الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث في ذكر معجزاته
أكبر معجزاته صلى الله عليه وسلم القران الذى أعجز الإنس والجان، وتحدّى به بلغاء العرب وفصحاءهم- الذين هم الرؤساء في قوانين المعانى والبيان، والفرسان في ميادين الفصاحة والشجعان- عن معارضته على أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، وتنازل معهم إلى الإتيان بسورة من مثله، وفي السور ما هو ثلاث ايات، فلم يأتوا بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، ونكصوا على أعقابهم خائبين؛ فغيرهم إن عارض أولى بالعجز والخذلان؛ إذ محال سكوتهم ثلاثا وعشرين سنة «1» عن معارضة لو قدروا عليها، خصوصا مع كونه صلى الله عليه وسلم ينادى عليهم بالعجز عن معارضته، والقصور عن بلوغ الغرض من مناقضته، ويوبخهم ويسبّ الهتهم، فلم يستطع أحد منهم أن يرفع رأسه ويناديه بجواب، وإنما يزدادون تحسرا عن المعارضة، ويعترفون لبعضهم في الافتراء في قولهم إن هذا إلا سحر يؤثر، وسحر مستمر، وأساطير الأولين، ويعتذرون ظاهرا بقولهم:
قُلُوبُنا غُلْفٌ قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ- ولمّا قالوا- لو نشاء لقلنا مثل هذا- ردّ الله عليهم بقوله: وَلَنْ تَفْعَلُوا فما فعلوا، وما قدروا، ولو قدروا علي أدنى معارضة لبادروا إليها، وأفحموا الخصم الذى كانوا محافظين على إطفاء نوره، وإنما أعجز كلّ بليغ لجزالته وغرابة أسلوبه وبلاغته وانتهائه في الفصاحة إلى الطرف الأقصي؛ فإنه لا أفصح ولا أوضح ولا أكمل ولا أجزل ولا أنسب ولا أعذب من ألفاظه، ولا أسدّ ولا أشدّ التئاما وتشاكلا من نظمه، وأمّا معانيه فكلّ ذى لبّ يشهد لها بالتقدم في أبواب البلاغة، والترقّى إلى درجات الإتقان والبيان الواضح.
وقيل: إعجازه هو كونه خارجا عن جنس كلام العرب، من النظم والنثر
(1) مدة رسالته صلى الله عليه وسلم حتّى وفاته.
والخطب. وما كان من المعجزات معلوما بالقطع، منقولا بالتواتر كالقران، فلا شك في كفر منكره وارتداده، وأنه بمنزلة منكر وجود النبى صلى الله عليه وسلم في الدنيا. وما لم يكن من المعجزات كذلك: فإن اشتهر: بدّع «1» منكره وفسّق؛ كنبع الماء من بين أصابعه الشريفة صلى الله عليه وسلم، وتكثير الطعام اليسير. وإن لم يشتهر: ولكن ثبت بطريق صحيح أو حسن، عزّر منكره إن كان مثله يخفى عليه ذلك قبل التوقيف.] فهو النور المستبين والحق الواضح المبين، لا شيء أسطع من أعلامه، ولا أصدع من أحكامه، ولا أوضح من بلاغته، ولا أرجح من فصاحته، ولا أكثر من إفادته، ولا ألذ من تلاوته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«القران فيه خبر من قبلكم، ونبأ من بعدكم، وحكم ما بينكم» «2» ، وقال تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء: 59] الاية، وقال تعالى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء: 82] قال بعضهم: إذا أردت محادثة الحقّ تعالى أخذت المصحف فلا أزال أناجيه ويناجيني، وإذا أردت محادثة رسوله أخذت كتاب حديثه، وكذلك كلّ من أردت مناجاته من الأولين والاخرين. اهـ.
وقد حقق العارفون أنّ كلام الله: رسالة من الله لعباده، ومخاطبة لهم، وهو البحر المشتمل على جواهر العلم، المتضمن بظاهره وباطنه، ولهذا قاموا باداب سماعه، ورعوه حق رعايته، وقد تجلّى لخلقه في كلامه لو كانوا يعقلون. وكذلك كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يتعين حسن الاستماع إليه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي.
قال الشيخ أبو إسحاق الثعلبى رحمه الله: «إن عدد ايات القران ستة الاف وستمائة وستّ وستون اية؛ فما هو أمر ألف اية، وما هو نهى ألف اية، وما هو وعد ألف اية، وما هو وعيد ألف اية، وما هو إخبار ألف اية، وما هو قصص وأمثال ألف اية، وما هو تحليل وتحريم خمسمائة اية، وما هو تسبيح وتهليل مائة اية، وما هو ناسخ ومنسوخ ست وستون اية» «3» .
(1) أى اتهم بأنه مبتدع.
(2)
فى فضائل القران لابن كثير، وعزاه إلي الترمذي.
(3)
فى هذا العدد خطأ فليراجع النص.
وقال بعضهم:
ألا إنّما القران تسعة أحرف
…
أتيت بها في بيت شعر بلا خلل
حلال، حرام، محكم، متشابه
…
بشير، نذير، قصّة، عظة، مثل
ووفد غالب بن صعصعة على الإمام علي بن أبى طالب كرم الله وجهه، ومعه ابنه الفرزدق، فقال له: من أنت؟ فقال: غالب بن صعصعة، قال: ذو الإبل الكثيرة؟ قال: نعم. قال: فما فعلت بإبلك؟ قال: أذهبتها النوائب، ثم قال له: يا أبا أخطل، من هذا الذى معك؟ قال: ابني، وهو شاعر، قال: علّمه القران فهو خير له من الشعر، فكان ذلك في نفس الفرزدق حتّى قيّد نفسه، والى على نفسه أن لا يحلّ قيده حتي يحفظ القران، فحفظه في سنة، وذلك قوله:
وما صبّ رجلي في حديد مجاشع
…
مع القيد إلا حاجة لي أريدها
فقد جمع الله له صلى الله عليه وسلم كل ما أوتيه الأنبياء من معجزات، وخصائص، ولم يجمع ذلك لغيره، بل خصّ كلّا بنوع من المعجزات، وذهب كلّ نبى بمعجزاته، ولم يبق لها أثر ظاهر خلا الروايات عنها والأخبار، وأبقى لنا صلى الله عليه وسلم القران، معجزا خالدا بين ظهرانينا إلى يوم القيامة بعد ذهابه، لا تنكسف شموسه، ولا تذوي زهراته، يعلم ذلك من أدرك منه شرح الايات المحكمة وأسباب نزولها، وما اشتملت عليه من الأمر والنهي، والأحكام والمعاني، والإعجاز والإيجاز، والفصاحة والبلاغة، والبيان والبديع، وأخبار الأوّلين والاخرين، وشرائع الأمم السالفة، والوعد والوعيد، وذكر الدنيا وأحوالها، والآخرة وأهوالها، فكلّ من نظر في كتاب الله تعالى من الفصحاء البلغاء في سائر الأعصر، وأمعن النظر فيه استخرج بمعرفته جواهر المعانى من كنوز الايات الكريمة، واطلّع علي أسرار البلاغة، وعلم ما انطوت عليه من أسرار الإعجاز، فقد علم بالقران الذى تحدّى به صلى الله عليه وسلم صدق دعوى النبوة جميع ما أخبر به علما قطعيا يقينيا لا يقدح فيه شيء من الاحتمالات العقلية، مع ما نقل عنه صلى الله عليه وسلم من المعجزات والأمور الخارقة للعادة بطريق الشهرة والاحاد، وما بلغ القدر المشترك منه حد التواتر في المعجزات، وإن كانت تفاصيلها مروية احادا، قال بعضهم: