الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ أحينى مسكينا» : إن المراد به استكانة القلب لا المسكنة التى هى أنه لا يجد ما يقع موقعا من كفايته، وكان يشدّد النكير على من يعتقد خلاف ذلك.
وقال بعضهم: «الفقر لباس الأنبياء وزينة الأولياء» لأن الفقر يورث الخشوع، والخشوع يورث الكرامة.
وقد قيل: «إنّ لكل شيء مفتاحا، ومفتاح الجنة حب المساكين والفقراء» .
وخصائصه صلى الله عليه وسلم على أضرب:
الأوّل الواجبات:
الضحي، والأضحية، والوتر، والتهجد، والسواك، والمشاورة، ومصابرة العدوّ وإن كثر وزاد على الضعف، وقضاء دين من مات وعليه دين لم يخلف وفاء، وقيل: كان يفعله تكرّما لا وجوبا، وتخيير نسائه، وقيل: كان مستحبا.
الثانى
ما اختص به من المحرمات، فيكون الأجر في اجتنابه أكثر، وهو قسمان:
أحدهما في غير النكاح، فمنه: الشّعر، والخطّ، والأكل متّكئا، وأكل الثوم والبصل، والكراث، وقيل: مكروه، وإذا لبس لأمته لا ينزعها حتّى يلقى العدوّ، وقيل:
مكروه، وإذا شرع لزمه إتمامه، وألاينظر إلي ما متّع به الناس من الدنيا، وخائنة الأعين.
الثانى في النكاح: فمنه إمساك من كرهت نكاحه، وقيل: تكرّما.
الثالث المباحات:
فمنه الوصال في الصوم، واصطفاء ما أبيح له من الغنيمة قبل القسمة، ودخول مكة بلا إحرام، وإباحة القتال فيها ساعة، والقضاء بالعلم، والحكم لنفسه وولده، ويشهد لنفسه وولده، ويقبل شهادة من يشهد له، ويحمى الموات لنفسه، ولا ينتقض وضوؤه بالنوم مضطجعا، وأبيح له أخذ الطعام والشراب من مالكهما المحتاج إليهما إذا احتاج صلى الله عليه وسلم إليهما، ويجب على صاحبهما البذل وصيانة مهجته عليه الصلاة والسلام، وإباحة تسع نسوة، والصحيح الزيادة له، وانعقاد نكاحه بلا وليّ ولا شهود، وفي وجوب القسم بين أزواجه وإمائه خلاف.
الرابع ما
اختص به من الفضائل والإكرام: فمنه أن أزواجه اللاتى توفى عنهنّ
محرّمات على غيره أبدا، وفيمن فارقها في حياته أوجه:، أصحّها التحريم، وأن أزواجه رضوان الله عليهن أمهات المؤمنين، وأنهن أفضل من غيرهن من النساء، وجعل ثوابهن وعقابهن ضعفين «1» ، وأنه خاتم النبيين، وخير خلق الله، وأمته أفضل الأمم، وهى معصومة من الاجتماع علي ضلالة، وأصحابه خير القرون، وشريعته مؤيّدة وناسخة لجميع الشرائع، وكتابه معجز محفوظ عن التحريف والتبديل، وهو حجة على الناس بعد وفاته، ومعجزات الأنبياء انقرضت، ونصر بالرعب من مسيرة شهر، وجعلت له الأرض مسجدا وطهورا، وأحلّت له الغنائم، وأعطى الشفاعة والمقام المحمود، وأرسل إلى الناس كافة، وهو سيد ولد ادم، وأوّل من تنشق عنه الأرض، وأوّل شافع، وأوّل مشفّع، وأوّل من يقرع باب الجنة، وأكثر الأنبياء تبعا، وأعطى جوامع الكلم، وصفوف أمته في الصلاة كصفوف الملائكة، وكان لا ينام قلبه، ولا يحل لأحد أن يرفع صوته فوق صوته، ولا يناديه باسمه، ويخاطبه المصلّى بقوله: السلام عليك أيها النبي، ولو خاطب ادميا غيره بطلت صلاته، ويلزم المصلّى إذا دعاه أن يجيبه وهو في الصلاة، ولا تبطل صلاته، وكانت الهدية حلالا له، بخلاف غيره من ولاة الأمور، ولا يجوز الجنون على الأنبياء، بخلاف الإغماء، ومن راه في المنام فقد راه حقّا، وأن الأرض لا تأكل لحم الأنبياء، وأنّ كذبا عليه ليس ككذب على غيره. صليّ الله عليه وعلى اله وسلّم.
فلما كان صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وسيد المرسلين، واتاه الله علم الأوّلين والاخرين، ولا يحصى مناقبه أحد من العالمين صلّى الله عليه وعلى اله وصحبه أجمعين.
قال البوصيري:
فاق النبيّين في خلق وفي خلق
…
ولم يدانوه في علم ولا كرم
وكلّهم من رسول الله ملتمس
…
غرفا من البحر أو رشفا من الدّيم
وكلّ اي أتي الرسل الكرام بها
…
فإنما اتصلت من نوره بهم
فمبلغ العلم فيه أنّه بشر
…
وأنه خير خلق الله كلّهم
(1) لقوله تعالى: يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب: 30] وقوله بعدها: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ [الأحزاب: 31] وعلل ذلك بقوله تعالى: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ [الأحزاب: 32] .
فقد أطلعه الله على ما شاء من المغيّبات، فوقعت على وفق إخباره بها فيما مضى وما هو ات، واستأثر سبحانه دون جميع الخلق بعلم أمور منها: مفاتح الغيب الخمس «1» . ولقد قبض النبى صلى الله عليه وسلم وما يعلم الروح، وقال الجنيد: الروح مما استأثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحدا من خلقه، فلا يجوز لعباده البحث عنه بأكثر من أنه موجود، وثبت عن ابن عباس أنه كان لا يفسر الروح، أى لا يعيّن المراد به فى الاية «2» .
وقد اختلف في مسألة اشتهرت بالديار المغربية، نشر الله بها أعلام السنة المحمدية، وهي: هل أحاط رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلم الله كما أحاط الحقّ بعلمه أو لا؟
فأجاب عن ذلك بعضهم بقوله: لا يصح ذلك، بل الذى ينبغى اعتقاده أن الله أعلم رسوله صلى الله عليه وسلم ما لم يعلمه أحدا من الخلق، وحاشا سيد الأحباب أن يرضى من أمته أن يسوّوا بينه في العلم وبين رب الأرباب، ومن المحال أن يلحق العبد مرتبة السيد على كل حال، فاحذر الغلط، وإياك من ركوب التعاسيف والشّطط «3» . اهـ.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا تطرونى كما أطرى عيسى» أى لا تبالغوا في مدحى، وفي معنى الحديث قال البوصيري:
دع ما ادّعته النصاري في نبيّهم
…
واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم
فإنّ فضل رسول الله ليس له
…
حدّ فيعرب عنه ناطق بفم
(1) قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان: 34]
(2)
وقال بعض المفسرين في قوله تعالى قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء: 85] أى كانت بكلمة «كن» وهذا يعنى أنها سر غامض لا يعلمه إلا الله تعالى، والقول فيها تهجّم على الله تعالى.
(3)
لو علم رسول الله صلى الله عليه وسلم علم الله لكان علم الله تعالى محدودا، ولكان الله تعالى محدودا؛ واعتقاد هذا صريح الكفر والعياذ بالله!
ولقد أجاد القائل:
الأمر أعظم من مقالة قائل
…
إن رقّق البلغاء أو إن أفحموا
ماذا يقول المادحون ومدحه
…
حقّا به نطق الكتاب المحكم
ويحكى أن العارف الكبير أبا حفص عمر بن الفارض رحمه الله تعالى قيل له: لم لا مدحت النبى صلى الله عليه وسلم؟! فأنشد قائلا:
أري كلّ مدح في النبيّ مقصّرا
…
وإن بالغ المثني عليه وأكثرا
إذا الله أثني بالذي هو أهله
…
عليه، فما مقدار ما يمدح الوري؟
فمن تمام الإيمان به صلى الله عليه وسلم: اعتقاد أنه لم يجتمع في بدن ادمى من المحاسن الظاهرة ما اجتمع في بدنه الشريف صلى الله عليه وسلم، فيكون ما يشاهد من محاسنه الظاهرة علامة على محاسنه الباطنة، ولا أكمل منه صلى الله عليه وسلم، ولا مساو له في هذا المدلول، فكذلك في الدّالّ، ولذا نقل القرطبى عن بعضهم أنه قال: لم يظهر لنا في الدنيا تمام حسنه صلى الله عليه وسلم وإلا لما طاقت أعين الصحابة النظر إليه صلى الله عليه وسلم»
فإذا كان في الآخرة ظهر تمام ذلك، ولذا قال صاحب البردة:
فهو الذي تمّ معناه وصورته
…
ثم اصطفاه حبيبا بارئ النّسم
منزّه عن شريك في محاسنه
…
فجوهر الحسن فيه غير منقسم
وقد جمع الله له صلى الله عليه وسلم محاسن السير وأحاسن السياسة والخبر، مع أنه أمّيّ لا يكتب ولا يقرأ، ولا معلّم له من البشر، نشأ بين جهّال، يتيما من أبويه، فعلّمه الله مكارم الأخلاق، وجعل له من أكارم الاداب أوفر خلاق.
وما أحسن قول القائل:
أخذ الإله أبا الرسول ولم يزل
…
برسوله الفرد اليتيم رحيما
نفسي الفداء لمفرد في يتمه
…
والدرّ أحسن ما يكون يتيما
(1) ولذا ثبت عن عمرو بن العاص وغيره أنه ما كان يستطيع أن يثبت نظره في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: «والله ما ملأت عينى من رسول الله صلى الله عليه وسلم قط» .
وكذلك جمع صلى الله عليه وسلم ما تفرّق في الأنبياء من مكارم الأخلاق، وسمّاه عظيما فقال تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4] ؛ فكان فيه صلى الله عليه وسلم خلق ادم (بفتح الخاء وسكون اللام) ، ومعرفة شيث، وشجاعة نوح، وخلّة إبراهيم، ولسان إسماعيل، ورضى إسحاق، وفصاحة صالح، وحكمة لوط، وبشرى يعقوب، وشدّة موسي، وصبر أيوب، وطاعة يونس، وجهاد يوشع، وصوت داود، وحبّ دانيال، ووقار إلياس، وعصمة يحيي، وزهد عيسى.
ثم دعا الله تعالى عباده للاقتداء به التخلّق بأخلاقه فقال: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21] ؛ فقد أيّده الله تعالى بالمعجزات الباهرة، وأكرمه بالايات الظاهرة، وخصّه بالشفاعة العظمى في الدار الآخرة، صلى الله عليه وسلم وعترته الطاهرة، وصحابته النجوم الزاهرة، قال الأديب جمال الدين الدمشقى فى ذلك:
يا عين إن بعد الحبيب وداره
…
ونأت مرابعه وشطّ مزاره
فلقد ظفرت من الزمان بطائل
…
إن لم تريه فهذه اثاره
ولقد سبقه إلي ذلك الصلاح الصفدي، فقال:
أكرم باثار النبيّ محمد
…
من زاره استوفي السرور مزاره
يا عين دونك فانظري وتمتّعي
…
إن لم تريه فهذه اثاره
واقتدى بهما في ذلك أبو الحزم المدني، فقال:
يا عين كم ذا تسفحين مدامعا
…
شوقا لقرب المصطفي ودياره
إن كان صرف الدهر عاقك عنهما
…
فتمتّعي يا عين في اثاره
وبالجملة فاثاره صلى الله عليه وسلم وماثره هى الواسطة العظمى في تشييد هذا الدين المحمدي «1» العظيم البنيان الذى هو ببركته صلى الله عليه وسلم باق إلى اخر الزمان، وكذلك ما
(1) يقصد الشرع الإلهى الذى خص به محمد صلى الله عليه وسلم من دون الأنبياء، بدليل أنه عبر بها في قوله «فشريعة المصطفي» الخ.
دامت معجزة القران التى هي أكبر المعجزات باقية بين أظهرنا، فلا ينسخ الماضى الات، فشريعة المصطفى عليه الصلاة والسلام باقية إلى يوم القيامة، ومعجزة القران الباهرة الدلائل ليست- ولله الحمد- داخلة في قول القائل:
تتخلّف الاثار عن أصحابها
…
حينا ويدركها الفناء فتتبع