الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل التاسع في ظواهر السنة التاسعة وما فيها من الغزوات
* وفي هذه السنة كانت غزوة تبوك، وهى اخر غزواته، وتبوك [بفتح التاء المثناة الفوقية وضم الباء المواحدة وسكون الواو وبعدها كاف] فى طرف الشام من جهة القبلة، بينها وبين المدينة المشرّفة نحو أربع عشرة مرحلة، سميت الغزوة بعين تبوك، وهى العين التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألايمسّوا من مائها شيئا حتي يأتى صلى الله عليه وسلم إليهم، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إنكم ستأتون غدا إن شاء الله تعالى عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتّى يضحى النهار، فمن جاء بها فلا يمسّ من مائها شيئا حتي اتي» ، قال معاذ: فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان من المنافقين، والعين مثل الشراك تبضّ بشيء قليل من الماء، فسألهما النبى صلى الله عليه وسلم: هل مسستما من مائها شيئا؟ فقالا: نعم، فقال لهما ما شاء الله أن يقول، ثم أمر برفع ماء منها، فرفعوا له من تلك العين قليلا، حتى اجتمع شيء، ثم غسل صلى الله عليه وسلم فيه وجهه ويديه، ثم أعاده فيها، فجاءت العين بعد ذلك بماء كثير ببركة النبى صلى الله عليه وسلم، فاستقى الناس وكفاهم.
ويقال لها غزوة العسرة، سميت بذلك لوقوعها في زمن الحر، والبلاد مجدبة والناس في عسر، ويقال لها: الفاضحة؛ لافتضاح المنافقين فيها.
وحض صلى الله عليه وسلم من عنده من المسلمين على الجهاد، ورغّبهم فيه، وأمرهم بالصدقة، فجاؤا بصدقات كثيرة، وكان أوّل من جاء بها أبو بكر، جاء بماله كله [أربعة الاف درهم] وجاء عمر بنصف ماله، وجاء العباس بن عبد المطلب بمال كثير، وجاء طلحة بمال، وجاء عبد الرحمن بن عوف بمائتى أوقية من الفضة، وجاء سعد بن عبادة بمال، وجاء محمد بن مسلمة بمال، وجاء عاصم بن عدى بتسعين وسقا من تمر، وجهّز عثمان بن عفان ثلث ذلك الجيش، وكفاهم مئونتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما يضر عثمان بن عفان ما فعل بعد اليوم» «1» .
(1) وخرجه الترمذى وأحمد بلفظ: «ما على عثمان بعد هذه؟ (كررها مرتين) » كذا في الرياض النضرة.
وسار صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، واستخلف عليّا رضى الله عنه على المدينة، وعلى عياله، فقال علي: أتخلفنى في الصبيان والنساء؟! قال: «ألا ترضى يا على أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى؟ غير أنه لا نبيّ بعدي» «1» . وليس المراد من هذا الحديث أن جميع المنازل الثابتة لهارون من موسى سوى النبوة ثابتة لعلى من النبى صلى الله عليه وسلم، وإلا لما صحّ الاستثناء [كما تزعم الشيعة والرافضة] مستدلين به على استحقاقه الخلافة بعده صلى الله عليه وسلم، بل المراد أن عليّا خليفة عن النبى صلى الله عليه وسلم مدة غيبته بتبوك، كما كان هارون خليفة عن موسى مدة غيبته للمناجاة، وأما الإستثناء فمنقطع، والمعنى: لكنك لست نبيّا كهارون؛ لأنه لا نبى بعدي، ولئن سلم أن الحديث يعمّ المنازل كلّها فهو عام مخصوص؛ إذ من منازل هارون كونه أخا نبي «2» ، والعام المخصوص غير حجّة في الباقي، أو حجة ضعيفة على الخلاف «3» .
وكان مع النبى صلى الله عليه وسلم ثلاثون ألفا، وكانت الخيل عشرة الاف، وتخلّف عبد الله ابن أبيّ [المنافق] ومن تبعه من أهل النفاق، وتخلف ثلاثة من الصحابة، وهم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، ولم يكن لهم عذر، ثم رجع النبى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد أن أقام بتبوك بضع عشرة ليلة لم يجاوزها، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثم يجلس الناس، فلما فعل
(1) رواه مسلم والترمذى عن سعد، والترمذى عن جابر، ورواه أبو حاتم وابن إسحاق، والحافظ الدمشقى في معجمه بمعناه، والسلفى في النسخة الدمشقية.
(2)
وأيضا فإنه أرسل كما أرسل موسى صلّى الله على نبينا وعليه وسلّم.
(3)
بل هو حجة قوية؛ لأن عموم اللفظ أشمل من خصوص السبب، أما عن زيادة سيدنا هارون، فهى بالنسبة للرسالة، وهذا أمر لا يجادل فيه أحد، وباء التشبيه، أو كاف التشبيه في قوله:«بمنزلة» أو «كمنزلة» تفيد وجه شبه ما، إلا أنه ليس تامّا، ومن أوجه الشبه أنه أخوه، وإن كان ابن عمه؛ لأنه عاش معه عيشة الأخ الكامل الأخوة، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن الله جعل ذرية كل نبى في صلبه وجعل ذريتى في صلب علي» فيه إشارة واضحة على الاتحاد الكامل في الأصل، والفرقة في الشخص فقط
…
ولقد بلغ الأمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذى سمّى حسنا وحسينا ومحسنا، علي أسماء أولاد هارون عليه الصلاة والسلام:«شبرا وشبيرا ومشبرا» وقال في الحسين رضى الله عنه: «فيه لثغة ورثها من عمه موسي» فمن أين يأتى الميراث إذا لم يكن هناك شبه يكاد يكون كاملا؟! والله تعالى أعلم.
ذلك جاء المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون، وكانوا فوق الثمانين رجلا، فتقبّل منهم النبى صلى الله عليه وسلم علانيتهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى.
ثم جاءه كعب بن مالك، وكان قد تقدّمه مرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، فسألهم عن سبب تخلفهم، فاعترفوا ألاعذر لهم، فأمرهم بالمضيّ حتي يقضى الله فيهم، ونهى صلى الله عليه وسلم عن كلامهم من بين من تخلف عنه، فاجتنبهم الناس، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فلبثوا علي ذلك خمسين ليلة، ولما مضت أربعون ليلة من الخمسين أمرهم النبى صلى الله عليه وسلم باعتزال نسائهم، وجاءت امرأة هلال إليه صلى الله عليه وسلم لتستأذنه في خدمة هلال، فأذن لها من غير أن يقربها.
فلما مضت خمسون ليلة من حين النهى عن كلامهم نزلت توبتهم، فأخبر النبى صلى الله عليه وسلم بتوبة الله عليهم، وذهب الناس يبشرونهم، وجاء كعب إلى النبى صلى الله عليه وسلم وهو «1» يبرق وجهه من السرور، فقال له صلى الله عليه وسلم: أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك، فقال: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله عز وجل؟ فقال: بل من عند الله عز وجل. وأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ [التوبة: 117] إلى قوله تعالى: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119] . قال كعب: فو الله ما أنعم الله عليّ نعمة قط بعد أن هدانى للإسلام أعظم في نفسى من صدقى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوه، فإن الله تعالى قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي:
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ [التوبة: 96] إلى قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [التوبة: 95] .
وأما ما ورد «هجر المسلم أخاه فوق ثلاثة أيام حرام» «2» محلّه إذا كان لحظوظ
(1) الضمير يرجع إلى النبى صلى الله عليه وسلم.
(2)
ورواية مسلم عن ابن عمر: «لا يحل لمؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام» . وروى ابن نافع رحمه الله قوله عليه الصلاة والسلام: «هجر المسلم كسفك دمه» . وروى الإمام أحمد والبخارى ومسلم وأبو داود والترمذي: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا، وخيرهما الذى يبدأ بالسلام» وفي رواية
…
«لا يحل لمؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فإن مرت به ثلاث، فليأته فليسلّم عليه، فإن ردّ السلام فقد اشتركا في الأجر، وإن لم يردّ السلام فقد باء بالإثم» رواه أبو داود. وفي رواية: «لا يحل لمؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار» .
النفس أو لتعلقات الدنيا، وأما إذا كان المهجور مبتدعا أو متجاهرا بالفسق ونحو ذلك فلا تحرم هجرته، لما ثبت من هجر النبى صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين خلّفوا «1» .
ولم يجاوز صلى الله عليه وسلم «تبوك» ، حيث استشار أصحابه في مجاوزتها، فقال له عمر رضى الله عنه: إن كنت أمرت بالسير فسر، فقال صلى الله عليه وسلم:«لو أمرت بالسير لم أستشركم فيه» فقال: يا رسول الله: إن للروم جموعا كثيرة، وليس بها أحد من أهل الإسلام، وقد دنونا، وقد أفزعهم دنوّك، فلو رجعنا هذه السنة حتّى نرى أنفسنا أو يحدث الله أمرا. وهذا تصريح بأن تبوك لم يقع فيها مقاتلة، ولا حصل فيها غنيمة، وإنما أتاه صلى الله عليه وسلم وهو بها «يحنّة» (بضم المثناة تحت، وفتح الحاء المهملة ثم نون مشدّدة مفتوحة، ثم تاء التأنيث)«ابن روبة» (بالمواحدة) صاحب «أيلة» «2» وصحبته أهل «جرباء» تأنيث أجرب، يمد ويقصر، قرية بالشأم، وأهل (أذرح)«3» بالذال المعجمة الساكنة والراء المهملة المضمومة والحاء المهملة (مدينة تلقاء السراة) و «أهل مينا» ، وأهدى «يحنّة» رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء، فكساه صلى الله عليه وسلم بردا، وهو البردة التي كانت عند خلفاء بنى العباس، اشتراها من أهل (أيلة)«4» أبو العباس السفاح بثلاثمائة دينار، وكانت التى اشتراها معاوية من ذرية كعب بن زهير، فقدت عند زوال دولة بنى أمية «5» . وقد تقدم في غزوة فتح مكة أن بردة النبى صلى الله عليه وسلم التى خلعها على كعب بن زهير جائزة علي قصيدته المشهورة، قد اشتراها معاوية من ذريته، ثم فقدت بزوال بني أمية، بخلاف هذه. فليراجع في مخله «6» .
(1) إن النبى صلى الله عليه وسلم قبل ممن قبل، ولم يقبل من هؤلاء الثلاثة لأن لهم منزلة عنده صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يؤدبهم أدبا خاصا، إسلاميا صرفا، لا لقصد الهجر، فهجر المسلم لأمر من الأمور الدنيوية هو المذموم، أما إن كان لأجل الدّين فهو المطلوب.
(2)
مدينة على ساحل بحر القلزم (البحر الأحمر) مما يلى الشام، وهى اخر الحجاز وأوّل الشام.
(3)
بلد من أعمال عمان، بالبلقاء من أرض الشام، قرب السراة من ناحية الحجاز.
(4)
بضم الراء، بلد في أطراف الشام من أعمال الشراة، من نواحى بلقان وعمان.
(5)
هناك بردتان: إحداها اشتراها معاوية من ذرية كعب بأربعين ألف درهم، والثانية أهداها النبى صلى الله عليه وسلم لصاحب أيلة نظير إهدائه البغلة، وهى التى اشتراها السفاح من أهل أيلة، وأخذها التتر.
(6)
فى الأصل: فى الفصل الرابع عشر من الباب الأوّل من المقالة الرابعة من الجزء الأوّل من هذا التاريخ.
فصالح النبيّ صلى الله عليه وسلم (يحنة) على إعطاء الجزية، فبلغت جزيتهم ثلاثمائة دينار، بعد أن عرض عليه الإسلام فلم يسلم، وكتب له ولأهل أيلة كتاب الصلح، وكتب أيضا لأهل أذرح وجرباء كتاب الصلح، وأن عليه مائة دينار في كل رجب، وصالح أيضا أهل (مينا) علي ربع ثمارهم، فمن هذا يفهم أنه صلى الله عليه وسلم لم يتعرض فى غزوة تبوك لقتال الروم، وقد سبق الكلام عليه.
ولما وصل صلى الله عليه وسلم تبوك كان هرقل بحمص، قدم من القسطنطينية إليها، وكانت قاعدة مملكته بالشام، وكانت في زمانهم أعظم من دمشق، ولم يكن همّ بالذى بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه من جمعه ولا حدّثته نفسه بذلك، وبعث صلى الله عليه وسلم دحية بكتاب إليه، فلما جاءه دعا قسّيسى الروم وبطارقتها، ثم أغلق عليه وعليهم، وقال:«قد نزل هذا الرجل حيث رأيتم، وقد أرسل يدعونى إلى ثلاث خصال: إما أن أتبعه على دينه، أو أن أعطيه ما لنا على أرضنا، والأرض أرضنا، أو نلقى إليه الحرب، وو الله لقد عرفتم فيما تقرؤن من الكتب ليأخذن موضع قدميّ هاتين، فهلم فلنتبعه علي دينه، أو أن نعطيه مالا» فنحروا «1» نخرة رجل واحد، حتى خرجوا من برانسهم «2» ، وقالوا: أتدعونا إلى أن نذر النصرانية، أو نكون عبيدا لأعراب من الحجاز؟! فلما ظن أنهم إن خرجوا من عنده أفسدوا عليه الروم، قال: إنما قلت ذلك لأعلم صلابتكم علي أمركم. ثم دعا رجلا من عرب تجيب، كان على نصارى العرب، فقال: ادع لى رجلا حافظا للحديث، عربيّ اللسان أبعثه إلى هذا الرجل بجواب كتابه. فجاء التنوخي، فدفع إليه هرقل كتابا، وقال: اذهب بكتابى هذا إلى هذا الرجل فما سمعته من حديثه، فاحفظ لى منه ثلاث خصال: هل يذكر صحيفته التى كتب بشيء؟ وانظر إذا قرأ كتابي، فهل يذكر الليل؟ وانظر إلى ظهره، هل فيه شيء يريبك؟ قال: فانطلقت بكتابه حتى جئته تبوكا، فإذا هو جالس بين ظهرانى أصحابه محتبئا علي الماء، فقلت:
أين صاحبكم؟ قيل: ها هو ذا. فأقبلت أمشى حتّى جلست بين يديه، فناولته كتابي، فوضعه في حجره، ثم قال: ممن أنت؟ فقلت: أنا أحد تنوخ، قال: هل لك في الحنيفية ملة أبيك إبراهيم؟ قلت: إنى رسول قوم وعلي دين قوم، حتى
(1) النخير: صوت بالأنف.
(2)
جمع برنس: ثوب رأسه ملتصق به.
أرجع إليهم. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص: 56] يا أخا تنوخ إنى كتبت بكتاب إلى كسرى فمزّقه، والله ممزقه وممزق ملكه، وكتبت إلى صاحبك بصحيفة فأمسكها، فلن يزال الناس يجدون منه بأسا ما دام في العيش خير، قلت: هذه إحدى الثلاث التي أوصانى بها صاحبي، فأخذت سهما من جعبتى فكتبتها في جفن سيفي، ثم ناول الصحيفة رجلا عن يساره، قلت: من صاحب كتابكم الذى يقرأ لكم؟ قالوا: معاوية، فإذا في كتاب صاحبي: تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، فأين النار؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحان الله، أين النهار إذا جاء الليل «1» ؟! فأخذت سهما من جعبتى فكتبت في جنب سيفي، فلما أن فرغ من قراءة كتابي، قال: إن لك حقا، وإنك رسول، فلو وجدت عندنا جائزة جوّزناك بها، إنا سفر مرملون. فناداه رجل من أصحابه، فقال: أنا أجوّزه، ففتح رحله، فإذا هو بحلّة صفراء فوضعها في حجري، فقلت: من صاحب الجائزة؟ قيل لي: عثمان، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكم ينزل هذا الرجل؟ فقال فتى من الأنصار: أنا، فقام الأنصاريّ وقمت معه، حتى إذا خرجت من طائفة المجلس نادانى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: تعال يا أخا تنوخ، فأقبلت أهوى حتّى كنت قائما في مجلسى الذى كنت بين يديه، فحلّ حبوته على ظهره، وقال:«هاهنا امض لما أمرت به» فجلت في ظهره، فإذا أنا بخاتم النبوة عند غضروف كتفه مثل المحجمة «2» الضخمة» . فانصرف الرجل إلى هرقل، فذكر له ذلك، فدعا قومه إلى التصديق بالنبى صلى الله عليه وسلم؛ فأبوا حتّى خافهم علي ملكه، وهو في موضعه بحمص لم يتحرك ولم يزحف، وأهدى هرقل له صلى الله عليه وسلم هدية فقبلها، وفرّقها على المسلمين، وأقام صلى الله عليه وسلم بضع عشرة ليلة، ولم يجاوزها، ثم انصرف قافلا إلى المدينة.
ففى هذه الغزوة خرج النبى صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى الشام في العدد الذى لم يتم قبله مثله، كان العدد فيها ثلاثين ألفا، أو أكثر، وكانت الشّقّة بعيدة، ولهذا لم يور
(1) وفي الفتح الكبير في ضم الزيادة إلي الجامع الصغير: «سبحان الله، أين الليل إذا جاء النهار» ؟ رواه الإمام أحمد.
(2)
المحجمة: القارورة التى يجمع فيها دم الحجامة.
فيها، بل أعلم الناس بوجههم ليكون تأهّبهم بحسب ذلك، ومع هذا الاجتهاد في الاستعداد لم يلق فيها حربا، ولا افتتح بلدا، وذلك لأن أجلّ فتوح الشام لم يكن بعد، فانتسخ العزم بالقدر وبجفاف القلم «1» .
ورجع النبى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وعلى المسلمين الوقار والسكينة من غير اضطراب عند انصراف العزيمة، وقد تقدم بعض ذلك «2» .
* وفي هذه السنة هدم مسجد الضرار الذى ذكره الله تعالى في كتابه العزيز فى سورة براءة: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً
…
[التوبة: 107] الاية أنزلت في جماعة من المنافقين بنوا مسجدا أيضا يضارّون به مسجد قباء، وكانوا اثنى عشر رجلا من أهل النفاق، وكانوا جميعا يصلّون في مسجد قباء، فبنوا مسجد الضرار ليصلّى فيه بعضهم، فيؤدّى ذلك إلى الاختلاف وافتراق الكلمة، ولما فرغوا أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتجهّز إلى تبوك وقالوا: يا رسول الله قد بنينا مسجدا لذى العلة والحاجة والليلة المطيرة الشاتية، وإنّا نحب أن تأتينا وتصلّى لنا فيه، وتدعو بالبركة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنى على جناح سفر، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا» ، ولما انصرف صلى الله عليه وسلم من تبوك ونزل ب «ذى ودان» (موضع قريب من المدينة) أتوه فسألوه إتيان مسجدهم، فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم، فنزل عليه القران، وأخبره الله خبر المسجد الضرار وما همّوا به، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عامر بن عديّ، وعامر بن السكن، وقال لهم:«انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه واحرقوه» ، فخرجوا سريعا فحرقوه وهدموه، وتفرق عنه أهله.
وفي دخول هذه السنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة، قبل غزوة تبوك تتابعت الوفود من جميع الجهات؛ فإنهم كانوا منتظرين ما يقع له صلى الله عليه وسلم مع قومه، فلما حصل الفتح دخل الناس في دين الله أفواجا، وورد عليه عروة بن مسعود الثقفي، وكان غائبا عن حصار الطائف، فأسلم وحسن إسلامه فقال: أمضى إلى قومى وأدعوهم، فقال له صلى الله عليه وسلم: إنهم قاتلوك. فكان كما قال؛ حيث رمى بسهم في سطح بيته، وهو يؤذّن للصلاة، فمات، ومنع قومه من الطلب بدمه، وقال: «هى
(1) يقصد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جف القلم بما هو كائن» .
(2)
فى الأصل: «فى الفصل الرابع عشر من المقالة الرابعة من الجزء الأوّل» .
شهادة ساقها الله» ، وأوصى أن يدفن مع شهداء المسلمين، ثم قدم ابنه أبو المليح، وقارب «1» بن الأسود بن مسعود فأسلما، وضيّق مالك بن عوف علي ثقيف، واستباح سرحهم، وقطع سابلتهم (أى سبيلهم) ، وبلغهم رجوع النبى صلى الله عليه وسلم من تبوك، فوفدوا عليه فأسلموا، وسألوه أن يدع اللات التى كانوا يعبدونها لا يهدمها إلى ثلاث سنين، فأبي، فنزلوا إلى شهر فأبي، وسألوه أن يعفيهم من الصلاة، فقال:«لا خير في دين لا صلاة فيه» . فأجابوا، وأرسل معهم المغيرة بن شعبة، وأبا سفيان بن حرب، فهدما اللات، وخرج نساء ثقيف حسرى يبكين عليها.
وفيها بعث أبا بكر رضى الله عنه ليحج بالناس، ومعه عشرون بدنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وثلاثمائة رجل، فلمّا كان بذى الحليفة أرسل عليّا رضى الله عنه في أثره وأمره بقراءة براءة، وايات من أوّل سورة البقرة على الناس، وأن ينادى «أن لا يطوف بالبيت بعد السنة عريان» (أى مكشوف العورة كما كانت الجاهلية تفعل ذلك) ولا يحجّ مشرك.
وعن أبى هريرة قال: كنت مؤذّن عليّ رضي الله عنه حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي أهل مكة ببراءة، فناديت: ألايدخل الجنة إلا نفس مؤمنة؛ ولا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فأجله أربعة أشهر، فإذا مضت الأربعة أشهر فإنّ الله بريء من المشركين ورسوله» .
فعاد أبو بكر وقال: يا رسول الله هل نزل في شيء؟ قال: «لا، ولكن لا يؤدّى عنى غيرى أو إلا رجل من أهل بيتي) ، ألا ترضى يا أبا بكر أنك كنت معى في الغار؟ وصاحبى على الحوض؟» قال: بلي. فكان أبو بكر أميرا على الموسم، وعليّ يؤذن ببراءة «2» يوم الأضحي؛ وألايحج مشرك ولا يطوف بالبيت عريان؛ فلم يحج في العام بعد الذى حج فيه المصطفى حجة الوداع مشرك، وأنزل الله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا «3» .
(1) قارب بن الأسود بن مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمر بن سعد بن عوف بن ثقيف (ابن أخي عروة بن مسعود) قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخوه أبو المليح فأسلما قبل قدوم وفد ثقيف، له ترجمة وافية في الإصابة فانظرها هناك.
(2)
براءة: هى سورة التوبة، أذن ببراءة: أي يعلمهم بها ويقرؤها عليهم.
(3)
سورة التوبة: 28.