الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث فى هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وما ترتب على ذلك من المظاهر الإسلامية والظواهر التعليمية. وفيه فصول
الفصل الأوّل فى الأسباب الباعثة علي هذه الهجرة والتمهيد لها
قد أخفى صلى الله عليه وسلم رسالته ثلاث سنين، كما تقدم في الفصل الأوّل من الباب الثاني، ثم أعلن بها في الرابعة، ودعا إلى الإسلام عشر سنين، يوافى الموسم كل عام يتبع الحجاج في منازلهم بمنى والموقف، ويسأل عن القبائل قبيلة قبيلة، ويسأل عن منازلهم، ويأتى إليهم في أسواق المواسم، وهى: عكاظ، ومجنة، وذو المجاز. وقد تقدم الكلام على سوق عكاظ في الفصل الثالث من الباب الثانى من المقالة الرابعة من الجزء الأوّل، وأن العرب كانت إذا حجّت تقيم بعكاظ شهر شوال، ثم تجيء إلى سوق مجنة تقيم فيه عشرين يوما من ذى القعدة، ثم تجيء سوق ذى المجاز فتقيم به إلى أيام الحج.
وكان صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى أن يمنعوه ويناصروه حتّى يبلّغ رسالة ربه، فكان يقول بمني: يا أيها الناس إن الله يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا. وكان وراءه أبو لهب يقول: يا أيها الناس إن هذا يأمركم أن تتركوا دين ابائكم.
وقد عرض على بنى حنيفة، وبنى عامر بن صعصعة المبايعة، فقال له رجل منهم: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظفرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ فقال: الأمر إلى الله يضعه حيث شاء، فقال له ذلك الرجل:
أنقاتل العرب دونك، فإذا أظفرك الله كان الأمر لغيرنا!! لا حاجة لنا بأمرك.
وأبوا عليه. فلما رجعت بنو عامر إلى منازلهم، وكان فيهم شيخ أدركه السن، حتى لا يقدر أن يوافى معهم الموسم، فقدموا عليه، سألهم عمّا كان في موسمهم، فقالوا: جاءنا فتى من قريش، أحد بن عبد المطلب، يزعم أنه نبي، يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه، ونخرج إلى بلادنا. فوضع الشيخ يده على رأسه، ثم قال:
يا بنى عامر، هل لها من تلاف؟ هل لها من مطّلب؟ والذى نفسى بيده ما يدّعى النبوة كاذبا أحد من بنى إسماعيل قط، وإنها لحق، وإن رأيكم غاب عنكم.
وقد بشّر بظهوره وهجرته [من ملوك حمير الملك الحارث الرايش أبو التبابعة فى أبيات يقول فيها:
أنا الملك المتوّج ذو العطايا
…
جلبت الخيل من أوطان شام
لنوطنها البلاد إلى بلاد
…
تداولها الملوك من ال رام
لأنّا الأغلبون إذا بطشنا
…
وأنّا المنقمون لكل دام
وأنّا يوم نغضب أو نسامي
…
تكاد الأرض ترجف بالأنام
ولن ترضى تقرّ بمن عليها
…
ويشرق وجهها بعد الظلام
وفينا الملك والأملاك منّا
…
ونحن الأكرمون بنو الكرام
أبونا يعرب، وبه نسامي
…
فنقهر من يفاخر أو يسامي
فإن أهلك فقد أمّلت ملكا
…
لكم يبقى إلى وقت التّهامي «1»
ويملك بعدنا منّا ملوك
…
يديمون الأنام بغير دام
ويخرج بعدهم رجل عظيم
…
نبيّ لا يرخّص في الحرام
يفارق أهله، وله كتاب
…
يوافق خطّه رجع الكلام «2»
وأحمد اسمه، يا ليت أنّي
…
أؤخّر بعد مخرجه بعام
ويخلف بعده خلفاء برّ
…
وتملك بعده أولاد عام
(1) هو النبى صلى الله عليه وسلم، نسبة إلى تهامة بكسر التاء. وفي المراصد:«تهامة تساير البحر، ومنها مكة» وأصل البلاد: تهامة، والحجاز، ونجد، وإنما سمي الحجاز حجازا لأنه حجز بين تهامة ونجد.
(2)
الرجع: الصدي، والترجيع: الترديد في الحلق.
[قوله أولاد عام: أي أولاد عامر، وهو سبأ الأكبر] فبينما كان صلى الله عليه وسلم في بعض المواسم، عند عقبة الجمرة سنة إحدى عشرة من النبوة، إذ لقى رهطا من الخزرج، وكانوا ستة، وقيل ثمانية، اراد الله بهم خيرا، فقال لهم: من أنتم؟ فقالوا: نفر من الخزرج، قال: أفمن موالى يهود «1» ؟ قالوا: لا، قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلي. فجلسوا معه صلى الله عليه وسلم، فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام، ورأوا أمارات الصدق عليه صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم لبعض:
والله إنه للنبى الذى يوعدكم به يهود، فلا يسبقنّكم إليه. فأجابوه وصدّقوه وأسلموا، وقالوا له: إنّا تركنا قومنا الأوس والخزرج بينهم من العدواة والشر ما بينهم، فإنّ الله يجمعهم عليك، فلا رجل أعز منك. وكان الأوس والخزرج أخوين لأب وأم، فوقعت بينهما العداوة، وتطاولت بينهم الحروب، فمكثوا على المحاربة والمقاتلة نحو عشرين ومائة سنة «2» .
ولما آمنوا به صلى الله عليه وسلم وصدّقوه، قالوا: إنا نشير عليك أن تمكث على حالك بسم الله حتي نرجع إلي قومنا، فنذكر لهم شأنك وندعوهم إلى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولعل الله يصلح ذات بينهم، ونواعدك الموسم من العام المقبل. فرضى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويسمّى هذا ابتداء إسلام الأنصار؛ فإنهم أجابوه وانصرفوا راجعين إلى بلدهم من غير مبايعة، ويقال:«هم أهل العقبة «3» الأولي» فلما كان العام المقبل قدم من الأوس والخزرج اثنا عشر رجلا، فاجتمعوا به صلى الله عليه وسلم عند العقبة أيضا، منهم خمسة من أهل العقبة الأولى، فبايعهم وعاهداهم، وهذه المبايعة في
(1) أى من الموالين لهم.
(2)
فى الأصل: «مائة وعشرين سنة» وهو خطأ فجعلناها هكذا؛ لأن الأعداد لا تنطق بالعربية إلا هكذا: أي من اليمين إلي اليسار- جعلنا الله من أصحاب اليمين بفضله ومنّه وكرمه.
(3)
العقبة: منزل في طريق مكة: بعد واقصة وقبل لمن القاع لمن يريد مكة، وهو ماء لبنى عكرمة، من بكر بن وائل. اهـ. مراصد.
الحقيقة يقال لها: العقبة الأولي، وإن كانت هي الثانية، فلما انصرفوا راجعين إلي بلادهم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم ابن أم مكتوم، وهو ابن خال خديجة بنت خويلد أم المؤمنين رضى الله عنها، وكذلك بعث مصعب بن عمير رضى الله تعالى عنه، يعلّمان من أسلم منهم القران، ومن أراد أن يسلم الإسلام، ويفقّهانهم في الدين، ويدعوان من لم يسلم منهم إلى الإسلام، وكان مصعب يؤمّ الأوس والخزرج، وجمّع بهم أوّل جمعة جمعت في الإسلام حين بلغ المسلمون منهم أربعين رجلا، بإرساله صلى الله عليه وسلم إليه بالتجميع قبل قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة، وتسمية الأنصار إياها بيوم الجمعة لاجتماعهم فيه، هداية من الله تعالى، وإلا فكانت تسمى في الجاهلية يوم العروبة، أي الرحمة، ولم يجمّع صلى الله عليه وسلم بمكة، مع فرض الجمعة وهو بها؛ لعدم التمكن من فعلها هناك، ولم يأمر بها مصعبا عند إرساله إلى المدينة لعدم وجود شرطها من العدد المذكور حينئذ. وفشا الإسلام بالأنصار، وأسلم سعد بن معاذ سيد الأوس، وسعد بن عبادة سيد الخزرج.
وفي سنة اثنتى عشرة من النبوة أسرى بالنبى صلى الله عليه وسلم، وقيل سنة إحدى عشرة من النبوة كما سبق.
وهناك عقبة ثالثة، وهو: أنه خرج جماعة من الأنصار المسلمين إلي الموسم مع حجاج قومهم غير المسلمين، حتي إذا قدموا على مكة فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق «1» ، فلما مضى ثلث الليل اجتمعوا في الشّعب، وهم ثلاثة وتسعون رجلا وامرأتان: أمّ عمارة إحدى بني مازن بن النجار، وأسماء بنت عمرو بن عدي، فجاءهم النبى صلى الله عليه وسلم ومعه العباس بن عبد المطلب، وهو علي دين قومه، إلا أنه أحب أن يظهر على أمر ابن أخيه ويتوثّق به، فلما جلس كان أوّل متكلم، فقال: «يا معشر الخزرج، إن محمدا منّا حيث علمتم، وقد منعناه من قومنا، فمن هو علي مثل ما رأينا فيه فهو في عزّ قومه ومنعة في بلده، وإنه قد أبي الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحمّلتم من ذلك، وإن كنتم ترون
(1) أيام التشريق هى ثلاثة أيام بعد يوم النحر.
أنكم مسلّموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الان فدعوه؛ فإنه في عز ومنعة في قومه وبلده. فقالوا: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت. فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم القران، ودعا إلى الله ورغّب في الإسلام، ثم قال:«أبايعكم على أن تمنعونى مما تمنعون منه أنفسكم ونساءكم وأبناءكم» . فأخذ البراء بن معرور بيده، ثم قال: والذى بعثك بالحق لنمنعنّك مما نمنع منه أزرنا «1» ، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالا «2» ، وإنّا قاطعوها (يعنى اليهود)، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلي قومك وتدعنا؟. فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال:«بل الدم الدم والهدم الهدم «3» أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتمم وأسالم من سالمتم، أخرجوا إليّ منكم اثنى عشر نقيبا، يكونون علي قومهم بما فيهم» ، فأخرجوا تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس، وانتهت البيعة في العقبة.
فهذه بيعة العقبة الثالثة التى هى في الحقيقة بيعة ثانية؛ لأن الأولى لم تكن بيعة كما تقدم، ولعل من عدّ البيعات ثلاثا اعتبر أن العقبة الأولى التي اجتمع فيها الخمسة من الخزرج كانت بيعة سكوتية؛ لأنها كالبيعتين الأخيرتين، لم يصدر مما حصل فيها مخالفة حيث إن أهل الأولى عادوا في العقبة الثانية وبايعوا مع من حضر معهم من الأنصار علي نصرته صلى الله عليه وسلم على عدوه والإيمان بما جاء به، وهذا من أعظم درجات الإيمان، فبهذا استحق أهل العقبة الأولى الستة فضل المبايعة، وعدّت مبايعة العقبات ثلاثا.
قيل: أحسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ظنّهم بالله، وبايعوا نبيهم صلى الله عليه وسلم علي
(1) أزر: جمع مفرده إزار والإزار: ثوب يحيط بالنصف الأسفل من البدن.
(2)
أى علائق وعهود.
(3)
قوله الهدم، يروى بسكون الدال وفتحها، فالهدم بالتحريك: القبر، يعني أنى أقبر حيث تقبرون، وقيل هو: المنزل، أى منزلكم منزلي، والهدم بالسكون وبالفتح أيضا هو: إهدار دم القتيل، يعنى إن طلب دمكم فقد طلب دمي، وإن أهدر دمكم فقد أهدر دمى؛ لاستحكام الألفة بيننا، كما يؤخذ من النهاية (اهـ. هامش الطهطاوى] .