الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بنى مدلج أنّى أخال سفيهكم
…
سراقة يستغوى بنصر محمد
عليكم به ألايفرّق جمعكم
…
فيصبح شتّى بعد عزّ وسؤدد
فأجابه سراقة:
أبا حكم «1» : واللات لو كنت شاهدا
…
بأمر جوادى حيث ساخت قوائمه
علمت ولم تشكك بأن محمدا
…
نبى وبرهان، فمن ذا يكاتمه
عليك بكفّ الناس عنه فإننى
…
أرى أمره يوما ستبدو معالمه
بأمر تودّ النّضر فيه بأنه
…
لو أنّ جميع الناس طرّا تسالمه
وأسلم سراقة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من حنين والطائف، وكان شاعرا مجيدا رضى الله عنه.
فلما بلغ خروج النبى صلى الله عليه وسلم حييّ بن ضمرة الجعدى قال: «لا عذر لى في مقامى بمكة» وكان مريضا، فأمر أهله فخرجوا به إلى التنعيم «2» فمات، فأنزل الله تعالى: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء: 100] .
فلمّا رأى ذلك من كان بمكة ممن يطيق الخروج خرجوا؛ فطلبهم أبو سفيان وغيره من المشركين، فردّوهم وسجنوهم، فافتتن منهم ناس، وأقام عليّ رضى الله عنه بعد مخرجه عليه الصلاة والسلام بمكة ثلاثة أيام حتّى أدّى ما كان عنده من الودائع، وأدركه بقباء، وقد نزل على كلثوم بن الهدم (وقيل سعد بن خيثمة) يوم الاثنين سابع، وقيل ثامن ربيع، وكانت مدّة مقام عليّ هناك مع النبى صلى الله عليه وسلم ليلة أو ليلتين.
مبدأ التأريخ الإسلامى:
وأمر عليه الصلاة والسلام بالتأريخ من الهجرة لدولة الإسلام، قال ابن
(1) كنية أبى جهل في الجاهلية.
(2)
موضع خارج الحرم على طريق المدينة- على ثلاثة أميال من مكة-.
الجزار: ويعرف بعام الإذن، وقيل: إن عمر رضى الله عنه أوّل من أرّخ وجعله من المحرّم، وقيل: يعلى بن أمية إذ كان باليمن، وقيل بل أرّخ بوفاته صلى الله عليه وسلم «1» .
ومن فوائد التأريخ معرفة الاجال وحلولها، وأوقات التواليف، ووفيات الشيوخ، ومواليدهم، والرواة عنهم، فيعرف بذلك كذب الكذّابين وصدق الصادقين، قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة: 282] .
وأخرج البخارى في «الأدب» ، والحاكم عن ميمون بن مهران قال: رفع إلى عمر صكّ محله شعبان، فقال: أيّ شعبان: الذى نحن فيه، أو الذى مضي، أو الذى هو ات؟ ثم قال أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم: ضعوا للناس شيئا يعرفونه من التاريخ، فقال بعضهم: اكتبوا على تاريخ الروم، فقال: إن الروم يطول تاريخهم يكتبون من ذى القرنين، فقال: اكتبوا على تاريخ فارس، فقال: إن فارس كلما قام ملك طبع من كان قبله.
فاجتمع رأيهم أن الهجرة كانت عشر سنين، فكتبوا التاريخ من هجرة النبى صلى الله عليه وسلم.
* وكانت الأنصار لمّا بلغهم خروج النبى صلى الله عليه وسلم يخرجون كل يوم لتلقّيه، فإذا اشتدّت الهاجرة (ويقال الهجير، وهو اشتداد الحر نصف النهار، وهو المراد بالعليّا، والهاجرة السفلى هى التى بعد الضحى وقبل الزوال) رجعوا. فلما كان يوم قدومه فعلوا ذلك، فراه رجل من يهود، فنادى بأعلى صوته:«يا بنى قيلة هذا جدّكم- أى حظكم ومطلوبكم- قد أقبل» فخرج إليه بنو قيلة، وهم الأنصار: الأوس والخزرج بسلاحهم، فتلقوه ونصروه على أعدائه واووه، وواسوه، واووا أصحابه وواسوهم، وهم الذين قال تبارك وتعالى
(1) قال ابن الصلاح: وقفت على كتاب في الشروط للأستاذ الزيادى، ذكر فيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرّخ حين كتب الكتاب لنصارى نجران، وأمر عليا أن يكتب فيه: إنه كتب لخمس من الهجرة. وقال الجلال السيوطى في كتابه «الشماريخ في علم التأريخ» إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالتأريخ يوم قدم المدينة في شهر ربيع الأوّل. وقال ابن عساكر: «هذا أصوب» . ومن هذا نعرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المؤرخ الأوّل بالهجرة، وعمر تبعه.
فيهم: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ. [الحشر:
9] الاية.
وقال صلى الله عليه وسلم في حقهم: «اية الإيمان حبّ الأنصار، واية النفاق بغض الأنصار» «1» .
وقال صلى الله عليه وسلم للأنصار: «أنتم شعار والناس دثار» «2» [والشعار: الثوب الذى يلى الجسد، والدثار الثوب الذى يكون فوق ذلك الثوب، فهم ألصق به وأقرب إليه صلى الله عليه وسلم من غيرهم. والأنصار لقب إسلامى لهم لنصرتهم النبى صلى الله عليه وسلم، وإنما كانوا يسمّون أولا: أولاد قيلة، والأوس والخزرج.] إلى غير ذلك من الأحاديث الصحيحة الواردة في فضلهم وفضل المهاجرين الذين اثروا رضوان الله ورضوان رسوله صلى الله عليه وسلم على حظوظ أنفسهم، فتركوا بلادهم ومهادهم، وهاجروا مع المصطفى من مكة إلى المدينة التى هى مهاجره.
وقال حسان رضى الله عنه في مدح الأنصار:
سمّاهم الله أنصارا بنصرهم
…
دين الهدى وعوان الحرب تستعر
وسارعوا في سبيل الله واقترفوا
…
للنائبات، وما خافوا وما جروا
وكان خروج النبى صلى الله عليه وسلم من مكة يوم الاثنين، ومعه أبو بكر الصديق رضى الله عنه، وله صلى الله عليه وسلم من العمر ثلاث وخمسون سنة، فأقام بقباء (موضع بالمدينة فى بنى عمرو بن عوف على فرسخ من المسجد النبوي) أربعة أيام: يوم الاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، وأسّس مسجد قباء «3» الذى نزل فيه:
لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ
…
[التوبة: 108] الاية. وهو أوّل مسجد صلّى فيه صلى الله عليه وسلم جماعة ظاهرا، وأوّل مسجد بنى لجماعة المسلمين عامة، وإن كان قد تقدّم بناء غيره من المساجد، لكن لخصوص الذى بناه. ثم خرج صلى الله عليه وسلم من «قباء» ضحى يوم الجمعة، فأدركته صلاة الجمعة في الطريق، فى بنى
(1) رواه أحمد والنسائى عن أنس.
(2)
وقال صلى الله عليه وسلم: «الأنصار شعار والنا دثار، ولو أن الناس استقبلوا واديا أو شعبا، واستقبلت الأنصار واديا لسلكت وادى الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرا من الأنصار، رواه ابن ماجة، عن سهل بن سعد.
(3)
قباء: بالضم قرية قرب المدينة، سميت باسم بئر بها- وهى مساكن بنى عمرو بن عوف- من الأنصار- على ميلين من المدينة، على يسار القاصد إلى مكة.
سالم بن عوف، فصلّاها في مسجدهم الذى في بطن وادى «نونا» (بنون مضمومة وأخرى بعدها ألف ممدودة، وهو مسجد صغير مبنى بحجارة قدر نضف القامة) بمن كان معه من المسلمين، وهم مائة، فكانت هذه الجمعة أوّل جمعة صلّاها بالمدينة وخطب بها، وهى أوّل خطبة خطبها في الإسلام.
وكان صلى الله عليه وسلم يخطب قائما، وكان إذا خطب احمرّت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه كأنه منذر جيش يقول «صبّحكم ومسّاكم» «1» ، ولعل اشتداد غضبه كان عند إنذاره أمرا عظيما، ويقول:«بعثت أنا والساعة كهاتين» «2» ويقرن بين إصبعيه: السبابة والوسطى ويقول: «أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» «3» .
وكان إذا قام أخذ عصا فتوكأ عليها، وكان أحيانا يتوكأ على قوس، ولم يحفظ عنه أنه توكأ على سيف. وعند الإمام أحمد وغيره من حديث سعد بن عائذ وسعد القرظ مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب في الحرب خطب على قوس، وإذا خطب في الجمعة خطب على عصا. وفي وفي حديث عائشة رضى الله عنها، قالت:«كان لرسول الله [ثوبان يلبسهما يوم الجمعة، فإذا انصرف من الجمعة طواهما ورفعهما» .
وفي حديث عمرو بن أمية عند النسائى قال: كأنى أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وعليه عمامة سوداء، قد أرخى طرفها بين كتفيه. ومن جملة خطبته صلى الله عليه وسلم:«فمن استطاع أن يقى وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة، فإنها تجزئ: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة» .
ثم توجه بعد صلاة الجمعة على راحلته متوجّها إلى المدينة، فلما أشرف عليها قال: «هذه طابة أسكننيها ربّي، تنفى خبث أهلها كما ينفى الكير خبث الحديد، من أخاف أهل المدينة ظلما أخافه الله عز وجل، وعليه لعنة الله
(1) رواه ابن ماجه، وابن حبان، والحاكم عن جابر رضى الله عنه.
(2)
رواه أحمد، والترمذى، عن أنس، ورواه الإمام أحمد عن سهل بن سعد.
(3)
رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائى، وابن ماجه عن جابر، والبيهقى مطولا في الدلائل، وابن عساكر عن عقبة بن عامر والسجزى في الإبانة، وابن أبي شيبة.
والملائكة والناس، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا» «1» .
وكيف لا تطيب بالحبيب حسّا ومعنّي، وهى معمورة أيضا بالطيبين ملائكة وإنسا وجنا، ولا يدخلها ببركته الطاعون، ولم يصب عليه الصلاة والسلام قط بالطاعون، ولا بذات الجنب، ولا جنّ نبيّ، ولا سلب، ولا احتلم، ولا تثاءب؛ لأن هذا من الشيطان، وقد عصمهم الله من ذلك، ولا تسمى مدينته الشريفة العلية فى الإسلام يثرب، كما كانت تسمى في الجاهلية لكراهة لفظ التثريب، الذى كالتعنيف والتعبير والاستقصاء في اللوم، ومنه- التثريب عليكم- قال صلى الله عليه وسلم «يقولون يثرب، وهى المدينة» «2» .
قال النووى في شرح مسلم: يعنى أن بعض الناس من المنافقين وغيرهم يسمونها يثرب، وإنما اسمها المدينة. انتهي.
ومع ذلك فمادحوه كثيرا ما يذكرون يثرب في مديحهم، كقول سيدى عبد الرحيم البرعي:
يا ساكن القبر المنير بيثرب
…
يا منتهى أملى وغاية مطلبى
فلعل قرائن المديح يحسن معها هذا التعبير، والعبرة في مثل هذا بالنية. وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت؛ فإني أشفع لمن يموت بها» «2» ، لا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه تعالى
(1) وقال عليه الصلاة والسلام: «من أخاف أهل المدينة فقد أخاف ما بين جنى» رواه أحمد عن جابر.
(2)
وفي الحديث الشريف: «من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله: هى طابة، هى طابة» رواه الإمام أحمد عن البراء. والتثريب: المؤاخذة، ومنه قوله تعالى: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ أى لا مؤاخذة ولا معاقبة عليكم، ولذلك نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن تسميتها «يثرب» لأن الماكث فيها يكون كما قال:«تنصح عليها» وتنصح الطيب أى تجلوه، وتزيده إيمانا. ولذلك سماها الله تبارك وتعالى «الإيمان» فى قوله تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ [الحشر: 9] وفي حديث اخر رواه مسلم في فضل المدينة يأتى على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه: هلم إلى الرخاء، هلم إلى الرخاء، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، والذى نفسى بيده لا يخرج منها أحد رغبة عنها إلا أخلف الله فيها خبيرا منه، ألا إن المدينة كالكير تخرج الخبيث لا تقوم الساعة حتّى تنفى المدينة شرارها كما ينفى الكير خبث الحديد» .
ذوب الملح في الماء» «1» .
وكان عليه الصلاة والسلام كلما مرّ على دار من دور الأنصار يدعونه إلى المقام عندهم يقولون: يا رسول الله هلم إلينا، إلى القوة والمنعة. فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«خلّوا سبيل الناقة فإنها مأمورة من قبل الله تعالى» وقد أرخى زمامها وما يحرّكها، وهى تنظر يمينا وشمالا، حتى إذا أتت دار مالك بن النجار بركت حيث مسجده الشريف الان، ثم سارت وهو صلى الله عليه وسلم عليها، ومشت حتّى بركت على باب أبى أيوب الأنصارى رضى الله عنه، من بنى مالك بن النجار، من كبار الصحابة، شهد بدرا والمشاهد، ثم قامت ومشت والتفتت خلفها، ثم رجعت إلى منزلها أوّل مرة بمحلّ باب المسجد، وبركت فيه، ثم تجلجلت (بجيمين) أى تحركت وألقت عنقها بالأرض وصوّتت من غير أن تفتح فاها، فنزل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:«هذا المنزل إن شاء الله تعالى، اللهم أنزلنا منزلا مباركا» .
ولما بركت الناقة على باب أبى أيوب خرج جوار من بنى النجار يضربن بالدفوف يقلن:
نحن جوار من بنى النجار
…
يا حبذا محمد من جار
فقال صلى الله عليه وسلم: أتحببنني؟ قلن: نعم يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام:«الله أعلم أنّ قلبى يحبكم» ، وفي هذا دليل لسماع الغناء على الدف من المرأة لغير العرس «2» . وسيأتى بسط الكلام على السماع في اخر فصل في الكتاب.
(1) رواه الإمام أحمد، ومسلم، وابن ماجه.
(2)
ليس هذا دليلا، لأنه لم يكن قد نزل تشريع بعد، وقد نزل التشريع بعد ذلك بتحريم الغناء واللهو كله، قليله وكثيره، تحريما قاطعا، فقد قال صلى الله عليه وسلم: الغناء ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء البقل» (رواه ابن أبي الدنيا، والبيهقى، وقال صلى الله عليه وسلم: «لست من دد ولا الدد منى» رواه البخارى في الأدب، والبيهقى عن أنس والطبراني عن معاوية، أوضحها إيضاحا تاما قوله صلى الله عليه وسلم: «لست من دد ولا الدد منى، ولست من الباطل ولا الباطل منى» (رواه ابن عساكر عن أنس) . وفي الحديث: «نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن الغناء والاستماع إلى الغناء، وعن الغيبة والاستماع إلى الغيبة، وعن النميمة والاستماع إلى النميمة» (رواه الطبراني والخطيب عن عبد الله بن عمر) . وقال صلى الله عليه وسلم: «من استمع إلى صوت غناء لم يؤذن له أن يسمع الروحانيين في الجنة» (رواه الحكيم عن أبى موسى) وقال صلى الله عليه وسلم: «من استمع قينة صبّ في أذنيه الانك يوم القيامة، والأحاديث في هذا الباب لا تكاد تقع تحت حصر، فليتق الله الذين يطلقون الفتاوى بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، فإن الله تعالى سائلهم يوم القيامة عمّا افتوا، على أن الشيخ رحمه الله لا يقصد قطعا هذه القاذورات التى نتعاطاها اليوم.