا؟!» «2» .

قال أنس بن مالك رضي الله عنه: لما مرض النبى صلى الله عليه وسلم مرضه الذى مات فيه، اجتمعنا جماعة من الصحابة، ودخلنا عليه صلى الله عليه وسلم وجلسنا بين يديه وهو نائم علي فراشه، فجلس أبو بكر عند رأسه، ونظر في وجهه وبكي، ففتح النبى صلى الله عليه وسلم

(1) هذا هو الصحيح، والذى قاله الشيخ أولا معاذ الله أن يكون منها رضى الله عنها؛ وهى الصدّيقة بنت الصديق.

(2)

رد قاطع على الذين يفرّقون بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 405

عينيه وقال: ما الذى يبكيك يا أبا بكر؟ فقال: حبيبي، افتكرت في شيء أنا خائف منه، قال: ما هو؟ قال: فى قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ «1» ، وهذا دين يبقى بعدك ونخاف أن تحتج علينا الأعداء من بعدك، ويقولون إن الله أمر نبيكم بجهاد الكفار والمنافقين، فجاهد الكفار ولم يجاهد المنافقين، ونخاف أن يكون ذلك نقص في الدين، فمن يقضى دينك ويجاهد الكفار والمنافقين، من بعدك، فلزم النبيّ صلى الله عليه وسلم يد أبى بكر، وقال: أنت قاضى دينى والقاتل من يرتد عن ديني، أما سمعت قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ؟» [المائدة: 54] .

قالت عائشة رضى الله عنها: إنه صلى الله عليه وسلم كان يقول قبيل وفاته: «لا إله إلا الله؛ إنّ للموت سكرات» وإنه أشخص بصره إلى سقف البيت ثم قال: «اللهمّ الرفيق الأعلى (أى نهاية مقام الروح وهو الحضرة الواحدية) ؛ فالمسئول إلحاقه بالمحل الذى ليس بينه وبينه أحد في الاختصاص.

وفي حديث مرسل أنه قال: «اللهمّ إنك تأخذ الروح من بين العصب والقصب والأنامل، اللهم فأعنّى على الموت وهوّنه عليّ» «2» [والقصب عروق الرئة، والرئة: مهموزة مخفّفة]، وأما حديث:«اللهم الرفيق الأعلي» فكان اخر كلمة تكلم بها، ولما رأت فاطمة ذلك قالت:«واكرباه» فقال: «لا كرب على أبيك بعد اليوم» «3» ، وكلما أفاق أوصى بالمحافظة على الصلاة «4» ، وفي تلك الشدائد زيادة رفع درجات للأصفياء، وكفّارة سيئات لأهل الابتلاء.

وقد توفى صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين، وكذا الصحيح في سن أبى بكر وعمر وعائشة ثلاث وستون سنة، وهذا أحسن مدة العمر بعد النصر والفتح المبين.

واختلف في مدّة مرضه: فقيل اثنا عشر يوما، وقيل ثلاثة عشر يوما، وقيل أربعة عشر يوما.

(1) التوبة: 73.

(2)

عزيز على الروح الطاهرة أن تفارق الجسد الطاهر.

(3)

ومما قالوه: إن الدنيا بالنسبة له هى الكرب، أما وقد خرج من الدنيا فلا كرب عليه.

(4)

كان يكرر: «الصلاة وما ملكت أيمانكم» رواه أحمد، والنسائي، وابن ماجه، والطبراني.

ص: 406

ولم يوص صلى الله عليه وسلم بما يورث؛ إذ لم يترك دينارا، ولا درهما، ولا عبدا، ولا أمة، ولا شاة، ولا بعيرا، بل توفى ولم يجد ما يفكّ به درع حربه الزردية، وهى ذات الفضول (بالضاد المعجمة لطولها) أرسل بها إليه سعد بن عبادة حين سار إلى بدر، وكانت من حديد، وهى التى رهنها عند أبى الشحم اليهودى على ثلاثين صاعا من شعير، وكان الدّين إلى سنة. إنما أوصى بكتاب الله المبين، وبالصلاة والزكاة والأرّقاء ملك اليمين، حتى إنّ صدره ليغرغر بذلك، وما يكاد لسانه يبين. وفعله «1» صلى الله عليه وسلم من باب التشريع، وإلا فالنبى صلى الله عليه وسلم أغنى العالمين على الإطلاق، وكذا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لم يبعثوا إلا ليشرّعوا، فكان دينه صلى الله عليه وسلم تشريعا لأمته، ويجوز الدّين برهن وغير رهن، وقد ورد في الحديث:«تداينوا ترزقوا» «2» ومعناه إذا كان خفيفا، وورد في حديث اخر:«يد الله فوق يد المدين ما دام ينوى السداد» «3» .

وكان أبو بكر الصديق رضى الله عنه يحب الدين الخفيف؛ حتى يدخل في الحديث.

* وبعد وفاته دهش الناس وطاشت عقولهم، واختلفت أحوالهم في ذلك؛ فقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: من قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات علوت رأسه بسيفى هذا، وإنما ارتفع إلى السماء. فقرأ أبو بكر رضى الله عنه: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ إلى قوله وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [ال عمران:

144، 145] فرجع القوم إلى قوله وبادروا إلى سقيفة بنى ساعدة، وهي دار سعد بن عبادة، وكان سعد بن عبادة مريضا، وقالوا: نوليه هذا الأمر، فبايع عمر أبا بكر، ثم بايعه الناس خلا جماعة.

وغسل صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات؛ الأولى بالماء القراح، والثانية بالماء والسدر، والثالثة

(1) أى الدين.

(2)

وروى الإمام أحمد أن أم المؤمنين السيدة عائشة رضى الله عنها كانت تكثر من الاستدانة ولها عنها مندوحة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد كانت له نية في أداء دينة إلا كان له من الله عون» فأنا ألتمس العون من الله. وزاد الطبراني «وسبّب له رزقا» . وكذلك كانت تفعل أم المؤمنين ميمونة رضى الله عنها التماسا لمعونة الله تعالى.

(3)

وروى الإمام أحمد أن أم المؤمنين السيدة عائشة رضى الله عنها كانت تكثر من الاستدانة ولها عنها مندوحة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد كانت له نية في أداء دينة إلا كان له من الله عون» فأنا ألتمس العون من الله. وزاد الطبراني «وسبّب له رزقا» . وكذلك كانت تفعل أم المؤمنين ميمونة رضى الله عنها التماسا لمعونة الله تعالى.

ص: 407

بالماء. وغسله عليّ والعباس وابناه الفضل وقثم، وأسامة بن زيد وشقران مولياه صلى الله عليه وسلم، فكان العباس وابناه يقلبونه، وأسامة وشقران يصبان الماء، وعليّ يغسله، ونفضه عليّ فلم ينزل منه شيء فقال:«بأبى أنت وأمى ما أطيبك حيا وميتا» وأعينهم معصوبة، لحديث على «لا يغسلنى إلا أنت، فإنه لا يرى أحد عورتى إلا طمست عيناه» . وغسل صلى الله عليه وسلم من بئر عرس (بفتح العين المهملة وسكون الراء فسين مهملة) بوصية منه، كان يشرب منها، وكفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية (بفتح السين وضمّها، والفتح أشهر، فالفتح منسوب إلى السحول، وهو القصّار، لأنه يسحلها أي يغسلها أو إلى «سحول» ، وهى بلدة باليمن، وأما بالضم فهو جمع سحل، وهو الثوب الأبيض النقي، ولا يكون إلا من قطن) ليس فيها قميص ولا عمامة، بل لفائف من غير خياطة، وبرد حبرة أدرج فيها إدراجا، وفرغ من جهازه يوم الثلاثاء، ووضع على سريره، وصلّى عليه المسلمون صفوفا؛ لا يؤمّهم أحد، وكان أبو بكر وعمر في الصف الأوّل، الذى حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالا:«اللهم إنّا نشهد أنه صلى الله عليه وسلم قد بلّغ ما أنزل إليه، ونصح لأمته، وجاهد في سبيل الله حتي أعزّ الله دينه، وتمت كلمته، فاجعلنا إلهنا ممّن تبع القول الذى أنزل معه، واجمع بيننا وبينه حتّى تعرّفه بنا وتعرّفنا به؛ فإنه كان بالمؤمنين رؤفا رحيما، لا نبتغى بالإيمان به بدلا، ولا نشترى به ثمنا أبدا» ، فيقول الناس:

امين، امين. وهذا يدل على أن المراد بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم: الدعاء، لا الصلاة على الجنازة المعروفة عندهم. والصحيح أن هذا الدعاء كان ضمن الصلاة المعروفة التي بأربع تكبيرات، فقد جاء أن أبا بكر- رضى الله عنه- دخل عليه صلى الله عليه وسلم فكبّر أربع تكبيرات، ثم دخل عمر- رضي الله عنه فكبّر أربعا، ثم دخل عثمان- رضى الله عنه- فكبّر أربعا، ثم دخل طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام- رضى الله عنهما- ثم تتابع الناس أرسالا، يكبّرون عليه، أى وعلي هذا إنما خصّوا الدعاء بالذكر؛ لأنه الذى يليق به صلى الله عليه وسلم، ومن ثمّ استشاروا كيف يدعون له، فأشير بمثل ذلك.

وروى البيهقى عن ابن عباس: لما صلّي علي المصطفى صلى الله عليه وسلم، أدخل الرجال

ص: 408

فصلّوا بغير إمام أرسالا (أى قطائع)«1» .

وقال الشافعي: وذلك لعظم أمره وتنافسهم في ألايتولى الإمامة أحد في الصلاة عليه، وقيل: أوصى به. وقال السهيلي: وجه الفقه فيه أنّ الله افترض الصلاة عليه بقوله: صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً «2» وحكم الصلاة التى تضمنتها الاية ألاتكون بإمام، والصلاة عليه عند موته داخلة في لفظ الاية.

ثم صلّى عليه النساء بعد الرجال، ثم الصبيان، ثم العبيد بغير دعاء الجنازة المعروفة.

وفرش له في لحده قطيفة كان يلبسها ويفترشها، فقالوا: لا يلبسها أحد بعده، وهى كساء.

واتخذوا له لحدا ونصبت عليه تسع لبنات، وجعلوه مسنّما، وهذا لا يعارض مذهب العلماء في كراهة وضع فراش تحت الميت؛ لأنّ كلامهم في غير النبى صلى الله عليه وسلم ممن يتغير ويبلي. وحكمة عدم أكل الأرض أجساد الأنبياء، ومن ألحق بهم:

التكريم، قال الله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [ال عمران: 169] . والأنبياء أجلّ وأعظم من ذلك، والراجح أن حياة الشهداء بالجسد لا بالروح فقط، ولا يقدح في ذلك عدم الشعور من الحي، وأعظم دليل علي ذلك أن حياة الروح ثابتة لجميع الأموات: المؤمن والكافر بالإجماع، فلو لم تكن حياة الشهداء بالجسد لاستوى هو وغيره، ولم يحصل له تمييز على غيره، ولم يكن لقوله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ «3» معنىّ، وقال ابن جرير في تفسيره وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ أى لا ترونهم فتعلموا أنهم أحياء، فظاهره أنّ رزق الشهداء بالأكل والشرب في البرزخ، ليس للاحتياج، بل للإكرام والتنعيم. وورد «إن الله حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» «4» قال العلامة القرطبى في التذكرة: إن

(1) جماعات.

(2)

سورة الأحزاب الاية 56.

(3)

البقرة: 154.

(4)

رواه ابن ماجه.

ص: 409

الأرض لا تأكل لحوم الأنبياء، والشهداء، والعلماء، والمؤذّنين المحتسبين، وحملة القران. قال ابن كمال باشا:

لا تأكل الأرض جسما للنبيّ ولا

لعالم وشهيد قتل معترك

ولا لقاريء قران ومحتسب

أذانه لإله مجري الفلك

ولا يضغط في قبره، وكذلك الأنبياء، ولم يسلم من الضغطة صالح ولا غيره سواهم «1» ، وتحرم الصلاة علي قبره واتخاذه مسجدا.

واختلفوا في موضع دفنه، فقال بعضهم: عند المنبر، وقال بعضهم: بالبقيع، وقال اخرون: يحمل إلي أبيه إبراهيم فيدفن عنده، حتي قال العالم الأكبر صدّيق الأمة: ادفنوه في الموضع الذى قبض فيه، وهو بيت عائشة؛ فإنّ الله لم يقبض روحه إلا في مكان طيب، سمعته يقول:«ما قبض نبى إلا ودفن حيث يقبض» «2» . فرفع وحفر له أبو طلحة الأنصارى تحت فراشه الذى مات عليه، ونزل في قبره عليّ، والفضل وقثم.

وفي الإكليل: إن اخر الناس عهدا به صلى الله عليه وسلم عليّ، وقيل: قثم، وهو أصح.

* ولما دفن صلى الله عليه وسلم جاءت فاطمة رضى الله عنها فقالت: كيف طابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله التراب؟! وأخذت من تراب القبر الشريف وشمّته وأنشدت تقول:

ماذا علي من شمّ تربة أحمد

ألايشمّ مدي الزمان غواليا

صبّت علىّ مصائب لو أنّها

صبّت علي الأيام عدن لياليا

وقد عاشت فاطمة رضى الله تعالى عنها بعده صلى الله عليه وسلم ستة أشهر، فما ضحكت تلك المدة.

(1) وقد قال العلماء: إن ضمّة القبر للكافر والعاصى ضمّة غيظ، وضمته للمؤمن الصالح ضمّة الأم الحنون، وقد ورد في الحديث الصحيح أن:«من قرأ قل هو الله أحد في مرضه الذى يموت فيه لم يفتن في قبره، وأمن من ضغطة القبر، وحملته الملائكة يوم القيامة بأكفّها حتّى تجيزه من الصراط إلى الجنة» رواه أبو نعيم في الحلية.

(2)

رواه مالك في الموطأ، وابن ماجه، وابن إسحاق في السيرة.

ص: 410

وقال علماء السير: لمّا دفنها عليّ وقف على قبرها، وبكي، وقال:

لكلّ اجتماع من خليلين فرقة

وكلّ الذي دون الفراق قليل

وإنّ افتقادي فاطم بعد أحمد

دليل علي ألايدوم خليل

وعن عطاء بن رباح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصابته مصيبة فليتذكّر مصيبته فيّ فإنها من أعظم المصائب» «1» .

[تعزية الخضر] ، وروى أنه جاءت من نبى الله الخضر عليه السلام التعزية، لأهل بيت النبوة بهذه المصيبة العظمي، يسمعون صوته ولا يرون شخصه «2» ، فقال بعد أن سلّم عليهم وقرأ كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ «3» إنّ في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل فائت، فبالله فثقوا، وإيّاه فارجوا؛ فإنما المصاب من حرم الثواب» .

وقد ذكر الشيخ أبو إسحاق في «المهذب» أوّل باب التعزية: أنه يستحبّ أن يعزّى بتعزية سيدنا الخضر أهل بيت النبوة: «إن في الله

إلى اخره» .

وكان الرجل من أهل المدينة إذا أصابته مصيبة جاء أخوه فصافحه، ويقول:

يا عبد الله اتّق الله، فإن في رسول الله أسوة حسنة. وقال بعضهم في ذلك:

اصبر لكل مصيبة وتجلّد

واعلم بأنّ المرء غير مخلّد

واصبر كما صبر الكرام فإنها

نوب تنوب اليوم تكشف في غد

وإذا أتتك مصيبة تشجي بها

فاذكر مصابك بالنّبي محمّد

(1) هي مصيبة العمر وقاصمة الظهر.

(2)

ونصها من الروضة الندية ص 183 ج 1: «وأخرج الشافعى من حديث جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده قال: «لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءت التعزية: سمعوا قائلا يقول: إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل فائت؛ فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب» والخضر عليه السلام مختلف فيه: أهو نبى أم رجل صالح من المعمرين؟ وسيظهر اخر الزمان علنا ويحارب مع عيسى ابن مريم، وتحدث بينه وبين الدجال وقائع وحوادث كثيرة، ذكرت في كتب أعلام النبوة، والفتن والملاحم في اخر الزمان.

(3)

ال عمران: 185.

ص: 411

ورثاه جماعة، منهم صفية عمته رضى الله عنها بمراث كثيرة، وأبو سفيان ابن الحارث، وأبو بكر الصديق رضى الله عنه.

وتوفاه الله وحصل له درجة الشهادة، فوق ما أعطاه الله من مراتب النبوة وزاده؛ لأنه لما سمّته اليهودية في الشاة استمر ذلك السم حتي قال في مرضه:

«الان انقطع أبهري» يعنى من ذلك السم، والأبهر: عرق مستبطن القلب، فإذا انقطع لم تبق بعده حياة.

وكانت وفاته يوم الاثنين ثانى عشر ربيع الأوّل، حين زاغت الشمس سنة إحدى عشرة من الهجرة، وقيل: حين اشتد الضحي، كالوقت الذى دخل فيه إلى المدينة.

وعن ابن عباس: ولد صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، واستنبيء يوم الاثنين، وخرج مهاجرا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، ووضع الحجر يوم الاثنين، وقبض يوم الاثنين، ودفن ليلة الأربعاء، وكانت ليلة مظلمة لفقده وانقطاع الوحي، عكس دخوله إليها في الهجرة.

قال أنس: «لما كان اليوم الذى دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذى مات فيه أظلم منها كل شيء» .

ولم أخّر دفنه؟ وقد قال عليه الصلاة والسلام لأهل بيت أخّروا دفن ميتهم:

«عجّلوا دفن ميتكم ولا تؤخّروه» «1» .

فالجواب: أخّروه للاختلاف في دفنه، أو للاشتغال بأمر البيعة؛ ليكون لهم إمام يرجعون إليه، وهو أهم الأمور، حتى استقر الأمر، فبايعوا أبا بكر، ثم رجعوا بعد ذلك إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فنظروا في دفنه فغسّلوه وكفّنوه صلى الله عليه وسلم، وتزينت الجنان بقدوم روحه الكريمة.

ص: 412

إذا كان عرش الرحمن اهتز لموت (أحد)«1» أتباعه فرحا واستبشارا بقدوم روحه، فكيف بقدوم روح الأرواح صلى الله عليه وسلم!

* فعلى هذه الرواية «2» يوم وفاته موافق ليوم مولده.

قال الصلاح الصفدى في شرح لامية العجم فائدة ذكرتها هنا، وهى أنه وجد بخط الشيخ تقى الدين بن الصلاح رحمه الله تعالى ما صورته:«ذكر أبو القاسم السهيلى قال: أجمع المسلمون على أنّ حجّة الوداع كان يوم عرفة فيها يوم الجمعة، وكان أوّل شهر ذى الحجة في تلك السنة الخميس، هذا لا شك فيه» .

ثم قال بعد ذلك: «وقال أكثر أهل التاريخ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي يوم الاثنين، ثانى عشر ربيع الأوّل، بعد الحجة المذكورة بثلاثة أشهر.

وكيف حسب الإنسان الشهور، وهن: ذو الحجة، والمحرم، وصفر، وربيع الأوّل، وجعل أوّل ذى الحجة الخميس، ما يتصوّر أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم توفى يوم الاثنين ثانى عشر ربيع الأوّل، سواء حسب الجميع نواقص أو كوامل، أو بعضها نواقص وبعضها كوامل، فاعتبره تجده كذلك.

وأجاب عن هذا السؤال قاضى القضاة شرف الدين البارزى الحموى بما صورته: يحتمل أنه لما حجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى هلال ذى الحجة بين مكة والمدينة ليلة الخميس، وغمّ علي أهل المدينة، فلم يروا هلال ذى الحجة إلا ليلة الجمعة، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفى بالمدينة أرّخ أهل المدينة موته على حكم ما رأوا، وأرّخوا في أوّل ذى الحجة، وهو يوم الجمعة، فجاءت الشهور الثلاثة: ذو الحجة، والمحرم، وصفر كوامل، وجاء أوّل ربيع الأوّل: الخميس، وكان ثانى عشر ربيع الأوّل يوم الاثنين، وكان بين رؤيته صلى الله عليه وسلم وبين رؤية أهل

(1) ما بين القوسين لم يكن بالأصل الذى راجعنا عليه، بل وضعناها لإصلاح السياق، والذى اهتز له عرش الرحمن هو «سعد بن معاذ» رضى الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ» رواه مسلم، والإمام أحمد.

(2)

رواية ابن عباس التي أشار إليها انفا بقوله «عن ابن عباس....» الخ.

ص: 413

المدينة مسافة القصر، والصحيح من مذهب الشافعى اعتبار اختلاف المطالع، والله أعلم. اهـ» .

ولما توفى صلى الله عليه وسلم ترتب على وفاته ارتداد أكثر العرب، كبنى حنيفة، إلا أن أهل المدينة ومكة والطائف لم تدخلهم الردّة، وكان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على مكة عتّاب بن أسيد، فاستخفى خوفا على نفسه، فارتجت مكة وكاد أهلها يرتدّون، فقام سهيل بن عمرو علي باب الكعبة وصاح بقريش وغيرهم، فاجتمعوا إليه، فقال:«يا أهل مكة كنتم اخر من أسلم، فلا تكونوا أول من ارتد، والله ليتمّنّ الله هذا الأمر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم» . فامتنع أهل مكة من الردة.

وسيأتى ما يتعلق بذلك في الفصل الأوّل من الباب الخامس.

قال ابن إسحاق: ولما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم عظمت به مصيبة المسلمين، فكانت عائشة- رضى الله عنها- فيما بلغنى تقول:«لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب واشرأبت اليهودية والنصرانية، ونجم النفاق، فكان المسلمون كالغيم المطيرة في الليلة الشاتية لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم، حتى جمعهم الله علي أبى بكر» انتهي.

وقال أهل السير: خرج أبو بكر- رضى الله عنه- إلى الناس وهم في المسجد يموجون، فخطبهم وثبتهم، ونعى لهم سيد الأولين والاخرين، وقرأ عليهم الايات التى تناسب ذلك، ومنها: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وهذا استفهام إنكار وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ

(1) أخرج مسلم في صحيحه عن سيدنا عمر رضى الله عنه أنّ رجلا من اليهود قال: يا أمير المؤمنين: آية في كتابكم تقرؤنها لو علينا معشر اليهود أنزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، قال: أي آية؟ قال: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا) قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذى أنزلت فيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهو قائم يوم عرفة في يوم الجمعة» . وأخرج رزين في «تجريد الصحابة» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الأيام يوم عرفة وافق يوم جمعة، وهو أفضل من سبعين حجة في غير حجة» . وحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف وقفة عرفة يوم جمعة، رواه أيضا البخارى ومسلم، والإمام أحمد، وابن جرير، وابن مردويه، والطبراني، وهو مروى عن سيدنا عمر، والإمام علي، ومعاوية ابن أبى سفيان، وعبد الله بن عباس وسمرة بن جندب.

ص: 414

اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [ال عمران: 144]- ولم يكن فيهم أثبت منه ومن العباس.

وما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته درهما ولا دينارا، ولا عبدا ولا شيئا، إلا بغلته البيضاء وسلاحه، وأرضا جعلها صدقة.

وعن عائشة- رضى الله عنها- أن فاطمة سألت أبا بكر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراثها من تركة رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر وفدك، فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نورث؛ ما تركناه صدقة» ، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة شيئا؛ فوجدت فاطمة علي أبى بكر في ذلك؛ فهجرته فلم تزل مهاجرته حتّى توفيت «1» .

وروى البيهقى عن الشعبى أن أبا بكر عاد فاطمة في مرضها، فقال لها عليّ:

هذا أبو بكر يستأذن عليك؟ قالت: أتحب أن اذن له؟ قال: نعم. فأذنت له. فدخل عليها فترضّاها حتّى رضيت «2» .

(1) قول الشيخ رحمه الله «فلم تزل مهاجرته حتّى توفيت» . افتراء محض من المؤرخين، والذى يستعرض موقف الصحابة عند موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعرف مدى المصيبة التى حلّت بهم، يعرف أيضا موقف السيدة فاطمة- رضى الله عنها- من هذه الصدمة. هذا أحدهم يدعو على نفسه بالعمي، حتى لا يرى أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستجاب له، وهذا سيدنا عمر قد حدث له ما حدث، حتى هاج في الناس، وقال:«من يزعم أن محمدا قد مات قتلته بسيفى هذا» . وهذا أبو بكر رضى الله عنه وأرضاه، أخذ جسمه في النقصان والنحول حتّى مات بعد عامين وأشهر من موت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا. وهذا، وعدد كبير من الصحابة رضى الله عنهم حدث منهم ما ينكر لو لم يكن هذا الحادث، فما بالك بالسيدة فاطمة- رضى الله عنها- وأرضاها. مطالبتها بالميراث صحيحة، ولكن غضبها من أبى بكر افتراء وكذب، نعم، إنها جلست في بيتها ستة أشهر لم تكلمه، ولم تكلم أحدا؛ لما هى فيه من البلوى التى حلّت بها، وقد عبّرت عن هذا عند ما زارت أباها [بعد انتقاله بقولها:

صبّت عليّ مصائب لو أنها

صبّت على الأيام عدن لياليا

وأما حديث «نحن معاشر الأنبياء لا نورث: ما تركناه صدقة» فقد رواه أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي بن أبى طالب، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبى وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، والعباس، وأزواج النبى صلى الله عليه وسلم، والرواية عنهم ثابتة في الصحاح والمسانيد. ولم تحرم السيدة فاطمة من الميراث واحدها، وإنما أيضا أزواجه صلى الله عليه وسلم، فلم لم يثر الشيعة الضجة بأن أزواجه صلى الله عليه وسلم: لم لم يورّثن أيضا؟ وهذا واحده أكبر دليل علي أنها زوبعة مقصودة للإفساد، لا حبّا في السيدة فاطمة رضى الله عنها- والله تعالى أعلم.

(2)

إنما ترضّاها سيدنا أبو بكر مخافة أن تكون غاضبة منه، وفي الحديث جملة من اداب بيت النبوة، منها قولها:«أتحب أن اذن له» لأن المرأة ليس لها أن تأذن في بيت زوجها إلا بإذنه.

ص: 415