المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالث في ظواهر السنة الثالثة من الهجرة وما فيها من الغزوات - نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز - جـ ١

[رفاعة الطهطاوى]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الناشر

- ‌[عملنا في هذا الكتاب]

- ‌مؤلفاته ومترجماته

- ‌الباب الأوّل فى مولده الشريف إلى بعثته صلى الله عليه وسلم

- ‌آباؤه:

- ‌طهارة نسبه صلى الله عليه وسلم:

- ‌ومن كلام عمه أبى طالب:

- ‌[مولده] :

- ‌[أسماؤه صلى الله عليه وسلم] :

- ‌[طهارة مولده وشرفه] :

- ‌[زواج أبيه بأمه] :

- ‌[تعبده صلى الله عليه وسلم قبل البعثة] :

- ‌[رضاعه] :

- ‌الفصل الثانى فى ذكر عمل مولده الشريف، وإشهاره كلّ سنة وفيما جرى في مولده وفيما بعده من الوقائع

- ‌[الاحتفال بالمولد] :

- ‌والبدعة من حيث هى منقسمة إلى خمسة أقسام:

- ‌واجب:

- ‌وحرام:

- ‌ومندوب إليه:

- ‌ومكروه:

- ‌ومباح:

- ‌الفصل الثالث فى زواجه بخديجة بنت خويلد رضى الله تعالى عنها وما رزقه الله من الذرية منها

- ‌[أولاده من خديجة] :

- ‌الباب الثانى فى مبعثه صلى الله عليه وسلم، ودعائه الناس إلى الدين الحق. وهجرة المسلمين* إلى الحبشة، وخروجه إلى الطائف

- ‌الفصل الأوّل فى رسالته صلى الله عليه وسلم على رأس الأربعين إلى كافة الناس بشيرا ونذيرا

- ‌كفالته عليّا:

- ‌[اشتداد الأذى عليه صلى الله عليه وسلم] :

- ‌الفصل الثانى فى الهجرتين إلى الحبشة

- ‌[مسألة الغرانيق وما سمّوه الايات الشيطانية] :

- ‌ وأما الهجرة الثانية:

- ‌الفصل الثالث فى خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف قبل هجرته إلى المدينة المشرّفة

- ‌الفصل الرابع في الإسراء به صلى الله عليه وسلم ليلا من المسجد الحرام وعروجه من المسجد الأقصي إلى السموات العلى

- ‌[مسألة رؤية الله] :

- ‌الباب الثالث فى هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وما ترتب على ذلك من المظاهر الإسلامية والظواهر التعليمية. وفيه فصول

- ‌الفصل الأوّل فى الأسباب الباعثة علي هذه الهجرة والتمهيد لها

- ‌الهجرة إلى المدينة:

- ‌[التامر على الرسول صلى الله عليه وسلم في دار الندوة] :

- ‌الفصل الثانى فى سيره مهاجرا إلى المدينة مع صاحبه: صدّيقه رضى الله تعالى عنه وهو ابتداء التاريخ الإسلامى

- ‌مبدأ التأريخ الإسلامى:

- ‌[مسألة: الرسول صلى الله عليه وسلم والشّعر]

- ‌هجرة بقايا المسلمين من مكة:

- ‌[فرق اليهود] :

- ‌الأولى: التوراة، وهى خمسة أسفار

- ‌المرتبة الثانية: أربعة أسفار: تدعى الأولي:

- ‌المرتبة الثالثة: أربعة أسفار تدعى: الأخيرة:

- ‌المرتبة الرابعة: تدعى: الكتب، وهى أحد عشر سفرا:

- ‌الفصل الثالث في ذكر الظواهر الحادثة بعد الهجرة إجمالا

- ‌الباب الرابع فى تفاصيل الظواهر التى حدثت بعد هجرته عليه الصلاة والسلام إلى وفاته صلى الله عليه وسلم، وفيه فصول

- ‌الفصل الأوّل فى ظواهر السنة الأولى من الهجرة وما فيها من الغزوات

- ‌[المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار]

- ‌الفصل الثانى في ظواهر السنة الثانية من الهجرة، وما فيها من الغزوات

- ‌[إسلام عمير بن وهب] :

- ‌الفصل الثالث في ظواهر السنة الثالثة من الهجرة وما فيها من الغزوات

- ‌الفصل الرابع في ظواهر السنة الرابعة من الهجرة وما فيها من الغزوات

- ‌غزوة بنى النضير:

- ‌الفصل الخامس فى ظواهر السنة الخامسة وما فيها من الغزوات

- ‌الفصل السادس في ظواهر السنة السادسة وما فيها من الغزوات

- ‌الفصل السابع في ظواهر السنة السابعة ما فيها من الغزوات

- ‌الفصل الثامن في ظواهر السنة الثامنة وما فيها من الغزوات

- ‌ وأما النساء الست اللاتى أهدر النبى صلى الله عليه وسلم دماءهن يوم الفتح

- ‌الفصل التاسع في ظواهر السنة التاسعة وما فيها من الغزوات

- ‌الفصل العاشر فيما وقع من وفود العرب عليه صلى الله عليه وسلم، وفي حجة الوداع

- ‌الباب الخامس في وفاته صلى الله عليه وسلم وذكر بعض أخلاقه وصفاته، ومعجزاته، وأزواجه. وأعمامه، وعماته، وأخواله، ومواليه وخدمه، وحشمه صلى الله عليه وسلم، وفيه فصول

- ‌الفصل الأوّل في ذكر وفاته صلى الله عليه وسلم وما يتعلق بذلك

- ‌الفصل الثانى فى ذكر بعض أخلاقه وصفاته صلى الله عليه وسلم

- ‌وخصائصه صلى الله عليه وسلم على أضرب:

- ‌الأوّل الواجبات:

- ‌الثانى

- ‌الثالث المباحات:

- ‌الرابع ما

- ‌الفصل الثالث في ذكر معجزاته

- ‌[كيفية نزول القران] :

- ‌الفصل الرابع فى ذكر أزواجه صلى الله عليه وسلم وقرابته ومواليه

- ‌جدول يضبط ما تفرّق من الغزوات التي سبق ذكرها تفصيلا

الفصل: ‌الفصل الثالث في ظواهر السنة الثالثة من الهجرة وما فيها من الغزوات

‌الفصل الثالث في ظواهر السنة الثالثة من الهجرة وما فيها من الغزوات

وفي هذه السنة الثالثة من الهجرة كانت غزوة إمرّ «1» :

ويقال لها غزوة «غطفان» «2» وغزوة «أنمار» . و «إمر» بكسر الهمزة وفتح الميم وتشديد الراء: اسم ماء. وذلك أنه صلى الله عليه وسلم بلغه أن رجلا يقال له «دعثور» (بضم الدال وسكون العين ثم ثاء مضمومة) ابن الحارث الغطفانى (من بنى محارب) جمع جمعا من ثعلبة ومحارب بموضع من ديار غطفان، يسمى ب «ذى إمر» باسم الماء الذى فيه، يريدون الإغارة على أطراف المدينة، فخرج إليهم صلى الله عليه وسلم في أربعمائة وخمسين رجلا من أصحابه، لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأوّل، فى السنة الثالثة من الهجرة، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان، فلما سمعوا بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم هربوا في رؤوس الجبال. وفي هذا المحل أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المطر الكثير، فبل ثيابه وثياب أصحابه، فنزع صلى الله عليه وسلم ثوبيه ونشرهما على الشجرة ليجفا، واضطجع بمرأى من المشركين، فبعث المشركون دعثورا الذى هو سيد القوم وأشجعهم المجمّع لهم، قالوا له: قد انفرد محمّد، فعليك به. فجاء ومعه سيفه حتّى قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: من يمنعك منى اليوم؟

فقال صلى الله عليه وسلم: الله. ودفعه جبريل في صدره فوقع على ظهره، فوقع السيف من يده، فأخذ السيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: من يمنعك منى اليوم يا دعثور؟ قال:

لا أحد، كن خير اخذ. فتركه وعفا عنه، فقال: أشهد ألاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والله لا أجمّع الناس لحربك أبدا. فدفع له النبى صلى الله عليه وسلم سيفه، فقال دعثور: والله إنك لخير مني، ثم أتى قومه فجعل يدعوهم إلى الإسلام، وأخبرهم أنه رأى رجلا طويلا دفعه في صدره، فوقع على ظهره، فقال: علمت أنه ملك، فأسلمت، فنزلت هذه الاية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ

الاية [المائدة: 11] ، ثم أقبل رسول

(1) ذو إمر: موضع بئر، غزوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قيل: هو من ناحية النخل بنجد، من ديار غطفان، والأمر: حجارة تجعل كالأعلام. كذا من المراصد بلفظه.

(2)

غطفان: اسم لقبيلة من قبائل العرب.

ص: 251

الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ولم يلق حربا، وكانت مدة غيبته إحدى عشرة ليلة.

وفي هذه السنة (فى شهر رمضان) ولد الحسن بن علي رضى الله عنهما، وكانوا قد سموه حربا، فسماه النبى صلى الله عليه وسلم الحسن، وحنّكه «1» بتمر.

وفيها قتل محمد بن مسلمة الأنصارى كعب بن الأشرف اليهودي.

وفيها تزوج النبى صلى الله عليه وسلم حفصة بنت عمر- رضى الله عنهما- وذلك أن عثمان ابن عفان خطب حفصة بنت عمر منه بعد وفاة رقية، فردّه عمر، فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا عمر؛ أدلك على خير لك من عثمان، وأدل عثمان على خير له منك؟ قال: نعم يا نبى الله، قال:«تزوّجنى ابنتك وأزوّج عثمان ابنتي» . فكان ذلك؛ حيث تزوج صلى الله عليه وسلم بحفصة، وتزوج عثمان بأم كلثوم.

* وفي هذه السنة كانت غزوة بحران:

(بفتح الباء المواحدة، وقيل بضمها، ثم حاء مهملة ساكنة، وهو موضع بالحجاز بينه وبين المدينة ثلاثة برد) وتسمى هذه الغزوة بغزوة بنى سليم.

[سببها] : لما بلغه صلى الله عليه وسلم أن بحران اجتمع فيه كثير من بنى سليم، خرج في ثلاثمائة من أصحابه، لستّ خلون من جمادى الأولى من السنة الثالثة من الهجرة، أحثّ السير حتّى بلغ بحران، وكان قبل أن يصل إلى ذلك بليلة لقي رجلا من بنى سليم، فأخبره أنّ القوم تفرّقوا، فحبسه إلى أن وصل، فوجدهم كذلك قد تفرقوا ورجعوا إلى مياههم، فأقام صلى الله عليه وسلم ولم يلق حربا، وكانت غيبته عشر ليال، وكان قد استخلف على المدينة ابن أم مكتوم.

* وفي هذه السنة كانت غزوة أحد:

وكانت في شوال سنة ثلاث من الهجرة باتفاق الجمهور، وأحد (بضمتين ومهملتين) جبل من جبال المدينة، على نحو ميلين منها، يقصد لزيارة مشهد سيدنا حمزة ومن معه من الشهداء، ويقال: إنه أفضل الجبال.

لما أصاب قريشا «2» يوم بدر ما أصابها، مشى عبد الله بن ربيعة وعكرمة بن

(1) حنكة: دلّك حنكه. والحنك: باطن أعلى الفم من الداخل.

(2)

فى الأصل «قريش» .

ص: 252

أبى جهل وصفوان بن أمية رضى الله تعالى عنهم (فإنهم أسلموا بعد ذلك) ورجال اخرون «1» من أشراف قريش إلى أبى سفيان- رضى الله تعالى عنه- (فإنه أسلم بعد ذلك أيضا) وإلى من كان له تجارة في تلك العير التى كان سببها وقعة بدر، وكانت تلك العير موقوفة في دار الندوة لم تعط لأربابها، فقالوا: إن محمدا قد وتركم (أى قتل رجالكم ولم تدركوا دماءهم) وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك منه ثأرا عمن أصابه منا، وقالوا: نحن طيّبوا النفوس أن تجهزوا بأرباح تلك العير جيشا إلى محمد، فقال أبو سفيان: وأنا أول من يجيب إلى ذلك وبنو عبد مناف معي، فجمع لأهل العير رؤس أموالهم، وكانت خمسين ألف دينار، وأخرجوا أرباحها، وكان الربح لكل دينار دينارا، وقيل نصف دينار، وأنزل الله في تلك الحادثة اية: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ [الأنفال: 36] ، وتجهّزت قريش ومن والاهم من قبائل كنانة وتهامة، وكان عددهم ثلاثة الاف، فيهم سبعمائة دارع ومائتا فارس، وقائدهم أبو سفيان بن حرب، وساروا من مكة حتى نزلوا بذى الحليفة «2» مقابل المدينة، يوم الأربعاء لأربع مضين من شوال، وذو الحليفة هو ميقات أهل المدينة الذى يحرمون منه.

وقد أخرج أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد: «رأيت كأنى في درع حصينة، ورأيت بقرا تنحر، فأوّلت أن الدرع المدينة فإن شئتم أقمنا بالمدينة؛ فإن دخلوا علينا قاتلناهم فيها» ، فقالوا:«والله ما دخلت علينا في الجاهلية، أفتدخل علينا في الإسلام!» قال: فشأنكم إذا. فذهبوا. فلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، فقالوا: ما صنعنا؟ رددنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيه! فجاؤا فقالوا: شأنك يا رسول الله، قال:«الان!! ليس لنبى إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل» .

وأخرج أحمد والبزار والطبراني والبيهقى في دلائل النبوّة عن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال: لمّا جاء المشركون يوم أحد، كان رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1) فى الأصل «أخر» .

(2)

بينها وبين المدينة ستة أميال أو سبعة، منها ميقات أهل المدينة، وهى مياه بنى جشم.

ص: 253

أن يقيم بالمدينة، يقاتلهم فيها، فقال له ناس لم يكونوا شهدوا بدرا:«لتخرج بنا يا رسول الله نقاتلهم بأحد» ، ورجوا أن يصيبوا من الفضيلة ما أصابه أهل بدر، فما زالوا برسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى لبس أداته، ثم ندموا، فقالوا: يا رسول الله: أقم، فالرأى رأيك. فقال:«فما ينبغى لنبى أن يضع أداته إذا لبسها حتّى يحكم الله بينه وبين عدوه» أ. هـ.

واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة ابن أم مكتوم.

وخرج صلى الله عليه وسلم في ألف من الصحابة، وصار بين المدينة وأحد، ونزل الشّعب من أحد، وجعل ظهره إلى أحد، ثم كانت الوقعة يوم السبت لسبع مضين من شوال، ويقال عدّة أصحابه صلى الله عليه وسلم تسعمائة، وفيهم مائة دارع، ولم يكن معهم من الخيل سوى فرسين؛ فرس لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفرس لأبى بردة، ولواء رسول الله صلى الله عليه وسلم مع مصعب بن عمير (من بنى عبد الدار) ، وعلى ميمنة المشركين خالد بن الوليد، وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبى جهل، ولواؤهم مع بنى عبد الدار. وجعل صلى الله عليه وسلم الرماة (وهم خمسون) وراءه. فالتقى الناس ودنا بعضهم من بعض، وقامت هند بنت عتبة زوج أبى سفيان رضى الله تعالى عنها (فإنها أسلمت بعد ذلك) وأمّ حكيم بنت طارق زوج عكرمة- رضى الله تعالى عنها- فى النسوة المصاحبات لجيش المشركين يضربن بالدفوف خلف الرجال، يحرّضن المشركين على القتال لحرب المسلمين، ويقلن:

نحن بنات طارق

نمشى على النّمارق

إن تقتلوا نعانق

أو تدبروا نفارق

فراق غير مالق

يردن: نحن بنات الكوكب، وإنه لا ينال. ويقال إن رملة بنت طارق، وأم حكيم بنت طارق قالتا ذلك، وقاله النساء معهن. وكان النبى صلى الله عليه وسلم إذا سمع قولهن هذا قال:«اللهم إنى بك أجول وأصول وفيك أقاتل، حسبي الله ونعم الوكيل» .

واستمر القتل في أصحاب لواء المشركين، ورأى النساء برجالهن أمرا عظيما، حتى ولولن وتركن ما كنّ فيه، وانهزم المشركون، حتى انهزمت هند بنت عتبة وصواحبها متحيرات ما دونهن مانع ولا دافع، حتى لو شاء المسلمون لأخذوهن.

ص: 254

ودخل المسلمون عسكر المشركين.

وقاتل حمزة عمّ النبى صلى الله عليه وسلم يومئذ قتالا شديدا، وقتل أرطاة حامل لواء المشركين- إلى أن قتل؛ ضربه وحشي عبد جبير بن مطعم، وكان حبشيا، بحربة فقتله، وكان حمزة مشغولا عنه بقتال سباع بن عبد العزّي، وفي قتل وحشيّ حمزة، يقول حسان:

ما لشهيد بين أرماحكم

شلّت يدا وحشيّ من قاتل

وقتل أيضا مصعب بن عمير حامل لوائه صلى الله عليه وسلم، فظنّ قاتله أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لقريش: إنى قتلت محمدا، وشاع ذلك، وانتهى النضر بن أنس إلى جماعة من الصحابة، وقد دهشوا وقالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: فما تصنعون في الحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه. فاجتهدوا في القتال، ثم إن كعب ابن مالك الشاعر عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنادى بأعلى صوته يبشر الناس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: أنصت؛ فاجتمع عليه المسلمون، ونهضوا معه نحو الشعب، فيهم أبو بكر وعمر وعلى والزبير والحارث بن الصمة الأنصاري، وغيرهم، وأدركه أبيّ بن خلف في الشعب، فتناول صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمّة، وطعنه بها في عنقه، فكرّ أبيّ بن خلف منهزما، وقال له المشركون: ما بك من بأس؟ فقال: «والله لو بصق عليّ لقتلني» فمات بسرف «1» وهم قافلون، وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم «اشتدّ غضب الله على رجل قتل نبيا أو قتله نبي» «2» فمات عدو الله في مرجعهم إلى مكة.

وكان أبو عزة الجمحيّ- أحد رؤساء حزب المشركين- وقع أسيرا في بدر، فمنّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحلفه ألايكثر عليه جمعا، وأرسله بغير فدية، فلما كانت غزوة أحد طلبه رؤساء قريش ليتوجه معهم للحرب فامتنع من النفوذ لما وجّهوه إليه، وقال: إن بلاء محمد عندى حسن، أطلقنى يوم بدر. فلم يزالوا به

(1) بالفتح، ثم بالكسر واخره فاء: موضع على ستة أميال من مكة، من طريق «مرو» بنى به رسول الله صلى الله عليه وسلم بميمونة بنت الحارث، وفيه ماتت رضى الله تعالى عنها وأرضاها.

(2)

وفي رواية: «أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل قتل نبيا أو قتله نبي، أو رجل أفتى الناس بغير علم، أو مصور يصور التماثيل» رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود.

ص: 255

حتى خرج معهم، فأسر يوم أحد فضرب عنقه. وكان معاوية بن المغيرة بن أبى العاص الذى جدع أنف حمزة، ومثّل به، فيمن مثّل، قد انهزم يوم أحد، فمضى على وجهه فبات قريبا من المدينة، فلما أصبح دخلها، فأتى منزل عثمان بن عفان بن أبى العاص فضرب بابه، فقالت له امرأته أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس هو ههنا، فقال: ابعثى إليه؛ فإن له عندى ثمن بعير ابتعته منذ عام الأوّل، وقد جئته به. فأرسلت إليه وهو عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاء قال لمعاوية: أهلكتنى ونفسك، ما جاء بك؟ قال: يا ابن عم لم يكن أحد أقرب إليّ ولا أمسّ رحما بى منك، فجئتك لتجيرني، فأدخله عثمان داره وصيّره في ناحية منها، ثم خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأخذ له منه أمانا، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن معاوية بالمدينة، وقد أصبح بها، وقال: اطلبوه، فقال بعضهم:«ما كان ليعدو منزل عثمان، فاطلبوه به» فدخلوا منزل عثمان فأشارت أم كلثوم إلى الموضع الذى صيّره عثمان فيه، فاستخرجوه من تحت دارة لهم، فانطلقوا به إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فقال عثمان حين راه: والذى بعثك بالحق ما جئت إلا لأطلب له الأمان، فهبه لي، فوهبه له، وأجّله ثلاثا، وأقسم لئن وجد بعدها بشئ من أرض المدينة وما حولها ليقتلن، وخرج عثمان فجهّزه واشترى له بعيرا، وقال: ارتحل. وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد، وأقام معاوية إلى اليوم الثالث ليعرف أخبار النبى صلى الله عليه وسلم، ويأتى بها قريشا، فلما كان اليوم الرابع قال صلى الله عليه وسلم:«إن معاوية قد أصبح قريبا لم ينفد، فاطلبوه واقتلوه» . وأصابوه على ثمانية أميال من المدينة، وقد أخطأ الطريق، فأدركوه، وكان اللذان أسرعا في طلبه زيد بن حارثة وعمّار بن ياسر، فرمياه بالنبل حتّى مات. ومعاوية هذا أبو عائشة بنت معاوية أم عبد الملك بن مروان.

ولما قتل مصعب أعطى النبي صلى الله عليه وسلم الراية لعلى بن أبى طالب، وانهزم المشركون، فطمعت الرماة في الغنيمة، وفارقوا المكان الذى أمرهم النبى صلى الله عليه وسلم بملازمته، فأتى خالد مع خيل المشركين من خلف، وصرخ ابن قميئة: إن محمدا قتل، وانكشف المسلمون وأصاب فيهم العدو، وكان يوم بلاء المسلمين، وصليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر يومئذ قاعدا، وكان عدة الشهداء منهم سبعين رجلا، وعدة قتلى المشركين اثنان وعشرون رجلا، ووصل العدو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصابته حجارتهم حتّى وقع، وأصيبت رباعيته وشجّ في وجهه وكلمات

ص: 256

شفتاه. والذى كسر رباعيته عتبة بن أبى وقاص، والذى شجّ وجهه عبد الله بن شهاب الزهري في جبهته، وجعل الدم يسيل على وجهه الشريف وهو يقول:

«كيف تفلح أمة خضّبت وجه نبيها! اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون» وإلى ذلك أشار من قال:

وأهلك قومه في الأرض نوح

بدعوة «لا تذر ربّي» فأفني

ودعوة أحمد ربّ اهد قومي

فهم لا يعلمون كما علمنا

فنزل في ذلك قوله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128)[ال عمران: 128] وضرب بالسيف على شقه الأيمن فجرح وجنته، ودخلت حلقتان من المغفر «1» فى وجهه الشريف من الشّجّة، ونزع أبو عبيدة (عامر بن الجراح) إحدى الحلقتين من وجهه صلى الله عليه وسلم فسقطت ثنية»

أبى عبيدة الواحدة، ثم نزع الاخرى فسقطت ثنيته الاخري. ومثّلت هند وصواحبها بالقتلى من الصحابة؛ فجدعن الاذان والأنوف، وبقرت هند عن كبد حمزة ولاكتها «3» ، وصعد زوجها أبو سفيان فوق الجبل وصرخ بأعلى صوته «الحرب سجال يوم بيوم: يوم أحد بيوم بدر، اعل هبل» أى زد علوّا، فقال صلى الله عليه وسلم: قم يا عمر فأجبه، فقال:«الله أعلى وأجل: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار» .

وفي الصحيح: أن أبا سفيان قال: «لنا العزّى ولا عزّى لكم» فقال النبي: قولوا له: «الله مولانا ولا مولى لكم» .

ثم نادى أبو سفيان عند منصرفه. «إن موعدكم بدر العام المقبل» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه: «قل: نعم بيننا وبينكم موعد» ثم التمس رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه حمزة فوجده وقد بقر بطنه، وجدع أنفه وأذناه، فقال: لئن أظهرنى الله عز وجل على قريش لأمثّلن بثلاثين منهم «4» ، فلما رأى المسلمون حزنه وغيظه

(1) المغفر: زرد ينسج من الدروع علي قدر الرأس، يلبس تحت القلنسوة.

(2)

الثنيّة: إحدى الأسنان الأربع التي في مقدم الفم، ثنتان من فوق وثنتان من تحت.

(3)

ولكنها لم تستطع ابتلاعها فلفظتها.

(4)

هذه رواية محمد بن إسحاق، وقد ذكرها ابن كثير في تفسير قوله تعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ اخر سورة النحل، وفي رواية البزار:«بسبعين» بدل «بثلاثين» .

ص: 257

على ما فعل بعمه، قالوا: لنمثلن بهم إن أظهرنا الله عليهم مثلة ما يمثّل بها أحد، فأنزل الله تعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل: 126] ، فكفّر عن يمينه، ونهى عن المثلة.

وروى ابن شاذان عن ابن مسعود: «ما رأينا المصطفى باكيا قط أشد من بكائه على حمزة، وصعد في القبلة، ثم وقف على جنازته وبكى حتّى كاد يغشى عليه، يقول: «يا حمزة يا عم، يا أسد الله وأسد رسوله، يا حمزة يا فاعل الخيرات، يا حمزة يا كاشف الكربات» «1» . وليس هذا نوح ولا تعدّد* بشمائل، بل إخبار بفضائله وشمائله.

ثم أمر فسجّي ببرده، ثم أتي بالقتلى يوضعون إلى حمزة، فصلّى عليهم وعليه، وهذا دليل لأبى حنيفة؛ فإنه يرى الصلاة على الشهيد، خلافا للشافعى وأحمد رحمهم الله تعالى.

ثم أمر بحمزة فدفن، واحتمل أناس من المسلمين إلى المدينة فدفنوا بها، ثم نهاهم صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك، وقال:«ادفنوهم حيث صرعوا» ، ويقال دفن معه «2» فى قبره عبد الرحمن بن جحش.

وأصيبت عين قتادة فردّها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فكانت بعد ذلك أحسن عينيه، وكانت إصابتها بسهم خرجت بحدقتها على وجنته، وهو يقى السهام بوجهه عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. واستشهد أنس بن النضر عمّ أنس بن مالك، وقد أبلى بلاء حسنا، وفيه نزلت: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ

[الأحزاب: 23 وما بعدها] .

ونزل في شهداء أحد- كما رواه الحاكم- (وكانوا سبعين رجلا؛ أربعة من المهاجرين: حمزة بن عبد المطلب، ومصعب بن عمير، وعثمان بن شاس، وعبد الله ابن جحش، وسائرهم من الأنصار) قوله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي

(1) لأنه طالما فرّج الكربات عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وهذا من باب ذكر الحسنات التى أسداها لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال الشيخ فيما بعد.

(2)

أى مع حمزة- رضى الله عنه.

* هكذا جاء.

ص: 258

سَبِيلِ اللَّهِ أى لأجل دينه، والخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم، أو لكل أحد أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ «1» أى من ثمار الجنة.

قال البيضاوي: وقيل نزلت في شهداء بدر، وكانوا أربعة عشر رجلا: ثمانية من الأنصار، وستة من المهاجرين.

قال القاضى زكريا: وهو غلط، إنما نزل فيهم اية البقرة «2» .

وعن عائشة- رضى الله عنها- أنها قالت للنبى صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك، وكان أشدّ ما لقيته يوم العقبة، إذ عرضت نفسى على ابن عبد ياليل، فلم يجبنى إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب «3» فرفعت رأسى فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إنّ الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثنى ربك إليك لتأمرنى بأمرك فيما شئت، إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين» . فقال النبى صلى الله عليه وسلم:«أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله واحده لا يشرك به» متفق عليه «4» .

(1) ال عمران: 169 وما بعدها.

(2)

أي الاية 154: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ.

(3)

قرن الثعالب: هو قرن المنازل، ميقات أهل نجد، تلقاء مكة، كذا في المراصد- وبينه وبين مكة يوم وليلة.

(4)

فى الصحيح عن عائشة- رضى الله عنها- أنها قالت للنبى صلى الله عليه وسلم: «هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت يوم العقبة إذ عرضت نفسى على ابن عبد ياليل بن كلال فلم يجبنى إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسى فإذا أنا بالسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه الصلاة والسلام، فنادي، فقال: قد سمع الله قول قومك لك، وما ردوا عليك به، وقد بعثت إليك بملك الجبال فتأمره بما شئت فيهم» . فناداه صلى الله عليه وسلم ملك الجبال وسلّم عليه وقال له: إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت؟ قال النبى صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله تعالى من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا» . وفي رواية «بل أستأنى بهم» بدل «أرجو» فقال له ملك الجبال: «أنت كما سمّاك ربك رؤف رحيم» أ. هـ. (من السيرة الحلبية ص 395، 396 ج 1) .

ص: 259

فكان دأبه صلى الله عليه وسلم الصفح الجميل، وكان يجعله شكرا للنصر والظفر، كما قال عند فتح مكة لأهلها، وكانوا قد أخرجوه منها، وهى أحب البقاع إليه:«أقول لكم كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين» .

وكان ممن استشهد في أحد: سعد بن الربيع، وأخذ ميراثه أخوه، وكان لسعد بنتان، وكانت امرأته حاملا، وكانت المواريث على مواريث الجاهلية، ولم تكن الفروض نزلت، فنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ، فدعا أخا سعد، فقال: أعط ابنتى أخيك ثلثي الميراث، وادفع إلى زوجته الثمن، والباقى لك» ولم يورّث الحمل يومئذ، ثم ورّث بعد ذلك.

قال النووى في «الروضة» : إن تحريم الخمر كان بعد غزوة أحد، وذكر أرباب السير أنه كان في حصار بنى النضير، فى ربيع الأوّل سنة أربع، ولم يباشر صلى الله عليه وسلم القتال في غزوة من الغزوات إلّا في أحد.

ولم يقاتل معه صلى الله عليه وسلم من الملائكة إلا في بدر، وإلا في حنين «1» ، قيل: وأحد.

ولم يرم صلى الله عليه وسلم بالحصباء في وجوه القوم في شئ من الغزوات، إلا في هذه الثلاث، على خلاف في الثالثة.

ولم يجرح: أي لم يصبه صلى الله عليه وسلم جراحة في غزوة من الغزوات إلّا في أحد.

ولم ينصب صلى الله عليه وسلم المنجنيق في غزوة من الغزوات إلا في غزوة الطائف، وفيه أنه نصبه على بعض حصون خيبر، ولم يتحصن بالخندق في غزوة إلا في غزوة الأحزاب «2» .

(1) من المتفق عليه أن الملائكة لم تقاتل إلا في بدر، وأما في حنين فقد نزلت الملائكة ولكن لم تقاتل.

(2)

الواقع أن الله سبحانه وتعالى أدّب الأمة كلها بهذا الدرس العملى المجيد، وعلمها أن مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم فيه الخطر كل الخطر على المسلمين أنفسهم؛ إذ فيه ضياعهم. ومن المعروف أن الصحابة- رضوان الله عليهم- لم ولن ولا يقصدون مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لما حدث منهم ما حدث- عن طريق التأويل لا القصد- لقنهم الله هذا الدرس العملى تربية لهم وللأمة فيما بعد. أما من قصد المخالفة من المسلمين من قريب أو بعيد فليعدّ نفسه للدواهي، وها نحن نرى بأعيننا ما نرى من مغبة هذه المخالفة، نسأل الله الستر والعفو والعافية.

ص: 260

وفي هذه السنة (الثالثة من الهجرة) كانت غزوة حمراء الأسد:

وهو جبل بناحية العقيق، بينه وبين المدينة ثمانية أميال، وذلك أنه لما كان صبيحة «1» يوم أحد، وهو سادس عشر شوال من هذه السنة، أذّن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج لطلب العدوّ، وألايخرج إلا من حضر معه بالأمس، فخرج، وخرجوا على ما بهم من الجهد والجراح- حتى كان بأسيد بن حضير تسع جراحات، يريد أن يداويها، فلما سمع النداء ترك المداواة سمعا وطاعة لله ورسوله- وسار عليه الصلاة والسلام متجلدا مرهبا للعدو، وانتهى إلى حمراء الأسد، وكان المشركون قد صاروا إليها من أحد، ودفع لواءه وهو معقود لم يحلّ، إلى عليّ، أو إلى أبى بكر، إظهارا للقوة وإرهابا للعدو، وأقام بها ثلاثا، ومر برسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد: سعيد بن أبى معبد الخزاعى سائرا إلى مكة، ولقي أبا سفيان وكفار قريش بالروحاء، فأخبرهم بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبهم، فقالوا:«لقد أجمعنا الكرّة على المسلمين لنستأصل بقيتهم» ، فقال سعيد الخزاعي:

«إنى أنهاكم عن ذلك، فلا ترجعوا إلى المدينة» . فثبط عزم أبى سفيان عن الرجعة، وأكبر عليهم خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قذف الله في قلوبهم الرعب، فانصرفوا سراعا على ظفر منهم، حيث لم يأمنوا أن تكون الدّولة «2» للمسلمين، حتى أتوا مكة، فلما بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك قال- حسبنا الله ونعم الوكيل- فأنزل الله تعالى: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ

[ال عمران:

172: 174] الاية. وكان خليفته على المدينة ابن أم مكتوم.

(1) يقصد الصباح التالي لغزوة أحد.

(2)

الاستيلاء والغلبة.

ص: 261