المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[إسلام عمير بن وهب] : - نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز - جـ ١

[رفاعة الطهطاوى]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الناشر

- ‌[عملنا في هذا الكتاب]

- ‌مؤلفاته ومترجماته

- ‌الباب الأوّل فى مولده الشريف إلى بعثته صلى الله عليه وسلم

- ‌آباؤه:

- ‌طهارة نسبه صلى الله عليه وسلم:

- ‌ومن كلام عمه أبى طالب:

- ‌[مولده] :

- ‌[أسماؤه صلى الله عليه وسلم] :

- ‌[طهارة مولده وشرفه] :

- ‌[زواج أبيه بأمه] :

- ‌[تعبده صلى الله عليه وسلم قبل البعثة] :

- ‌[رضاعه] :

- ‌الفصل الثانى فى ذكر عمل مولده الشريف، وإشهاره كلّ سنة وفيما جرى في مولده وفيما بعده من الوقائع

- ‌[الاحتفال بالمولد] :

- ‌والبدعة من حيث هى منقسمة إلى خمسة أقسام:

- ‌واجب:

- ‌وحرام:

- ‌ومندوب إليه:

- ‌ومكروه:

- ‌ومباح:

- ‌الفصل الثالث فى زواجه بخديجة بنت خويلد رضى الله تعالى عنها وما رزقه الله من الذرية منها

- ‌[أولاده من خديجة] :

- ‌الباب الثانى فى مبعثه صلى الله عليه وسلم، ودعائه الناس إلى الدين الحق. وهجرة المسلمين* إلى الحبشة، وخروجه إلى الطائف

- ‌الفصل الأوّل فى رسالته صلى الله عليه وسلم على رأس الأربعين إلى كافة الناس بشيرا ونذيرا

- ‌كفالته عليّا:

- ‌[اشتداد الأذى عليه صلى الله عليه وسلم] :

- ‌الفصل الثانى فى الهجرتين إلى الحبشة

- ‌[مسألة الغرانيق وما سمّوه الايات الشيطانية] :

- ‌ وأما الهجرة الثانية:

- ‌الفصل الثالث فى خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف قبل هجرته إلى المدينة المشرّفة

- ‌الفصل الرابع في الإسراء به صلى الله عليه وسلم ليلا من المسجد الحرام وعروجه من المسجد الأقصي إلى السموات العلى

- ‌[مسألة رؤية الله] :

- ‌الباب الثالث فى هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وما ترتب على ذلك من المظاهر الإسلامية والظواهر التعليمية. وفيه فصول

- ‌الفصل الأوّل فى الأسباب الباعثة علي هذه الهجرة والتمهيد لها

- ‌الهجرة إلى المدينة:

- ‌[التامر على الرسول صلى الله عليه وسلم في دار الندوة] :

- ‌الفصل الثانى فى سيره مهاجرا إلى المدينة مع صاحبه: صدّيقه رضى الله تعالى عنه وهو ابتداء التاريخ الإسلامى

- ‌مبدأ التأريخ الإسلامى:

- ‌[مسألة: الرسول صلى الله عليه وسلم والشّعر]

- ‌هجرة بقايا المسلمين من مكة:

- ‌[فرق اليهود] :

- ‌الأولى: التوراة، وهى خمسة أسفار

- ‌المرتبة الثانية: أربعة أسفار: تدعى الأولي:

- ‌المرتبة الثالثة: أربعة أسفار تدعى: الأخيرة:

- ‌المرتبة الرابعة: تدعى: الكتب، وهى أحد عشر سفرا:

- ‌الفصل الثالث في ذكر الظواهر الحادثة بعد الهجرة إجمالا

- ‌الباب الرابع فى تفاصيل الظواهر التى حدثت بعد هجرته عليه الصلاة والسلام إلى وفاته صلى الله عليه وسلم، وفيه فصول

- ‌الفصل الأوّل فى ظواهر السنة الأولى من الهجرة وما فيها من الغزوات

- ‌[المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار]

- ‌الفصل الثانى في ظواهر السنة الثانية من الهجرة، وما فيها من الغزوات

- ‌[إسلام عمير بن وهب] :

- ‌الفصل الثالث في ظواهر السنة الثالثة من الهجرة وما فيها من الغزوات

- ‌الفصل الرابع في ظواهر السنة الرابعة من الهجرة وما فيها من الغزوات

- ‌غزوة بنى النضير:

- ‌الفصل الخامس فى ظواهر السنة الخامسة وما فيها من الغزوات

- ‌الفصل السادس في ظواهر السنة السادسة وما فيها من الغزوات

- ‌الفصل السابع في ظواهر السنة السابعة ما فيها من الغزوات

- ‌الفصل الثامن في ظواهر السنة الثامنة وما فيها من الغزوات

- ‌ وأما النساء الست اللاتى أهدر النبى صلى الله عليه وسلم دماءهن يوم الفتح

- ‌الفصل التاسع في ظواهر السنة التاسعة وما فيها من الغزوات

- ‌الفصل العاشر فيما وقع من وفود العرب عليه صلى الله عليه وسلم، وفي حجة الوداع

- ‌الباب الخامس في وفاته صلى الله عليه وسلم وذكر بعض أخلاقه وصفاته، ومعجزاته، وأزواجه. وأعمامه، وعماته، وأخواله، ومواليه وخدمه، وحشمه صلى الله عليه وسلم، وفيه فصول

- ‌الفصل الأوّل في ذكر وفاته صلى الله عليه وسلم وما يتعلق بذلك

- ‌الفصل الثانى فى ذكر بعض أخلاقه وصفاته صلى الله عليه وسلم

- ‌وخصائصه صلى الله عليه وسلم على أضرب:

- ‌الأوّل الواجبات:

- ‌الثانى

- ‌الثالث المباحات:

- ‌الرابع ما

- ‌الفصل الثالث في ذكر معجزاته

- ‌[كيفية نزول القران] :

- ‌الفصل الرابع فى ذكر أزواجه صلى الله عليه وسلم وقرابته ومواليه

- ‌جدول يضبط ما تفرّق من الغزوات التي سبق ذكرها تفصيلا

الفصل: ‌[إسلام عمير بن وهب] :

وصار عدوّ الله كعب بن الأشرف «1» يكذّبهما ويقول: إن كان محمد قتل هؤلاء القوم، فبطن الأرض خير من ظهرها.

[إسلام عمير بن وهب] :

قال ابن إسحاق: وجلس عمير بن وهب الجمحى مع صفوان بن أمية بعد مصاب قريش في بدر تجاه الكعبة، فتذاكرا قومهما وما نزل بهم من القتل والأسر، وكان عمير بن وهب ممن يؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة قبل الهجرة، وكان ابنه وهب بن عمير في أسارى بدر، فقال صفوان: والله ما في الحياة بعد اليوم خير، فقال له عمير: صدقت، أما والله لولا دين عليّ ليس له عندى قضاء، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي لركبت إلى محمد حتّى أعمل الحيلة وأقتله وأفتكّ ابنى من أيديهم. وكان عمير شجاعا، وكان صفوان ذا مال كثير، فانتهز الفرصة صفوان، وقال له: أمّا دينك فعليّ قضاؤه، وأما عيالك فهم مع عيالى أواسيهم ما بقوا، ولا يكون في يدى شئ فيحرمون منه. فعاهده عمير على ذلك، وقال: اكتم شأنى وشأنك، فقال صفوان: أكتم ذلك. ثم إن عميرا شحذ سيفه وسمّمه، وانطلق حتّى قدم المدينة، فبينما عمر بن الخطاب- رضى الله تعالى عنه- فى نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر، وما أكرمهم الله تعالى فيه، وما فعل بأعدائهم، ويشكرون الله تعالى، إذ نظر عمر إلى عمير بن وهب حين أناخ على باب المسجد ناقته متوشحا سيفه، فقال: هذا عدو الله عمير ابن وهب ما جاء إلا بشرّ. ثم دخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فقال: يا نبيّ الله، هذا عدو الله عمير بن وهب، قد جاء متوشحا سيفه، قال: أدخله عليّ.

فأقبل عمر بن الخطاب- رضى الله تعالى عنه- إلى عمير، فأخذ بحمائل سيفه، وقال لرجال ممن كانوا معه من الأنصار: ادخلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجلسوا عنده، واحذروا عليه من هذا الخبيث؛ فإنه غير مأمون. ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما راه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر اخذ بحمائل سيفه في عنقه، قال:

أرسله يا عمر، ادن يا عمير، فدنا عمير، وقال للنبى صلى الله عليه وسلم: أنعم صباحا- وكانت

(1) هو أعدى أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود.

ص: 231

هذه تحية العرب في الجاهلية- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير؛ أكرمنا بالسلام تحية أهل الجنة، ما جاء بك عمير؟ قال: جئت لهذا الأسير الذى عندكم، قال: فما للسيف في عنقك؟ قال: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت شيئا، قال: أصدقنى يا عمير، ما الذى جئت له؟ قال: ما جئت إلا لذلك، قال: يا عمير قعدت أنت وصفوان بن أمية تجاه الكعبة فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لولا دين عليّ وعيال لى لخرجت حتّى أقتل محمدا، فتحمّل لك صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلنى له، والله تعالى حائل بينك وبين ذلك. قال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذّبك بما يأتى من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يعلمه أحد ولم يحضره إلا أنا وصفوان، وو الله إنى لأعلم أنه ما أتاك إلا من الله تعالى، فالحمد لله الذى هدانى للإسلام، وساقنى هذا المساق. ثم شهد شهادة الحق- رضى الله تعالى عنه- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقّهوا أخاكم في دينه، وأقرئوه القران وأطلقوا له أسيره، ففعلوا ذلك، ثم قال: يا رسول الله إنى كنت جاهدا في إطفاء نور الله شديد الأذى لمن كان على دين الله، وأنا أحب أن تأذن لى فأقدم مكة فأدعوهم إلى الله تعالى- إلى الإسلام- لعل الله يهداهم؟ فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فلحق «1» بمكة وأظهر الإسلام، وأسلم ولده أيضا- رضى الله تعالى عنهما.

قال ابن إسحاق: وأسلم بعد فك الأسر جماعة منهم: أبو وداعة السهمي، وعبد الله بن خلف الجمحي، ووهب بن عمير الجمحي، وقيس بن السائب المخزومي، وأسلم السائب بن عبيد، وهو الأب الخامس للإمام الشافعى- رضى الله عنه- وكان صاحب راية بنى هاشم يوم بدر من كفار قريش، وكان صاحب الراية أبو سفيان، لكن لغيبته في العير حملها السائب لشرفه، وأما الأب الرابع، فهو شافع بن السائب الذى ينسب إليه الإمام الشافعى رضى الله عنه، لقى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو مترعرع فأسلم.

فإن الإمام الشافعى- رضى الله عنه- هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد

(1) فى الأصل فألحق، وهو خطأ.

ص: 232

مناف جد النبى صلى الله عليه وسلم، فيجتمع الإمام الشافعى- رضى الله تعالى عنه- مع النبى صلى الله عليه وسلم في جد الإمام الشافعى التاسع الذى هو جد النبى صلى الله عليه وسلم الثالث، وهو عبد مناف.

ولما قدم عليه الصلاة والسلام المدينة وكانت وقعة بدر، وأسر فيها من أسر من أهل مكة، قال عليه الصلاة والسلام لأهل بدر:«إن بكم عيلة «1» ، فلا يفلت منهم- يعنى الأسارى- أحد إلا بفداء أو ضربة عنق» ، وقال:«استوصوا بهم خيرا» . وكان فداؤهم أربعين أوقية عن كل إنسان، إلا العباس عم النبى صلى الله عليه وسلم؛ فإن فداءه كان مائة أوقية، فكان من لا مال له من الأسارى يقبل منه أن يعلّم عشرة من غلمان أهل المدينة الكتابة، فإذا حذقوه كان فداءه، فيومئذ تعلّم زيد بن ثابت الكتابة في جماعة من الأنصار. ومن هنا تعلم أن النبى صلى الله عليه وسلم كان حريصا على تعليم «2» الكتابة التى هى التمدن الأوّلى للنوع البشري، وسيأتى بيان الوظائف والتعليمات التى كانت جارية في عهده صلى الله عليه وسلم.

وقد منّ النبى صلى الله عليه وسلم على نفر من أسراء بدر، وخلّى سبيلهم من غير شيء، ولما طلب صلى الله عليه وسلم من العباس أن يفدى نفسه، قال: علام يؤخذ منى الفداء، وقد كنت أسلمت أنا وأم الفضل وبقية ال بيتي، ولكن القوم أكرهونى على الخروج؟ فقال النبى صلى الله عليه وسلم: كان ظاهر أمرك أنك كنت علينا، ولكنّ الله تعالى يجزيك عما أخذ منك. وأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)«3»

(1) أى فقر.

(2)

أى حريصا على أن يتعلم المسلمون الكتابة والقراءة. وفي الأصل الذى راجعنا عليه «تعلم» وهو خطأ واضح، وذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم لو كان حريصا على تعلم القراءة لأعطى العدو سلاحا للطعن فى الرسالة، نسأل الله العصمة من الزلل، وهو خطأ طباعى لا محالة.

(3)

قال ابن كثير: قال محمد بن إسحاق: حدثنى العباس بن مغافل عن بعض أهله عن عبد الله بن عباس- رضى الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: «إنى قد عرفت أن أناسا من بنى هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها، لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقى منكم أحدا منهم فلا يقتله، ومن لقى أبا الخترى بن هشام فلا يقتله، ومن لقى العباس بن عبد المطلب فلا يقتله، فإنما أخرج مستكرها» . فقال أبو حذيفة بن عتبة: أنقتل اباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشائرنا ونترك العباس؟! والله لئن لقيته لألجمنّه بالسيف. -

ص: 233

[الأنفال: 70] ، وقد أعطى الله العباس خيرا مما أخذ منه، وفي هذه الاية بشرى عظيمة للعباس؛ إذ أخذ أكثر مما أعطي، وغفر له ما أخطأ، ولما نزلت قال العباس: يا رسول الله وددت أنك أخذت منى أضعافا.

وفي البخارى أنه أتي بمال من البحرين (أى خراجها وهو أوّل خراج حمل إلى النبى صلى الله عليه وسلم وكان مائة ألف، فأمر بصبه في المسجد. وكان أكثر مال أتى به:

فخرج إلى المسجد ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه فما كان يرى أحدا إلا أعطاه، إذ جاءه العباس فسأله، فقال: خذ، فحثا في ثوبه، ثم ذهب يقلّه فلم يستطع، فقال: يا رسول الله مرّ بعضهم يرفعه إليّ، فقال: لا، فقال:

ازفعه أنت عليّ، فقال: لا. فنثر منه ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال كالأوّل، فقال: لا. ثم نثر منه، ثم احتمله، فأتبعه صلى الله عليه وسلم بصره عجبا من حرصه.

وذكر السهمى في «الفضائل» أن أبا رافع لما بشّر النبى) بإسلام العباس أعتقه.

ولما فدى العباس نفسه، ورجع إلى مكة وأظهر إسلامه، وجمع أمواله، هاجر إلى المدينة، ولازمه صلى الله عليه وسلم في غزواته، كان صلى الله عليه وسلم يكرمه ويعظمه «1» ، ووصفه عليه الصلاة والسلام فقال:«أجود الناس كفا، وأحناه عليهم» ، وروى السهمى من حديث ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام قال: «ألا أبشرك يا عم؟ قال:

- فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لعمر بن الخطاب: يا أبا حفص، (قال عمر: والله إنه لأوّل يوم كنانى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا حفص) أيضرب وجه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف؟! فقال عمر: يا رسول الله ائذن لى فأضرب عنقه، فو الله لقد نافق. فكان أبو حذيفة يقول بعد ذلك: والله ما امن من تلك الكلمة التى قلت، ولا أزال منها خائفا إلا أن يكفّرها الله تعالى عنى بشهادة. فقتل- رضى الله عنه- يوم اليمامة شهيدا. انظر تفسير ابن كثير بتوسع عند تفسير قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)[الأنفال: 70] .

(1)

كان النبى صلى الله عليه وسلم يقول: «العباس منى وأنا منه» رواه الترمذى والحاكم عن ابن عباس. «العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن عم الرجل صنو أبيه» رواه الترمذي. وروى ابن عساكر عن عليّ: «العباس عمى وصنو أبى فمن شاء فليباه بأبيه» . وقد ذكر له محب الدين الطبرى فصلا خاصا به في كتابه «ذخائر العقبي» وهو فصل ممتاع، فانظره.

ص: 234

بلى بأبى أنت وأمي، فقال عليه الصلاة والسلام:«إن من ذريتك الأصفياء، وعترتك الخلفاء» «1» .

وكان الذى أسر العباس أبو اليسر، واسمه كعب بن عمرو، وكان قصيرا دميما، وكان العباس عظيم الخلق طويل القامة من مقبّلى الظعن- يعنى أنه كان يدرك فم الظعينة وهى راكبة على البعير، وهو على قدميه في الأرض.

وفي مسند البزار: قيل للعباس: كيف أسرك أبو اليسر ولو أخذته بكفك لوسعته؟! فقال: ما هو إلا أن لقيته فظهر في عينى كالخندمة- والخندمة جبل حول مكة- وذكر أبو عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لقد أعانك عليه ملك كريم» .

ولما فدى العباس نفسه وابن أخيه عقيل بن أبى طالب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:

لقد تركتنى أتكفف قريشا فقيرا معدما، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين ما دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها: ما أدرى ما يصيا بني، فإن حدث بى حادث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل وقثم؟ فقال العباس: وما يدريك يا ابن أخي؟ قال: أخبرنى به ربي، فقال العباس: أشهد أنك صادق، وأشهد ألاإله إلا الله وأنك عبده ورسوله والله لم يطّلع عليه أحد إلا الله ولقد دفعته إليها في سواد الليل، ولقد كنت مرتابا في أمرك، فأما إذ أخبرتنى بذلك فلا ريب. ا. هـ.

وأم الفضل هذه «لبابة الكبري» بنت الحارث الهلالية، أخت ميمونة زوج النبى صلى الله عليه وسلم، وأختها «لبابة الصغري» أم خالد بن الوليد، وولدت أم الفضل للعباس سبعة نجباء: عبد الله بن عباس صاحب التفسير الذى قال فيه عليه الصلاة والسلام: «اللهم فقّهه في الدين وعلّمه التأويل» . وإخوته الستة: عبيد الله، وعبد الرحمن، والفضل، وقثم، ومعبد، وكثير، (واختلف في كثير فقيل: إن أمه رومية) ، وأختهم أم حبيب.

(1) عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فوجد العباس بن عبد المطلب ساجدا، فوقف حتّى رفع رأسه، فلما انفتل من صلاته قال صلى الله عليه وسلم:«إن من ذريتك الأصفياء، ومن عترتك الخلفاء» (ذكره صاحب ذخائر العقبى) محب الدين الطبرى- رحمه الله.

ص: 235

وفي أم الفضل يقول الشاعر:

ما ولدت نجيبة من فحل

بجبل نعرفه وسهل

كسبعة من بطن أمّ الفضل

أكرم بها من كهلة وكهل

عمّ النبيّ المصطفى ذى الفضل

وخاتم الرسل وخير الرسل

وكان له أيضا سوى هؤلاء ثلاثة من غير أم الفضل: عون، والحارث، وتمام، وكان أصغرهم تمام، وأمه رومية تسمى «سبا» ويقال شقيقه «كثير» المتقدم الذكر، وكان العباس يحمل «تماما» هذا ويقول:

تمّوا بتمّام فصاروا عشره

يا رب فاجعلهم كراما برره

واجعل لهم ذكرا وأنم الثمره

وقد أجاب الله دعاء العباس في بنيه الأكياس، كانوا كما أراد أبوهم واشتهي، كلهم له رواية ونهى. ومع ذلك فيقال: ما رؤيت قبور أشد تباعدا بعضها من بعض من قبور بنى العباس بن عبد المطلب؛ ولدتهم أمهم أم الفضل في دار واحدة، استشهد الفضل بأجنادين، ومات معبد وعبد الرحمن بإفريقية، وتوفى عبد الله بالطائف، وعبيد الله باليمن، وقثم بسمرقند، وكثير وأمه سبأ المذكورة أخذته الذبحة بينبع- رضى الله عنهم أجمعين.

وخرّج محمد بن يزيد في «الكامل» أن العباس كان إلى منكب عبد المطلب، وكان عبد الله بن عباس إلى منكب العباس، وكان علي بن عبد الله إلى منكب أبيه عبد الله. وطاف عليّ هذا بالبيت، وهناك عجوز قديمة، وعليّ قد فرع «1» الناس كأنه راكب والناس مشاة، فقالت: من هذا الذى فرع الناس؟ فقيل: هو علي بن عبد الله ابن العباس، فقالت: لا إله إلا الله، إن الناس ليرذلون «2» ؛ عهدى بالعباس وهو يطوف بالبيت كأنه قرطاس أبيض. انتهى.

(1) أى فاقهم طولا.

(2)

هو كناية عن أن أفاضل الناس يذهبون ويبقى الأقل فضلا.

ص: 236

وقال بعضهم: أدرك الإسلام من العرب عشرة أنفار طوال جدّا، منهم عبادة ابن الصامت.

ومن جملة الأسارى أيضا نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، تأخر إسلامه إلى غام الخندق، وقيل: بل أسلم حين أسر، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: افد نفسك بأرماحك التى بجدّة، قال: والله ما علم أحد أن لى بجدة أرماحا غير الله، أشهد أنك رسول الله. ثم شهد معه حنينا، وأعانه عند الخروج إليها بثلاثة الاف رمح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كأنى أنظر إلى أرماحك هذه تقصف ظهور المشركين.

توفى نوفل بالمدينة سنة خمس عشرة، وصلّى عليه عمر بن الخطاب- رضى الله تعالى عنهما.

وقيل: إن العباس أسلم قبل وقعة بدر، وكان يخفى إسلامه لمّا طلب منه صلى الله عليه وسلم أن يفدى نفسه، قال: علام يؤخذ منى الفداء وقد كنت أسلمت أنا وأم الفضل وبقية ال بيتي، ولكن القوم أكرهونى على الخروج «1» ؟!، وقال النبى صلى الله عليه وسلم: كان ظاهر أمرك أنك كنت علينا، ولكنّ الله تعالى يجزيك على ما أخذ منك، وأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً، [الأنفال: الاية 70] ولما نزلت قال العباس: يا رسول الله لوددت أنك كنت أخذت منى أضعافا، والمأخوذ منه مائة أوقية من الذهب، كما سبق انفا.

وقد منّ النبى صلى الله عليه وسلم على نفر من أسراء بدر، وخلّى سبيلهم من غير شئ، وفدى نفرا كالعباس- رضى الله تعالى عنه-. ولما فدى العباس نفسه رجع إلى مكة وأظهر إسلامه، وجمع أمواله وهاجر إلى المدينة، ولازمه صلى الله عليه وسلم في غزواته، وكان النبى صلى الله عليه وسلم يعظمه، وكانت الصحابة تعظمه وتقدمه وتشاوره وتأخذ برأيه، ولما قيل له: أيّما أكبر أنت أو النبى صلى الله عليه وسلم ؟ قال: هو أكبر مني، وأنا ولدت قبله «2» .

قال ابن إسحاق: ولما بلغ النجاشىّ نصرة النبى صلى الله عليه وسلم ببدر فرح فرحا شديدا، قال جعفر بن أبى طالب- رضى الله عنه- وكان جعفر إذ ذاك بأرض الحبشة:

فأرسل إليّ النجاشى وإلى أصحابى ذات يوم، فدخلنا عنده فوجدناه جالسا على

(1) أى أنه لم يأت محاربا، وإنما جاء مكرها.

(2)

فى هذا اللفظ من الاداب ما فيه.

ص: 237

التراب لابسا أثوابا خلقة، فقال: إنّى أبشّركم بما يسرّكم، إنه قد جاءنا من نحو أرضكم عين لي، فأخبرنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أعدائه بمحلّ يقال له بدر، فكانت النصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له جعفر: ما لك جالس على التراب وعليك هذه الثياب؟ قال: «إنا نجد فيما أنزل الله تعالى على عيسى عليه السلام أن حقا على عباد الله تعالى أن يحدثوا له تواضعا إذا أحدث لهم نعمة» قال: ولما أوقع الله تعالى بالمشركين يوم بدر، واستأصل رؤساءهم قالوا: إنّ ثأرنا بأرض الحبشة، فلنرسل إلى ملكها ليدفع إلينا من عنده من أتباع محمد فنقتلهم بمن قتل منا.

فأرسلوا عمرو بن العاص، وعبد الله ابن ربيعة- رضى الله تعالى عنهما، (فإنهما أسلما بعد ذلك) ، ومعهما طائفة من كفار قريش إلى النجاشى ليدفع إليهما من عنده من المسلمين، وأرسلوا معهما هدايا وتحفا للنجاشي، فلما وصلا إليه ردّهما خائبين، ولما بلغ صلى الله عليه وسلم ذلك بعث إلى النجاشى عمرو بن أمية الضمرى رضى الله تعالى عنه- بكتاب يوصيه فيه على المسلمين الذين عنده بالحبشة.

وقد سبق التنويه إلى ذلك (فى الفصل الثانى من الباب الثانى في الهجرتين إلى الحبشة) .

وسيأتى الكلام على ذلك في قدوم جعفر من الحبشة في غزوة خيبر.

ويقال: إن عمرو بن العاص أسلم حينئذ على يد النجاشي، ولهذا يلغز، ويقال:

من هو الصحابى الذى أسلم على يد تابعي؟ ومنشأ هذا ما قاله بعض أهل السير حكاية عن عمرو بن العاص عن نفسه من أنه قال: لما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق، جمعت رجالا من قريش كانوا يرون رأيي ويسمعون مني، فقلت لهم: تعلمون والله إنى أرى أمر محمد يعلو الأمور علوّا منكرا، وإنى قد رأيت أمرا، فما ترون فيه؟ قالوا: وماذا رأيت؟ قال: رأيت أن نلحق بالنجاشى فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي، فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يد محمد، وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا، فلن يأتينا منهم إلا خير، قالوا: إن هذا الرأي، قلت: فاجمعوا ما نهدى له، وكان أحب

ص: 238

ما يهدى إليه من أرضنا الادم»

، فجمعنا له أدما كثيرا، ثم خرجنا حتّى قدمنا عليه، فو الله إنّا لعنده إذ جاءه عمرو بن أمية الضمري، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه إليه في شأن جعفر وأصحابه، قال: فدخل إليه ثم خرج من عنده، قال:

فقلت لأصحابي: هذا عمرو بن أمية الضمري، لو قد دخلت على النجاشى وسألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه، فإذا فعلت ذلك رأت قريش أنى قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد. قال: فدخلت عليه فسجدت له كما كنت أصنع، فقال: مرحبا بصديقي، أهديت إليّ من بلادك شيئا؟ قال: قلت: نعم أيها الملك، قد أهديت لك أدما كثيرا، قال: ثم قرّبته إليه فأعجبه واشتهاه، ثم قلت: أيها الملك، إنى قد رأيت رجلا خرج من عندك، وهو رسول رجل عدوّ لنا فأعطنيه لأقتله، فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا. قال: فغضب، ثم مدّ يده فضرب به أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره، فلو انشقت لى الأرض لدخلت فيها فرقا «2» منه، ثم قلت له: أيها الملك، والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه، قال: أتسألنى أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذى كان يأتى موسى عليه السلام لتقتله؟! قال: قلت: أيها الملك، أكذلك هو؟ قال: ويحك يا عمرو، أطعنى واتّبعه؛ فإنه والله لعلى الحق، وليظهرنّ على من خالفه، كما ظهر موسى على فرعون وجنوده، قال: قلت: أفتبايعنى له على الإسلام؟ قال: نعم. فبسط يده فبايعته على الإسلام، ثم خرجت إلى أصحابى وقد حال رأيى عما كان عليه، وكتمت أصحابى إسلامي، ثم خرجت عامدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأسلم، فلقيت خالد بن الوليد، وذلك قبيل الفتح، وهو مقبل من مكة فقلت: أين يا أبا سليمان؟ قال: والله لقد استقام الميسم «3» ، وإن الرجل لنبيّ، أذهب والله أسلم، فحتى متى؟ قال: قلت:

والله ما جئت إلّا لأسلم، قال: فقدمنا المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقدّم خالد بن الوليد فأسلم وبايع، ثم دنوت فقلت: يا رسول الله إنى أبايعك على أن يغفر لى ما

(1) الادم: هو ما يصلح الطعام ويطيبه.

(2)

أى جزعا وخوفا.

(3)

جاء في الروض الأنف للسهيلى ج 3 ص 304: «من رواه «الميسم» بالياء فهى العلامة، أى قد تبين الأمر واستقامت الدلالة، ومن رواه (المنسم) بفتح الميم والنون، فمعناه: استقام الطريق ووجبت الهجرة» .

ص: 239

تقدّم من ذنبي، ولا أذكر ما تأخر، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمرو، بايع فإن الإسلام يجبّ ما كان قبله، وإن الهجرة تجبّ ما كان قبلها. قال: فبايعته ثم انصرفت ا. هـ.

قال ابن إسحاق: وحدثنى من لا أتهم أن عثمان بن طلحة بن أبى طلحة كان معهما، أسلم حين أسلما.

واختلفت الصحابة فيما يفعل بالأساري؛ فمنهم من أشار بقتلهم، ومنهم من أشار بفدائهم.

قال في المواهب: وقد استقر الحكم في الأسارى عند الجمهور من العلماء: أن الإمام يخيّر فيهم، إن شاء قتل، كما فعل النبى صلى الله عليه وسلم ببنى قريظة، وإن شاء فادى بمال كما فعل بأسارى بدر، وإن شاء استرقّ من أسر، وإن شاء من وأطلق من غير شيء، وهذا مذهب الشافعى وطائفة من العلماء.

ولما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا إلى المدينة، وخرج من مضيق الصفراء «1» ، قسم النقل (أى الغنيمة) وكانت إبلا وأفراسا ومتاعا، وسلاحا وأنطاعا، وثيابا وأدما كثيرا، كان قد حمله المشركون للتجارة في صحبة قريش، ونادى النبى صلى الله عليه وسلم «من قتل قتيلا فله سلبه» «2» ، وأنزل الله تعالى في أصحاب بدر: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ

[الأنفال: 1] الاية. وأوّل من حل له أكل الغنائم واتخذها حرفة:

رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الأنبياء من قبل يجاهدون ويقاتلون ويسترقون الأرقاء، ولكن ما كانت الغنائم يحل أكلها لهم، وإذا غنموا من أموال المجاهدة شيئا كانت تنزل نار فتحرقه، وكان ذلك علامة قبولهم.

وفي الطبراني بسند جيد عن أبى هريرة- رضى الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اطّلع الله على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» أو

(1) الصفراء: من ناحية المدينة، وهو واد كثير النخل والزرع في طريق الحاج، بينه وبين «بدر» مرحلة

(2)

وفي لفظ اخر «من قتل كافرا فله سلبه» متفق عليه من البخارى ومسلم، ورواه الإمام أحمد وأبو داود.

ص: 240

قال: «فقد وجبت لكم الجنة» .

ويضرب بأهل بدر المثل في عدم المؤاخذة، قال بعض الشعراء:

يا بدر أهلك جاروا

وعلّموك التّجرّي

وقبّحوا لك وصلي

وحسّنوا لك هجري

فليصنعوا كيف شاؤا

فإنّهم أهل بدر

وقال ابن الفارض:

فليصنع القوم ما شاؤا لأنفسهم

هم أهل بدر، فلا يخشون من حرج

[غريب الاتفاق] وأوّل أبيات الشاعر السابق فيها من المحسّنات البديعية- غير التلميح- نوع يقال له: «غريب الاتفاق» لا سيما إذا كان المخاطب اسمه «بدر» ، وهو أن يتفق للشاعر أو الناثر وقعة أو نكتة يستخرجها من الكلام، أو من الوقائع، وهو عزيز الوقوع، وإن حصل للشاعر أو الناثر في ذلك قران سعد، سارت الركبان بقوله، كما اتفق لابن أبى حصينة المصرى في حسام الدين لؤلؤ صاحب الملك الناصر يوسف حين غزا الفرنج الذين قصدوا الحجاز من بحر القلزم، وظفر الحاجب بهم، فقال ابن أبي حصينة يخاطب الفرنج:

عدوّكم لؤلؤ والبحر مسكنه

والدرّ في البحر لا يخشى من الغير

ومنه قول الصفيّ الحلّى في بديعيته:

ومن غدا اسم أمّه نعتا لأمّته

فتلك امنة من سائر النّقم

ومنه قول ابن الساعاتي، وقد قصد الملك الناصر يوسف- المتقدم ذكره- «بيت يعقوب» من حصون الشأم مخاطبا للإفرنج:

* دعوا بيت يعقوب فقد جاء يوسف*

ومن غريب الاتفاق ما قيل من أن المأمون صنع تابوتا بديعا، يحمله حسان الغلمان على أكتافهم، ويطوفون به في خلال البستان، والمأمون جالس فيه، ومعه جوارى أبيه هارون الرشيد وجدّه موسى الهادي، فدعا الشعراء ذات يوم ليقولوا في ذلك شيئا، فأنشدوا ما عندهم إلا أبا نواس، فسأله المأمون، فتلا قوله

ص: 241

تعالى: وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ [البقرة: 248] فلمّح بالسكينة لهيبة الخليفة المأمون، وبالبقية للجواري، وبموسى وهارون لأبيه وجدّه، وهذا وإن كان من غريب الاتفاق إلا أنه لا يخلو عن التهور والخروج عن اللائق «1» .

والمراد بأهل بدر في الحديث: الذين حضروا وقعتها مع النبى صلى الله عليه وسلم، استشهدوا فيها أم لا؛ لأنهم ارتقوا إلى مقام يقتضى الإنعام عليهم بمغفرة ذنوبهم السابقة واللاحقة، فلا يؤاخذهم بها لبذلهم مهجهم في الله ونصرهم دينه، والمراد إظهار العناية بهم لا الترخيص لهم في كل فعل، والخطاب لقوم منهم على أنهم لا يقارفون ذنبا، وإن قارفوه لم يصرّوا، وقال القرطبي:«هذا خطاب إكرام وتشريف، تضمّن أن هؤلاء حصلت لهم حالة غفرت بها ذنوبهم السالفة، وتأهلوا لأن يغفر لهم ما يستأنف من الذنوب اللاحقة، ولا يلزم من وجود الصلاحية لشيء وقوعه، ولقد أظهر الله تعالى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر عنه بشئ من ذلك؛ فإنهم لم يزالوا على أعمال أهل الجنة إلى أن فارقوا الدنيا، وإن قدر صدور شئ من أحدهم بادر إلى التوبة» .

والشهداء ثلاثة أقسام:

الأوّل: شهيد في حكم الدنيا والآخرة في ترك الغسل والصلاة عليه، وهو من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا.

والثاني: شهيد في الدنيا دون الآخرة، وهو من قاتل رياء وسمعة وقتل، فلا يغسل ولا يصلى عليه.

والثالث: شهيد في الآخرة فقط وهو المطعون والمبطون والغريق والحريق والمحموم وطالب العلم إذا مات على طلبه، والمرأة تموت بسبب الولادة، ومن قتله مسلم أو ذمّيّ أو باغ في غير القتال، فكل هؤلاء يغسلون ويصلّى عليهم، وهم شهداء في الدار الآخرة لا في الدنيا، قاله الإمام الرافعى لأن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان غسّلا، وهما شهيدان بالإجماع.

(1) من شروط التشبيه أن يكون بين الطرفين وجه شبه، وليس كذلك هنا؛ إذ لا وجه للمشابهة بين الشياطين والملائكة، أخزى الله من قاله، ما أجرأه على القران!

ص: 242

استطراد لمناسبة: قال عمر بن عبد العزيز: كان أبى إذا خطب ونال من عليّ يلجلج في كلامه، فقلت: يا أبت إنك تمضى في خطبتك، فإذا أتيت إلى ذكر عليّ عرفت منك تقصيرها، قال: أو فطنت لذلك؟ قلت: نعم، قال: يا بنى إن الذين حولنا لو يعلمون من عليّ ما نعلم لتفرّقوا عنّا إلى أولاده.

فلما ولى عمر الخلافة لم يكن عنده من الرغبة في الدنيا ما يرتكبه في هذا الأمر العظيم لأجله، فكتب بتركه، وقرأ عوضه: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ

[النحل: 90] فحل هذا الأمر عند الناس محلا عظيما، وأكثروا مدحه حتّى قال كثير في أبياته في حق عمر بن عبد العزيز:

وليت ولم تشتم عليا ولم تخف

بريّا، ولم تتبع مقالة مجرم

وقيل: إنه قال: إن سبب محبتى عليا أنى كنت بالمدينة أتعلم العلم، وكنت ألزم عبيد الله بن عبد الله ابن مسعود، فبلغه عنى شىء من ذلك، أى في سب بنى أمية لعلي، فأتيته يوما وهو يصلى فأطال الصلاة، فقعدت أنتظر فراغه، فلما فرغ التفت إليّ وقال: متى علمت أن الله غضب على أهل بدر وبيعة الرضوان بعد أن رضى عنهم؟! قلت: ولم أسمع بذلك، قال: فما الذى بلغنى عنك في علي؟ فقلت: «معذرة إلى الله وإليك، والله لا أعود» ، فما سمع بعد ذلك يذكر عليّا إلا بخير. أ. هـ.

ولا مانع أن يقال: إنه لحسن سريرته السرية، وسيرة عدله العمرية، لما رأى الحق للإمام عليّ أبطل من نفسه مثلبة سبّه على المنابر، وهذا ما يقضى به حسن الظن في حق هذا الخليفة الموصوف بالعدل في الباطن والظاهر، بدليل استبدال ذلك بالاية الشريفة وهى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى، وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ، فمن جملة ذلك الأمر بعدم السب والنهى عنه، إذ هو من الفحشاء والمنكر، لا سيما وأن الغالب في الخلفاء والسلاطين والملوك إنما يأمرون بما يأمرون به من تلقاء أنفسهم، كأمر الخليفة المعتضد العباسى بسب معاوية على المنابر، كما حكاه ابن جرير عنه، وإن صح أنه أمسك عن ذلك بعد أن أنشأ كتابا ليقرأ على المنبر فيه مثالب معاوية ومعايبه، حيث قيل له: إن أهل بيت عليّ منهم الخارجون عليك في كل ناحية؛ فإذا سمعوا سبّ معاوية مال إليهم كثير من الناس، وخرجوا عن طاعة العباسية، فيكون عمر بن عبد العزيز

ص: 243

بادر بإزالة المنكر من بداية الأمر به، بدون أن ينتظر نصح ناصح، وهذا بفضله أكمل.

روى أنه لما سئل عن على ومعاوية، قال:«دماؤهم قد طهّر الله منها سيوفنا، أفلا نطهّر من الخوض فيها ألسنتنا؟!» .

* وفي منتصف شوال من هذه السنة الثانية، كانت غزوة بنى قينقاع (بفتح القاف وإسكان الياء وتثليث النون) بطن من يهود المدينة لهم شجاعة وصبر، وكانوا حلفاء عبادة بن الصامت- رضى الله تعالى عنه- وعبد الله بن أبى بن سلول الخزرجى المنافق، وحلفاء للخزرج، فلما كانت وقعة بدر أظهروا البغى والحسد، ونبذوا العهد الذى كان صلى الله عليه وسلم عاهداهم به وعاهد بنى قريظة والنضير: أن لا يحاربوه ويظاهروا عليه عدوّه، وقيل: على ألايكونوا معه ولا عليه، وقيل:

على أن ينصروه صلى الله عليه وسلم على من دهمه من عدوه. فكانوا أوّل من غدر من يهود، وتبرأ عبادة بن الصامت من حلفهم، وتشبث به عبد الله بن أبيّ ابن سلول، وفيه نزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ [المائدة: 51] ، فجمعهم صلى الله عليه وسلم، وقال لهم:«يا معشر يهود احذروا من الله أن ينزل عليكم مثل ما نزل بقريش من النقمة (أى ببدر) ، أسلموا فإنكم قد عرفتم أنى مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله تعالى إليكم» ، فقالوا: يا محمد إنك تظننا مثل قومك، ولا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب، فأصبت لهم فرصة، إنّا والله لو حاربناك لتعلمنّ أنك لم تقاتل مثلنا. وقد قالوا ذلك لأنهم كانوا أشجع اليهود وأكثرهم أموالا وأشدّهم بغيا، فأنزل الله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ

[ال عمران: 12] ، فبينما هم على بغيهم ومجاهرتهم بكفرهم، إذ جاءت امرأة كانت تحت رجل من الأنصار إلى سوق بنى قينقاع، فجلست عند صائغ منهم في أمر حليّ لها، فجاء رجل من بنى قينقاع فجلس من ورائها وهى لا تشعر، فحلّ درعها إلى ظهرها بشوكة، فلما قامت تكشّفت، فضحكوا منها، فقام إليه رجل من المسلمين فاتبعه فقتله، فقتل اليهود المسلم، ونبذوا العهد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل فيهم: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً [الأنفال: 58] ، فتحصّنوا في حصونهم، فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولواؤه كان أبيض بيد حمزة بن عبد المطلب رضى

ص: 244

الله تعالى عنه- وحاصرهم خمس عشرة ليلة أشد الحصار، فقذف الله في قلوبهم الرعب، وكانوا سبعمائة نفس: أربعمائة حاسر «1» ، وثلاثمائة دارع «2» ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخلى سبيلهم وأن يجلوا من المدينة، وأن لهم نساءهم والذرية، وله صلى الله عليه وسلم الأموال والسلاح، فخمّست «3» أموالهم، وأمر صلى الله عليه وسلم أن يجلوا من المدينة، ووكل بإجلائهم عبادة بن الصامت رضى الله تعالى عنه، وطلبوا أن يمهلهم فوق الثلاث فقال:«ولا ساعة واحدة» ، وتولّى إخراجهم بنفسه. وذهبوا إلى أذرعات- بلدة بالشام- ولم يدر الحول عليهم حتّى هلكوا أجمعين بدعوته صلى الله عليه وسلم، حيث قال لابن أبيّ بن سلول:«لا بارك الله لك فيهم» . ووجد صلى الله عليه وسلم في منازلهم سلاحا كثيرا، وأخذ صلى الله عليه وسلم من سلاحهم ثلاث قسي، منها القوس «الكتوم» التى لا يسمع لها صوت إذا رمى بها، وهى التى رمى بها صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وأخذ صلى الله عليه وسلم درعين منهما الدرع المسماة «بالسغدية» بسين مهملة وغين معجمة، ويقال:

إنها درع داود التى لبسها حين قتل جالوت، وأخذ صلى الله عليه وسلم ثلاثة أرماح وثلاثة أسياف، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أموالهم، وكانوا صاغة لا أرض لهم، وكان خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة أبا لبابة.

* وفي هذه السنة: الثانية من الهجرة كانت غزوة السويق:

لما أصاب قريشا «4» فى بدر ما أصابهم، نذر أبو سفيان ألايمس النساء والطيب حتّى يغزو محمدا، ويثار منه ومن أصحابه بمن أصيب من المشركين يوم بدر، فخرج في مائتى راكب من قريش لوفاء نذره، حتى نزل بمحل بينه وبين المدينة نحو بريد «5» ، ثم أتى لبنى النضير، وهم حيّ من يهود خيبر ينسبون إلى هارون بن عمران «6» ، تحت الليل «7» فأتى حيىّ بن أخطب، وهو من رؤساء

(1) بلا درع.

(2)

يرتدى درعا.

(3)

أى قسمت خمسة أقسام.

(4)

فى الأصل «قريش» وهو خطأ.

(5)

البريد: فرسخان، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل يقدّر بحوالى 1609 من الأمتار.

(6)

وهو هارون أخو موسى عليهما السلام.

(7)

أى في ظلام الليل الشديد، وعبر بتحت؛ لأنه جعل الليل رداءه فهو تحته والليل فوقه.

ص: 245

بنى النضير- وهو أبو صفية أم المؤمنين رضى الله تعالى عنها- ليخبره من أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أحبّ معرفته، فضرب عليه بابه، فأبى أن يفتح له؛ لأنه خافه، وجاء إلى سلّام بن مشكم سيد بنى النضير، وصاحب كنزهم (أى المال الذى كانوا يجمعونه ويدخرونه للنوائب وما يعرض لهم، وكان حليّا يعيرونه لأهل مكة)«1» فاستأذن عليه، فأذن له واجتمع به وسقاه خمرا، فلما كان السحر خرج أبو سفيان ومن معه فلقي رجلا من الأنصار في حرث له، فقتله وقتل أجيرا كان معه، وحرق حرثهما، ورأى أنّ يمينه قد حلّت فمضى هاربا، وقد خاف الطلب. وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مائتين من المهاجرين والأنصار في طلبهم، وكان خروجه لخمس من ذى الحجة من السنة الثانية من الهجرة، وجعل أبو سفيان وأصحابه يخففون للهرب، فيلقون جرب السويق من قمح أو شعير مطحون، وهو عامة أزوادهم، فيأخذه المسلمون، ولم يلحقوا بهم. وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا إلى المدينة، وكانت غيبته خمسة أيام، ولإلقاء السويق من رحالهم لتخفيفها وأخذ المسلمين لذلك، سميت غزوة السويق، ولم يلق فيها كيدا.

* وفي هذه السنة مات عثمان بن مظعون رضى الله تعالى عنه.

* وفيها أيضا هلك أمية بن أبى الصلت- من رؤساء الكفار- قرأ الكتب «2» ، واطّلع على البعثة، فكفر حسدا؛ لأنه رجا أن يكون هو المبعوث، ونزل في حقه قوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها [الأعراف: 175] ، وكان سافر إلى الشام ورجع عقيب وقعة بدر السابقة، فمرّ بالقليب وفيه قتلى

(1) كانوا يعطون الناس ويأخذون منهم إلى أن يتمكنوا مما يريدون. ومن أحداث اليهود أن جماعة منهم استعاروا ذهب المصريين- وقت خروجهم مع سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام بحجة أو بأخرى- وذهبوا بها ولم يردّوها لأصحابها- استحلوا هذا النهب بحجة أنهم شعب الله المختار، وهى دعوى عريضة لم يقم على صحتها دليل، بل قام الدليل على كذبها ألف مرة ومرة. وقد حكى القران عنهم أنهم قالوا «نحن أبناء الله وأحباؤه» فردّ عليهم هذه الفرية بقوله تعالى: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ [المائدة: 18] ، وصوّروا العجل الذى عبدوه من دون الله من هذه الأموال التى سرقوها من مصر.

(2)

أى التوراة والإنجيل والزبور.

ص: 246

بدر، وكان ممن في القليب عتبة وشيبة ابنا خالي أمية، فجدع أذني ناقته، وقال قصيدة:

هلّا بكيت على الكرا

م بنى الكرام أولى الممادح

كبكا الحمام على فرو

ع الأيك في الغصن الجوانح

يبكين حزنى مستكي

نات يرحن مع الروائح

أمثالهن الباكي

ات المعولات من النوائح

ماذا ببدر والعقن

قل من مرازبة جحاجح «1»

شمط وشبّان بهالي

ل مناوير دحادح «2»

أن قد تغيّر بطن مكّ

ة فهى موحشة الأباطح «3»

وهى قصيدة نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن روايتها؛ لأن أمية كان يحرض قريشا بعد وقعة بدر على المسلمين. ومع ذلك فله أشعار يفهم منها ميله إلى اعتقاد أن دين الإسلام حق، فمن ذلك قوله:

كلّ دين يوم القيامة عند

الله إلا دين الحنيفة زور

ولما أنشد لدى النبى صلى الله عليه وسلم قوله:

الحمد لله ممسانا ومصبحنا

بالخير صبّحنا ربّى ومسّانا

ربّ الحنيفة لم تنفد خزائنها

مملوءة طبق الافاق سلطانا

ألا نبيّ لنا يأتى فيخبرنا

ما بعد غايتنا من رأس محيانا

بينا يربّوننا اباؤنا هلكوا

وبينما نقتنى الأولاد أفنانا

وقد علمنا لو أنّ العلم ينفعنا

أن سوف يلحق أخرانا بأولانا

قال النبى صلى الله عليه وسلم «إن كاد أمية ليسلم» «4» . ويروى أن أمية بن أبى الصلت-

(1) الجحجاح: السيد.

(2)

الدحداح: القصير.

(3)

الأبطح: مسيل واسع، فيه حصى دقاق.

(4)

ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «امن شعر أمية بن أبى الصلت وكفر قلبه» رواه أبو بكر بن الأنبارى فى «المصاحف» والخطيب وابن عساكر عن عبد الله بن عباس.

ص: 247

واسم أبى الصلت: عبد الله بن ربيعة بن عوف الثقفى- لما مرض مرضه الذى مات فيه جعل يقول: «قد دنا أجلى وهذه المرضة منيتي، وأنا أعلم أن الحنيفية حق، ولكن الشك يداخلنى في محمد» . ولما دنت وفاته أغمى عليه قليلا حتّى ظن من حضره من أهله أنه قد قضي، ثم أفاق وهو يقول:«لبيكما لبيكما، ها أنا ذا لديكما، لا برئ فأعتذر، ولا قوى فأنتصر» . ثم إنه بقى يحدّث من حضره ساعة، ثم أغمى عليه ثانيا، حتى يئسوا من حياته، وأفاق وهو يقول: لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما.

إن تغفر اللهمّ تغفر جمّا

وأيّ عبد لك لا ألمّا

ثم أقبل على القوم فقال: «قد جاء وقتي، فكونوا في أهبتي» . وحدثهم قليلا حتى يئس القوم منه.

وكان أمية يتعبد في الجاهلية، ويؤمن بالبعث، وأدرك الإسلام ولم يسلم، وإنه لما غشي عليه وأفاق قال:

كلّ عيش وإن تطاول دهرا

صائر أمره إلى أن يزولا

ليتنى كنت قبل ما قد بدا لي

في رؤوس الجبال أرعى الوعولا «1»

إنّ يوم الحساب يوم عظيم

شاب فيه الوليد يوما ثقيلا

اجعل الموت نصب عينك واحذر

غولة الدهر إنّ للدهر غولا

ثم قضى نحبه، ولم يؤمن بالنبى صلى الله عليه وسلم، وذكر عن سهل أن النبى صلى الله عليه وسلم لما سمع قول أمية:

لك الحمد والنعماء والفضل ربّنا

فلا شيء أعلى منك حمدا وأمجدا

قال: «امن شعره وكفر قلبه» . وكفر قلبه: عدم إيمانه بالنبى صلى الله عليه وسلم، وما سلف ذكره- من عدّه ممن امن به صلى الله عليه وسلم «كقس بن ساعدة» فالقصد منه اعتقاد نبوته صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، لا الإذعان بعد المبعث، حيث حمله على عدم الإيمان الحسد والحمية الجاهلية وغلبة الشقاء.

(1) الوعل: تيس الجبل، وهو جنس من المعز الجبلية له قرنان قويّان.

ص: 248

وكان خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غيبته أبا لبابة، كما في غزوة بنى قينقاع.

وفي هذه السنة الثانية من الهجرة كانت وقعة «ذى قار» «1» بين بكر بن وائل وبين جيش كسرى أبرويز، والغلبة على الهرمزان، وانهزمت الفرس، وقتل الهرمزان.

وسبب هذه الوقعة المشهورة في أيام العرب «بيوم ذى قار» أن كسرى أبرويز غضب على النعمان بن المنذر وحبسه، فهلك في الحبس، وكان النعمان قد أودع حلقته- وهى السلاح والدرع- عند هانئ بن مسعود البكري، فأرسل أبرويز يطلبها من هانئ المذكور، فقال:«هذه أمانة، والحرّ لا يسلم أمانته» ، وكان أبرويز لما أمسك النعمان قد جعل موضعه في ملك الحيرة: إياس بن قبيصة الطائي، فاستشار أبرويز إياسا المذكور، فقال إياس: المصلحة التغافل عن هانئ بن مسعود المذكور حتّى يطمئن ونتبعه فندركه. فقال أبرويز: إنه من أخوالك ولا تألوه تصحا، فقال إياس: رأي الملك أفضل. فبعث أبرويز الهرمزان في ألفين من الأعاجم وبعث ألفا من «بهرا» (قبيلة) ، فلما بلغ بكر بن وائل خبرهم أتوا مكانا من «بطن ذى قار» فنزلوه، فوصلت إليهم الأعاجم واقتتلوا ساعة، وانهزمت الأعاجم هزيمة قبيحة، وأكثرت العرب الأشعار في ذكر هذا اليوم، وقيل: إن هذه الوقعة كانت في سنة أربعين من مولد النبى صلى الله عليه وسلم، ولم تكن في عام وقعة بدر، وهذا القول هو الأقوى والأصح.

وفي هذه السنة كانت غزوة «قرقرة الكدر» «2» :

(1) ذو قار: ماء لبكر بن وائل قريب من الكوفة، بينها وبين واسط، وفيها كانت الوقعة المشهورة بين العرب والفرس.

(2)

قرقرة الكدر، قيل بناحية المعدن، قريبة من الأرحضية- أو الرّحضية من نواحى المدينة قرية لبنى سليم والأنصار من نجد، وبها ابار عليها زرع كثير ونخل، وحذاءها قرية يقال لها الحجر- بينها وبين المدينة ثمانية برد، وقيل ماء لبنى سليم، به غزوة للنبى صلى الله عليه وسلم.

ص: 249

وهى أرض مما يلى جادّة العراق إلى مكة، بها طيور في ألوانها كدرة، عرف بها ذلك الموضع.

سببها: وذلك أنه صلى الله عليه وسلم بلغه أن قوما من بنى سليم وغطفان يريدون الإغارة على المدينة، فسار إليهم في مائتين من أصحابه، وحمل اللواء عليّ بن أبى طالب- رضى الله تعالى عنه- فوصل إلى ذلك الموضع فلم يجد به أحدا منهم، وأرسل نفرا من أصحابه إلى أعلى الوادي، واستقبلهم في بطن الوادي، فوجد خمسمائة بعير مع رعاة لهم، فخمّس «1» الإبل، فخصّ كلّ واحد بعيران، ورجع إلى المدينة.

وقيل: كانت هذه الغزوة في المحرم سنة ثلاث، ويمكن أن يجمع بين القولين بأنها ابتدأت في أواخر شهر ذى الحجة، وبقيت إلى أوّل المحرم سنة ثلاث.

وفي هذه السنة ولد عبد الله بن الزبير.

وكان خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة ابن أم مكتوم.

(1) جعلها خمسة أقسام.

ص: 250