المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثانى فى ذكر بعض أخلاقه وصفاته صلى الله عليه وسلم - نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز - جـ ١

[رفاعة الطهطاوى]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الناشر

- ‌[عملنا في هذا الكتاب]

- ‌مؤلفاته ومترجماته

- ‌الباب الأوّل فى مولده الشريف إلى بعثته صلى الله عليه وسلم

- ‌آباؤه:

- ‌طهارة نسبه صلى الله عليه وسلم:

- ‌ومن كلام عمه أبى طالب:

- ‌[مولده] :

- ‌[أسماؤه صلى الله عليه وسلم] :

- ‌[طهارة مولده وشرفه] :

- ‌[زواج أبيه بأمه] :

- ‌[تعبده صلى الله عليه وسلم قبل البعثة] :

- ‌[رضاعه] :

- ‌الفصل الثانى فى ذكر عمل مولده الشريف، وإشهاره كلّ سنة وفيما جرى في مولده وفيما بعده من الوقائع

- ‌[الاحتفال بالمولد] :

- ‌والبدعة من حيث هى منقسمة إلى خمسة أقسام:

- ‌واجب:

- ‌وحرام:

- ‌ومندوب إليه:

- ‌ومكروه:

- ‌ومباح:

- ‌الفصل الثالث فى زواجه بخديجة بنت خويلد رضى الله تعالى عنها وما رزقه الله من الذرية منها

- ‌[أولاده من خديجة] :

- ‌الباب الثانى فى مبعثه صلى الله عليه وسلم، ودعائه الناس إلى الدين الحق. وهجرة المسلمين* إلى الحبشة، وخروجه إلى الطائف

- ‌الفصل الأوّل فى رسالته صلى الله عليه وسلم على رأس الأربعين إلى كافة الناس بشيرا ونذيرا

- ‌كفالته عليّا:

- ‌[اشتداد الأذى عليه صلى الله عليه وسلم] :

- ‌الفصل الثانى فى الهجرتين إلى الحبشة

- ‌[مسألة الغرانيق وما سمّوه الايات الشيطانية] :

- ‌ وأما الهجرة الثانية:

- ‌الفصل الثالث فى خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف قبل هجرته إلى المدينة المشرّفة

- ‌الفصل الرابع في الإسراء به صلى الله عليه وسلم ليلا من المسجد الحرام وعروجه من المسجد الأقصي إلى السموات العلى

- ‌[مسألة رؤية الله] :

- ‌الباب الثالث فى هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وما ترتب على ذلك من المظاهر الإسلامية والظواهر التعليمية. وفيه فصول

- ‌الفصل الأوّل فى الأسباب الباعثة علي هذه الهجرة والتمهيد لها

- ‌الهجرة إلى المدينة:

- ‌[التامر على الرسول صلى الله عليه وسلم في دار الندوة] :

- ‌الفصل الثانى فى سيره مهاجرا إلى المدينة مع صاحبه: صدّيقه رضى الله تعالى عنه وهو ابتداء التاريخ الإسلامى

- ‌مبدأ التأريخ الإسلامى:

- ‌[مسألة: الرسول صلى الله عليه وسلم والشّعر]

- ‌هجرة بقايا المسلمين من مكة:

- ‌[فرق اليهود] :

- ‌الأولى: التوراة، وهى خمسة أسفار

- ‌المرتبة الثانية: أربعة أسفار: تدعى الأولي:

- ‌المرتبة الثالثة: أربعة أسفار تدعى: الأخيرة:

- ‌المرتبة الرابعة: تدعى: الكتب، وهى أحد عشر سفرا:

- ‌الفصل الثالث في ذكر الظواهر الحادثة بعد الهجرة إجمالا

- ‌الباب الرابع فى تفاصيل الظواهر التى حدثت بعد هجرته عليه الصلاة والسلام إلى وفاته صلى الله عليه وسلم، وفيه فصول

- ‌الفصل الأوّل فى ظواهر السنة الأولى من الهجرة وما فيها من الغزوات

- ‌[المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار]

- ‌الفصل الثانى في ظواهر السنة الثانية من الهجرة، وما فيها من الغزوات

- ‌[إسلام عمير بن وهب] :

- ‌الفصل الثالث في ظواهر السنة الثالثة من الهجرة وما فيها من الغزوات

- ‌الفصل الرابع في ظواهر السنة الرابعة من الهجرة وما فيها من الغزوات

- ‌غزوة بنى النضير:

- ‌الفصل الخامس فى ظواهر السنة الخامسة وما فيها من الغزوات

- ‌الفصل السادس في ظواهر السنة السادسة وما فيها من الغزوات

- ‌الفصل السابع في ظواهر السنة السابعة ما فيها من الغزوات

- ‌الفصل الثامن في ظواهر السنة الثامنة وما فيها من الغزوات

- ‌ وأما النساء الست اللاتى أهدر النبى صلى الله عليه وسلم دماءهن يوم الفتح

- ‌الفصل التاسع في ظواهر السنة التاسعة وما فيها من الغزوات

- ‌الفصل العاشر فيما وقع من وفود العرب عليه صلى الله عليه وسلم، وفي حجة الوداع

- ‌الباب الخامس في وفاته صلى الله عليه وسلم وذكر بعض أخلاقه وصفاته، ومعجزاته، وأزواجه. وأعمامه، وعماته، وأخواله، ومواليه وخدمه، وحشمه صلى الله عليه وسلم، وفيه فصول

- ‌الفصل الأوّل في ذكر وفاته صلى الله عليه وسلم وما يتعلق بذلك

- ‌الفصل الثانى فى ذكر بعض أخلاقه وصفاته صلى الله عليه وسلم

- ‌وخصائصه صلى الله عليه وسلم على أضرب:

- ‌الأوّل الواجبات:

- ‌الثانى

- ‌الثالث المباحات:

- ‌الرابع ما

- ‌الفصل الثالث في ذكر معجزاته

- ‌[كيفية نزول القران] :

- ‌الفصل الرابع فى ذكر أزواجه صلى الله عليه وسلم وقرابته ومواليه

- ‌جدول يضبط ما تفرّق من الغزوات التي سبق ذكرها تفصيلا

الفصل: ‌الفصل الثانى فى ذكر بعض أخلاقه وصفاته صلى الله عليه وسلم

‌الفصل الثانى فى ذكر بعض أخلاقه وصفاته صلى الله عليه وسلم

من المعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لمّا كان خاتم النبيين وسيد المرسلين، واتاه الله علم الأولين والاخرين، وفضّله على سائر الخلق أجمعين، خصّه بمناقب لا يحصيها أحد من العالمين، فكيف وهو الذى أظهر هذا الدين القويم، وأنار هذا الصراط المستقيم! فكل فضل منسوب إلى فضله، وكل علم مستفاد من علمه ونبله، فبهذا ينبغى أن يذكر شيء من مناقبه على سبيل الاختصار والإيجاز، وقد تقدم ذكر بعضها فنقول:

إن من أحسن ما يروى من أوصافه ما روى عن عمر بن الخطاب أنه سمع بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم يقول وهو يبكى هذه الكلمات:

«بأبى أنت وأمى يا رسول الله (أي أفديك بأبى وأمي، وهى كلمة تستعملها العرب لتعظيم المفدّي) لقد كان لك جذع تخطب عليه، فلما كثر الناس اتخذت منبرا تسمعهم عليه، فحنّ الجذع لفراقك حتّى جعلت يدك عليه فسكت، فأمّتك أولى بالحنين عليك حين فارقتهم.

بأبي أنت وأمى يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عند ربك أن جعل طاعتك طاعته فقال تعايي: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ «1» .

بأبى أنت وأمى يا رسول الله: لقد بلغ من فضيلتك عند ربك أن جعل طاعتك طاعته فقال تعايي: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ «1» .

بأبى أنت وأمى يا رسول الله: لقد بلغ من فضيلتك عنده أن أخبرك بالعفو عنك قبل أن يخبرك بذنبك، فقال: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «2» .

بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عنده أن جعلك اخر الأنبياء وذكرك في أولهم، فقال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب: 7] .

(1) النساء: 8.

(2)

التوبة: 43.

ص: 417

بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عنده أنّ أهل النار يودّون لو كانوا أطاعوك وهم بين أطباقها يعذّبون، يقولون: يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا [الأحزاب: 66] .

بأبى أنت وأمى يا رسول الله، إن كان موسى بن عمران أعطاه الله حجرا تتفجر منه الأنهار، فماذا بأعجب من أصابعك حين نبع منها الماء «1» ! صلى الله عليك.

بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لئن كان سليمان بن داود أعطاه الله الريح غدوّها شهر ورواحها شهر، فما ذلك بأعجب من البراق حيث سرت عليه إلى السماء السابعة، ثم صليت الصبح بالأبطح صلىّ الله عليك.

بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لئن كان عيسى ابن مريم أعطاه الله إحياء الموتي، فما ذلك بأعجب من الشاة المسمومة حتّى كلمتك وهى مشوية فقالت:

«لا تأكلنى فإني مسمومة» .

بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد دعا نوح على قومه فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: 26] ولو دعوت علينا مثلها لهلكنا عن اخرنا، فلقد وطىء ظهرك، وأدمى وجهك، وكسرت رباعيتك، فأبيت أن تقول إلا خيرا فقلت:«اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون» .

بأبى أنت وأمى يا رسول الله لقد اتّبعك في قلة سنك وقصر عمرك ما لم يتبّع نوحا في كبر سنّه وطول عمره؛ فلقد امن بك الكثير، وما امن معه إلا القليل.

بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لو لم تجالس إلا كفؤا ما جالستنا، ولو لم تنكح إلا كفؤا ما نكحت إلينا، ولو لم تؤاكل إلا كفؤا ما اكلتنا، لبست الصوف، وركبت الحمار، ووضعت طعامك بالأرض، ولعقت أصابعك تواضعا منك» .

ووصفه عليّ رضى الله عنه فقال: «ليس بالطويل، ولا بالقصير، ضخم الرأس،

(1) رواه مسلم في حديثه الطويل في غزوة بواط وغيره في الصحاح.

ص: 418

كثّ اللحية، شثن الكفّين والقدمين، ضخم الكراديس، مشربا وجهه بحمرة، أدعج العينين، سبط الشعر، سهل الخدّين، كأن عنقه أبريق فضة» .

وقال أنس: «لم يشنه الله بالشيب، كان في مقدّم لحيته عشرون شعرة بيضاء، وفي مفرق رأسه شعرات بيض» .

وروى أنه كان يخضب بالحناء والكتم. وعن ابن عمر «اختضبوا بالسواد فإنه أنكأ للعدوّ وأحبّ للنساء» .

* وكان بين كتفيه خاتم النبوّة، وهو بضعة (أى قطعة لحم) ناشزة (أى مرتفعة) حولها شعر.

وروى سلمان الفارسى أنه قال: مثل بيضة الحمامة بين كتفيه، وقيل: كان مضغة كلون بدنه، وقيل: كانت شامة خضراء محتفرة في اللحم، وقيل: كزر الحجلة (بتقديم الزاى على الراء) والمراد به البيض، والحجلة (بتقديم الحاء على الجيم بعدها لام) : الطائر المعروف أى مثل بيض هذا الطائر.

قال بعضهم: وجملة الأقوال تبلغ نيفا وعشرين قولا، لكنها متقاربة المعنى، وليس ذلك باختلاف، بل كل راو شبّه بما سنح له وظهر، فواحد قال: كرزّ الحجلة، واخر: كبيضة الحمامة، واخر: كالتفاحة، واخر: بضعة لحم ناشزة، واخر: لحمة ناتئة، واخر: كالمحجمة، وكلّها ألفاظ مؤدّاها واحد، وهو قطعة لحم، ومن قال: شعر؛ فلأن الشعر حوله متراكم عليه.

وقال القرطبى رحمه الله: الأحاديث الثابتة على أنّ خاتم النبوّة كان شيئا بارزا أحمر عند كتفه الأيسر، إذا قلّل قدر بيضة الحمامة، وإذا كثر: جمع اليد.

انتهى.

وسئل البرهان الحلبي: هل خاتم النبوة من خصائصه صلى الله عليه وسلم؟ أو كل نبى ختم بخاتم النبوة؟ فأجاب: لا أستحضر في ذلك شيئا، ولكن الذى يظهر أنه خصّ بذلك لمعان منها أنها إشارة إلى أنه خاتم النبيين، وليس كذلك غيره، ولأن باب النبوّة ختم به، فلا يفتح بعده.

وفي هذا المعنى لنجل المؤلف «على فهمى رفاعة» قوله:

ص: 419

بعثه للدين أفرا

ح وللأعدا ماتم

وله الخاتم ينبي

أنّه للرسل خاتم

قال السهيلى: «والحكمة في وضع خاتم النبوّة على جهة اليسار، أنه لما مليء قلبه إيمانا ختم عليه كما يختم على الوعاء المملوء مسكا أو درّا، فجمع الله تعالى أجزاء النبوّة لسيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتمّمه وختم عليه بختمه، فلم تجد نفسه ولا عدوّه سبيلا إليه من أجل ذلك الختم؛ لأن الشيء المختوم محروس، وكذلك تدبير الله لنا في هذه الدار، إذا وجد أحدنا الشيء بختمه زال الشك وانقطع الخصام فيما بين الادميين، فلذلك ختم ربّ العالمين في قلبه حتّى يطمئن له القلب الذى ألقى النور فيه، فظهر بين كتفيه كالبيضة» . انتهي.

واسع الجبين، عرقه أطيب ريحا من المسك، وفي وجهه تدوير، عظيم الفم، حسن الثغر، رائق الثنايا، فى أسنانه تفليج وتفريق، حلو المنطق، يتكلّم بجوامع الكلم، لا يضحك إلا تبسّما، إذا جلس مع أصحابه- رضى الله عنهم- فكأنما على رؤسهم الطير من حسن تواضعهم بين يديه صلى الله عليه وسلم، أزهر اللون، إذا مشى فكأنما تطوى له الأرض، وفي مشيته لا يلتفت وراءه، وإذا التفت التفت جميعا، حسن الوجه، حسن الصوت، خصوصا بتلاوة القران العظيم.

وقد جاوز نبينا صلى الله عليه وسلم المرتبة العليا من الفصاحة، فكان أفصح العرب لسانا وأوضحهم بيانا، وأعدلهم نطقا، وأسدّهم لفظا، وأبينهم لهجة، وأقومهم حجة، وأعرفهم بمواقع الخطاب، وأهداهم إلى طرق الصواب، تأييدا إلهيا، وحفظا سمائيّا، وعناية ربانية، ورعاية روحانية، حتى لقد قال [عليّ] رضى الله عنه وسمعه يخاطب وفد بنى نهد:«يا رسول الله نحن بنو أب واحد، ونراك تكلّم وفود العرب بما لا نفهم أكثره» ، فقال:«أدّبنى ربى فأحسن تأديبي، وربيت في بنى سعد» فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطب العرب علي اختلاف شعوبهم وقبائلهم، وتباين بطونهم وأفخاذهم وفصائلهم، كلّ منهم بما يفهمون، ويحادثهم بما يعلمون، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:«أمرت أن أخاطب الناس علي قدر عقولهم» فكأنّ الله تعالى قد أعلمه ما لم يكن يعلمه غيره من بنى أبيه، مما تفرّق ولم يوجد في قاصى العرب ودانيهم.

ص: 420

وكانت القبائل ترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم لتأخذ عنه القران، وكان صلى الله عليه وسلم يترجم لكل قبيلة بحسب لغتها من قبائل: قريش، وكنانة، وحمير، وهذيل، وطيّئ، وجرهم، ومدلج، وغيرهم؛ فربما مدّ «1» صلى الله عليه وسلم قدر الألف والألفين والثلاث لمن لغته كذلك، وربما فخّم لمن لغته التفخيم، وربما أمال لمن لغته الإمالة، وربما أدغم لمن لغته الإدغام، وربما رقّق لمن لغته الترقيق، وهكذا في سائر وجوه الاداب والأحكام التى أمرنا الله بها ونهانا عنها في القران كلها واحدة، لا تتغير فى جميع القراات، فلما وقع الضبط وأخذت القرّاء القراات عن القبائل ضبط كلّ إنسان ما سمع فقط؛ إذ القياس هنا ممنوع، وجميع التراجم كلها قران منزل، أوحى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو جاز أن يترجم صلى الله عليه وسلم عن القران بغير ما أوحى به إليه لم يخرج عن مرتبتين؛ لأنه إما يترجم بلفظ مساو للوحى أو دونه، فإن كان ذونه: لم يصدق عليه أنه صلى الله عليه وسلم بلّغ ما أنزل إليه من ربه، وذلك محال في حقه صلى الله عليه وسلم، وإن كان مساويا: فأيّ فائدة للعدول عن الوحى من الله بلفظ مساو له؟ فما بقى إلا أنه صلى الله عليه وسلم بلّغ ما أنزل إليه من ربه بحروفه الحاملة للمعانى القديمة.

وكان ابن عباس رضى الله عنهما يقول: «ما أنزل الله عز وجل كتابا إلا بالعربية إذ هى أوسع اللغات، ولكن كان جبريل عليه السلام يترجم لكل نبى بلسان قومه، وليس في القران العظيم إلا لغة العرب، وربما وافقت اللغة منه لغة غير العرب، والأصل عربى لا يخالطه شيء» .

وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يفد إليه من العرب يعرفون أكثر ما يقوله، وما جهلوه يسألونه عنه فيوضحه لهم، وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا تكلّم تكلم بكلام مفصّل مبيّن يعدّه العادّ، ليس بهذّ مسرع لا يحفظ، قالت عائشة رضى الله عنها: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد سردكم هذا؛ كان يحدّث حديثا لو عدّه العادّ لأحصاه، وكان يعيد الكلمة ثلاثا لتفهم عنه، وقال له عمر رضى الله عنه: يا رسول الله ما لك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟ قال: لقد كانت لغة إسماعيل قد درست فجاء بها جبريل فحفظّنيها، وقال: «أنا أعرب العرب، ولدت

(1) أى مدّ الحروف في النطق.

ص: 421

فى قريش ونشأت في بنى سعد فأنّى يأتينى اللّحن» «1» فقد كان من خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم أن يكلم كلّ ذى لغة بلغته على اختلاف لغة العرب وتراكيب ألفاظها وأساليب كلمها، وكان أحدهم لا يجاوز لغته، وإن سمع لغة غيره فكالعجمية يسمعها العربي، وما ذاك منه صلى الله عليه وسلم إلا بقوة إلهية وموهبة ربّانية؛ لأنه بعث إلى الكافة طرّا وإلى الخليقة سودا وحمرا، ولا يوجد متكلم بغير لغته إلا قاصرا في تلك الترجمة، نازلا عن صاحب الأصالة في تلك اللغة، إلا هو صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كان إذا تكلم في لغة من لغات العرب أفصح وأنصع بلغاتها منها بلغة نفسها، وجدير به ذلك؛ فقد أوتى جميع القوى البشرية المحمودة، ومزية علي الناس بأشياء كثيرة.

وبالجملة فقد ألّف الناس في فصاحته وجوامع كلمه الدواوين، ولا خفاء بأن أفصح اللغات لغات العرب، وغاية لسان هارون وفصاحته إنما كانت في العبرانية، وإلا فالعربية أفصح منها «2» ، وأما ما اشتهر علي ألسنة كثير من الناس أنه صلى الله عليه وسلم قال:«أنا أفصح من نطق بالضاد» ، فقال الحافظ ابن كثير، وتابعه تلميذاه الزركشي، وابن الجوزي، والجلال السيوطي، والسخاوي: إنه لا أصل له، كما يؤخذ من قول النجم. ثم هو صلى الله عليه وسلم أفصح من نطق بالضاد من بين أهل اللغة العربية، حيث لم يعزه لرواية، وهو صحيح المعنى، إذ معناه: أنا أفصح العرب لكونهم هم الذين ينطقون بها، ولا توجد في لغة غيرهم.

* وأما خلقه صلى الله عليه وسلم، فكان خلقه القران؛ يرضى لرضاه، ويسخط لسخطه، ويسارع إلى ما حثّ عليه، ويمتنع مما زجر عنه، فلهذا كان يتضاعف جوده وإفضاله في شهر رمضان لقرب عهد مخالطته جبريل عليه السلام، وكثرة مدارسته لهذا الكتاب الكريم الذى يحثّ على مكارم الأخلاق والجود، ولا شك أن المخالطة تؤثر وتورث أخلاقا من المخالط، كما قال بعضهم لابنه:

(1) وقد روى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «أول من فتق لسانه بالعربية المبينة إسماعيل وهو ابن أربع عشرة سنة» رواه الشيرازى في الألقاب عن على كرم الله وجهه، وروى الحديث الذى ذكره الشيخ بلفظ اخر:«أنا أعربكم، أنا من قريش ولسانى لسان بنى سعد بن بكر» رواه ابن سعد.

(2)

أما قول الله تبارك وتعالى: (وأخي هارون هو أفصح منى لسانا) ليس المقصود فصاحة اللغة، وإنما المقصود أنه يستطيع أن يعبر أحسن منه، والله أعلم بمراده بذلك.

ص: 422

بنيّ اجتنب كلّ ذي بدعة

ولا تصحبن من بها يوصف

فيسرق طبعك من طبعه

وأنت بذلك لا تعرف

وقد سئل الشمس الرملي: كيف كان جبريل يقرئ النبى صلى الله عليه وسلم؟ فأجاب بأنه كان يقرأه عليه أولا ليعلّمه إياه، ثم بعد ذلك كان يدارسه القران، بأن يقرأ هذا على هذا والاخر كذلك.

وكان صلى الله عليه وسلم لا ينتقم لنفسه ولا يغضب لها، إلا أن تنتهك حرمات الله، فيغضب لله، وإذا غضب لم يقم لغضبه أحد، وكان أرجح الناس عقلا وأفضلهم، يكثر الذكر ويطيل الصمت، دائم البشر، وكان أصدق الناس وأوفاهم ذمة، وأوسعهم صدرا وأكرمهم عشيرة، وأحسنهم خلقا، وإذا انتهى إلي قوم جلس حيث ينتهى به المجلس، يؤلّف أصحابه ولا ينفّرهم، ويكرم كلّ كريم قوم ويولّيه عليهم، ويثنى على مكارم الأخلاق، فأثنى بذلك علي حاتم الطائى حين تعرفت إليه ابنته بأبيها، وذلك أنها سبيت في جمع من نساء قومها في غزوة هوازن، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد قامت إليه فقالت:«يا محمد مات الوالد وغاب الوافد، فلا تشمت بى أحياء العرب، فإني ابنة من كان يقرى الضيف ويفك العاني، ويطلق الأسير ويعطى السائل» فقال صلى الله عليه وسلم: من أبوك؟ فقالت: حاتم الطائي، قال:

«خلّوا عنها إن أباها كان يحب مكارم الأخلاق» فأثنى على أبيها مع كفره، وخلّى عن ابنته ومن معها لأجله، فهذه اثار صنائع المعروف مع الكفر والعصيان، فكيف مع الطاعة والإيمان!!؟.

قيل: إن ابنة حاتم الطائى دعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين منّ عليها بالخلاص من الأسر فقالت: «شكرتك يد افتقرت بعد غني، ولا ملكتك يد استغنت بعد فقر «1» ، وأصاب الله بمعروفك مواضعه، ولا جعل لك إلى لئيم حاجة، ولا سلبت نعمة عن كريم إلا وجعلت سببا لردّها» .

(1) لأن اليد التى افتقرت بعد غنى هى أليف الكرم، والاخرى والعياذ بالله أليف الفقر وضجيعه، أرضعها بلبانه.

ص: 423

ويقال إنها خاطبته بقولها:

خذ العفو وأمر بعرف كما

أمرت وأعرض عن الجاهلين

ولن في الكلام لجمع الأنام

فمستحسن من ذوي الجاه لين

وكان صلى الله عليه وسلم يولّى من الناس خيارهم، والذى يليه منهم خيارهم، وكان أفضلهم عنده أعمّهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة، وما انتهر خادما ولا قال له في شيء صنعه لم صنعته؟ ولا في شيء تركه لم تركته؟ بل يقول «لو قدّر يكون» ، ولا ضرب بيده أحدا إلا في الجهاد.

ولما قيل له ادع على الكفار، قال:«إنما بعثت رحمة، اللهمّ اهد قومى فإنهم لا يعلمون» .

وكان عنده القريب والبعيد، والقوى والضعيف في الحق سواء، ويؤلّف أصحابه ولا ينفّرهم، ولم يكن فحّاشا (من باب النسب «1» ) أى وليس بذى فحش أى لا يصدر عنه، وليس من باب المبالغة حتّى تكون منفية لإشعاره ببقاء أصل الفحش، وهو ظاهر البطلان، فهو من باب قوله تعالى: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] أى بذى ظلم، لا أن كثرة الظلم هى المنفية وأصل الظلم موجود؛ إذ هو مستحيل عليه تعالى. ولا لعّانا، ولا بخيلا، ولا جبانا، ولا سخّابا في الأسواق (بالسين المهملة والخاء المعجمة وهو لغة ربيعة) والسخب هو: رفع الصوت، أى لا كثيره ولا قليله، والمراد نفيه مطلقا. والمعنى وصفه صلى الله عليه وسلم بأنه ليس عنده رغبة فى الدنيا وتحصيلها، بحيث يصرف زمانه في تحصيلها بالجدّ في ذلك والإكثار منه في الأسواق، فلا ينافى أنه عليه الصلاة والسلام تجر لخديجة رضى الله عنها «2» فكيف يكون ذلك، وقد قال عليه الصلاة والسلام:«اتّقوا الله وأجملوا في طلب الدنيا فإنّ كلّا ميسر لما خلق له «3» » ولا يواجه أحدا بما يكره، يكرم أهل

(1) أى لا ينسب إلى الفحش، فقد قال صلى الله عليه وسلم:«إن الله لا يحب كل فاحش متفحش» .

(2)

هذا قبل (الرسالة) أما بعدها فمما أفاء الله عليه.

(3)

رواية ابن ماجه والطبراني والحاكم، والبيهقى ولفظها:«أجملوا في طلب الدنيا؛ فإن كلّا ميسر لما كتب له منها» . كذا في الفتح الكبير، وقوله صلى الله عليه وسلم:«كلّ ميسر لما خلق له» رواه أحمد وأبو داود والترمذي.

ص: 424

الفضل ويتألّف أهل الشرف، ويؤثر الداخل بوساده، وكان يخصف نعله ويرقع ثوبه، ويعود المرضى؛ حتى بعض الكفرة والمنافقين، ويشهد الجنائز، ويزور القبور، ويسلّم عليهم ويستغفر لهم، ولا يقام لغضبه إذا تعرّض للحق بشيء حتّى ينتصر له، ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها، ولا يترك أحدا يقوم بين يديه ولا أن يمشى خلفه، ويقول:«خلّوا ظهرى للملائكة» «1» يخدم من خدمه، وله عبيد وإماء، ولا يترفع عليهم في مأكل ولا ملبس، قال أنس:«خدمته نحوا من عشر سنين، فو الله ما صحبته في حضر ولا سفر ولا خدمة إلا كانت خدمته لى أكثر من خدمتى له، وما قال لى أف قط، ولا قال لشيء فعلت: لم فعلت كذا؟ ولا لشيء لم أفعله: لم لم تفعل كذا؟» ولا يجزى سيئة بمثلها، بل يعفو ويصفح، ويجود ويمنح، وكان يأكل ما وجد، ولا يتكلّف ما فقد، ويحبّ اللحم، ويعجبه الذراع، وسمّ فيه، والدّبّاء والعجوة والعسل والحلواء، وأحبّ الفاكهة إليه العنب والبطيخ، وكان أكثر طعامه التمر والماء، وإذا لم يجد صبر، ولا يأكل واحده، ويعاف الضبّ، والكلوتين «2» ، وأتي بلبن وعسل وقال:«أدمان في إناء؟ لا اكله ولا أحرّمه» ويأكل بثلاثة أصابع ويستعين بالرابع، ويتبع ما سقط من السفرة، ويقول من فعله غفر له، ويسمّى الله أولا ويحمده اخرا، ويأكل مقعيا لا متكّئا، ويقول:«اكل كما يأكل العبيد، وأجلس كما يجلس العبيد» ، وقوله كما يأكل العبيد:

أى كأكل العبد في هيئة التناول ومصاحبة الرضا بما حضر تواضعا لله، لا كما يأكل أهل الكبر، وأهل الشّره، فالمراد بالعبد هنا الإنسان المتذلل المتواضع لربه، كما قاله المناوي، وقوله: وأجلس أى في حالة الأكل كما يجلس العبد، أى لأن التخلق بالأخلاق العبدية أشرف الأوصاف، لا كما يجلس أهل الكبر وأهل الشره من الاتّكاء، وما أكل قطّ ذا رائحة كريهة لنزول الملك عليه بالوحى ومجالسته، يل ولغير الملك من نسائه والناس. ولا يجمع بين لبن وسمك، ولا لبن وحامض، ولا بين حارّين ولا باردين، ولا قابضين ومسهلين، ولا غليظين، ويدفع ضرر

(1) رواه ابن سعد، ولفظه:«امشوا أمامي: خلوا ظهرى للملائكة» .

(2)

ولم يحرّمهما «أما الضب فلأنه ليس مما يأكله قومه» وفي الأصل «الطحال» ولعله كان يعاف الطحال كذلك والتصحيح من «الشمائل» للترمذي، وأما الكلوتين فلمكانهما من البول.

ص: 425

البعض بالبعض، كتمر بزبد، وبطيخ أو قثاء برطب، وينقع التمر ويشربه للهضم، ولا ينام بعد الأكل. وكان يشرب اللبن حليبا وممزوجا، والماء في ثلاثة أنفاس، ويمصّ ولا يعبّ، ويقول:«الكباد من العبّ» (الكباد: وجع الكبد) ، ولا يتنفس في الإناء، وإذا شرب دفع الباقى لمن عن يمينه، وإن كان عن يساره أشرف أو أسنّ، قال للأيمن:«الشربة لك، فإن شئت اثرته» ويشرب قاعدا، وربما شرب قائما.

وكان يلبس الكتّان أو الصوف، أو القطن، وهو الغالب، قميصا أو رداء أو إزارا أو غيرهما، ويحب البيض والخضر، ولبس البردة والحبرة والجبّة والحلّة الحمراء، والقباء والساذج «1» والأسود والقز، والمعلّم أطرافه بسندس، وأحبّها إليه القميص، وروى أنه لبس السراويل، ولبس جبة خسروانية مفرجة عليها سجف من ديباج، والطيلسان في الحرّ، كاليوم الذى هاجر فيه. وله ثوبان للجمعة، وبرد أخضر للعيد، والعمامة السوداء والبيضاء، وهى الأكثر بغير قلنسوة، وبها، وبلا عمامة، ويجعل لها غالبا عذبة بين كتفيه «2» ولم تكن عمامته صلى الله عليه وسلم كبيرة تؤذي، ولا صغيرة لا تقي، ولم يتحرّر في طولها وعرضها، وما قال الطبرى من أن الطول سبعة في عرض ذراع، وأنها من صوف لم يثبت. وكان ثيابه فوق الكعبين، وربما جعلها النصف الساق، والكمّ إلى الرسغ، أو مع الأصابع، ويلبسها من ميامنه، وينزعها بالعكس، ويقول عند لبسه:«الحمد لله الذى كسانى ما أستر به عورتى وأتجمّل به» وإذا استجدّ ثوبا سمّاه، وقال:«اللهم لك الحمد كما كسوتنيه، أسألك خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له» ولبسه وأعطى الخلق «3» مسكينا. وله ملحفة مصبوغة بزعفران أو ورس.

وله خاتم فضة فصّه منه، ونقشه «محمد رسول الله» لكن على هذا الشكل:

محمد تحت، ثم رسول فوق، ثم لفظ الجلالة فوق ذلك، وهذه صفته:

(1) الملابس التي لا ألوان فيها.

(2)

لم تكن كما يفعلون اليوم، وإنما كانت كاسية ما بين المنكبين.

(3)

أى الثوب القديم.

ص: 426

والقراءة من أسفل السطر الثالث. ويتختم في خنصر يمينه ويساره، والأكثر الأوّل.

ويلبس النعال السبتية، والتاسومة، والخف.

وكان فرشه من أدم، حشوه من ليف، وطوله ذراعان وشيء، وعرضه ذراع ونحو شبر.

وروى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه دخل على النبى صلى الله عليه وسلم وهو على سرير وقد أثّر الشريط في جنبه، فبكى عمر رضى الله عنه، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك يا عمر؟ فقال: «ذكرت كسرى وقيصر وما كانا فيه من الدنيا، وأنت رسول ربّ العالمين وقد أثّر بجنبك الشريط! فقال النبى صلى الله عليه وسلم: أولئك قوم عجّلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، ونحن قوم أخرت لنا طيباتنا في الآخرة.

وكان صلى الله عليه وسلم له عباءة تفرش له حيثما تنقّل، تثنى طبقين. وربما نام على حصير، وعلى الأرض، وما عاب مضطجعا قط، وإن فرش له اضطجع عليه، وإلّا علي الأرض.

وكان يحب الطّيب، ويكره الريح الكريه، ويتطيّب بغالية ومسك، ويتبخّر بكافور وعود، ويكتحل بالإثمد في كل عين ثلاثا، ويأمر بالباه (يعنى النكاح والتزويج) وينهى عن التبتّل نهيا شديدا، وقال:«لا تبتّل في الإسلام» «1» ولا يحتقر فقيرا لفقره، ولا يهاب ملكا لملكه، ويعظّم النعمة وإن دقّت، ولا يذم منها شيئا، ويكرم ضيفه ويبسط له رداءه كرامة له، وكان يتوكأ على العصا، وقال:

«التوكؤ على العصا من أخلاق الأنبياء» ورعى الغنم، وقال:«ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم» وحكمة ذلك أن راعي الغنم- التى هي أضعف البهائم- يسكن في قلبه الرقة واللطف، فإذا انتقل من ذلك إلى رعاية الخلق كان قد هذّب «2» أوّلا.

وكان أشدّ حياء من العذراء في خدرها لا يثبت بصره في وجه أحد. وكان

(1)«نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن التبتل» رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وهو حديث متفق عليه من البخارى ومسلم عن سعد، وأحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه عن سمرة.

(2)

وأيضا في رعى الغنم: الصبر، والتؤدة، ومعالجة المريضة، ورد الشاردة، والحفاظ عليها من الذئب وغيره.

ص: 427

أحلم الناس وأشجعهم، وأسخاهم، لم يسأله أحد شيئا إلا أعطاه، ومن سأله حاجة لا يرده إلا بها أو بميسور حسن من القول، لا بمعسور خشن، فكان أجود بنى ادم على الإطلاق، يجود بجميع أنواع الجود، من بذل العلم، والمال، وبذل نفسه لله فى إظهار دينه، وهداية عباده، وإيصال النفع العميم بكل طريق من: إطعام جائعهم ووعظ جهّالهم، وقضاء حوائجهم، وتحمّل أثقالهم، فكان أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان إذا دخل رمضان أطلق كلّ أسير، وأعطى كلّ سائل، وإنما كان جوده يضاعف في شهر رمضان زيادة على جوده في غيره من الشهور؛ لأن جود ربه يتضاعف فيه، وقد جبل صلى الله عليه وسلم على حب ما يحبه الله، ولأنه كان يلتقى هو وجبريل عليه السلام في رمضان، وهو أفضل الملائكة وأكرمهم، ويدارسه الكتاب الذي أوتى إليه، وهو أشرف الكتب وأفضلها، وهو يحثّ علي الإحسان ومكارم الأخلاق. وفي مسلم قال:«ما سئل صلى الله عليه وسلم شيئا إلا أعطاه، فجاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطى عطاء من لا يخشى الفاقة» . وعن صفوان بن أمية قال: «لقد أعطانى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني، وإنه لمن أبغض الناس إليّ، فما برح يعطينى حتّى إنه لأحبّ الناس إليّ» . وفي مغازى الواقدي أنه صلى الله عليه وسلم أعطى صفوان واديا مملوا إبلا وغنما، فقال:«أشهد ما طابت بهذا إلا نفس نبي» ، ولذلك قالت له خديجة رضى الله عنها في أوّل بعثته حين رجع من غار حراء، بعد ما حصل من جبريل ما حصل، لما أمره بالقراءة:«والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرّحم، وتقرى الضيف، وتحمل الكلّ (أى الشئ الذى يحصل منه التعب لغيرك) ، وتكسب المعدوم (أى تعطيه له تبرعا منك) ، وتعين على نوائب الدهر (أى حوادثه) » .

وكان صلى الله عليه وسلم أكثر الناس تواضعا، يجيب من دعاه من غنيّ أو فقير أو حرّ أو عبد.

وكان عليه الصلاة والسلام في سفر، فأمر بإصلاح شاة «1» فقال رجل: يا رسول الله عليّ ذبحها، وقال اخر: وعليّ سلخها، وقال اخر: وعليّ طبخها، فقال

(1) أى ذبحه للطعام والأكل.

ص: 428

صلّى الله عليه وسلّم «وعليّ جمع الحطب» فقالوا: يا رسول الله نحن نكفيك ذلك، فقال:«قد علمت، ولكني أكره أن أتميز عليكم؛ فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزا بين أصحابه» ، وقام فجمع الحطب.

وكان أرحم الناس؛ يصغى الإناء للهرة «1» ، وما يرفعه حتّى تروى رحمة لها، وأعفّهم وأشدّهم إكراما لأصحابه، لا يمدّ رجليه بينهم، ويوسّع لهم إذا ضاق المكان، ولم تكن ركبتاه تتقدّمان جليسه، يبدأ من لقيه بالسلام، ويتجمّل لأصحابه، ويتفقدهم ويسأل عنهم، فمن مرض عاده، ومن غاب دعا له، ومن مات استرجع «2» فيه، وأتبعه الدعاء له.

وكان عليه الصلاة والسلام تنام عيناه ولا ينام قلبه انتظارا للوحي «3» ، وإذا نام نفخ ولا يغطّ.

وكان لا يأكل الصدقة، ويأكل الهدية، ويكافئ عليها، وأكل الخبز بالخل، وقال:«نعم الإدام الخل» . وكان من جالسه أو أقامه لحاجة صابره حتّى يكون الرجل هو المنصرف، وما جلس إليه أحد فقام حتّى يقوم الرجل، وما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما، إلا أن يكون فيه إثم أو قطيعة رحم «4» فيكون أبعد الناس منه، وكان يداعب أصحابه ولا يقول في مداعبته إلا حقّا «5» ، وكان يخفف الصلاة إذا سمع بكاء الصبى مما يعلم من شدّة وجد أمّ الصبى بولدها.

وباع واشترى بنقد ونسيئة، والأغلب بعد البعثة الشراء، وبعد الهجرة لم يحفظ البيع إلا في ثلاث صور، وأجّر واستأجر وهو الأغلب، واجر نفسه قبل النبوّة

(1) يميلها لتشرب.

(2)

قال: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون»

(3)

قلوب الأنبياء أكبر من قلوب العارفين، ولذلك لا تنام؛ لأنها علي صفة الملائكة، يسبّحون الله الليل والنهار، لا يفترون، وكذلك قلب النبى [لا ينام لأنه علي ذكر مستمر، والله تعالى أعلم]، والذى ينام: الغافل اللاهي.

(4)

فى الأصل «إلا أن يكون فيه قطيعة رحم» .

(5)

قال مرّة لأحد أصحابه: «يا ذا الأذنين» رواه أحمد، وأبو داود، والترمذى عن أنس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال له ذلك- يعنى يمازحه- وجاءه رجل يستحمله فقال: إنى حاملك على ولد ناقة، فقال: يا رسول الله ما أصنع بولد الناقة؟ فقال: وهل تلد الإبل إلا النوق؟!

ص: 429

للرعى والإتجار، وشارك ووكّل وتوكّل، ووهب ووهب له، واستعار وضمن عن الله ضمانا خاصّا وعامّا، وشفع وشفع إليه، وسابق وصارع، وطلّق والي، وضاف وأضاف، وداوى وتداوى بمفرد ومركّب، ورقى واسترقي، وحذّر من التخمة وكثرة الأكل، وكان يصوم حتّى يقال لا يفطر، وعكسه، وأكثر صيامه فى شعبان، وكان يقوم من الليل حتّى تتفطّر قدماه، فتقول له عائشة: أتتكلف هذا وقد غفر الله لك؟! فيقول: أفلا أكون عبدا شكورا! وكان أكثر دعائه: «يا مقلّب القلوب ثبّت قلبى على دينك» . وخرج من الدنيا ولم يملأ بطنه في يوم من طعامين، فكان إذا شبع من التمر لم يشبع من الشعير، وإذا شبع من الشعير لم يشبع من التمر، وربما شدّ علي بطنه حجرا من الجوع. وقد اتاه الله مفاتيح خزائن الأرض فأبى أن يقبلها، واختار الآخرة عليها، وهذا على وجه الاختيار لا على وجه الاضطرار لأجل أن تتأسى به أمته، ومما يدل علي ذلك قوله صلى الله عليه وسلم «عرض عليّ ربى ليجعل لى بطحاء مكة ذهبا، فقلت: يا ربّ أشبع يوما وأجوع يوما، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك» ، قصد صلى الله عليه وسلم أن يكون مشغولا بالله في طوري الشدة والرخاء، والنعمة والبلاء.

قال بعضهم: وحكمة ربط الحجر أن يسكن بعض ألم الجوع؛ لأن حرارة المعدة الغريزية ما دامت مشغولة بالطعام قلّت الحرارة به، فإذا قلّ اشتغلت برطوبات الجسم وجواهره، فيحصل التألم حينئذ، ويزداد ما لم يضمّ إلى المعدة الأحشاء والجلد، فإنّ نارها حينئذ تخمد بعض الخمود، فيقلّ الألم، فيفيد إنّ شدّ الحجر على قدر ألم الجوع، فكلما زيد زيد. اهـ.

وقال بعضهم: عادة أصحاب الرياضة «1» ، وكذا العرب وأهل المدينة إذا اشتد جوعهم وخليت بطونهم أن يربط كل واحد منهم حجرا على بطنه؛ لئلا تنزل أمعاؤه، فيشقّ عليه التحرك، فإذا ربط حجرا على بطنه يشتد بطنه وظهره فتسهل عليه الحركة، فكان صلى الله عليه وسلم أكثرهم رياضة، وكأن الله تعالى خلق فيه برودة تسكن الجوع وحرارته.

(1) يقصد بأصحاب الرياضة: الذين يدربون أنفسهم على الخلوات والذكر.

ص: 430

وقال بعضهم: يقال لمن يؤمر بالصبر: «اربط على قلبك حجرا» ، فكان صلى الله عليه وسلم يؤمر بالصبر ويأمر أمته بالصبر، حالا ومالا.

وفي كتاب السنن لسعيد بن منصور من حديث عبد الله بن عبد الرحمن بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم من أبغضنى وعصاني، فأكثر له المال والولد» .

اللهم من أحبنى وأطاعنى فارزقه الكفاف.

اللهم ارزق ال محمد الكفاف.

اللهمّ رزق يوم بيوم» .

ويناسبه ما أورده السلفى أن يهوديّا أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «ادع لي» فقال «اللهم أصحّ جسمه، وأكثر ماله، وأطل حياته» «1» .

وورد في الجامع الصغير: «إنّ الله إذا أحبّ عبدا جعل رزقه كفافا» اهـ. قال العزيزي: أي بقدر كفايته، لا يزيد عليها فيطغيه، ولا ينقص عنها فيؤذيه؛ فإن الغنى مبطرة والفقر مذلة.

وأما اقتناعه صلى الله عليه وسلم باليسير وسؤاله ربه أن يجعل رزقه قوتا، ففى حديث ابن عباس رضى الله عنهما:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت الليالى المتتابعة طاويا وأهله لا يجدون عشاء، فكان عامة خبزهم الشعير» .

وقد خيّره الله بين أن يكون نبيا ملكا وأن يكون نبيا عبدا، فقال: بل نبيا عبدا «ثلاثا» . فانظر إلى همته العلية كيف عرضت عليه خزائن الأرض فأعرض عنها وأباها، مع أنه صلى الله عليه وسلم لو أخذها لم ينفقها إلا في طاعة ربه، لكنه اختار العبودية المحضة، فيا لها من همّة شريفة رفيعة، ما أسناها، ونفس زكية كريمة ما أزكاها.

وقال البدر الزركشي: «لم يكن النبى صلى الله عليه وسلم فقيرا من المال قط، ولا حاله حال فقير» ، بل كان أغنى الناس، قد كفى أمر دنياه في نفسه وعياله. وكان يقول في

(1) لأن اليهود لا يحبون إلا ذلك، فدعا لهم بما يحبون: إن هم إلا كالأنعام.

ص: 431