المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[التامر على الرسول صلى الله عليه وسلم في دار الندوة] : - نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز - جـ ١

[رفاعة الطهطاوى]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الناشر

- ‌[عملنا في هذا الكتاب]

- ‌مؤلفاته ومترجماته

- ‌الباب الأوّل فى مولده الشريف إلى بعثته صلى الله عليه وسلم

- ‌آباؤه:

- ‌طهارة نسبه صلى الله عليه وسلم:

- ‌ومن كلام عمه أبى طالب:

- ‌[مولده] :

- ‌[أسماؤه صلى الله عليه وسلم] :

- ‌[طهارة مولده وشرفه] :

- ‌[زواج أبيه بأمه] :

- ‌[تعبده صلى الله عليه وسلم قبل البعثة] :

- ‌[رضاعه] :

- ‌الفصل الثانى فى ذكر عمل مولده الشريف، وإشهاره كلّ سنة وفيما جرى في مولده وفيما بعده من الوقائع

- ‌[الاحتفال بالمولد] :

- ‌والبدعة من حيث هى منقسمة إلى خمسة أقسام:

- ‌واجب:

- ‌وحرام:

- ‌ومندوب إليه:

- ‌ومكروه:

- ‌ومباح:

- ‌الفصل الثالث فى زواجه بخديجة بنت خويلد رضى الله تعالى عنها وما رزقه الله من الذرية منها

- ‌[أولاده من خديجة] :

- ‌الباب الثانى فى مبعثه صلى الله عليه وسلم، ودعائه الناس إلى الدين الحق. وهجرة المسلمين* إلى الحبشة، وخروجه إلى الطائف

- ‌الفصل الأوّل فى رسالته صلى الله عليه وسلم على رأس الأربعين إلى كافة الناس بشيرا ونذيرا

- ‌كفالته عليّا:

- ‌[اشتداد الأذى عليه صلى الله عليه وسلم] :

- ‌الفصل الثانى فى الهجرتين إلى الحبشة

- ‌[مسألة الغرانيق وما سمّوه الايات الشيطانية] :

- ‌ وأما الهجرة الثانية:

- ‌الفصل الثالث فى خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف قبل هجرته إلى المدينة المشرّفة

- ‌الفصل الرابع في الإسراء به صلى الله عليه وسلم ليلا من المسجد الحرام وعروجه من المسجد الأقصي إلى السموات العلى

- ‌[مسألة رؤية الله] :

- ‌الباب الثالث فى هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وما ترتب على ذلك من المظاهر الإسلامية والظواهر التعليمية. وفيه فصول

- ‌الفصل الأوّل فى الأسباب الباعثة علي هذه الهجرة والتمهيد لها

- ‌الهجرة إلى المدينة:

- ‌[التامر على الرسول صلى الله عليه وسلم في دار الندوة] :

- ‌الفصل الثانى فى سيره مهاجرا إلى المدينة مع صاحبه: صدّيقه رضى الله تعالى عنه وهو ابتداء التاريخ الإسلامى

- ‌مبدأ التأريخ الإسلامى:

- ‌[مسألة: الرسول صلى الله عليه وسلم والشّعر]

- ‌هجرة بقايا المسلمين من مكة:

- ‌[فرق اليهود] :

- ‌الأولى: التوراة، وهى خمسة أسفار

- ‌المرتبة الثانية: أربعة أسفار: تدعى الأولي:

- ‌المرتبة الثالثة: أربعة أسفار تدعى: الأخيرة:

- ‌المرتبة الرابعة: تدعى: الكتب، وهى أحد عشر سفرا:

- ‌الفصل الثالث في ذكر الظواهر الحادثة بعد الهجرة إجمالا

- ‌الباب الرابع فى تفاصيل الظواهر التى حدثت بعد هجرته عليه الصلاة والسلام إلى وفاته صلى الله عليه وسلم، وفيه فصول

- ‌الفصل الأوّل فى ظواهر السنة الأولى من الهجرة وما فيها من الغزوات

- ‌[المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار]

- ‌الفصل الثانى في ظواهر السنة الثانية من الهجرة، وما فيها من الغزوات

- ‌[إسلام عمير بن وهب] :

- ‌الفصل الثالث في ظواهر السنة الثالثة من الهجرة وما فيها من الغزوات

- ‌الفصل الرابع في ظواهر السنة الرابعة من الهجرة وما فيها من الغزوات

- ‌غزوة بنى النضير:

- ‌الفصل الخامس فى ظواهر السنة الخامسة وما فيها من الغزوات

- ‌الفصل السادس في ظواهر السنة السادسة وما فيها من الغزوات

- ‌الفصل السابع في ظواهر السنة السابعة ما فيها من الغزوات

- ‌الفصل الثامن في ظواهر السنة الثامنة وما فيها من الغزوات

- ‌ وأما النساء الست اللاتى أهدر النبى صلى الله عليه وسلم دماءهن يوم الفتح

- ‌الفصل التاسع في ظواهر السنة التاسعة وما فيها من الغزوات

- ‌الفصل العاشر فيما وقع من وفود العرب عليه صلى الله عليه وسلم، وفي حجة الوداع

- ‌الباب الخامس في وفاته صلى الله عليه وسلم وذكر بعض أخلاقه وصفاته، ومعجزاته، وأزواجه. وأعمامه، وعماته، وأخواله، ومواليه وخدمه، وحشمه صلى الله عليه وسلم، وفيه فصول

- ‌الفصل الأوّل في ذكر وفاته صلى الله عليه وسلم وما يتعلق بذلك

- ‌الفصل الثانى فى ذكر بعض أخلاقه وصفاته صلى الله عليه وسلم

- ‌وخصائصه صلى الله عليه وسلم على أضرب:

- ‌الأوّل الواجبات:

- ‌الثانى

- ‌الثالث المباحات:

- ‌الرابع ما

- ‌الفصل الثالث في ذكر معجزاته

- ‌[كيفية نزول القران] :

- ‌الفصل الرابع فى ذكر أزواجه صلى الله عليه وسلم وقرابته ومواليه

- ‌جدول يضبط ما تفرّق من الغزوات التي سبق ذكرها تفصيلا

الفصل: ‌[التامر على الرسول صلى الله عليه وسلم في دار الندوة] :

[التامر على الرسول صلى الله عليه وسلم في دار الندوة] :

ثم لما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صارت له شيع وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم، ورأوا خروج شيعته وأصحابه «1» من المهاجرين إليهم تحدّوا خروجه صلى الله عليه وسلم، فاجتمعت قريش في دار الندوة للمشاورة في إخراجه أو حبسه أو قتله، وهي دار قصى بن كلاب، وهو أوّل من بناها، وكانت قريش لا تقضى أمرا إلا فيها، ومنعوا الناس من الدخول إليهم، لئلا يدخل أحد من بنى هاشم، فيطّلع علي حالهم، فلما قعدوا للتشاور تزيّا* لهم إبليس بصورة شيخ نجدى متطيلس» «2» فوقف علي الباب، فلمّا رأوه قالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد، سمعت باجتماعكم فأردت أن أحضركم، ولن تعدموا منى رأيا ونصحا قالوا: ادخل.

فدخل، وكان قد اجتمع فيها أشراف قريش من كل قبيلة.

فزعم ابن دريد في «الوشاح» «3» أنهم كانوا خمسة عشر رجلا، وقال ابن دحية فى «مولده» : إنهم كانوا مائة رجل. ثم شرعوا في الكلام فقال بعضهم: إن هذا الرجل- يعني محمدا صلى الله عليه وسلم قد كان من أمره ما كان، وإنّا لا نأمن منه الوثوب علينا بمن اتبعه، فأجمعوا فيه رأيا، فقال بعضهم: رأيى أن تحبسوه في بيت وتشدّوا وثاقه، وتسدّوا بابه، غير كوّة تلقون إليه طعامه وشرابه منها وتربصوا به ريب المنون حتي يهلك فيه، كما هلك من الشعراء من كان قبله، كزهير والنابغة. فصرخ الشيخ النجدى (عدو الله ورسوله) فقال: بئس الرأي؛ والله لو حبستموه لخرج أمره من وراء الباب إلى أصحابه فوثبوا وانتزعوه من أيديكم،

(1) فى الأصل: «شيعة أصحابه» وبهذا يكون المعنى أصحاب أصحابه، وهو غير مستقيم المعنى، فأصلحناه إلى ما تري.

(2)

متطيلس: أي يلبس طيلسانا وهو ضرب من الأوشحة يحيط بالبدن أو يلبس على الكتف، خال من التفصيل والحياكة.

(3)

من كتب ابن دريد المفقودة. راجع كتاب ابن دريد حياته وتراثه، للدكتور السنوسى نشر مكتبة الاداب ص 122- 131.

* أى ظهر لهم في زى شيخ نجدى.

ص: 175

قالوا: صدق الشيخ، وقال بعضهم: رأيي أن تحملوه علي جمل وتخرجوه من بين أظهركم فلا يضرّكم ما صنع، واسترحتم. فقال الشيخ: والله ما هذا لكم برأي؛ ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال مما يأتى به، فو الله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على حى من العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتّى يبايعوه، ثم يسير بهم حتّى يطأكم بهم. فقالوا: صدق الشيخ، فقال أبو جهل: أرى أن يعطى خمسة رجال من خمس قبائل سيفا فيضربونه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في هذه البطون، فلا يقدر بنو هاشم على حرب قومهم جميعا، فصوّب الشيخ النجدى قول أبى جهل. فتفرقوا على رأيه مجمعين على قتله، فأخبر جبريل بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مما أنزل عليه في ذلك اليوم وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [الاية 3 سورة الأنفال] وقوله عز وجل أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الاية 30 سورة الطور] .

* ولما استقر رأي قريش بعد المشاورة على قتله صلى الله عليه وسلم، أتاه جبريل وأخبره بذلك، وقال: لا تبت هذه الليلة علي فراشك الذى كنت تبيت عليه، وقال له: إن الله يأمرك بالهجرة إلى المدينة، ثم سأل جبريل عمّن يهاجر معه، قال:«أبو بكر الصدّيق» ، فمن ذلك سمّاه الله صديقا، وقد سبق أن سبب تسميته صدّيقا في المعراج بقوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم:«صدقت في كل ما تخبر به» ، فلعل هذا سببا ثانيا لتأكيد التسمية بالصدّيق وتحقيقها. فلما كان الليل اجتمعوا علي بابه يرصدونه حتي ينام، فيثبوا، أى ينهضوا ويقوموا عليه، وهو إذ ذاك داخل الدار، فأمر عليه الصلاة والسلام عليا فنام مكانه، وغطّى ببرد أخضر، وكان أول من شرى نفسه، ونزل فيه قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [الاية: 207 سورة البقرة] .

وذكر الغزالى في «الإحياء» بأن الله تعالى أمر جبريل وميكائيل أن يهبطا إلى

ص: 176

الأرض ويحفظاه من عدوه، فنزلا، فكان جبريل عند رأسه وميكائيل عند رجليه.

وأنشد علي بن أبى طالب رضى الله عنه قصة مبيته على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:

وقيت بنفسى خير من وطئ الثرى

ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر

رسول إله خاف أن يمكروا به

فنجّاه ذو الطّول الإله من المكر

وبات رسول الله في الغار امنا

موقّى وفي حفظ الإله وفي ستر

وبتّ أراعيهم وما يثبتوننى

وقد وطّنت نفسى عن القتل والأسر

وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فرصدوا له، وقد أخذ الله على أبصارهم، فلم يره أحد، ونثر عيي رؤسهم كلهم ترابا في يده وهو يتلو يس إلى قوله تعالى:

فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس: 9] كما قيل:

وقريش إذ عزم الرحيل مهاجرا

ملأوا المسالك راصدا ومشاجرا

فمضى لحاجته ولم ير حاجرا

والقوم يقظى والبصائر نوّم

نثر التراب علي رؤوس الحسّد

وسري وقد وقفوا له بالمرصد

قولوا لأعمى العين مغلول اليد

أنف الشّقي ببعض أحمد مرغم

ثم انصرف حيث أراد، فأتاهم ات ممن لم يكن معهم، فقال: ما تنتظرون هنا؟ قالوا: محمدا، قال: قد خيّبكم الله، والله قد خرج محمد عليكم ما ترك منكم رجلا إلا وضع عليه ترابا وانطلق لحاجته، فما ترون ما بكم!» فوضع كل رجل يده علي رأسه فإذا عليه تراب.

فقال أبو بكر: الصحبة بأبى أنت وأمى يا رسول الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

ص: 177

نعم. فجهزت أسماء بنت أبى بكر وال أبى بكر «1» جهاز السفر أحسن جهاز، وصنعن لهم «2» سفرة (أى زادا في جراب) ، وكان في السفرة أى في الزاد شاة مطبوخة، فقطعت أسماء بنت أبى بكر قطعة من نطاقها فربطت به فم الجراب المشتمل علي الزاد، وأبقت الاخرى نطاقا لها، فبذلك سميت ذات النطاقين، كما روى في صحيح مسلم عن أسماء بنت أبى بكر الصدّيق زوّج الزبير بن العوام من كبار الصحابة، روي عنها ابناها عبد الله وعروة وجماعة، أسلمت قديما بمكة وهاجرت إلي المدينة، وتوفيت بمكة بعد ابنها عبد الله بيسير سنة ثلاث أو أربع وسبعين، وقد جاوزت المائة.

ويروى أنها قالت للحجّاج: بلغنى أنك تعيّر ابنى عبد الله بن الزبير بابن ذات النطاقين! أنا والله ذات النطاقين؛ أما أحدهما فكنت أرفع به طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم وطعام أبى بكر الصديق رضى الله عنه، وأما الاخر فنطاق المرأة التى لا تستغنى عنه عند أشغالها.

وفي حديث أم إسماعيل: «أول ما اتخذ الناس النّطق من قبل: أم اسماعيل اتخذت منطقا» المنطق: النطاق، وجمعه مناطق، وهو أن تلبس المرأة ثوبها، ثم تشدّ وسطها بشئ وترفع وسط ثوبها وترسله علي الأسفل عند معاناة الأشغال؛ لئلا تعثر في ذيلها، ومنه سميت أسماء بنت أبى بكر الصديق رضى الله عنها «ذات النطاقين» ؛ لأنها كانت تطارق نطاقا فوق نطاق، وقيل: كان لها نطاقان تلبس أحدهما وتجعل في الاخر الزاد إلى النبى صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وهما في الغار، وقيل: شقت نطاقها نصفين فاستعملت أحدهما وجعلت الاخر شدادا لزادهما.

(1) فى الأصل: «فجهز زوجات النبى صلى الله عليه وسلم وغيرهن جهاز السفر» وهو خطأ فاحش، إذ لم يكن للنبى صلى الله عليه وسلم زوجات في ذاك الوقت- فخديجة رضى الله عنها انتقلت إلي رضوان الله تبارك وتعالى قبل الهجرة بمدة، ولم يتزوج بأحد من زوجاته رضى الله عنهن إلا بعد الهجرة والاستقرار بالمدينة، ولعل هذا من التحريف المطبعى أو سبق قلم، وجلّ من لا يسهو سبحانه وتعالى.

(2)

لأنهم كانوا أربعة: سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيدنا أبو بكر، وعامر بن فهيرة، مولى أبى بكر- وعبد الله بن أريقط. أما أبو بكر رضى الله عنه فكان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حله وترحاله، وأما عامر بن فهيرة فكان راعى غنم يخرج بغنمه فيعفى اثارهما ليضلل المشركين، وأما عبد الله ابن أريقط فكان الدليل لهما في شعاب الجبال؛ لأنه كان يعرفها جيدا. وعن عائشة أنه لم يكن يعرف مكانهما في الغار إلا عبد الله بن أبى بكر وأسماء بنت أبى بكر وعامر بن فهيرة.

ص: 178

وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ووقف علي الحزورة «1» ونظر إلي بيت الله الحرام، وقال حين خروجه من أم القري:«والله إنك لأحبّ أرض الله إليّ وإنك خير بقعة علي وجه الأرض وأحبّها إلى الله تعالى، ولولا أهلك أخرجونى لما خرجت منك» «2» .

وقال صلى الله عليه وسلم: «إن خير بلدة علي وجه الأرض وأحبّها إلى الله مكة» .

وسميت أمّ القري «3» لأنها قبلة أهل الدنيا، فصارت هي كالأصل وسائر البلاد تبعا، وأيضا الناس يجتمعون إليها للحج والتجارة كما يجتمع الأولاد للأم، وقيل:

لأن الكعبة أوّل بيت وضع للناس. وما أحسن ما قاله بعض الشعراء:

لا تنكرنّ لأهل مكة قسوة

والبيت فيهم والحطيم وزمزم

اذوا رسول الله وهو نبيّهم

حتى حمته أهل طيبة منهم

خاف الإله على الذى قد جاءه

سلبا فلا يأتيه إلّا محرم

أى خاف الله أن يسلب أهل مكة القادم إلى الحرم، فصار يقصد مكة الناس بالإحرام.

وأما حديث: «اللهم كما أخرجتنى من أحب البقاع إليّ، فأسكنّى أحبّ البقاع إليك» «4» فلم يصح عنه صلى الله عليه وسلم؛ لأن مكة أفضل من غيرها بوجوه:

(1) الحزورة: ضبطها صاحب المراصد بسكون الزاى وفتح الواو: سوق كانت بمكة، ودخلت في المسجد الحرام لمّا زيد فيه.

(2)

وفي لفظ اخر «والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أنى أخرجت منك ما خرجت» رواه الإمام مالك والترمذى وابن ماجه وابن حبان، والحاكم عن عبد الله بن عديّ ابن الحمراء.

(3)

سماها الله تعالى «أم القري» يي قوله تعالى: وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها [الاية: 92 الأنعام] .

(4)

التحقيق في هذا الحديث أنه صحيح. قال محب الدين الطبرى في كتابه «القرى لقاصد أم القرى» ص 677 ما نصه: «

ثم اختلفوا في أيهما أفضل، فذهب عمر وبعض الصحابة إلى تفضيل المدينة، وهو قول مالك وأكثر المدنيين، وحملوا الاستثناء في قوله صلى الله عليه وسلم:«إلا المسجد الحرام على أن مسجدى يفضله» بدون الألف. وذهب أهل الكوفة إلى تفضيل مكة، وبه قال ابن وهب وابن حبيب من أصحاب مالك، وإليه-.

ص: 179

منها أنه تعالى أوجب قصدها للحج والعمرة الواجبين، وقصد المدينة سنّة، وإن فضّلت بإقامة النبى صلى الله عليه وسلم بعد النبوة فمكة أفضل؛ لأنه أقام بها ثلاث عشرة أو خمس عشرة، وبالمدينة عشرا، فإن فضّلت بكثرة الطارقين فمكة أفضل؛ لكثرة من طرقها من الأولياء والصالحين والأنبياء والمرسلين، فما من نبي إلا حجّها؛ وهى متبوّأ إبراهيم وإسماعيل، ومولد سيد المرسلين، وليست المدينة كذلك، وإن ذهب إلي تفضيلها علي مكة الإمام مالك. ولو صحّ الحديث السابق فهو مجاز لوصف المكان بما يقع فيه، كبلد امن، أو خائف، فوصف بأنه محبوب لما فيه مما يحبه الله من إقامة الرسول به إلي القيامة، وتكميل إرشاد الأمة والدين به، وأحسن من هذا أن يكون المعنى: كما أخرجتنى من أحب البقاع إليّ في أمر معاشى فأسكنّى الأحب إليك في أمر معادي، وهو ظاهر؛ فإنه لم يزل في زيادة من دينه وبلوغ أمره إلى إلي أن تكامل، وبشّر بذلك في قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ

[المائدة: 3] الاية.

وسيأتى قريبا بيان ذلك على وجه أوضح.

- ذهب الشافعي. وزيادة أبى حاتم وغيره تردّ ما ذهبوا إليه من التأويل. وما احتجوا به من قوله صلى الله عليه وسلم: «أخرجتنى من أحب البقاع إليّ فأسكنّى في أحب البقاع إليك» محمول على أنه أراد أحب البقاع بعد مكة، بدليل حديث النسائى وابن حبان في فضل مكة، فإنه دلّ على أنه أحب أرض الله إلى الله، علي أن الحديث نفسه لا دلالة فيه؛ لأن قوله «فأسكنى في أحب البقاع» ، هذا السياق يدل في العرف على أن المراد به بعد مكة؛ فإن الإنسان لا يسأل ما أخرج منه، فإن قوله «أخرجتني» «فأسكنى» يدل على إرادة غير المخرج منه، وتكون مكة مسكوتا عنها في الحديث» اهـ. بحروفه. ونص حديث النسائى وابن حبان، وأخرجه الترمذى أيضا، «والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أنى أخرجت منك ما خرجت» ولكن في «الفتح الكبير» ورد هذا الحديث بلفظ:«والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إليّ، ولولا أنى أخرجت منك ما خرجت» رواه الإمام أحمد والترمذى وابن ماجه وابن حبان والحاكم عن عبد الله بن عدى ابن الحمراء. وكلا الحديثين وارد وصحيح. والله تعالى أعلم.

ص: 180