الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ لفظة استفهام «1» ، ومعناه الأمر، أى انتهوا، وهذا من أبلغ ما ينهى به؛ لأنه تعالى ذم الخمر والميسر وأظهر قبحهما للمخاطبين، كأنه قيل: قد تلى عليكم فيها من أنواع الصوارف والموانع، فهل أنتم منتهون مع هذه الأمور؟ أم أنتم على ما كنتم عليه، كأنكم لم توعظوا، أولم تنزجروا؟
وفي هذه الاية دليل على تحريم شرب الخمر؛ لأن الله تعالى قرن شرب الخمر والميسر بعبادة الأصنام، وعدّد أنواع المفاسد الحاصلة بهما، ووعد بالفلاح عند اجتنابهما، وقال في اخر الاية: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ومعناه الأمر.
وقال بعضهم: الحكمة في وقوع التحريم على هذا الترتيب: أن القوم كانوا ألفوا شرب الخمر، وكان انتفاعهم به كثيرا، فعلم الله تعالى أنه لو منعهم دفعة واحدة لشقّ عليهم، فاستعمل في التحريم هذا التدريج والرفق.
غزوة بنى النضير:
وسبب تلك الغزوة- على بنى النضير- أنه صلى الله عليه وسلم ذهب إليهم ليستعين بهم في دية رجلين من بنى كلاب بن ربيعة- موادعين له- كان عمرو بن أمية الضمرى قتلهما غلطا في رجوعه من بئر معونة، ظانا أنهما حربيان، وكان النبى صلى الله عليه وسلم عقد لهما أمانا، ولم يشعر به ضمرة، وكان صلى الله عليه وسلم قد تعاهد مع بنى النضير على ترك القتال، وعلى أن يعينوه في الديات، فحضر إليهم، وكان معه من أصحابه جماعة دون العشرة، منهم أبو بكر، وعمر، وأسيد بن حضير، فأجلسوهم بجانب دار من بيوتهم، وأرادوا الغدر به صلى الله عليه وسلم، وأمروا أن يصعد رجل إلى الجدار ويلقى عليه رحّي، فلما علم ذلك انصرف عنهم إلى المدينة حيث كان ذلك منهم نقضا للعهد، وأرسل إليهم أن اخرجوا من بلدي؛ لأن ضياعهم كانت من أعمال المدينة، فأبوا الخروج وأذنوا بالمحاربة، فتجهّز إليهم وغزاهم وحاصرهم في ربيع الأوّل، وبعد مضيّ ليال من الحصار سألوه صلى الله عليه وسلم أن يجليهم
(1) الاستفهام هنا تقريع وزجر في غاية القوة، إذ معناه، والله تعالى أعلم: هل أنتم منتهون أو أنزل عليكم الدواهى والقوارع، ولذلك لما سمعها عمر رضى الله عنه فزع منها وقال: انتهينا يا رب (ثلاث مرات) .
إلى خيبر على أنّ لهم ثلث ما حملت الإبل من أموالهم، إلا السلاح، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم نخلهم وأرضهم، فأجابهم إليه، فخرجوا ومعهم الدفوف والمزامير تجلدا، فمضى من بنى النضير إلى خيبر ناس، وناس إلى الشام، وبقيت أموالهم فيئا لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة له دون المسلمين؛ لأن المسلمين لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب، يقسّمها كيف شاء وحيث شاء، إلا سهل بن حنيف وأبا دجانة فذكرا فقرا فأعطاهما منه شيئا.
ويروى أن النبى صلى الله عليه وسلم لما ظهر على أموال بنى النضير، قال للأنصار:«إن إخوانكم من المهاجرين ليست لهم أموال، فإن شئتم قسّمت هذه الأموال بينكم وبينهم جميعا، وإن شئتم أمسكتم أموالكم، فقسمت هذه فيهم» ، قال السعدان (سعد بن معاذ وسعد بن عبادة) :«بل اقسم هذه فيهم، واقسم لهم من أموالنا ما شئت» فقال بقية الأنصار مثل ذلك تبعا للسعدين، ففرح صلى الله عليه وسلم، وقال:«اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار» «1» . فأنزل الله فيهم قوله تعالى:
وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ «2» ، أى فاقة وحاجة إلى ما يؤثرون، فلهذا قسم صلى الله عليه وسلم الأموال على المهاجرين بحسب ما اقتضته المصلحة، فعيّن لأبى بكر، وعبد الرحمن بن عوف، وصهيب، وأبى سلمة بن عبد الأسد المخزومي، ضياعا معروفة، ومن الأنصار أعطى سهل بن حنيف، وأبا دجانة شيئا لفقرهما.
وفي بنى النضير نزلت سورة الحشر «3» التى سمّاها ابن عباس- رضى الله عنه- «سورة النضير» كما رواه سعد بن جبير.
وفي سنة أربع قصرت الصلاة الرباعية إلى ركعتين في السفر، وهذا مبنيّ على أن هذه الصلاة أربعة تامة، ثم قصرت في السفر، وقيل إنها فرضت في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين، وهو قول ابن عباس- رضى الله عنه- قال:
فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين- رواه مسلم وغيره- كذا في «المواهب اللدنية» .
(1) رواه ابن ماجه عن عمرو بن عوف بلفظ «رحم ا (الأنصار» بدل «اللهم ارحم الأنصار» .
(2)
الحشر: 9.
(3)
هي السورة التاسعة والخمسون في ترتيب المصحف، واياتها 24 اية.
وفي الوفا «1» : «الذى عليه الأكثر: أن الصلاة نزلت بتمامها من بدء الأمر» والله أعلم، وقد سبق التنويه إلى ذلك في مبعثه صلى الله عليه وسلم.
وفي هذه السنة الرابعة نزلت اية التيمم: وهى قوله تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً [المائدة: 6]، قال في معالم التنزيل «2» :«وكان بدء التيمم ما روى عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء ونزل الجيش، انقطع عقد لي، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فأتى الناس إلى أبى بكر، فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس معه؟! فجاء أبو بكر- رضى الله عنه- ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذى قد نام، فقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء! فقالت عائشة: فعاتبنى أبو بكر، ثم قال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعننى بيده، فلا يمنعنى من التحرك إلّا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي. فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى أصبح على غير ماء، فأنزل الله عز وجل اية التيمم، فتيمّموا، فقال أسيد بن حضير- وهو أحد النقباء وكان رئيسا في الجاهلية والإسلام-: «ما هى بأوّل بركتكم يا ال أبى بكر» . قالت عائشة: فبعثنا البعير الذى كنت عليه فوجدنا العقد تحته، وقولها: فبعثنا البعير: أي أثرناه.
والتيمم من خصائص هذه الأمة لتسهل عليهم أسباب العبادة، ويدل على ذلك ما روى عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضّلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت الأرض كلها لنا مسجدا، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء» أخرجه مسلم «3» .
(1) كتاب الوفاء بأحوال المصطفى صلى الله عليه وسلم.
(2)
للبغوى الشافعى المعروف بالفراء.
(3)
ولفظه كاملا- كما في الفتح الكبير- «فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وتربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء، وأعطيت هذه الايات من اخر سورة البقرة، من كنز تحت العرش، لم يعطها نبى قبلي» رواه مسلم، والإمام أحمد، والنسائى عن حذيفة.
* [الرّجم] : وفي السنة الرابعة (فى ذى القعدة) كان رجم اليهوديين اللذين زنيا، ونزل قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47)[المائدة: 47] . وفي العمدة: عن عبد الله بن عمر- رضى الله عنهما- قال:
إن اليهود جاؤا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن امرأة منهم ورجلا زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون، فقال عبد الله ابن سلام: كذبتم إن فيها الرجم. فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على اية الرجم، وجعل يقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده فإذا فيها اية الرجم، فقالوا:
صدقت يا محمد، فأمر بهما النبى صلى الله عليه وسلم فرجما، قال: فرأيت الرجل يحنى على المرأة يقيها الحجارة!. والذى وضع يده على اية الرجم: عبد الله بن صوريا.
واختلف العلماء في أن الإسلام هل هو شرط في الإحصان «1» أم لا، فذهب الشافعى إلى أنه ليس شرطا، فإذا حكم الحاكم على الذمى المحصن رجمه.
ومذهب أبى حنيفة أن الإسلام شرط في الإحصان، واستدل الشافعى بهذا الحديث، ورجم النبى صلى الله عليه وسلم اليهوديين. واعتذر السادة الحنفية عنه بأن قالوا:
رجمهما بحكم التوراة، فإنه سألهم عن ذلك، وإن ذلك عند قدوم النبى صلى الله عليه وسلم المدينة، وقالوا: إن حدّ الزنا نزل بعد ذلك، فكان ذلك الحديث منسوخا، وهذا يحتاج إلى تحقيق التاريخ، أعنى القول بالنسخ، وقوله:«فرأيت الرجل يحنى على المرأة الجيد» فى الرواية «يجنأ» بفتح المثناة تحت وسكون الجيم وفتح النون والهمز، أى يميل، ومنه الجنأ، وفي كلام بعضهم ما يشعر بأن اللفظة بالحاء المهملة، يقال: حنى الرجل يحنى حنوّا: إذا أكبّ على الشئ. فتحصّل من هذا أن السادة الحنفية يشترطون في الرجم الإسلام، وقد استدلوا على ذلك بما في البخارى عن أبى هريرة- رضى الله عنه- قال: «أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من الناس وهو في المسجد فناداه: يا رسول الله إنى زنيت. فأعرض عنه النبى صلى الله عليه وسلم، فتنحّى لشقّ وجهه الذى أعرض قبله، فقال: يا رسول الله إنى زنيت، فأعرض عنه حتّى ثنّى ذلك أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات، دعاه النبى
(1) الإحصان: الزواج.
صلّى الله عليه وسلّم، فقال: أبك جنون؟ قال: لا يا رسول الله، فقال: أحصنت؟ قال: نعم يا رسول صلى الله عليه وسلم، قال: اذهبوا به فارجموه. أ. هـ.
والرجل: «ما عز بن مالك- رضى الله عنه» .
ويروى عن أبى سلمة بن عبد الرحمن أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: كنت فيمن رجمه، فرجمناه بالمصلّي، فلما أدلفته الحجارة «بالدال المهملة والفاء، أي:
أجعته وأوهنته) هرب، فأدركناه بالحرّة، فرجمناه.
ويستدل للرجم أيضا بما روى عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبى هريرة وزيد بن خالد الجهني، أنهما قالا: إن رجلا من الأعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أنشدك الله إلا ما قضيت بيننا بكتاب الله تعالى. فقال الخصم الاخر وهو أفقه منه: نعم فاقض بيننا بكتاب الله تعالى، وائذن لي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل، قال: إن ابنى كان عسيفا* على هذا فزنى بامرأته، وإنى أخبرت أن على ابنى الرّجم، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبرونى أن ما على ابنى جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذى نفسى بيده لأقضين بينكما بكتاب الله تعالى: أما الوليدة والغنم فردّ عليك، وأما ابنك فإن عليه جلد مائة وتغريب عام، ثم قال لرجل من أسلم: أغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، قال: فغدا إليها، فاعترفت فرجمت. قوله «إلا قضيت بيننا بكتاب الله» - تطلق هذه اللفظة على القران خاصة، وقد يطلق كتاب الله على حكم الله مطلقا، والأولى حمل هذه اللفظة على هذا؛ لأنه ذكر فيه التغريب، وليس ذلك منصوصا فى كتاب الله، إلا أن يوجّه ذلك بواسطة أمر الله بطاعة الرسول واتباعه «1» ، وفي قوله:«ائذن لى» حسن الأدب في المخاطبة للأكابر، وقوله:«كان عسيفا» أى أجيرا، وقوله:«فافتديت منه» أى من الرجم، وقوله: ردّ عليك، أى مردود عليك، أطلق اسم المصدر على اسم المفعول.
* العسيف: الأجير المستهان به.
(1)
فى مثل قوله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا [المائدة: 92]، وأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [ال عمران: 32] ، وغيرهما كثير في القران الكريم.
وقال في «التبيين» : وجه الرجم لأنه صلى الله عليه وسلم أمر برجم الغامدية وماعزا وكانا محصنين، وأخرج ماعزا إلى الحرّة، وقيل إلى البقيع ففرّ إلى الحرّة فرجم بالحجارة حتّى مات.
ومما رواه الجماعة أنه عليه الصلاة والسلام رجم المرأة التى زنى بها العسيف، وقال عليه الصلاة والسلام «لا يحلّ دم امرئ إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل النفس بغير حق» «1» .
وقال عمر- رضى الله عنه- وهو على المنبر: مما أنزل في القران: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة» وسيأتى قوم ينكرون ذلك، ولولا أن الناس يقولون: إن عمر زاد في كتاب الله لكتبتهما في حاشية المصحف.
وعليه إجماع الصحابة- رضى الله عنهم- فوصل إلينا إجماعهم بالتواتر، ولا معنى لإنكار الخوارج الرجم؛ لأنهم ينكرون القطع برجم النبى صلى الله عليه وسلم، فيكون مكابرة وعنادا.
وقوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ عام في المحصن وغيره، إلا أنها نسخت في المحصن بما ذكر، فبقيت معمولا بها في غيره، ويزاد على المائة لغير المحصن بالسّنّة: تغريب عام، والرقيق على النصف مما ذكر، ولا رجم عليه؛ لأنه لا يتنصّف. وفي «البحر الرائق» قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ انتسخ في حق المحصن، فبقى في حق غيره معمولا به، ويكفينا في تعيين الناسخ القطع برجم النبى صلى الله عليه وسلم، فيكون من نسخ الكتاب بالسّنّة الفعلية لأنه صلى الله عليه وسلم رجم ما عزا، وكان قد أحصن، وثبوت الرجم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متواتر المعنى.
(1) وللحديث عدة ألفاظ، وممن رواه الإمام أحمد، والترمذي، والنسائى وابن ماجه، والحاكم، والأربعة، ومن ألفاظه «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد ألاإله إلا الله وأنى رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس، بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة» متفق عليه، ورواه الإمام أحمد عن عبد الله ابن مسعود.
وفي هذه السنة في جمادى الأولى كانت غزوة ذات الرقاع «1» :
وقال النووى في «الروضة» إنها كانت لعشر خلون من المحرم سنة خمس، والرقاع بكسر الراء جبل سمّيت به؛ لأن فيه بقعا حمرا وسودا، أو لأن خيلهم كان بها سواد وبياض، أو لأنّ صلاة الخوف كانت بها، فسميت بذلك لترقيع الصلاة فيها، أو لأنها نقرت فيها أقدام الصحابة، وسقطت أظفارهم، حتى كانوا يلفّون على أرجلهم الخرق، ويقال للخرق رقاع، وتسمى غزوة الأعاجيب؛ لما وقع فيها من الأمور العجيبة، وغزوة بنى محارب، وبنى ثعلبة؛ وذلك أنه لما بلغه صلى الله عليه وسلم أن بنى محارب وبنى ثعلبة جمعوا جموعا من غطفان لمحاربته، خرج في أربعمائة من أصحابه- رضى الله عنهم- فغزا نجدا يريد بنى محارب وبنى ثعلبة، ولما بلغ صلى الله عليه وسلم نجدا، لم يجد بها أحدا غير نسوة، فأخذهن، وفيهن جارية وضيئة. ثم لقي جمعا من غطفان، فتقارب الجمعان، ولم يكن بينهما حرب حيث خاف المسلمون أن يغير المشركون عليهم وهم غافلون، حتى صلّى النبى صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة الخوف، وكانت أوّل صلاة للخوف «2» ، فهمّ بهم المشركون، فقال قائلهم:
دعوهم؛ فإن لهم صلاة التى هى الظهر»
وهى أحب إليهم من أبنائهم، فنزل جبريل- عليه السلام عليه صلى الله عليه وسلم فأخبره، فصلّى صلاة العصر (صلاة الخوف) ؛ صلّى بطائفة ركعتين وبالاخرى أخريين، ونزل بها القران، وهى قوله
(1) قيل: هى اسم شجرة في ذلك الموضع، وقيل لأن أقدامهم نقبت من المشي، فلفّوا عليها الخرق، وقيل: الرقاع كانت في ألويتهم، وقيل: هو اسم جبل فيه سواد وبياض وحمرة أ. هـ. من مراصد الاطلاع. والواقع أن ذلك كله اجتمع في هذه الغزوة. وفي السيرة الحلبية: «وتسمّى غزوة الأعاجيب، وقال ابن إسحاق: إنها بعد غزوة بنى النضير» : أي سنة أربع من الهجرة، وقال غيره: مضى ربيع الأوّل والثانى وبعض جماد من السنة الرابعة، ثم غزا نجدا، وبنى محارب، وبنى ثعلبة، وذكر البخارى أنها بعد خيبر واحتج بما رواه عن أبى موسى- رضى الله عنه- أنه شهد غزاه ذات الرقاع، ثم ساق الحديث.
(2)
نص ما في السيرة الحلبية: «وكانت أوّل صلاة للخوف صلّاها» . قال: وفي رواية: حانت صلاة الظهر، فصلاها صلى الله عليه وسلم بأصحابه، فهمّ به المشركون فقال قائلهم: دعوهم فإن لهم صلاة بعد هذه هى أحب إليهم من أبنائهم، وهى صلاة العصر» ص 286 ج 2 (طبعة مصطفى محمد) . وروى أن أوّل صلاة صلاها للخوف كانت بعسفان في غزوة الحديبية.
(3)
وفي رواية أنها العصر.
تعالى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ.. [النساء: 102] ، وكفى الله المؤمنين شرهم بعد أن تعرّض لهم من المشركين من يقتلهم فلم يقدروا، فمن ذلك أنه جاء رجل من غطفان وهو غورث- بالغين المعجمة والثاء المثلاثة- فقال: يا محمد أريد أن أنظر إلى سيفك هذا، وكان محلّى بفضة، فدفعه إليه فاستلّه وهمّ به، فكبته الله، ثم قال: يا محمد أما تخافني؟ فقال له: لا، ما أخاف منك. ثم ردّ سيفه إليه، فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ [المائدة: 11] ، والمفسرون على أن هذه الحادثة كانت في غزوة «أنمار» المتقدمة، ولا مانع من تعدد النزول لتعدد الأسباب، كما استظهره بعضهم.
ورجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكانت مدة غيبته خمس عشرة ليلة.
* وفي هذه السنة كانت غزوة بدر الموعد: وتسمى غزوة بدر الصغرى، ويقال الصفراء بالفاء، وبدر الثانية والثالثة.
وسميت «بدر الموعد» لأن أبا سفيان نادى يوم أحد: «الموعد بيننا وبينكم بدر العام المقبل» ، فخرج صلى الله عليه وسلم ومعه ألف وخمسمائة من أصحابه، فأقاموا ببدر ثمانية أيام، مدة الموسم، وكان أبو سفيان قد خرج من مكة في ألفين من قريش، حتى نزل خارج مكة، وقد قام به رعب من النبى صلى الله عليه وسلم، فجمع قريشا، وقال لهم: إنه لا يصلح هذا العام المجدب لقتال محمد، فارجعوا. ورجعوا، وباع المسلمون ما كان معهم من التجارة وربحوا ربحا كثيرا، وفيه نزل: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ [ال عمران: 174] ، وانصرف صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
* وفيها ولد الحسين- رضى الله عنه «1» .
* وفي هذه السنة كانت «غزوة الخندق» ويقال لها: «غزوة الأحزاب» :
وهى الغزوة التى ابتلى الله تعالى فيها عباده المؤمنين، وثبّت الإيمان في قلوب أوليائه المتقين، وأظهر ما كان يبطنه أهل النفاق والشقاق المعاندين، ولم
(1) ولد رضى الله عنه لخمس خلون من شعبان سنة 4 هجرية.
تكن هذه الغزوة في شوال أو في ذى القعدة من السنة الخامسة كما ذكره أرباب السير، بل حقق النووى في «الروضة» أن الأصح أنها كانت في الرابعة، ويقوّيه أن ابن عمر رضى الله عنه يقول:«ردّنى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وأنا ابن أربع عشرة سنة، ثم أجازنى يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة» ، فليس بينهما إلا سنة واحدة. وغزوة أحد كانت سنة ثلاث، فتكون غزوة الخندق سنة أربع، فهى قبل غزوة دومة الجندل.
قال الحافظ بن حجر: ولا حجة فيه؛ لاحتمال أن يكون ابن عمر- رضى الله تعالى عنه- فى أحد كان أوّل ما طعن في الرابعة عشر، وكان في الأحزاب التى هى «غزوة الخندق» قد استكمل الخمسة عشر، وحينئذ يكون بين أحد والخندق سنتان، كما هو الواقع لا سنة واحدة، فعلى ذلك لا مانع أنها كانت في الخامسة.
وسبب هذه الغزوة أنه لما وقع إجلاء بنى النضير من أماكنهم، سار منهم جمع من كبرائهم، منهم سيدهم حييّ بن أخطب- أبو صفية أم المؤمنين رضى الله تعالى عنها- وعظيمهم سلّام بن مشكم، ورئيسهم كنانة بن أبى الحقيق، وهودة بن قيس، إلى أن قدموا مكة على قريش يدعونهم ويحرّضونهم ليحزّبوا الأحزاب على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الأحزاب عشرة الاف، وكان المدبر لأمرها والقائم بشأنها أبو سفيان، وأنزل الله تعالى في ذلك صدر سورة الأحزاب.
فلما بلغه صلى الله عليه وسلم ما أجمعوا عليه ندب الناس وأخبرهم خبر عدوّهم، وشاورهم في أمرهم، وقال لهم: هل ننزل من المدينة أو نكون فيها؟ فأشار عليه سلمان الفارسى- رضى الله تعالى عنه- بالخندق، حيث قال:«يا رسول الله إنّا كنا بأرض فارس إذا تخوّفنا الخيل، خندقنا عليهم» ، فأمر صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق حول المدينة، وعند ذلك ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا له ومعه عدة من المهاجرين والأنصار، وأمرهم بالجدّ، ووعدهم النصر إن هم صبروا. فعمل الخندق من مكايد الفرس، لا من مكايد العرب، ولما نظر المشركون إلى الخندق، قالوا: والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها.
وفي أمره صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق حول المدينة بمعرفة سلمان الفارسي، وفي التماس عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- من أبى لؤلؤة غلام المغيرة أن
يعمل له رحى تطحن بالريح، دلالة على استحباب حصول الإسلام على أدوات الأشياء النافعة الموجودة بالممالك الأجنبية كما هو جار الان بالبلاد الإسلامية الراغبة في تجديد المنافع للحرب والسلم.
وعمل صلى الله عليه وسلم بنفسه في حفر الخندق، ولما بدأ صلى الله عليه وسلم قال:
بسم الله وبه بدينا «1»
…
ولو عبدنا غيره شقينا
يا حبّذا ربّا وحبّ دينا
وقال صلى الله عليه وسلم متمثلا بقول ابن رواحة وهو ينقل التراب وقد وارى الغبار عن جلدة بطنه الشريف:
لا همّ لولا أنت ما اهتدينا
…
ولا تصدّقنا ولا صلّينا
فأنزلن سكينة علينا
…
وثبّت الأقدام إن لاقينا
والمشركون قد بغوا علينا
…
وإن أرادوا فتنة أبينا «2»
يمدّ بها صوته مكررا لها: «أبينا أبينا» .
وروى أن حفر الخندق كان في زمان عسرة ومجاعة، حتى إن الأصحاب- رضى الله عنهم- كانوا يشدّون على بطونهم الحجر من الجهد والجوع الذى بهم، ولبثوا ثلاثة أيام لا يذوقون زادا، وعن أبى طلحة: «شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع، ورفعنا عن بطوننا عن حجر، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه حجرين. ذكره الترمذى في الشمائل، ولهذا أشار صاحب البردة بقوله:
وشدّ من سغب أحشاءه وطوى
…
تحت الحجارة كشحا مترف الادم
وهذا منه صلى الله عليه وسلم تعليم للأمة للصبر على الجوع، وإلا ففى الحقيقة هو مطعم شبع من فيض مولاه؛ لأنه كان يطعم ويسقى من ربه، وإنما العادات الظاهرية قد تجرى مجراها، ولو في حق الأنبياء، حتى إنه صلى الله عليه وسلم في الصوم كان يصير
(1) بضم الباء وكسر الدال (الطهطاوي) .
(2)
وليس هذا من إنشاء النبى صلى الله عليه وسلم، وإنما هو مردد، وكان من عادته أن يقلب البيت أو يكسره ليخرج من ميزان الشعر، وهكذا في كل ما ورد أنه ردّده.
كالطاعم الريّان، مكرمة له صلى الله عليه وسلم، وإذا حصل له في النادر إذاقة جوع، فإنما كان ذلك على وجه الابتلاء الذى كان يحصل لإخوانه من الأنبياء والمرسلين؛ تعظيما لثوابهم، وإظهارا لجواز الأعراض البشرية عليهم: صلوات الله وسلامه عليهم.
وعن أنس- رضى الله عنه- خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، فإذا المهاجرون والأنصار في غداة باردة، ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال:
اللهمّ لا خير إلا خير الاخره
…
فبارك في الأنصار والمهاجره
وفي رواية: فأكرم الأنصار والمهاجرة «1» .
فقالوا مجيبين له:
نحن الذين بايعوا محمدا
…
على الجهاد ما بقينا أبدا
وفي رواية: «ما حيينا أبدا» .
ولما خطّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق، قطع لكلّ عشرة أربعين ذراعا، فاختصم المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي، وكان رجلا قويا، فقال المهاجرون:
سلمان منّا ونحن أحق به، وقال الأنصار: سلمان منا ونحن أحق به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«سلمان منا أهل البيت» «2» . ولذلك يشير بعضهم:
لقد رقى سلمان بعد رقّه
…
منزلة شامخة البنيان
وكيف لا والمصطفى قد عدّه
…
من أهل بيته العظيم الشان
وإنما وقع التخاصم في سلمان- رضى الله عنه- لأنه كان رجلا قويا، يعمل عمل عشرة رجال، وفي رواية: كان يحفر كل يوم خمسة أذرع من الخندق فى عمقها أيضا خمسة أذرع، فعانه «3» قيس بن صعصعة فصرع وتعطّل من
(1) وليس هذا من إنشاء النبى صلى الله عليه وسلم، وإنما هو مردد، وكان من عادته أن يقلب البيت أو يكسره ليخرج من ميزان الشعر، وهكذا في كل ما ورد أنه ردّده.
(2)
رواه الطبراني والحاكم عن عمرو بن عوف.
(3)
أى حسده بالعين.
العمل، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر أن يتوضأ قيس لسلمان ويجمع وضوؤه فى ظرف ويغتسل سلمان بتلك الغسالة ويكفى الإناء خلف ظهره، ففعل، فنشط فى الحال كما ينشط البعير من العقال «1» .
وهو أوّل مشهد شهده سلمان الفارسى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومكث صلى الله عليه وسلم في عمل الخندق خمسة عشر يوما، وجعل النساء والذرارى في الاطام، وعلى حصن بعض النساء حسان بن ثابت الأنصارى- رضى الله تعالى عنه- وكان من دأبه ألايقتحم المخاوف؛ إما لمانع حسّي، كأن تكون يداه لا تطيقان حمل القناة ومسك عنان الجواد؛ لأنه كان معدّا للتحريض على القتال بحماس شعره الذى هو أحدّ من الات النضال، وكانت وظيفته هجاء المشركين وتأييد الدين، ومع ذلك لم ينسبه أحد من أعدائه إلى الجبن «2» ، ولم يهجه به، كما قلت:
حسّان كان هماما
…
بطعنة الشّعر يوجع
وكيف يجبن شهم
…
وسط الحروب يشجّع
فكان عليه مدار عظيم في الحروب وقوة الإسلام، وإن لم يخض في بحر المعامع، ولا كان له فيها اقتحام، ومما يدل على ذلك أنه في بعض الليالى وهو مع النساء اتفق أن يهوديا جعل يطوف بذلك الحصن، فقالت صفية لحسان: لا امن هذا اليهودى أن يدلّ على عورة الحصن، فيأتون إلينا، فانزل فاقتله. فقال حسان- رضى الله عنه-: يا بنت عبد المطلب قد عرفت ما أنا بصاحب هذا، (أى ليس دأبى الحرب) . فلما أيست منه أخذت عمودا ونزلت ففتحت باب الحصن وأتته من خلف فضربته بالعمود حتّى قتلته وصعدت الحصن فقالت: يا حسان انزل إليه فاسلبه؛ فإنه لم يمنعنى من سلبه إلا أنه رجل. فقال: يا ابنة عبد
(1) هذا هو الدواء الصحيح للحسد، وهو حديث صحيح.
(2)
فى الواقع أن وضع جميع الشعراء هو هكذا: الشاعر يكون دائما خلف الرجال لأن صفته التشجيع، وأما وصف سيدنا حسان بالجبن فهو اتهام باطل وإن انتحلوا له الأسباب، وقد عاش سيدنا حسان عشرين ومائة عام منها ستون في الجاهلية وستون في الإسلام، رضى الله عنه وأرضاه.
المطلب ما لى بسلبه حاجة» يعنى أنه لم يقتله، فليس سلبه له، لا أنه جبن عن سلب قتيل كل إنسان يستطيع أن يسلب ما عليه. فمن سمع هذه الحكاية نسبه إلى الجبن الذى لا يليق بحال الصحابة- رضوان الله عليهم- مع أن هذا لا ينتج عن جبنه، وإنما لا يدل على شجاعته، وليست الشجاعة في الحروب صفة لكل إنسان.
وعرض الغلمان وهو يحفر الخندق وكانوا بأجمعهم- من بلغ ومن لم يبلغ- يعملون فيه، فلما التحم الأمر: أمر من لم يبلغ خمس عشرة سنة أن يرجع إلى أهله، وأجاز من بلغ خمس عشرة سنة، فممّن أجازه: عبد الله بن عمر بن الخطاب- رضى الله عنهما- وزيد بن ثابت، وأبو سعيد الخدري، والبراء بن عازب- رضى الله عنهم- وشبكوا المدينة بالبنيان من كل ناحية، فصارت كالحصن، وكان لواء المهاجرين بيد زيد بن حارثة، ولواء الأنصار بيد سعد بن عبادة- رضى الله عنهما.
ولما فرغ منه صلى الله عليه وسلم أقبلت قريش ومن معها من بنى قريظة وقبائل العرب المشركين، واشتدّ البلاء حتّى ظن المؤمنون كلّ الظن، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركون بضعا وعشرين ليلة لم يكن بينهم حرب، إلا الرمى بالنبل والحصار، وكان جماعة من المنافقين مثل أوس القيظي، ومتابعيه ينفرون جيش الإسلام، ويقولون: ارجعوا إلى منازلكم، واعتلّوا بأن منازلكم عورة خالية عن المحافظة، فإنها خارج المدينة، ونحن نخاف أن يظفر بها جيش العدو، وكما أخبر عنه قوله تعالى: وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً (13)[الأحزاب: 13] ، وكان المشركون يتناوبون الحرب، لكن الله تعالى لم يمكنهم عبور الخندق؛ فإن شجعان الصحابة كانوا يمنعونهم بالنبال والأحجار، وكان النبى صلى الله عليه وسلم بنفسه في الليالى يحرس بعض مواضع.
ثم نصر الله نبيه على المشركين، واختلفت كلمتهم، وهبّت ريح الصبا عاصفة في ليال شديدة البرد كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها [الأحزاب: 9] ، فجعلت الريح تقطع أطناب خيامهم وتكفئ قدورهم وتقلبهم على بعض أمتعتهم ولا
تجاوز عسكرهم، وسفت عليهم التراب ورمتهم بالحصا، وانقلبوا خاسئين، فكان نصره صلى الله عليه وسلم بالصبا، وكان إهلاك عاد بالدبور «1» ، (وهى الريح الغربية) . ووقع بينهم الاختلاف، فرحلت قريش مع أبى سفيان، ورحلت غطفان وهم يقولون:
الرحيل الرحيل، لا مقام لكم. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«الان نغزوهم ولا يغزونا» وكان كذلك حتّى فتح مكة.
* وظهرت للنبى صلى الله عليه وسلم في حفر الخندق معجزات، منها:
1-
أن كدية (أى صخرة) اشتدّت عليهم، فدعا بماء وتفل فيه ونضحه عليها فانهالت تحت المساحي «2» .
روى البيهقى وغيره أنه صلى الله عليه وسلم لما خطّ الخندق، وقطع لكل عشر أربعين ذراعا، وأخذوا يحفرون، وظهر فيه صخرة عظيمة لم تعمل فيها المعاول، فوجّهوا سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره، فجاءه وأخذ المعول فضربها ضربة فصدعها، وبرق منها بريق أضاء ما بين لابتيها (أى لابتيّ المدينة) فكأن بها مصباحا في جوف بيت مظلم، فكبّر وكبر المسلمون، وقال:«أضاءت لى منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب» أى في بياضها وصفرتها وانضمام بعضها إلى بعض.
[واللابتان: حرّتان يكتنفانها، والحرّة: كل أرض ذات حجارة سوداء كأنها محترقة من الحر] .
ثم ضرب الثانية، فقال:«أضاءت لى منها القصور الحمر من أرض الروم» .
ثم ضرب الثالثة، فقال:«أضاءت لى قصور صنعاء، وأخبرنى جبريل أن أمتى ظاهرة على كلها» أى الأراضى التى أضاءت «فأبشروا» فقال المنافقون: ألا تعجبون من محمد يمنيكم أيها المؤمنون ويعدكم الباطل، ويخبركم أنه يبصر من يثرب «3» (أى المدينة) قصور الحيرة، وأنها تفتح لكم، وإنكم إنما تحفرون الخندق
(1) كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور» ، رواه الإمام أحمد.
(2)
المساحي: المعاول التى يحطمون بها الصخور.
(3)
قد نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن تسمية المدينة «يثرب» وقال: «من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله هى طابة، هى طابة، رواه الإمام أحمد عن البراء؛ لأن التثريب: المؤاخذة والعقاب، ومنه قوله تعالى: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ، والمدينة دار الإيمان والأمان والمغفرة، جعلنا الله من أهلها بمنه وكرمه.
من الفرق! أى الخوف» فنزل قوله تعالى: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً (12)[الأحزاب: 12] .
2-
ومنها أن بنت بشير بن سعد أتت بقليل تمر إلى أبيها وخالها عبد الله بن رواحة، فمرت برسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاها، وقال: هات ما معك يا بنية، فصبّته على كفّيه فما امتلأتا، ثم دعا بثوب فبسط له وبدّد ذلك التمر عليه، ثم قال لإنسان:
اصرخ في أهل الخندق، أن هلمّوا إلى الغداء. فجعلوا يأكلون منه، وجعل يزيد، حتى صدر «1» أهل الخندق عنه وإنه ليسقط من أطراف الثوب.
ومنها ما رواه جابر، قال: كانت عندى شويهة غير سمينة، فأمرت امرأتى أن تخبز قرص شعير، وأن تشوى تلك الشاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنا نعمل في الخندق نهارا وننصرف إذا أمسينا، فلما انصرفنا من الخندق قلت: يا رسول الله صنعت لك شويهة ومعها شئ من خبز الشعير، وأنا أحب أن تنصرف إلى منزلي. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يصرخ في الناس معه: إلى بيت جابر. وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه، فقدّم له ذلك، فبرّك وسمّى الله، ثم أكل، وتواردها الناس كلما صدر قوم جاء قوم حتّى صدر أهل الخندق عنها «2» .
* وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمل الخندق، وأقبلت قريش في أحابيشها أى (حلفائها) ومن تبعها من كنانة في عشرة الاف، وأقبلت غطفان ومن تبعها من أهل نجد، وكان بنو قريظة وكبيرهم كعب بن أسيد قد عاهدوه صلى الله عليه وسلم، فما زال
(1) أى رجعوا وانصرفوا منه.
(2)
رواه البخارى ومسلم وغيرهما.
عليهم أصحابهم من اليهود حتّى نقضوا العهد، وصاروا مع الأحزاب، فعظم الخطب حتّى ظن المؤمنون كل الظن كما سبق، ونجم النفاق من بعض المنافقين، حتى قال معتب بن قشير:«كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى قضاء الحاجة» . كما قال تعالى: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً (11)[الأحزاب: 10، 11] .
وقال ابن عباس: كان الذين جاؤهم من فوقهم بنو قريظة، ومن أسفل منهم قريش وغطفان أ. هـ.
والمراد من فوقهم: من جهة المدينة، ومن أسفل منهم: من جانب أسفل الوادي.
وأقام المشركون بضعا وعشرين ليلة، ورسول الله مقابلهم، وليس بينهم قتال غير المراماة بالنبل والحصار كما سبق، ثم خرج عمرو بن عبد ودّ- من ولد لؤى بن غالب- يريد المبارزة، فبرز إليه عليّ- رضى الله عنه- فقال عمرو:
يا ابن أخي، والله ما أحبّ أن أقتلك، فقال علي: لكننى والله أحب أن أقتلك.
فحمي عمرو، ونزل من على فرسه وسلّ سيفه كأنه شعلة نار، ثم أقبل نحو عليّ مغضبا، ثم التقيا، فاستقبله عليّ بدرقته فضربه فقدّها وأثبت فيها السيف، وأصاب رأسه فشجّه، وضربه عليّ على حبل عاتقه فسقط وأثار العجاج «1» ، وسمع النبيّ صلى الله عليه وسلم التكبير، فعرف أن عليا قتله، وانكشفت الغبرة، وإذ علا عليّ صدر عمرو يذبحه، ثم أهبّ الله ريح الصبا، إلى اخر ما سبق ذكره.
ثم أقبل عليّ ووجهه يتهلل، ولم يكن في العرب درع مثل درع عمرو، فخرجت خيولهم منهزمة، وألقى عكرمة بن أبى جهل رمحه يومئذ، وهو منهزم عن عمرو، وخرج في إثرهم الزبير وعمر فناوشوهم ساعة، وحمل الزبير على رجل منهم «2» فشقه نصفين، وقطع سرجه حتّى وصل إلى كاهل الفرس، فقيل له: ما رأينا مثل سيفك! فقال: ما هو السيف، إنه الساعد. ثم اتفق الكفار على أن يحملوا جميعا ولم يتخلف منهم أحد، فوافوا رسول الله عند طلوع الشمس وأحدقوا
(1) العجاج: الغبار.
(2)
هو هبيرة بن أبى وهب، زوج أم هانئ أخت الإمام على كرم الله وجهه.
بالخندق من كل وجه، ووجّهوا نحو خيمته كتيبة عظيمة فيها خالد بن الوليد، فقاتلوهم يومئذ إلى هويّ «1» الليل حتّى كشفهم الله وتفرقوا، وشغل المصطفى عن العصرين «2» والعشاءين، فأقام لكلّ إقامة، وقال:«شغلونا عن الصلاة الوسطى ملأ الله قلوبهم نارا» «3» . ولم يكن لهم بعد ذلك قتال جميعا، وتفرّق الأحزاب بتخذيل نعيم بن مسعود الأشجعى الذى أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما، ولم يعلم قومه، وأمره صلى الله عليه وسلم بالتخذيل، حيث قال له:«خذّل عنا ما استطعت فإن الحرب خدعة «4» (بفتح الحاء وسكون الدال أى ينقضى أمرها بالمخادعة) .
وقال ضرار بن الخطاب بن مرداس، أخو بنى محارب بن فهر في يوم الخندق، يمدح قومه، ويعتذر عن الهزيمة:
ومشفقة تظن بنا الظنونا
…
وقد قدنا عرندسة طحونا «5»
كأنّ زهاءها أحد إذا ما
…
بدت أركانه للناظرينا
ترى الأبدان فيها مسبغات
…
على الأبطال واليلب «6» الحصينا
وجردا كالقداح مسوّمات
…
نؤمّ بها الغواة الخاطئينا
كأنهم إذا صالوا وصلنا
…
بباب الخندقين مصافحونا
أناس لا ترى فيهم رشيدا
…
وقد قالوا: ألسنا راشدينا؟
وأحجرناهم شهرا كريشا «7»
…
وكنّا فوقهم كالقاهرينا
نراوحهم ونغدو كل يوم
…
عليهم في السلاح مدجّجينا
(1) هوى الليل: تمامه واستواؤه.
(2)
العصرين: الظهر والعصر، والعشاءين: المغرب والعشاء.
(3)
وفي رواية: «ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا كما شغلونا عن الصلاة حتّى غابت الشمس» رواه أحمد، والأربعة والبيهقى عن علي، وابن ماجه عن عبد الله بن مسعود.
(4)
«الحرب خدعة» قال البزار: فتح الخاء وسكون الدال لغة النبى صلى الله عليه وسلم ولغته أفصح اللغات. وقالوا: معناه أن من خدع مرة واحدة عطب وهلك ولا عودة له، وقال المطرز: الفتح أفصح لأنه لغة قريش: وقال ابن درستويه: ليست لغة قوم، إنما هى لغة الجميع؛ لأنها من الخداع فلذلك فتحت والله تعالى أعلم.
(5)
العرندس من الإبل: الشديد.
(6)
اليلب: محركة الترس، أو الدرع، أو جلد يخرز بعضه إلى بعض تلبس على الرؤس خاصة.
(7)
التكريش: تقطيب الوجه، وكرش الجلد: تقبض، والمقصود أنه صعب شديد.
بأيدينا صوارم مرهفات
…
نقدّ بها المفارق والشئونا «1»
كأن وميضهنّ معريّات
…
إذا لاحت بأيدي مصلتينا
وميض عقيقة «2» لمعت بليل
…
تري فيها العقائق مستبينا
فلولا خندق كانوا لديه
…
لدمّرنا عليهم أجمعينا
ولكن حال دونهم وكانوا
…
به من خوفنا متعوّذينا
فإن نرحل فإنّا قد تركنا
…
لدي أبياتكم سعدا رهينا
إذا جنّ الظلام سمعت نوحا «3»
…
علي سعد يرجّعن «4» الحنينا
وسوف نزوركم عمّا قريب
…
كما زرناكم متوازرينا
بجمع من كنانة غير عزل
…
كأسد الغاب قد حمت العرينا
فأجابه كعب بن مالك- رضي الله عنه فقال:
وسائلة تسائل ما لقينا
…
ولو شهدت رأتنا صابرينا
صبرنا لا نري لله عدلا «5»
…
علي ما نابنا متوكلينا
وكان لنا النبيّ وزير صدق
…
به تعلو البريّة أجمعينا
نقاتل معشرا ظلموا وعقّوا
…
وكانوا بالعداوة مرصدينا
نعاجلهم إذا نهضوا إلينا
…
بضرب يجعل المتسرّعينا
ترانا في فضافض سابغات
…
كغدران* الملا متسربلينا
وفي أيماننا بيض خفاف
…
بها نشفي مراح «6» الشاغبينا
بباب الخندقين كأنّ أسدا
…
شوابكهن «7» تحمين العرينا
(1) مفرق الرأس: مفترق الشعر الشئون: مجاري الدمع.
(2)
العقيقة هنا: ما يبقي في السحاب من شعاعه، وبه تشبّه السيوف، فتسمي عقائق- أ. هـ. (من القاموس المحيط) .
(3)
النائحات.
(4)
الترجيع: الترديد مرة بعد أخرى.
(5)
قوله عدلا بكسر العين أي معادلا أ. هـ.
* الغدير: القطعة من الماء يغادرها السيل (بقية مياه السيل) . والملا: الصحراء.
(6)
المراح: الأشر والبطر، والمقصود: تذهب أشرهم وبطرهم.
(7)
الشوابك: الأنياب المتشابكة من أسد شابك: مشتبك الأنياب.
فوارسنا إذا بكروا وراحوا
…
علي الأعداء شوسا معلمينا
لننصر أحمدا والله حتي
…
نكون عباد صدق مخلصينا
ويعلم أهل مكة حين ساروا
…
وأحزاب أتوا متحزّبينا
بأنّ الله ليس له شريك
…
وأنّ الله مولي المؤمنينا
فإمّا تقتلوا سعدا سفاها
…
فإنّ الله خير القادرينا
سيدخله جنانا طيبات
…
تكون مقامة للصالحينا
كما قد ردّكم فلا «1» شريدا
…
بغيظكم خزايا خائبينا
خزايا لم تنالوا ثمّ خيرا
…
وكدّتم أن تكونوا دامرينا»
بريح عاصف هبّت عليكم
…
فكنتم تحتها متكمّهينا «3»
وكان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وبنى قريظة «حم حم لا ينصرون» كذا في سيرة ابن هشام.
* وفي شهر ذى القعدة وصدر* ذى الحجة من هذه السنة كانت غزوة بنى قريظة «4» : وهم قوم من اليهود بالمدينة من حلفاء الأوس، وسيد الأوس حينئذ سعد بن معاذ- رضى الله تعالى عنه-.
لما رجع صلى الله عليه وسلم من الخندق، وكان وقت الظهيرة ودخل بيت عائشة- رضى الله تعالى عنها- فبينما هو يغتسل، ودعا بالمجمرة ليتبخر، أتاه جبريل عليهما السلام بعد صلاة الظهر، فقال: أو قد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: نعم، فقال جبريل: ما وضعت ملائكة الله السلاح منذ نزل بك العدوّ «5» ؛ إن الله يأمرك يا محمد بالمسير إلى بنى قريظة، فإني عامد إليهم بمن معى من
(1) الفلّ: الكتيبة المنهزمة، وقوم فلّ: منهزمون.
(2)
دامرين: هالكين.
(3)
التكمه: التهدّم في البئر ونحوها، أو التندم على الأمر الغائب.
* المراد أوّله وبدايته.
(4)
فى البخارى أنها كانت بعد رجوع النبى صلى الله عليه وسلم من الخندق ووضع السلاح.
(5)
وفي لفظ: قال: «يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسرع ما حللتم، عذيرك من محارب، عفا الله عنك» .
الملائكة، فمزلزل بهم الحصون، فقال صلى الله عليه وسلم: إن في أصحابى جهدا فلو أنظرتهم أياما. فقال جبريل عليه السلام: انهض إليهم، فو الله لأدقّنهم كدقّ البيض على الصفا، (وكان جبريل على فرس أبلق)، فقال: ولأدخلنّ فرسى هذا عليهم في حصونهم، ثم لأضعضعنّها. فأدبر جبريل عليه السلام ومن معه من الملائكة حتى سطع الغبار في زقاق بني غنم وهم طائفة من الأنصار، فأبرز «1» رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأذّن في الناس:«من كان سميعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بنى قريظة» ، وأعطى صلى الله عليه وسلم الراية عليّ بن أبى طالب، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، ونادى مناد بأمره صلى الله عليه وسلم:«يا خيل الله اركبي» «2» .
ثم سار إليهم صلى الله عليه وسلم وقد لبس سلاحه وركب فرسه، والناس حوله قد لبسوا السلاح، وركبوا الخيل، وهم ثلاثة الاف، والخيل ستة وثلاثون فرسا، له صلى الله عليه وسلم منها ثلاثة، وقدّم صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبى طالب كرم الله وجهه برايته إلى بنى قريظة، ومر صلى الله عليه وسلم بنفر من بنى النجار قد لبسوا السلاح، فقال: هل مرّ بكم أحد؟ قالوا: نعم دحية الكلبى مر على فرس أبيض عليه اللأمة، وأمرنا بحمل السلاح، وقال لنا:
رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلع عليكم الان، فلبسنا سلاحنا وصففنا. فقال صلى الله عليه وسلم: ذلك جبريل عليه السلام بعث إلى بنى قريظة ليزلزل حصونهم ويقذف الرعب في قلوبهم، فلما دنا عليّ بن أبى طالب- رضى الله عنه- من الحصن ومعه نفر من المهاجرين والأنصار، وغرز اللواء عند أصل الحصن، سمع من بنى قريظة مقالة قبيحة في حق النبى صلى الله عليه وسلم، فسكت المسلمون، وقالوا: السيف بيننا وبينكم، فلمّا رأى عليّ- رضى الله عنه- رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا، أسلم اللواء لأبى قتادة الأنصاري، ورجع إليه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، لا عليك أن تدنو من هؤلاء الأجانب، قال: لعلك سمعت منهم أذي؟ فقال: نعم يا رسول الله، قال: لو رأونى لم يقولوا من ذلك شيئا. فكان كما قال صلى الله عليه وسلم، وحاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى قريظة خمسا وعشرين ليلة، وقيل دون ذلك، وكان طعام الصحابة- رضى الله عنهم التمر، يرسل به إليهم سعد بن عبادة- رضى الله عنه- فلا زال يحاصرهم
(1) كذا بلفظ «أبرز» فى السيرة الحلبية وقال: إنها كذلك في سيرة الحافظ الدمياطى: بالأذان في البراز، ومعناه: أمره.
(2)
وهو من أحسن الكنايات، ومعناه:«يا فرسان الله» .
حتى جهداهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فلما أيقنوا أنه صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتّى يقاتلهم، قال كبيرهم «كعب بن أسيد» : يا معشر يهود قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وأنا عارض عليكم خلالا ثلاثا أيها شئتم، قالوا: وما هي؟ قال: «نتابع هذا الرجل ونصدّقه، فو الله لقد تبين لكم أنه نبيّ مرسل، وأنه الذى تجدونه في كتابكم، فإذا امنتم به أمنتم على أموالكم ودمائكم ونسائكم وأبنائكم، وما منعنا من الدخول معه إلا الحسد للعرب، حيث لم يكن هذا النبى من بنى إسرائيل» . وكان يهود بنى قريظة يدرسون ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتبهم، وأنّ دار هجرته المدينة، بل كان هذا غير خاص ببنى قريظة؛ إذ غيرهم كان كذلك، فقد روى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال:«كانت يهود بنى قريظة، وبنى النضير، وفدك، وخيبر، يجدون في كتبهم صفة النبى صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث، وأن دار هجرته المدينة» .
قال كعب: فإن أبيتم عليّ هذه فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مصلتين* السيوف، ولم نترك وراءنا ثقلا حتّى يحكم الله بينا وبين محمد، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا نسلا يخشى عليه، وإن نظفر فلعمرى لنجدن النساء والأبناء. قالوا:«نقتل هذه المساكين» ؟ فما خير العيش بعدهم» ؟ قال كعب: فإن أبيتم عليّ هذه، فإن الليلة ليلة السبت، وأن عسى أن يكون محمد وأصحابه قد آمنوا فيها، فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرّة (أى غفلة) . فقالوا: نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يكن يحدث فيه من كان قبلنا؟ وقال لهم عمرو بن سعد: قد خالفتم محمدا فيما عاهدتموه عليه، ولم أشرككم في غدركم، فإن أبيتم أن تدخلوا معه فاثبتوا على اليهودية وأعطوا الجزية، فو الله ما أدرى أيقبلها أم لا، قالوا: نحن لا نقر للعرب بخراج في رقابنا يأخذونه، القتل خير من ذلك، قال: فإني برئ منكم.
وبعد الحصار أرسلوا بنباش بن قيس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزلوا على ما نزلت عليه بنو النضير، من أن لهم ما حملت الإبل إلا الحلقة «أى الدرع» ، فأبى صلى الله عليه وسلم، فأرسلوه ثانيا بأنه لا حاجة لهم بشئ من الأموال، لا من الحلقة ولا من
* أى مجرّدين السيوف من غمدها.
غيرها، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعاد نباش إليهم بذلك، ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعث إلينا أبا لبابة، وهو رفاعة بن المنذر، لنستشيره في أمرنا؛ لأنه كان من حلفاء الأوس وبنو قريظة (منهم)«1» وكان مناصحا لهم؛ لأن ماله وولده وعياله كانت في بنى قريظة، فأرسله صلى الله عليه وسلم إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال وأسرع إليه النساء والصبيان يبكون فى وجهه من شدّة المحاصرة وتشتيت مالهم، وقام كعب بن أسيد، فقال لأبى لبابة: قد عرفت ما بيننا، وقد اشتد علينا الحصار وهلكنا، ومحمد لا يفارق حصننا حتّى ننزل على حكمه، فلو زال عنا لحقنا بالشام أو خيبر، ولم نطأ له أرضا، ولم نكثر عليه جمعا أبدا، ما تري؟ قد اخترناك على غيرك، أننزل على حكم محمد؟ قال: نعم فانزلوا، وأشار بيده إلى حلقه إشارة إلى الذبح، ومعناه لا تفعلوا لئلا يذبحكم، قال أبو لبابة: فو الله ما زالت قدماى من مكانهما حتّى عرفت أنى خنت الله ورسوله؛ لأن في قولى تنفيرا لهم عن الانقياد له صلى الله عليه وسلم.
ومن ثم أنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ [الأنفال: 27] الاية، وقيل:(وهذا أثبت)«2» أنه نزل في ذلك: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً [التوبة: 102] ، وسالت عين أبى لبابة بالدموع، وانطلق على وجهه، فلم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وربط نفسه إلى عمود بالمسجد يقال له:
«اسطوانة التوبة» كان أكثر نفله صلى الله عليه وسلم عنده، وقال: والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله عليّ مما صنعت. وعاهد الله ألايطأ أرض بنى قريظة أبدا ولا يرى في بلد خان الله ورسوله فيه أبدا. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره، وكان قد استبطأه، قال: أما لو جاءنى لاستغفرت له، وأما بعد أن فعل ما فعل فما أنا بالذى أطلقه حتّى يتوب الله عليه، فنزلت توبته، فتولى النبى إطلاقه بيده بعد أن أقام مرتبطا بالجذع ست ليال لا يحلّ إلا للصلاة.
ثم إن بنى قريظة نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بهم فكتّفوا وجعلوا ناحية بين الستمائة والسبعمائة، وأخرج النساء والذرارى من الحصون، وجعلوا
(1) فى الأصل «وبنو قريظة من الأوس» وهو خطأ؛ لأن بنى قريظة كانوا من حلفاء الأوس، لا من الأوس.
(2)
فى الأصل (وهو أولا أثبت) أصلحناه من السيرة الحلبية.
ناحية، وكانوا ألفا، واستعمل عليهم عبد الله ابن سلام، فتواثبت الأوس، وقالوا: يا رسول الله موالينا وحلفاؤنا، وقد فعلت في موالى إخواننا بالأمس ما قد فعلت، (يعنون بنى قينقاع) ، لأنهم كانوا حلفاء الخزرج، ومن الخزرج عبد الله بن أبيّ ابن سلول، وكانوا قد نزلوا علي حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلّمه فيهم عبد الله بن أبيّ ابن سلول، فوهبهم له، على أن يجلوا، (فطلبت)«1» الأوس من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهب لهم بنى قريظة كما وهب بنى قينقاع لإخوانهم من الخزرج، فلما كلمته الأوس أبى أن يفعل ببنى قريظة ما فعل ببنى قينقاع، ثم قال لهم: أما ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: نختار حكم سعد بن معاذ- رضى الله عنه- فرضى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأذن لسعد بن معاذ، وليس إذنه صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ في ذلك لكونه لا يجوز له صلى الله عليه وسلم الحكم بينه وبين محاربه، بل هو جائز له؛ فإنّ من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن يحكم لنفسه، فلأن يحكم بينه وبين محاربه من باب أولي، ومعنى الحكم بينه وبين محاربه أن يقول للمحارب:
أترك قتالك على التزام كذا وكذا، أو على ما يقتضيه رأى فلان، ويحكم به فيك، ومن هذا القبيل تحكيم سعد بن معاذ في بنى قريظة بأمر النبى صلى الله عليه وسلم، فالتحكم في المحاربين من خصائص الإمام الأعظم «2» ، ومن حقوقه؛ فلا يجوز لأحد أن يفتات عليه، ولا أن يفعله بغير إذنه، فالحكم في الحقيقة حقه صلى الله عليه وسلم، وقد ردّه إلى سعد وفوّض له فيه. وكان سعد بن معاذ- رضى الله عنه- حين أصابه السهم بالخندق وضع في خيمة في المسجد تداوى فيها الجرحى من أصحابه، فأتاه قوم فحملوه على حمار وساروا به وهم يقولون:«يا أبا عمرو أحسن في مواليك؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولّاك ذلك لتحسن فيهم، فقد رأيت عبد الله بن أبيّ ابن سلول وما صنع في حلفائه» ، كل ذلك وسعد بن معاذ ساكت، فلما أكثروا عليه قال- رضى الله عنه:«لقد ان لسعد ألاتأخذه في الله لومة لائم» ، فقال بعضهم:
(1) فى الأصل (فظنت) وهو خطأ.
(2)
وهو النبى صلى الله عليه وسلم فقط، أما الأئمة- الحكام- فلهم ذلك في حدود الكتاب والسنة، أما إذا خالف القران الكريم والسنة النبوية الشريفة: فضرب كلامه عرض الحائط أولي، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام:«لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» رواه الإمام أحمد والحاكم، وروى النسائى قوله عليه الصلاة والسلام:«لا طاعة لأحد في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف» وروى الإمام أحمد: «لا طاعة لمن لم يطع الله» والأحاديث في هذا الباب كثيرة اكتفينا منها بما أوردنا.
«وا قوماه» ، فأتى سعد على حمار، فلما دنا قريبا من باب المسجد، وانتهى رضى الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى المسلمين وهم حوله جلوس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار: قوموا إلى سيدكم «1» ، فقاموا صفين، كل رجل منهم يحيّى سعدا، حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: احكم يا سعد، فقال: الله ورسوله أحقّ بالحكم، قال صلى الله عليه وسلم: قد أمرك الله أن تحكم فيهم، فقال سعد لبنى قريظة: أترضون بحكمي؟
قالوا: نعم، فأخذ عليهم عهد الله وميثاقه أنّ الحكم ما حكم به سعد، قال سعد:
فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال، وتقسّم الأموال، وتسبي الذرارى والنساء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد:«لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات» «2» .
وما أحسن قول من قال:
ليت دهري حاكم لي
…
في عدوّي ليغيظه
وهو قد يحكم يوما
…
حكم سعد في قريظة
وأخرج أحمد عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما قال: دمي يوم الأحزاب سعد بن معاذ فقطع الجلد، فحسمه* رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنار، فانتفخت يده فنزف، فلما رأى ذلك قال:«اللهم لا تخرج نفسى حتّى تقرّ عينى من بنى قريظة» ، فاستمسك عرقه، فما قطر قطرة حتّى نزلوا على حكم سعد، فأرسل إليه، فحكم أن تقتل رجالهم وتسبى نساؤهم وذراريهم ليستعين بهم المسلمون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أصبت حكم الله فيهم» ، فلما فرغ منهم انفتق عرقه فمات رضى الله عنه، كما سيأتى قريبا. وينسب لحسان بن ثابت في رثائه قوله:
لقد سجمت «3» من دمع عينى عبرة
…
وحقّ لعيني أن تفيض علي سعد
قتيل ثوى في معرك فجعت به
…
عيون ذراري «4» الدّمع دائمة الوجد
على ملّة الرحمن «5» وارث جنّة
…
مع الشهدا، وفدها أكرم الوفد
فإن تك قد ودّعتنا وتركتنا
…
وأمسيت في غبراء مظلمة اللّحد
(1) حديث ثابت في كثير من كتب السنة والمغازي، وفيه رد على طوائف المتفيهقة.
(2)
وفي رواية: «من فوق سبعة أرقعة» .
* يقال: حسم العرق إذا قطعه وكواه لئلا يسيل دمه.
(3)
سال دمعها غزيرا.
(4)
ذرارى الدمع من ذر الحب والملح والدواء: فرقه، والمعنى أن دمعى متفرق ولكن قلبى دائم الوجد والحزن.
(5)
والمعنى أنه على ملة الرحمن، ومات مسلما شهيدا، رضى الله عنه.
فأنت الذى يا سعد بتّ بمشهد
…
كريما وأثواب المكارم والحمد
بحكمك في حيّى قريظة والذي
…
قضى الله فيهم ما قضيت على عمد
فوافق حكم الله حكمك فيهم
…
ولم تعف إذ ذكرت ما كان من عهد
فإن كان ريب الدهر أمضاك في الألى
…
شروا هذه الدنيا بجنّاتها الخلد
فنعم مصير الصادقين إذا دعوا
…
إلى الله يوما للوجاهة والقصد
ثم أمر صلى الله عليه وسلم أن يجمع ما وجد في حصونهم، فقسّمه صلى الله عليه وسلم، فجعل للفارس ثلاثة أسهم: سهما له، وسهمين لفرسه، وللراجل سهما؛ وكانت خيل المسلمين يومئذ ستة وثلاثين فرسا، ووقع في سهم النبى صلى الله عليه وسلم من سبيهم ريحانة بنت عمرو بن حذافة- من بنى عمرو بن قريظة- ويقال ريحانة بنت شمعون، فلم تزل في ملكه حتّى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأمر بالأسارى أن يكونوا في دار زيد بن أسامة رضى الله عنه- والذرية في دار ابنة الحارث النجّارية؛ لأن تلك الدار كانت معدودة لنزول الوفود من العرب، وأمر بالمتاع أن يحمل، وترك المواشى هناك ترعى الشجر، ثم غدا صلى الله عليه وسلم سائرا إلى المدينة، ثم خرج إلى سوق المدينة فخندق بها خنادق، أى حفر فيها حفائر، ثم أمر بقتل كلّ من أنبت- أى بلغ- فجاؤا إليه أرسالا تضرب أعناقهم ويلقون في تلك الخنادق، وقتلت فيهم امرأة واحدة، وهى بنانة امرأة الحكم القرظي، وكانت طرحت على خلاد بن سويد بن الصامت رحى من فوق الحائط، فاستشهد واحده في هذه الغزوة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«له أجر شهيدين» وقتلها به قصاصا، لا لكونها كانت في قتال المشركين.
ومما يستشهد به الفقهاء في كتب الفقه «1» فى قتال المشركين، على أن المرأة لا تقتل- كما قاله اليافعى- قول أبى الخطاب عمر بن أبى ربيعة القرشى المخزومي:
إنّ من أكبر الكبائر عندي
…
قتل بيضاء خودة عطبول
كتب القتل والقتال علينا
…
وعلي الغانيات جرّ الذيول
(1) ليس الشعر من أوجه الاستدلال، وإنما قد يكون ملحة من الملح، على سبيل التفكه، لا الاستشهاد.
ثم أتى بكعب بن أسد: سيد بنى قريظة، فقال له كعب- بعد أن عرض عليه الإسلام-:«لولا أن تعايرنى يهود بالجزع من السيف لاتبّعتك» ، فأمر صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه.
وكان المتولى لقتل بنى قريظة عليّ بن أبى طالب، والزبير بن العوّام- رضى الله تعالى عنهما- وينسب لحسان بن ثابت قوله:
لقد لقيت قريظة ما أساها «1»
…
وما وجدت لذلّ من نصير
غداة أتاهم يهوي إليهم
…
رسول الله كالقمر المنير
له خيل مجنّبة تغادي
…
بفرسان عليها كالصقور
تركناهم وما ظفروا بشئ
…
دماؤهم عليهم كالغدير
فهم صرعي يحوم الطير فيهم
…
كذاك يدان ذو العند الفجور
فأنذر مثلها نصحا قريشا
…
من الرحمن إن قبلت نذيري
وقوله:
لقد لقيت قريظة ما أساها
…
وحلّ بحصنها ذلّ ذليل
وسعد كان أنذرهم بنصح
…
بأنّ إلهكم ربّ جليل
فما برحوا بنقض العهد حتي
…
غزاهم «2» في بلادهم الرسول
أحاط بحصنهم منّا صفوف
…
له من حرّ وقعهم صليل*
ولما انقضى شأن بنى قريظة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا، ولكنكم تغزونهم» فكان كذلك.
وانفجر جرح سعد بن معاذ الذى في يده، وسال الدم، واحتضنه صلى الله عليه وسلم، فجعلت
(1) ما أساها: ما أساءها: حذفت الهمزة للتسهيل، وفي ابن هشام (فى المطبوعة) ما ساها، بهمزة المد بعد السين.
(2)
فى سيرة ابن هشام «فلاهم» بدل «غزاهم» ومعناه قتلهم بالسيوف.
* الصليل: صوت له رنين، وهو صوت قارعة السيوف.
الدماء تسيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحمل إلى منزله، فمات سعد منه ولم يعلم «1» صلى الله عليه وسلم بموته، فأتى جبريل فقال: يا محمد، من هذا الميت الذى فتحت له أبواب السماء واهتزّ له العرش فرحا به؟ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا إلى سعد بن معاذ فوجده قد مات، ولما دفن سعد- رضى الله عنه- وشيّعه النبى صلى الله عليه وسلم ومن معه من الصحابة والملائكة، سبّح صلى الله عليه وسلم وسبّح الناس معه، فقالوا: يا رسول الله: لم سبّحت؟ قال: لقد تضايق على هذا العبد الصالح قبره حتّى فرّجه الله عنه، وسئل صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: كان يقصّر في الطهور من البول بعض التقصير.
* ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبايا بنى قريظة إلى نجد أو الشام لتباع ويشترى بها سلاح.
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفرّق بين الأم وولدها في السبايا من بنى قريظة، وقال: لا يفرّق بين أمّ وولدها حتّى يبلغ. فكانت أمّ الولد تباع من المشركين هى وولدها، وهو محمل قوله صلى الله عليه وسلم:«من فرّق بين والدة وولدها فرّق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة» «2» .
* وفي هذه السنة الرابعة في صفر قدم عليه صلى الله عليه وسلم قوم من عضل والقارة (عضل بفتح المهملة والمعجمة بعدها لام: بطن من بنى الهون بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر ينسبون إلى عضل بن الديش، والقارة بالقاف وتخفيف الراء: بطن من الهون أيضا ينسبون إلى الديش المذكور، وقال ابن دريد: القارة أكمة سوداء فيها حجارة، كأنهم نزلوا عندها فسمّوا بها، كذا في المواهب اللدنية) وطلبوا منه أن يبعث معهم من يفقّه قومهم في الدين، فبعث معهم ستة، وهم: ثابت بن أبى الأفلح، وخبيب بن عدي، ومرثد بن أبى مرثد الغنوي، وخالد بن البكير الليثي، وزيد بن الدثنة، وعبد الله بن طارق، وأمّر عليهم مرثد بن أبى مرثد، فلما وصلوا إلى الرجيع (ماء لهذيل على أربعة عشر ميلا من عسفان) غدروا بهم وقاتلوهم، فقتل ثلاثة وأسر ثلاثة، وهم: زيد،
(1) كانت الجملة «فمات سعد منه وحمل إلى منزله ولم يعلم صلى الله عليه وسلم» فأصلحناه إلى ما ترى حتّى ينتظم الكلام.
(2)
رواه الإمام أحمد والترمذي، والحاكم عن أبى أيوب.
وخبيب، وعبد الله بن طارق، فأخذوهم إلى مكة، فهرب عبد الله بن طارق في الطريق، وقاتل إلى أن قتلوه بالحجارة، فلما وصلوا إلى مكة في ذى القعدة حبسوا كلّ واحد منهما حتّى تخرج الأشهر الحرم، ولما انسلخ الأشهر الحرم أخرجوا خبيبا وزيدا من الحرم إلى التنعيم ليقتلوهما في الحلّ، واجتمع خبيب وزيد في الطريق فتواصوا بالصبر والثبات على ما يلحقهما من المكاره، قال لهم خبيب:
دعونى أصلّي ركعتين، فتركوه، فصلّى ركعتين، وقال: والله لولا أن تحسبوا أنّ ما بى من جزع لزدت. وعند موسى بن عقبة أنه صلاهما في موضع مسجد التنعيم وقال: «اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا (يعنى متفرقين) «1» ولا تبق منهم أحدا» . فلم يحل الحول، ومنهم أحد حيّ، ثم أنشأ خبيب يقول:
فلست أبالي حين أقتل مسلما
…
علي أيّ شقّ كان في الله مضجعى
وذلك في ذات الإله وإن يشأ
…
يبارك علي أوصال شلو* ممزّع
إلي الله أشكو غربتى بعد كربتى
…
وما أرصد الأحزاب لى عند مصرعى
[الأوصال: جمع وصل، وهو العضو. والشلو: بكسر الشين المعجمة الجسد، ويطلق على العضو، لكن المراد بها هنا الجسد] .
قال أبو هريرة: «كان خبيب أوّل من سنّ الركعتين عند القتل لكلّ مسلم قتل صبرا» ، لأنه فعلهما في حياته صلى الله عليه وسلم، فاستحسن ذلك من فعله وقرّرهما، واستحسنه المسلمون، فبقى سنة. والصلاة خير ما ختم به عمل العبد.
* وفي هذه السنة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت بتعلّم «2» السريانية، وسيأتى ذلك موضحا في تراجمة النبى- عليه الصلاة والسلام.
* وفي هذه السنة الرابعة، وقيل في الخامسة نزلت اية الحجاب، والمراد بالاية الطائفة من القران نزل فيها الأمر بالستر، وهى قوله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب: 33]، أى «الزمن بيوتكن» وَلا تَبَرَّجْنَ قيل: هو التكسّر والتبختر،
(1) والمعنى: أن يشتت الله شملهم.
* الشلو الجسد والجلد من كل شيء.
(2)
فى الأصل «بتعليم» وهو خطأ واضح.
وقيل: هو إظهار الزينة وإبراز المحاسن للرجال تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى قيل إن الجاهلية الأولي: بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وقيل: هى زمن داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام، كانت المرأة تلبس قميصا من الدروع غير مخيط من الجانبين، فيرى خلفها منه، وقيل: الجاهلية الأولى ما قبل الإسلام، والجاهلية الاخرى يفعلون مثل فعلهم اخر الزمان، وقيل: قد تذكر الأولى ولا تستلزم أخرى كقوله تعالى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50)[النجم: 50] ، ولم تكن لهم أخرى، ونزل فيها أيضا قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ [الأحزاب: 53]، قال أكثر المفسرين: نزلت هذه الاية في شأن وليمة زينب بنت جحش حين بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أنس بن مالك رضى الله عنه: كنت ابن عشر سنين مقدم رسول الله) المدينة، فخدمته عشر سنين، وتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشرين سنة، فكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل، وكان أوّل ما نزل في مبتنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش، حين أصبح النبيّ بها عروسا فدعا القوم فأصابوا من الطعام ثم خرجوا، وبقى رهط عند النبى صلى الله عليه وسلم فأطالوا المكث، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج وخرجت معه، لكى يخرجوا، فمشى النبى صلى الله عليه وسلم ومشيت حتّى جاء عتبة حجرة عائشة- رضى الله تعالى عنها- وظن أنهم قد خرجوا، فرجع ورجعت معه، حتى إذا دخل على زينب، فإذا هم جلوس لم يقوموا، فرجع النبى صلى الله عليه وسلم ورجعت معه، حتى إذا بلغ عتبة حجرة عائشة، وظنّ أنهم خرجوا فرجع ورجعت معه، فإذا هم قد خرجوا، فضرب النبى صلى الله عليه وسلم بينى وبينه الستر، ونزلت اية الحجاب.
قال أبو عثمان (واسمه الجعد) عن أنس قال: فدخل- يعنى النبى صلى الله عليه وسلم البيت وأرخى الستر، وإنى لفى الحجرة وهو يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى قوله: وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ [الأحزاب:
53] ، وهذا أدب من الله أدّب به الثقلاء. قال ابن عباس: نزلت في ناس من المسلمين كانوا يتحينون طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدخلون عليه قبل الطعام إلى أن يدرك «1» ، يأكلون ولا يخرجون، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأذى بهم فنزلت الاية:
(1) أى ينضج الطعام.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلى قوله: وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ أى سألتم نساء النبى صلى الله عليه وسلم حاجة فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أى من وراء ستر يستركم عنهن، فبعد اية الحجاب لم يكن لأحد أن ينظر* امرأة من نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم:
متنقبة كانت أو غير متنقبة، ونزل فيها أيضا قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ [الأحزاب: 59] ، والجلابيب جمع جلباب، وهى الملاءة التى تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار، وقيل: هى كل ما يستتر به من كساء وغيره، قال ابن عباس: أمر نساء المؤمنين أن يغطين رؤسهن ووجوههن بالجلابيب، إلا عينا، ليعلم أنهنّ حرائر، وهو قوله تعالى: ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ [الأحزاب: 59] ، أى لا يتعرّض لهن، بخلاف الإماء فلا يغطّين وجوههن، وكان المنافقون يمشون في طرق المدينة يتبعون النساء إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن، فيتبعون المرأة، فإن سكتت اتبعوها، وإن زجرتهم انتهوا عنها، ولم يكونوا يطلبون إلا الإماء، ولكن كانوا لا يعرفون الحرة من الأمة؛ لأن زى الكل واحد، تخرج الحرة والأمة فى درع وخمار، فشكون ذلك لأزواجهن، فذكروا ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم، فنزل: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ
…
الاية، ثم نهى الحرائر أن يتشبهن بالإماء «1» بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ..... قال أنس: «مرّت بعمر بن الخطاب
(1) فى القاموس المحيط: «خدم، وخدام، وخدّم: موضع الخلخال، والسير، ورباط السراويل عند أسفل رجل المرأة» أ. هـ. بتصرف. والإماء: الخدم، والمغنيات:(يسرن مكشوفات الوجه وخدم الرجلين) ولذلك سمين بالخدم: من الخدمة، وكشف خدم الأقدام، وهن لا يستحيين من كشفها، فلذلك نهى الحرائر أن يتشبهن بالإماء. ولهذا نقول لنساء هذا الزمن: إنكن رجعتن إلى أرذل من خدم الجاهلية الأولى؛ إذ الحرة اليوم خلعت جلباب الحياء، مع خلعها جلباب الستر الذى تستر به جسدها: تشبها بالخدم (خدم الجاهلية الأولي) . والمرأة على هذه الوتيرة التى نراها لا يمكن أن تكون هى المرأة المسلمة التى يريد الإسلام إعزازها وتكريمها وإبعادها عن فحش القول، وعن الفاحشة، نسأل الله تعالى أن يسبل علينا ستر الدنيا والآخرة.
* الانتظار، والبقاء.
جارية متقنعة، فعلاها بالدرّة، وقال:(يا لكاع أتتشبهين بالحرائر؟! ألقى القناع) ولكاع كلمة تقال لمن يستحقر به مثل: العبد، والأمة، والقليل العقل، مثل قولك:
يا خسيس «1» .
* وفي هذه السنة توفيت فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف- أم على ابن أبى طالب رضى الله عنه- أسلمت وتوفيت مسلمة بالمدينة.
(1) لأن الأمة إذا تشبهت بالحرة، لحق الحرة ما يلحق الأمة من استهزاء الرجال بها، كما نرى اليوم فى الشوارع، وأسواق الفجور.