المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الرابع فى ذكر أزواجه صلى الله عليه وسلم وقرابته ومواليه - نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز - جـ ١

[رفاعة الطهطاوى]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الناشر

- ‌[عملنا في هذا الكتاب]

- ‌مؤلفاته ومترجماته

- ‌الباب الأوّل فى مولده الشريف إلى بعثته صلى الله عليه وسلم

- ‌آباؤه:

- ‌طهارة نسبه صلى الله عليه وسلم:

- ‌ومن كلام عمه أبى طالب:

- ‌[مولده] :

- ‌[أسماؤه صلى الله عليه وسلم] :

- ‌[طهارة مولده وشرفه] :

- ‌[زواج أبيه بأمه] :

- ‌[تعبده صلى الله عليه وسلم قبل البعثة] :

- ‌[رضاعه] :

- ‌الفصل الثانى فى ذكر عمل مولده الشريف، وإشهاره كلّ سنة وفيما جرى في مولده وفيما بعده من الوقائع

- ‌[الاحتفال بالمولد] :

- ‌والبدعة من حيث هى منقسمة إلى خمسة أقسام:

- ‌واجب:

- ‌وحرام:

- ‌ومندوب إليه:

- ‌ومكروه:

- ‌ومباح:

- ‌الفصل الثالث فى زواجه بخديجة بنت خويلد رضى الله تعالى عنها وما رزقه الله من الذرية منها

- ‌[أولاده من خديجة] :

- ‌الباب الثانى فى مبعثه صلى الله عليه وسلم، ودعائه الناس إلى الدين الحق. وهجرة المسلمين* إلى الحبشة، وخروجه إلى الطائف

- ‌الفصل الأوّل فى رسالته صلى الله عليه وسلم على رأس الأربعين إلى كافة الناس بشيرا ونذيرا

- ‌كفالته عليّا:

- ‌[اشتداد الأذى عليه صلى الله عليه وسلم] :

- ‌الفصل الثانى فى الهجرتين إلى الحبشة

- ‌[مسألة الغرانيق وما سمّوه الايات الشيطانية] :

- ‌ وأما الهجرة الثانية:

- ‌الفصل الثالث فى خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف قبل هجرته إلى المدينة المشرّفة

- ‌الفصل الرابع في الإسراء به صلى الله عليه وسلم ليلا من المسجد الحرام وعروجه من المسجد الأقصي إلى السموات العلى

- ‌[مسألة رؤية الله] :

- ‌الباب الثالث فى هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وما ترتب على ذلك من المظاهر الإسلامية والظواهر التعليمية. وفيه فصول

- ‌الفصل الأوّل فى الأسباب الباعثة علي هذه الهجرة والتمهيد لها

- ‌الهجرة إلى المدينة:

- ‌[التامر على الرسول صلى الله عليه وسلم في دار الندوة] :

- ‌الفصل الثانى فى سيره مهاجرا إلى المدينة مع صاحبه: صدّيقه رضى الله تعالى عنه وهو ابتداء التاريخ الإسلامى

- ‌مبدأ التأريخ الإسلامى:

- ‌[مسألة: الرسول صلى الله عليه وسلم والشّعر]

- ‌هجرة بقايا المسلمين من مكة:

- ‌[فرق اليهود] :

- ‌الأولى: التوراة، وهى خمسة أسفار

- ‌المرتبة الثانية: أربعة أسفار: تدعى الأولي:

- ‌المرتبة الثالثة: أربعة أسفار تدعى: الأخيرة:

- ‌المرتبة الرابعة: تدعى: الكتب، وهى أحد عشر سفرا:

- ‌الفصل الثالث في ذكر الظواهر الحادثة بعد الهجرة إجمالا

- ‌الباب الرابع فى تفاصيل الظواهر التى حدثت بعد هجرته عليه الصلاة والسلام إلى وفاته صلى الله عليه وسلم، وفيه فصول

- ‌الفصل الأوّل فى ظواهر السنة الأولى من الهجرة وما فيها من الغزوات

- ‌[المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار]

- ‌الفصل الثانى في ظواهر السنة الثانية من الهجرة، وما فيها من الغزوات

- ‌[إسلام عمير بن وهب] :

- ‌الفصل الثالث في ظواهر السنة الثالثة من الهجرة وما فيها من الغزوات

- ‌الفصل الرابع في ظواهر السنة الرابعة من الهجرة وما فيها من الغزوات

- ‌غزوة بنى النضير:

- ‌الفصل الخامس فى ظواهر السنة الخامسة وما فيها من الغزوات

- ‌الفصل السادس في ظواهر السنة السادسة وما فيها من الغزوات

- ‌الفصل السابع في ظواهر السنة السابعة ما فيها من الغزوات

- ‌الفصل الثامن في ظواهر السنة الثامنة وما فيها من الغزوات

- ‌ وأما النساء الست اللاتى أهدر النبى صلى الله عليه وسلم دماءهن يوم الفتح

- ‌الفصل التاسع في ظواهر السنة التاسعة وما فيها من الغزوات

- ‌الفصل العاشر فيما وقع من وفود العرب عليه صلى الله عليه وسلم، وفي حجة الوداع

- ‌الباب الخامس في وفاته صلى الله عليه وسلم وذكر بعض أخلاقه وصفاته، ومعجزاته، وأزواجه. وأعمامه، وعماته، وأخواله، ومواليه وخدمه، وحشمه صلى الله عليه وسلم، وفيه فصول

- ‌الفصل الأوّل في ذكر وفاته صلى الله عليه وسلم وما يتعلق بذلك

- ‌الفصل الثانى فى ذكر بعض أخلاقه وصفاته صلى الله عليه وسلم

- ‌وخصائصه صلى الله عليه وسلم على أضرب:

- ‌الأوّل الواجبات:

- ‌الثانى

- ‌الثالث المباحات:

- ‌الرابع ما

- ‌الفصل الثالث في ذكر معجزاته

- ‌[كيفية نزول القران] :

- ‌الفصل الرابع فى ذكر أزواجه صلى الله عليه وسلم وقرابته ومواليه

- ‌جدول يضبط ما تفرّق من الغزوات التي سبق ذكرها تفصيلا

الفصل: ‌الفصل الرابع فى ذكر أزواجه صلى الله عليه وسلم وقرابته ومواليه

‌الفصل الرابع فى ذكر أزواجه صلى الله عليه وسلم وقرابته ومواليه

قد سلف تزوّجه صلى الله عليه وسلم من خديجة وعائشة وغيرهما، وموضوع هذا الفصل ذكر أزواجه أمّهات المؤمنين بالبيان، وعدّتهم خمس عشرة، دخل بإحدى عشر منهنّ، ولم يدخل بأربع، وتوفيت في حياته اثنتان، وقبض- عليه الصلاة والسلام عن تسع.

1-

وتزوّج النبى صلى الله عليه وسلم السيدة خديجة بنت خويلد ولها أربعون سنة، وكانت مسمّاة لورقة بن نوفل، فاثر الله عز وجل بها نبيّه صلى الله عليه وسلم، وأقامت معه صلى الله عليه وسلم بعد الزواج أربعا وعشرين سنة وخمسة أشهر وثمانية أيام؛ خمس عشرة سنة قبل الوحى والباقية بعده، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبرها، ولم تكن سنّت الصلاة على الجنائز يومئذ، وغسلتها أمّ أيمن وأم الفضل، ودفنت بالحجون، عن نحو خمس وستين سنة. وهي سيدة النساء وأسبقهنّ نكاحا وإسلاما، ولا خلاف في أن أوّل أزواجه صلى الله عليه وسلم خديجة، وكان تزوّجها وهو ابن خمس وعشرين سنة.

قال في المواهب: وخرّج الإمام أحمد عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم ابنة عمران، واسية امرأة فرعون» «1» .

وصحّح ابن العماد تفضيل خديجة لما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة حين قالت له:

«قد رزقك الله خيرا منها» : «لا والله ما رزقنى خيرا منها؛ امنت بى حين كذّبنى الناس، وأعطتنى مالها حين حرمنى الناس، ورزقت منها الولد وحرمته من غيرها» .

وسئل ابن داود: أيتهما أفضل؟ فقال: عائشة أقرأها النبيّ صلى الله عليه وسلم السلام من جبريل، وخديجة أقرأها جبريل من ربها السلام علي لسان محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهى

(1) رواه الطبراني والحاكم، وهو حديث متواتر.

ص: 455

أفضل. قيل له: فمن أفضل: خديجة أم فاطمة؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

«فاطمة بضعة مني» ، فلا أعدل ببضعته أحدا» »

ويشهد له قوله صلى الله عليه وسلم: «أما ترضين أن تكونى سيدة نساء أهل الجنة؟!» «2» .

واحتجّ من فضّل عائشة بأنها في الآخرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدرجة، وفاطمة مع عليّ فيها.

وقال شيخ الإسلام في شرح البهجة: «الذى أختاره أنّ الأفضلية محمولة علي أحوال؛ فعائشة أفضل من حيث العلم، وخديجة من حيث تقدمها، وإعانتها له صلى الله عليه وسلم في المهمات، وفاطمة من حيث البضعة والقرابة، ومريم من حيث الاختلاف في نبوتها، وذكرها في القران مع الأنبياء، واسية من حيث الاختلاف في نبوتها، وإن لم تذكر مع الأنبياء أ. هـ.

وسئل السبكى عن ذلك، قال: الذى نختاره وندين الله به أن فاطمة أفضل، ثم أمها خديجة، ثم عائشة، وأما خبر الطبراني «3» «خير نساء العالمين مريم ابنة عمران، ثم خديجة بنت خويلد، ثم فاطمة بنت محمد، ثم اسية امرأة فرعون» ، فأجاب عنه ابن العماد بأن خديجة إنما فضلت فاطمة باعتبار الأمومة، لا باعتبار السيادة، واختار السبكى أن مريم أفضل من خديجة لهذا الخبر، وللاختلاف في نبوتها.

ووقع الاختلاف في نبوّة أربع نسوة: مريم، واسية، وسارة، وهاجر، وزاد العلّامّة المتقن السراج بن الملقن في شرحه لعمدة الأحكام: حوّاء، وأم موسى عليهما السلام. وسيأتى ما يرد علي التفضيل بالحيثيات.

ومما يناسب ذكره هنا أنه وجد في بعض الرسائل ما نصّه: فى ليلة السابع

(1) وقد قال أحد العلماء: «إن خديجة أفضل من ناحية أنها أم لها، أفضل من بنتها قطعا، وفاطمة أفضل من ناحية أنها بضعة منه صلى الله عليه وسلم» ، وعلى كل حال فمسألة التفضيل أمرها إلي الله، وليس لنا أن نخوض في ذلك.

(2)

انظر مناقب السيدة فاطمة في كتب الحديث والسير.

(3)

والإمام أحمد.

ص: 456

والعشرين من شهر رجب الفرد من سنة اثنتين وتسعين وتسعمائة، قرأ شيخ الإسلام قطب الأنام، من خضعت له رقاب الفضلاء، وارتضع من ثدى معارفه النبلاء، العارف بالله تعالى الشيخ محمد الصدّيقي: المعراج الشريف، وأبدع فيما قرأ، وقدّم للحاضرين أحسن قرا، ووقع أن سأله إنسان: هل الأفضل إبراهيم ابن نبينا وأخته، أو أبو بكر الصدّيق؟ فأجاب بأنّ أبا بكر أفضل، وجرى بينه وبين السائل كلام لا ينبغى ذكره، فكتب بعض الأفاضل سؤالا ورفعه إلي العلماء من أهل العصر، فكتب شيخ الإسلام أحمد بن قاسم الجواب عنه. وصورة السؤال:

«الحمد لله» : ما تقول ساداتنا وموالينا الأئمة الأعلام، علماء السنّة وعقائد الإسلام، من أعقم الله عن الإتيان بمثلهم الليالى والأيام، حفظهم الله على كافة الأنام، ونصر بهم شريعة نبيه، وأخمد بهم عقائد أهل الشيع والبدع إلى يوم السلام، بجاه سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله عليه أفضل الصلاة وأشرف السلام، امين.

هل أحد من أولاد أبينا ادم صلى الله عليه وسلم غير النبيين والمرسلين من أهل البيت، ومن أولاد النبى صلى الله عليه وسلم أو من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، أفضل من سيدنا عبد الله أبي بكر الصديق رضي الله عنه أو لا؟ وإذا قلتم لا، فهل قول الحافظ جلال الدين السيوطى فى «خصائصه الصغري» : «وذكر الإمام علم الدين العراقى أن فاطمة وأخاها إبراهيم أفضل من الخلفاء الأربعة باتفاق صحيح بجواز اعتقاد والإفتاء به أو لا؟

وإذا قلتم لا، فهل إفتاء بعض الموجودين بأنه لا يجوز أن يقال: إن أبا بكر الصديق رضى الله عنه أفضل من سيدنا إبراهيم، وأخته فاطمة، ولدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيب فيه أو لا؟ وما هو مذهب أهل السنة؟ ابسطوا لنا الجواب، أحسن الله لكم الثواب؛ فإن غالب الناس خصوصا بعض العوام اعتقدوا أن ما أفتى به هذا البعض هو الصحيح، وأنتم العلماء الراسخون ذووا الترجيح فلا تكلونا إلي التلويح.

وصورة الجواب:

الحمد لله الهادى للصواب، وصلّى الله على سيدنا محمد واله وصحبه أجمعين امين.

ص: 457

الحقّ- إن شاء الله تعالى-، وهو الذى دّلت عليه نصوص الشرع، ونصوص أئمة الشرع، أنّ مولانا الصدّيق أفضل من عدا الأنبياء من الناس من غير استثناء أحد بعد ذلك مطلقا، وهذا هو الذى نعتقده وندين الله به، ولم نعلم أحدا من العلماء الذين أخذنا عنهم حكى خلاف ذلك، ولولا خوف الإطالة التي لا يحتملها المقام نقلنا نصوص الشرع ونصوص أئمته، وبيّناها بما يندفع به توهّم القاصرين واغترار المغرورين.

وأما ما ذكر عن الجلال السيوطى نقلا عن العلم العراقي فلا يجوز التعويل عليه، ولا العمل به عند من ألهم رشده، وكان له إلمام بكلام الأئمة وتصرفاتهم، فإنه مجرّد دعوى مخالفة لنصوص الشرع وأئمته من غير سند يعتدّ به، وليست دعوى الاتفاق بالأمر الهيّن، ولا كل من ادّعاه يقبل منه ذلك، وكم دعاوى للاتفاق، بل وللإجماع مردودة لا يلتفت إليها كما لا يخفى علي ممارس العلوم، ويكفي في رد هذه الدعوى أنهم حكوا في التفضيل بين عائشة وفاطمة رضي الله عنهما ثلاثة أقوال: تفضيل عائشة، تفضيل فاطمة، التوقف. وممن حكى هذا الخلاف العلامة الإمام عز الدين بن جماعة، فقال: اختلف في التفضيل بين عائشة وفاطمة علي مذاهب ثالثها- وهو الأسلم- التوقف أ. هـ.

ومعلوم انحطاط رتبة عائشة عن الصدّيق رضى الله عنهما؛ فإذا جرى قول بتفضيل عائشة على فاطمة رضي الله عنهما، وقول اخر بالتوقف بينهما، فكيف يصح دعوى الاتفاق على تفضيل فاطمة رضي الله عنها على الخلفاء الأربعة الذين منهم وأفضلهم الصديق رضي الله عنه؟! ودعوى الخلاف مقدّمة علي دعوى الاتفاق؛ لأن الأوّل من قبيل الإثبات، والثانى من قبيل النفي، والإثبات مقدّم علي النفى لأن معه زيادة علم كما تقرّر ذلك في الأصول، وبهذا ثبت ردّ دعوى الاتفاق بالنسبة لفاطمة رضي الله عنها، فليثبت في ردّه بالنسبة للباقي، إذ لا قائل منّا ومن هذا المدّعى لذلك الاتفاق بالفضل، بل مجرد النظر إلى ردّه بالنسبة لفاطمة رضي الله عنها قرينة قوية تقرب من الصريح إن لم تكن منه، علي اختلال تلك الدعوى وعدم تحرّى صاحبها وعدم احتياطه في نقله.

ومما يعارضها أشد المعارضة إن لم يكن مصرّحا بردّها قول العلّامة محمد

ص: 458

ابن أبى بكر الرازي في شرح «يقول العبد» : واعلم أنه تعالى قد فضّل محمدا علي جميع الأنبياء، ثم بعده أفضل هذه الأمة وأرجحهم من جميع الصحابة والال: أبو بكر الصديق رضى الله عنه.

ثم قال: ومن قال إن أحدا أفضل من أبى بكر كان معتزليا ورافضيا، ثم قال أيضا: واعلم أنّ بعد أبى بكر وعمر وعثمان لم يكن أحد في أمة محمد ولا في أصحابه وأهل بيته أفضل من عليّ رضي الله عنه أ. هـ.

فتأمل قوله «فى أمة محمد ولا في أصحابه وأهل بيته» فإنه بمنزلة الصريح إن لم يكن صريحا في تفضيل علي رضى الله عنه علي جميع من عدا الثلاثة من أهل البيت وغيرهم من غير استثناء أحد منهم، وإذا كان هذا في عليّ رضى الله عنه، فكيف بمن هو أفضل منه كالصدّيق رضي الله عنه، ولما استدل الكمال بن الهمام علي تقديم علي رضي الله عنه بعد الثلاثة بقوله ما نصه:

«ولما أجمعوا (أى الصحابة) علي تقديم عليّ بعدهم، دلّ على أنه كان أفضل من بحضرته؛ فكان منهم الزبير وطلحة، فثبت أنه كان أفضل الخلق بعد الثلاثة» .

بحث معه في هذا الاستدلال تلميذه العلّامة الكمال بن أبى شريف، فقال: لا يلزم من كونه أفضل الخلق بعد الثلاثة ممن بحضرته، ومن غاب عنه أو تقدمت وفاته علي الإجماع المذكور كأبى عبيدة بن الجراح، وحمزة والعباس، وفاطمة، نعم إذا ضم إلى ذلك الإجماع علي أنه أفضل ممن عدا الثلاثة من الخلق ثبت ذلك، وثبتت أفضليته عليهم بأدلة السمع أ. هـ.

فانظر قول هذا العلامة المتأخر الواسع الاطلاع «نعم إذا ضمّ إلى ذلك الإجماع إلى اخره» مع التمثيل قبله بفاطمة رضي الله عنها تجده جازما بتفضيل علي- رضى الله عنه- على فاطمة رضي الله عنها، فكيف بمن هو أفضل من عليّ بمراتب، وهو الصديق رضى الله عنه؟! وهذا مما يردّ دعوى الاتفاق بالنسبة لفاطمة رضي الله عنها، ويقتضى ردّه مطلقا بالطريق الذى قدّمناه.

وأما إفتاء بعض الموجودين المشار إليه، فقد علم حاله وحالنا فيه، مما قررنا.

والرأي: الضرب عنه صفحا؛ فإنه لا أثر له، لا سيما ولم نعلم أن أحدا من

ص: 459

أهل الإفتاء أفتى بخلاف ما قلناه، ومنصب الإفتاء قد انحطت رتبته وتسوّره كل من أراد، بل تجرأ عوام الطلبة عى التكلم فيما شاؤا بما شاؤا «1» وعلى إساءة الأدب في حق علماء الدين وسادات العارفين، لتغافل العلماء من أولى الأمر عن أحوالهم وتشاغلهم عن البحث عن أوصافهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.

وأما قول السائل: فإن غالب الناس- خصوصا العوام- إلي اخره فهو عجيب، فإنه يدل على أن غير العوام اعتقد ذلك أيضا، مع أنه لا يعتقد ذلك من عنده أدنى معرفة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، والله تعالى أعلم.

(قال ذلك وكتبه الفقير أحمد بن قاسم العبّادي، غفر الله ذنوبه، وستر عيوبه، وفعل ذلك بوالديه ومشايخه امين، وصلواته على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين) .

قال العزيزى في شرح الجامع الصغير في حديث: «أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران، واسية بنت مزاحم امرأة فرعون» ما نصه: قال العلمي: «وأفضلهن فاطمة، بل هى وأخوها إبراهيم أفضل من سائر الصحابة، حتى الخلفاء الأربعة» أ. هـ.

وقال الرمليّ: «أفضل نساء العالم مريم بنت عمران، ثم فاطمة بنت النبى صلي الله عليه وسلّم، ثم خديجة، ثم عائشة» . رواه الإمام أحمد والطبراني عن ابن عباس. ا. هـ

وقد تقدّم في جواب البكرى وابن قاسم العبادى ما يخالف ذلك، وأنّ الصدّيق أفضل الناس بعد الأنبياء، على أن العزيزى قال في حديث:«إن الله اتخذنى خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، وإنّ خليلى أبو بكر» هو أفضل الناس عى الإطلاق بعد الأنبياء أ. هـ.

(1) هذا في وقته هو، فكيف به في وقتنا الذى انطلقت فيه الألسنة بدعوى الاجتهاد، وأوقعوا المسلمين في الحرج.

ص: 460

وقول ابن قاسم فيما تقدم: «ويكفى في رد هذه الدعوي» إلى اخره، قال شيخ الإسلام في شرح البهجة: «الذى أختاره أنّ الأفضلية محمولة على أحوال؛ فعائشة أفضل من حيث العلم، وخديجة أفضل من حيث تقدمها، وإعانتها له صلى الله عليه وسلم فى المهمات، وفاطمة من حيث البضعة والقرابة، ومريم من حيث الاختلاف في نبوّتها، وذكرها في القران مع الأنبياء، واسية من حيث الاختلاف في نبوتها، وإن لم تذكر مع الأنبياء أ. هـ.

وأقول: إن صحّ التفضيل بالحيثية رجع الخلاف لفظيا ودفع التعارض في الأقوال، إلا أنه لا يمكن أخذه بالقبول على عمومه في جميع الحيثيات؛ لأنه فتح باب يعيي سدّه، فلو سلم قبوله في حق السيدة فاطمة وأخيها، فلا يقبل في حق الإمام على كرم الله وجهه بالنسبة إلى أبى بكر رضى الله عنه، نظرا إلي حيثية القرابة القريبة أو الصهارة، على أنه يلزم من ذلك اعتبار الحيثية في حق السيدة رقية وأم كلثوم، زوجتي عثمان بن عفان رضى الله عنه، كما يلزم أن الشخص الواحد يكون فاضلا من جهة ومفضولا من أخرى، فيرجع إلى التساوي، مع أنّ مطمح النظر الأفضلية واعتقادها. وأما المحبة لمثل على رضي الله عنه لحيثية النسب من ذريته، على اختلاف طبقاتهم، فشىء اخر إذا كان معها حب أبى بكر رضي الله تعالى عنه وبقية الصحابة، ولذلك قال على كرم الله وجهه «لا يجتمع حبّى وبغض أبى بكر وعمر» لأنهما ضدّان، وهما لا يجتمعان؛ فالمحبة المعتبرة الممدوحة هى ما كانت مع اتباع سنّة المحبوب؛ إذ محبته من غير اتباع سنته- كما عليه الشيعة والرافضة من محبتهم مع مجانبتهم للسنّة-، لا تفيد مدّعيها شيئا من الخير؛ لأنها ليست محبة حقيقية، بل هى خالية عن التأدب باداب المحبوب، فأتباع عليّ الحقيقيون هم أهل السنة، لا الشيعة، وعليه الحديث الذى أخرجه الدار قطنى مرفوعا:«يا أبا الحسن أما أنت وشيعتك (أى حزبك المولعون بحبك أكثر من غيرك) في الجنة، وإن قوما يزعمون أنهم يحبونهم يصغّرون الإسلام ويلفظونه ويمرقون منه كما يمرق السهم من الرميّة، لهم نبز يقال لها الرافضة، فإذا أدركتهم فقاتلهم؛ فإنهم مشركون» قال الدارقطني: ولهذا الحديث عندنا طرق كثيرة.

ص: 461

2-

ثم تزوج صلى الله عليه وسلم بعد موت خديجة سودة بنت زمعة بنت قيس بن عبد شمس بن عبدودّ بمكة قبل الهجرة، وكبرت عند النبى صلى الله عليه وسلم، فأراد فراقها، فوهبت نوبتها من النبى عائشة، وقالت: لا رغبة لي في الرجال، وإنما أريد أن أحشر مع أزواجك، فأمسكها. وكان يقسم لبقية أزواجه ويقسم نوبتها لعائشة، وتوفيت بعده في شوال سنة أربع وخمسين بالمدينة.

والقسم في حقه صلى الله عليه وسلم غير واجب، وإنما هو من باب العدل والإنصاف.

3-

ثم تزوج صلى الله عليه وسلم عائشة بنت أبى بكر الصديق رضي الله عنه بمكة، قبل الهجرة بسنتين، وقيل بثلاث، وهى بنت ست أو سبع، وقالت: تزوجنى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنى لألعب مع الجوارى والبنات، فما شعرت بذلك حتّى حبستنى أمى عن الخروج، فوقع في نفسى أنى قد زوّجت، وما سألتها حتي أخبرتنى ابتداء. وبنى بها صلى الله عليه وسلم في المدينة، وهى بنت تسع، ومات عنها وهى بنت ثمانى عشرة. وتوفيت سنة ثمان وخمسين، وقيل غير ذلك، وصلّى عليها أبو هريرة، ودفنت بالبقيع، ونزل في حفرتها عبد الله بن الزبير، وهو ابن أختها أسماء بنت أبى بكر. ولم يتزوج صلى الله عليه وسلم بكرا غيرها. وروى عن حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن عروة عن عائشة أنها أنشدت بيت لبيد:

ذهب الذين يعاش في أكنافهم

وبقيت في خلف كجلد الأجرب

فقالت: رحم الله لبيدا فكيف لو رأى هذا الزمان! وقال عروة: وأنا أقول؛ رحم الله أم المؤمنين، فكيف لو رأت هذا الزمان! وقال هشام: رحم الله عروة فكيف لو رأى هذا الزمان! وقال حماد: رحمهم الله فكيف لو رأوا زماننا! «1» .

4-

ثم تزوج صلى الله عليه وسلم حفصة، زوّجه إياها أبوها عمر بن الخطاب رضى الله عنه في شعبان، علي رأس ثلاثين شهرا من مهاجره صلى الله عليه وسلم، بعد وفاة زوجها خنيس ابن حذافة بن قيس السهميّ، وكان صحابيا بدريا توفى بالمدينة من جراحة أصابته ببدر، وقيل بأحد، وتوفيت في شعبان سنة خمس وأربعين

(1) ونحن نقول: رضى الله عنهم: كيف لو رأوا زماننا هذا؟

ص: 462

بالمدينة، وقد بلغت ستين سنة. وروى أن النبى صلى الله عليه وسلم طلّقها فأتاه جبريل، فقال: إن الله يأمرك أن تراجع حفصة فإنها صوّامة قوّامة، وروى أنه لما بلغ عمر طلاقها حثا على رأسه التراب، وقال:«ما يعبأ الله بعمر وابنته بعد هذا» . فنزل جبريل من الغد وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يأمرك أن تراجع حفصة رحمة لعمر.

5-

ثم تزوج صلى الله عليه وسلم أمّ حبيبة رملة بنت أبى سفيان، وكانت قبله تحت عبد الله بن جحش، فولدت له جارية سميت حبيبة، فكنيت بها، وهاجرت معه إلى أرض الحبشة، وأصدقها عنه النجاشى أربعمائة دينار، وروى أربعة الاف، وبعث بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع شرحبيل بن حسنة، وهو الذى تولى نكاحها وكتب بذلك إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبل. وروى عن أم حبيبة أنها رأت في المنام كأن زوجها عبد الله بن جحش بأسوأ حال، وأرثّها، فلما أصبحت أعلمها أنه قد تنصّر وارتد، فثبتت علي الإسلام، وأكبّ على الخمر، فلم يزل يشربها حتي مات، ورأت في المنام أباها يقول لها:«يا أم المؤمنين» . ولما بلغ أبا سفيان تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة ابنته، قال «ذلك الفحل لا يقدع أنفه» . وعن ابن عباس في قول الله تعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً (7)[الممتحنة: 7]، قال: نزلت حين تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمّ حبيبة بنت أبى سفيان، وقيل إن الذى ولى نكاحها عثمان بن عفان، وقيل خالد بن سعد بن العاص، وتوفيت سنة أربع وأربعين، وهى السنة التى حجّ فيها معاوية، وصلّى عليها مروان.

6-

ثم تزوج صلى الله عليه وسلم أمّ سلمة، واسمها هند بنت أبى أمية، واسمه حذيفة، ويقال سهل ابن المغيرة، القرشية المخزومية، وأخت عمار بن ياسر لأمه، وقيل من الرضاع، تزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد انقضاء عدّتها أربعة أشهر وعشرا، وأعرس بها في شوال سنة أربع من الهجرة، روت عن النبى صلى الله عليه وسلم وعن أبى سلمة بن عبد الأسد، وفاطمة الزهراء، وروى عنها ابن عباس، وأسامة بن زيد، وخلق. ماتت في شوال سنة تسع وخمسين، ويقال ماتت سنة اثنتين وستين، وعمرها أربع وثمانون سنة، وهى اخر أزواج النبى صلى الله عليه وسلم موتا، وقيل:

ص: 463

ميمونة اخرهن موتا، وكانت قبله تحت أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد، فولدت له سلمة، وعمر، ودرّة، وكانت أم سلمة هاجرت مع زوجها أبى سلمة إلى أرض الحبشة، ورمى يوم أحد بسهم فمات منه في جمادى الآخرة سنة أربع، وكان ابنها عمر مع علي بن أبى طالب يوم الجمل، وولّاه البحرين، وله عقب بالمدينة.

7-

ثم تزوج صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش بن رباب بن يعمر بن صبرة بن مرة، وهى ابنة عمته «أميمة» بالتصغير بنت عبد المطلب، وكانت قبله صلى الله عليه وسلم عند مولاه زيد ابن حارثة الكلبي، مولى النبى صلى الله عليه وسلم، فشكاها إليه، وقال: إنها سيئة الخلق، واستأمره في طلاقها، فقال له صلى الله عليه وسلم:«أمسك عليك زوجك يا زيد» ، وهو قول الله عز وجل: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ (بالإسلام) وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ (بالعتق) أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ (37)[الأحزاب: 37] ، وكان صلى الله عليه وسلم راها فأعجبته، فقال: سبحان الله مقلّب القلوب، ثم إن زيدا ضاق ذرعا بما رأى من سوء خلقها فطلّقها، فزوّجها الله عز وجل من السماء نبيّه صلى الله عليه وسلم سنة ثلاث، حين انقضت عدّتها بغير مهر، ولا تولّى أمرها أحد كسائر أزواجه.

ولم تلد زينب لزيد، ولما بشّرت زينب بتزويج الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم إياها، ونزول الاية في ذلك جعلت على نفسها صوم شهرين شكرا لله عز وجل، وأعطت من بشّرها حليا كان عليها. وقيل: تزوجها سنة أربع، وقيل خمس من الهجرة بالمدينة، وهى بنت خمس وثلاثين سنة، وصنعت له أم سلمة حيسا، ولم يعقد له صلى الله عليه وسلم بها غير الله، وهي التى قال الله تعالى فيها: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها وأولم عليها، وأطعم المساكين خبزا ولحما، وفيها نزلت اية الحجاب، وكانت كثيرة الصدقة، وصحّ أنها كانت تقول لأزواج النبى صلى الله عليه وسلم «زوّجكن اباؤكن وزوّجنى الله من فوق سبع سموات» .

وتوفيت في خلافة عمر رضى الله عنه بالمدينة، سنة عشرين، وقيل عاشت ثلاثا وخمسين، ودفنت بالبقيع، وهى أوّل من مات من أزواجه بعده، وأوّل من حمل علي نعش، وروى عن عائشة أنها قالت: «يرحم الله زينب لقد نالت الشرف الذى لا يبلغه شرف في الدنيا، إن الله عز وجل

ص: 464

زوّجها نبيه صلى الله عليه وسلم، ونطق بذلك كتابه، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ونحن حوله:

«أسرعكن لحوقا بى أطو لكن يدا» فبشّرها بسرعة لحاقها به، وأنها زوجته في الجنة.

وعن الشعبى أنّ رسول الله قال لنسائه: «أطو لكن يدا أسرعكن بى لحاقا» فكانت سودة أطولهن يدا، فلما توفيت زينب قلن: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت أطولنا يدا في الخير.

8-

ثم تزوّج صلى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث بن أبى ضرار بن خبيب بن عايذ- بالياء والذال- ابن مالك بن جذيمة بالجيم والذال المعجمة، وجذيمة هو المصطلق من خزاعة. سبيت في غزوة المريسيع، وهى غزوة بنى المصطلق، فوقعت فى سهم ثابت بن قيس بن شماس، فكاتبها علي تسع أواق، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه في كتابتها، وكانت امرأة ذات ملاحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«أو خير من ذلك، أؤدى عنك كتابتك وأتزوجك؟» فقبلت، فقضى عنها النبى صلى الله عليه وسلم كتابتها ثم أعتقها وتزوّجها في سنة ست من الهجرة، وأعتق أربعين من أهل بيتها، ولم تبق مصطلقية عند رجل من المسلمين إلا أعتقها صاحبها، فكانت أعظم امرأة بركة على قومها، وكان اسمها «برّة» فغيّره النبيّ صلى الله عليه وسلم وسمّاها «جويرية» لما في برة من تزكية النفس وقد قال تعالى:

فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ (32)[النجم: 32] ، وتوفيت بعده بالمدينة سنة ست وخمسين، وصلّي عليها مروان بن الحكم، وهو أمير المدينة، وقد بلغت سبعين سنة.

9-

ثم تزوّج صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم صفية بنت حييّ بن أخطب بن سعيه (بفتح السين المهملة وسكون العين المهملة) ينتهى نسب أبيها إلي النّضر (بفتح النون وكسر الضاد المعجمة) من بنى إسرائيل، ومن نسل هارون بن عمران أخي موسي بن عمران، ولدها مائة نبى، ومائة ملك حتّى صارت إليه صلى الله عليه وسلم، لما قدم خيبر.

وكانت عروسا لكنانة بن أبى الحقيق اليهودي، فرأت أنّ القمر وقع في حجرها، وقيل: رأت الشمس وقعت على صدرها، وقصّتها علي أبيها أو زوجها فلطمها، وقال: أتريدين ملك يثرب؟! وفي رواية: «ما تمنين إلا هذا الملك الذى نزل» . فافتتح صلى الله عليه وسلم خيبر وجمع السبي، فقال دحية: يا رسول الله

ص: 465

أعطنى جارية من السبي، فأخذت، فذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطاه سبعة أرؤس مكانها، وأخذها صلى الله عليه وسلم فأعتقها، وجعل عتقها صداقها، وهو مذهب الإمام أحمد، وهو من مفردات مذهبه، وقد سبق ذلك في الفصل السادس من الباب الرابع من المقالة الخامسة من الجزء الثاني. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفعها إلى أم سليم تهيّئها، فلما ارتحل صلى الله عليه وسلم بنى بها بعد أن حاضت حيضة، ولما دخل صلى الله عليه وسلم بها بات أبو أيوب الأنصارى خالد بن زيد علي باب الستارة أو بقربها شاهرا سيفه، فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم راه، فقال: يا أبا أيوب مالك شهرت سيفك؟ فقال: إنها جارية حديثة عهد، وكنت قتلت أباها وزوجها فلم امنها. فضحك، وقال له خيرا. ثم صنع صلى الله عليه وسلم حيسا في نطع صغير، وقال الناس: لا ندرى أتزوّجها أم اتخذها أمّ ولد؟ فلما أراد أن يركب حجبها، فقعدت علي عجز البعير، فعرفوا أنه تزوجها. وقتل كنانة يوم خيبر، وكان له من كل مغنم صفى يصطفي: عبد أو أمة أو سيف أو غير ذلك قبل الخمس، وتوفيت سنة خمسين، وصلّى عليها سعيد بن العاص رضي الله عنه، وقيل: إنها اخر أمهات المؤمنين موتا.

10-

ثم تزوج صلى الله عليه وسلم بميمونة بنت الحارث بن حزن (بفتح الحاء المهملة وسكون الزاى وبالنون) بن بجير (بضم الباء المواحدة وفتح الجيم وسكون الياء) بن الهزم (بضم الهاء وفتح الزاي) وهي التى وهبت نفسها للنبى صلى الله عليه وسلم، وقيل الواهبة نفسها خولة بنت حكيم، ويجوز أن تكون وهبتا أنفسهما، فلا تضاد. وكانت قبله تحت أبى رهم بن عبد العزّي، وتوفّى عنها وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة سبع، وماتت سنة ثمان وثلاثين، وقيل غير ذلك، قال الشعبي: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة حين خرج لعمرة القضاء ثلاثة أيام، فبعث إليه حويطب بن عبد العزّي:«إنّ أجلك قد مضى وانقضى الشرط، فاخرج من بلدنا» فقال له سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: كذبت؛ البلد بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم وابائه، فقال صلى الله عليه وسلم: مهلا يا سعيد، فقال حويطب: أقسمت عليك لما خرجت. فخرج وخلف أبا رافع، وقال: ألحقنى بميمونة. فحملها على قلوص، فجعل أهل مكة ينفرون بها، ويقولون: لا بارك

ص: 466

الله لك. فوافي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرف، وكان دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرف، وهى علي أميال من مكة. وهى اخر امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، واخر من توفي من أزواجه صلى الله عليه وسلم ورضى عنهن، وصلّى عليها عبد الله بن عباس، ونزل في قبرها.

وهؤلاء التسعة من سودة إلي ميمونة اللاتى توفى صلى الله عليه وسلم وهنّ في عصمته، خمس منهن من قريش: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة (رملة بنت أبى سفيان) وسودة بنت زمعة، وأم سلمة، واسمها هند، وثلاث من العرب غير قريش:

ميمونة بنت الحارث، وزينب بنت جحش، وجويرية بنت الحارث، ومن غير العرب: صفية بنت حييّ، وإليهن أشار الحافظ أبو الحسن بن الفضل المقدسى بقوله:

توفى رسول الله عن تسع نسوة

إليهنّ تعزي المكرمات وتنسب

فعائشة، ميمونة، وصفية

وحفصة، تتلوهن هند وزينب

جويرية مع رملة، ثم سودة

ثلاث وست: ذكرهن مهذّب

ثم تزوج صلى الله عليه وسلم زينب بنت خزيمة كانت تسمي في الجاهلية أم المساكين؛ لإطعامها إياهم. وكان زواجها سنة ثلاث من الهجرة، وكانت تحت عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف، فقتل يوم بدر شهيدا، فتزوجها النبى صلى الله عليه وسلم، فلم تلبث إلا يسيرا شهرين أو ثلاثة، وتوفيت ودفنت بالبقيع، ولم يمت من أزواجه في حياته إلا هى وخديجة رضي الله عنهما.

ثم تزوج صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت الضحّاك الكلابية بعد وفاة ابنته زينب، وخيّرها حين نزلت اية التخيير، وهي قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها (28)[الأحزاب: 28] ، فاختارت الدنيا، ففارقها، وكانت بعد ذلك تلتقط البعر، وتقول:«أنا الشقية اخترت الدنيا!» .

وتزوّج صلى الله عليه وسلم بشراف الكلبية (بفتح الشين المعجمة وتخفيف الراء والفاء) بنت خليفة، وأخت دحية بن خليفة الكلبي، تزوّجها النبى صلى الله عليه وسلم ولم يدخل بها.

ص: 467

وتزوّج صلى الله عليه وسلم أسماء بنت النعمان بن أبى الجون (بفتح الجيم وبالنون) بن الحارث الكندية، وطلّقها قبل أن يدخل بها.

وتزوج صلى الله عليه وسلم امرأة من غفار، فلما نزعت ثيابها رأى بها بياضا، فقال:«الحقى بأهلك» .

وتزوج صلى الله عليه وسلم بامرأة تميمية فلما دخل عليها قالت أعوذ بالله منك. فقال: «لقد استعذت بمعيذ الحقى بأهلك» ، وقيل: إن بعض نسائه علّمها ذلك، وقالت: إنك تحظين به عنده، هكذا قاله بعض أرباب السير، وهو بعيد لأن المعلّمة سبّابة، ولا يليق بحال أزواجه السباب.

وتزوج صلى الله عليه وسلم عالية بنت ظبيان، وقيل اسمها سبا (بالسين المهملة وبالباء المواحدة) السليمية، وقيل بالنون، ماتت قبل أن تصل إليه.

وتزوج صلى الله عليه وسلم مليكة الليثية بنت كعب الليثي، فلما دخل عليها قال: هبى لى نفسك، فقالت: وهل تهب الملكة نفسها للسوقة؟! فسرّحها.

وخطب صلى الله عليه وسلم امرأة من مرّة، فقال أبوها إن بها برصا، ولم يكن، فرجع فإذا هى برصاء.

وخطب صلى الله عليه وسلم امرأة من أبيها، فوصفها له، وقال: أزيدك أنها لم تمرض قط، فقال:«ما لهذه عند الله من خير» ، فتركها، وقيل إنه تزوجها، فلما قال أبوها ذلك طلّقها، ولم يبن بها.

وتزوج صلى الله عليه وسلم خولة بنت الهذيل، فماتت في طريق الشأم، وقبل وصولها إليه.

وتزوج صلى الله عليه وسلم بأم شريك، وفارقها صلى الله عليه وسلم، وفي الدخول بها خلاف.

وذكر أبو سعيد في «شرف النبوة» أن جملة أزواج النبى إحدى وعشرون، طلّق منهن ستا، ومات عنده خمس، وتوفى عن عشر [منهن] واحدة لم يدخل بها، وكان صلى الله عليه وسلم يقسم لتسع، وكان صداقه لنسائه خمسمائة درهم لكل واحدة، وهذا أصحّ ما قيل، إلا صفية فإنه جعل عتقها صداقها، وأم حبيبة أصدقها عنه النجاشى أربعمائة دينار.

ص: 468

وأما سراريه عليه الصلاة والسلام فأربع: مارية القبطية، وريحانة بنت شمعون النسطورية، وجميلة أصابها في السبي، وجارية وهبتها له زينب بنت جحش.

فهؤلاء زوجاته صلى الله عليه وسلم وسراريه، وهنّ أمهات المؤمنين، وكلهن فاضلات طيبات طاهرات، وكما فضّل الله تعالى أصحابه علي سائر الأصحاب ورفع بعضهم فوق بعض درجات، كذلك فضّل زوجاته علي سائر الزوجات، ورفعهن فوق بعض درجات، لقوله تعالى: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ (33) [الأحزاب:

32] ، فكما أن أفضل الصحابة أبو بكر الصديق رضي الله عنه، كذلك أفضل أزواج النبى صلى الله عليه وسلم بعد خديجة عائشة بنت الصديق رضي الله تعالى عنهما، فكيف لا وهى التى نزلت براءتها في سورة النور!. وقال صلى الله عليه وسلم:«أحبّ النساء إليّ عائشة، ومن الرجال أبوها» ، وقال صلى الله عليه وسلم: فضل الثريد علي الطعام كفضل عائشة علي النساء» «1» ضرب المثل بالثريد لأنه أفضل طعامهم، ولأنه ركب من خبز ولحم ومرقة، ولا نظير له في الأطعمة، ثم أنه جامع بين الغذاء واللذة والقوة وسهولة التناول وقلة المؤنة في المضغ، وسرعة المرور في الحلقوم.

والصواب أن الحاجة للخبز أعمّ، واللحم أفضل، وهو أشبه بجوهر البدن من كل ما عداه، وخصّ رسول الله المثل بالثريد إيذانا بأن عائشة جمعت مع حسن الخلق وحسن الحديث، وحلاوة المنطق، وفصاحة اللهجة، وجودة القريحة، ورزانة الرأى ورصانة العقل التحبّب إلى البعل، ومن ثم عقلت منه ما لم يعقل غيرها من نسائه، وروت عنه ما لم يرو مثلها من الرجال والنساء، وقد خصّت علي نساء النبى صلى الله عليه وسلم بعشر خصال؛ فيما روى عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنهما، قال: «سمعت خالتى عائشة رضى الله تعالى عنها تقول: خصصت على نساء النبى بعشر خصال: تزوّجنى بكرا ولم يتزوج بكرا غيري، وأسلم أبي وجدى وأمى وأم أبى وإخوتى وأخواتي، وأنا حبيبته من النساء، وأبى وزيره وحبيبه من الرجال، ومات في صدري، وقبض في يومي، ودفن في حجرتى، وأمرنى بالمقام عنده كيلا أفارقه، فأنسى به ميّتا كأنسى به حيّا، وفي كل يوم

(1) والمعروف من الحديث: «فضل عائشة على النساء، كفضل تهامة علي سائر الأرض، وفضل الثريد على سائر الطعام» رواه أبو نعيم في فضائل الصحابة.

ص: 469

أسلّم عليه عند الصباح، وأعلم أنه يسمعنى فأسمع في قلبى ردّ السلام، وكم ليلة رأيته في المنام، وهو يقول:«يا عائشة أقرئى أصحابى السلام، فأصبح وأبلّغهم سلامه، ومات وهو راض عنّي، وورّثنى علمه، فأنا عالمة الأمة، ولى الهجرة والسبق إلي الإسلام، ولا أشركت بالله طرفة عين، ولا رأيت بعينى صنما منذ خلقت، ولا كتب الملك عليّ ذنبا؛ إذ ربيت في حجر الصديق، ثم انتقلت إلى حجر الصادق، وصلّيت إلى القبلتين، وما نزل الوحى في لحاف غيري، ورأيت جبريل، وكان رفيقى ليلة هجرتى ورأيته على صورة دحية الكلبى، وأعطيت شطر العلم، وكان لكل امرأة من نسائه يوم وليلة ولي يومان وليلتان، وصوّر الله صورتى في الجنة في سندسة خضراء، وأهدانى إلى حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم، وأمره بزواجي، فقاضيّ رب العالمين، ووليّى أبو بكر خاتم الصديقين، وبعلى محمد الصادق الأمين، خاتم المرسلين، وأنا أفضل أمهات المؤمنين» .

وفي علم عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذوا شطر علمكم من الحميراء» تصغير حمراء ومعناها البيضاء، قال قوم: الشطر هو النصف؛ لأن نصف الشيء شطره، وقال قوم «الشطر هو الكل» وقال عليه الصلاة والسلام:«عائشة عالمة هذه الأمة» ولذلك كان أكابر الصحابة يأتون إليها ويسألونها عمّا أشكل عليهم من الفرائض، كما روى عن أبى موسى الأشعرى قال:«ما أشكل علينا- أصحاب رسول الله- حديث قط وسألنا عنه عائشة إلا ووجدنا عندها منه علما» ولقد سئل عروة بن الزبير عن علم عائشة فقال: والله ما رأيت امرأة أعلم بالفرائض والسنن والتنزيل والتأويل من عائشة رضى الله عنها، حتى أشعار العرب وأيامهم وأنسابهم والطب والأدوية، فقلت لها: من أين لك علم الطب والأبدان؟ فقالت: من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كان إذا مرض يتداوي، وإذا مرضت يصف لى فأبرأ، وإذا سئل يصف للمرضي، فتعلمت منه، فقلت: ومن أين لك معرفة بأنساب العرب وأيامها وأشعارها؟ قالت: فو الله يا ابن أختى ما سمعت أذنى شيئا فيه نفع للناس إلا حفظته ولا أنساه. وقال عروة: والله ما ندمت على شيء قط أشدّ منى ندما على ما فاتنى من علم عائشة رضى الله عنها، وما الذى يمنعها وقد ربّاها أعلم

ص: 470

العلماء، وأحكم الحكماء، وأفصح الفصحاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبوها علّامة قريش، المفتى في حضرة النبى، و «الولد سر أبيه» .

وأما فصاحتها فيما رواه علي بن أبى طالب كرّم الله وجهه أنه قال: دخلت على عائشة رضى الله عنها بعض الأيام، فرأيتها جالسة وعليها قميص مرقّع، فحمدت الله تعالى بما هو أهله، وثنّت بالصلاة على نبيه، وذكر بعض ما وهبه الله تعالى من فضله، وأثنت على أبى بكر وعمر وعثمان بما كان فيهم من العدل والإحسان، ثم حضّت بالاقتداء بهم واتّباع أمرهم، فو الله ما سمعت أذنى من سائر النساء أفصح منها وأنظم من كلامها ولا أرشد من رأيها، فقلت لها:

أنت والله أمّ المؤمنين حقّا، والعالمة بالله ورسوله، الناصحة المشفقة الواعظة المبلّغة، دللت الناس علي الحق، وأمرتهم باتباعه، ونهيتهم عن حظ أنفسهم، وأنت أهل أن يسمع قولك، ويطاع أمرك، ويقبل نصحك. ثم قمت وخرجت واضعا يدى على كتف ذكوان، وقلت: والله يا ذكوان، ما سمعت أذنى خطيبا من أكثر الصحابة أفصح من عائشة، ولا أبلغ من موعظتها، فلو كانت إمرة لامرأة بعد النبوّة، لاستحقت عائشة الخلافة» «1» .

روى عن الأحنف بن قيس أنه قال: سمعت كلام أبى بكر حتّى مضي، وكلام عمر بن الخطاب رضى الله عنه حتّى مضي، وكلام عثمان بن عفان- رضى الله عنه- حتى مضي، وكلام علي بن أبى طالب رضى الله تعالى عنه حتى مضي، ولا والله- ما سمعت فيهم أبلغ من عائشة رضى الله عنها.

وأما شفقتها ورحمتها لعصاة هذه الأمة، فمما ورد من ذلك ما رواه عروة بن الزبير رضى الله تعالى عنه: لما نزل قوله تعالى النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الأحزاب: 6] قالت عائشة رضى الله تعالى عنها: يا رسول الله وأنا أم المؤمنين؟ فقال: أنت أفضل أمهات المؤمنين، فقالت: والذى بعثك بالحق رسولا؛ إن أمهلنى ربى يوم القيامة لا دخلت الجنة حتّى يدخل معى

(1) هذا هو علي بن أبى طالب يصف أم المؤمنين بهذا الوصف، فماذا يقول الشيعة؟!!

ص: 471

أولادي. فنزل جبريل عليه السلام وقال: «يا رسول الله قل لعائشة أبشري، كلّ من أحبّك وأحبّ أباك واقتدى بكما وأقرّ بفضلكما فهو معكما في الجنة» . فإن صحّ حديث عروة هذا كان نصّا في فضلها- رضى الله تعالى عنها- وإلا، بأن كان ضعيفا، جاز الاستدلال به على المناقب.

وقول الله تعالى وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ سواء من مات عنها أو ماتت وهى تحته: فى تحريم نكاحهن، ووجوب احترامهن، لا في نظر ولا خلوة، ولا يقال بناتهن أخوات المؤمنين، ولا اباؤهن وأمهاتهن أجداد وجدات، ولا إخوتهن ولا أخواتهن أخوال وخالات، كذا في المواهب.

وقال الرملى في «شرح المنهاج» : «تحرم زوجاته صلى الله عليه وسلم على غيره ولو مطلّقات ومختارات فراقه، ولو قبل الدخول» . «ونقل في الشرح المذكور أيضا أن الأمة التى وطئها تحرم على غيره، واعتمده، وإنما حرمت على غيره لأنه صلى الله عليه وسلم حيّ فى قبره، أو رعاية لشرفه، ولأنهن أزواجه في الجنة، والمرأة في الجنة مع اخر أزواجها، ولأنهن أمهات المؤمنين، كما أفاده الشمس الخطيب في تفسيره، انتهي.

والمراد أمهات المؤمنين الرجال دون النساء؛ لحديث مسروق أن امرأة قالت لعائشة رضى الله عنها: يا أمّه، فقالت:«لست لك بأم، إنما أنا أمّ رجالكم» .

فالمراد بالأمومة تحريم نكاحهن على التأبيد كالأمهات.

وبالجملة فقد ربيت السيدة عائشة في صدر الرسول، وبلغت من الفضل والعلم كل مسئول، وتوّجت دنيا وأخرى بتاج القبول، ويأبى الله أن يجمع حبّها وحبّ فاطمة في قلب جهول مغلول، فهى سيدة نساء العالمين، حبيبة الرسول، ولا يفضلها إلا إن كان من جهة البضعة النبوية فاطمة البتول. وقد أنشد الإمام العالم الكامل الشيخ كمال الدين بن العديم، قاضى حلب الشهباء رحمه الله في مدح الصدّيقة بنت الصديق عائشة رضي الله تعالى عنها وعن أبيها، وذكر فضلها والرد على من انتقصها أو بغضها مترجما بذلك عن قولها رضي الله عنها، فقال:

ص: 472

ما شأن أم المؤمنين وشاني

هدي المحبّ لها وضلّ الشاني

إنّى أقول مبيّنا عن فضلها

ومترجما عن قولها بلساني

يا مبغضى لا تأت قبر محمّد

البيت بيتى والمكان مكاني

إنّى خصصت على نساء محمّد

بصفات برّ تحتهن معاني

وسبقتهن إلى الفضائل كلّها

فالسّبق سبقى والعنان عناني

قبض النّبيّ ومات بين ترائبي

واليوم يومى والزمان زماني

زوجى رسول الله لم أر غيره

الله زوّجنى به وحباني

وأتاه جبريل الأمين بصورتي

فأحبّنى المختار حين راني

وتكلّم الله العظيم بحجّتي

وبراءتى في محكم القران

والله عظّمنى وعظّم حرمتى

وعلى لسان نبيّه برّاني

والله في القران قد لعن الذي

بعد البراءة بالقبيح رماني

إنى لمحصنة الإزار بريّة

ودليل حسن براءتى إحصاني

الله خصّصنى بخاتم رسله

وأزلّ أهل الكفر والطغيان

وسمعت وحي الله عند محمّد

من جبرئيل ونوره يغشاني

أوحى إليه وكنت تحت ثيابه

فحنى عليّ بثوبه وخباني

من ذا يفاخرنى وينكر صحبتي

ومحمد في حجره ربّاني

وأنا ابنة الصدّيق صاحب أحمد

وحبيبه في السرّ والإعلان

وأخذت عن أبويّ دين محمد

وهما على الإسلام مصطحبان

فالفخر فخري، والخلافة في أبي

حسبى بهذا مفخرا وكفاني

وأبي أقام الدين بعد محمّد

فالنّصل نصلى والسنان سناني

نصر النبيّ بماله وبنفسه

وخروجه معه من الأوطان

ثانيه في الغار الذى سدّ الكوي

بردائه أكرم به من ثاني

وجفا الغنى حتّى تخلّل بالعبا

زهدا وأظعن أيّما إظعان

وتخلّلت معه ملائكة السما

وأتته بشرى الله بالرضوان

وهو الذى لم يخش لومة لائم

في قتل أهل الكفر والطغيان

ص: 473

قتل الذى منع الزكاة بجهله

وأذلّ أهل البغي والعدوان

سبق الصحابة والقرابة بالهدي

هو شيخهم في العدل والإحسان

والله ما سبقوا لمثل فضيلة

مثل استباق الخيل يوم رهان

إلا وصار أبى إلى عليائها

فمكانه منهم أجلّ مكان

وإذا أراد الله نصرة عبده

من ذا يطيق له علي خذلان

جمع الإله المؤمنين على أبي

واستبدلوا من خوفهم بأمان

من حبّنى فليجتنب من سبّني

إن كان صان محبّتى ورعاني

وإذا محبّى قد ألمّ بمبغضي

فكلاهما في بغضنا سيّان

إنى لطيّبة خلقت لطيب

ونساء أحمد أطيب النسوان

والله حبّبنى لقلب نبيّه

وإلى الصراط المستقيم هداني

إنّى لأمّ المؤمنين فمن أبي

حبّى فسوف يبوء بالخسران

والله يكرم من أراد كرامتى

وبهين ربّى من أراد هواني

والله أسأله زيادة فضله

وحمدته شكرا لما أولاني

يا من يلوذ بأهل بيت محمّد

يرجو بذلك رحمة الرحمن

صل أمّهات المؤمنين ولا تحد

عنى فتسلب حلّة الإيمان

ويل لعبد خان ال محمد

بعداوة الأزواج والأختان

أكرم بأربعة أئمّة شراعنا

فهم لبيت الدين كالأركان

نسجت مودتّهم سدّى في لحمة

بنيانها من أثبت البنيان

رحماء بينهم صفت أخلاقهم

وخلت قلوبهم من الأشنان

الله ألّف بين ودّ قلوبهم

في بغض كل منافق طعّان

طوبى لمن والى جماعة صحبهم

فسبابهم سبب إلى الحرمان

خذها إليك فإنما هى روضة

محفوفة بالرّوح والريحان

تجلى النفوس إذا تلاها مسلم

وعلى الروافض لعنة الرحمن

صلّى الإله على النبيّ واله

فبهم تتمّ أزاهر البستان

والتابعين وتابعيهم ما شدت

في دوحة ورق على الأغصان

ص: 474

وقد تقدّم ذكر أولاده صلى الله عليه وسلم في الفصل الثالث من الباب الأوّل من المقالة الخامسة من الجزء الثاني.

وأما أعمامه صلى الله عليه وسلم فاثنا عشر، وهم أولاد عبد المطلب.

الأوّل: الحارث، وبه يكنى عبد المطلب؛ لأنه أكبر ولده، وولد ولده جماعة لهم صحبة من النبى صلى الله عليه وسلم، منهم: أبو سفيان بن الحارث أسلم عام الفتح، وشهد حنينا، وقال في حقه النبى صلى الله عليه وسلم:«أبو سفيان سيد فتيان الجنة» ، ونوفل بن الحارث هاجر وأسلم أيام الخندق، وله عقب. وعبد شمس بن الحارث، وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله. وقثم مات صغيرا.

الثاني: قثم هو أخو الحارث لأمه.

الثالث: الزّبير (بفتح الزاى بوزن أمير) ويكنى بأبى الحارث، وكان من صناديد قريش، وابنه عبد الله ابن الزبير، شهد حنينا وثبت يومئذ، واستشهد بأجنادين، وذكر أنه وجد إلى جنبه سبعة قد قتلهم وقتلوه. وكان سيدا شريفا شاعرا، وهو أوّل من تكلّم في حلف الفضول ودعا إليه، وكان سبب ذلك الحلف أن الرجل من العرب أو العجم كان يقدم بالتجارة، فربما ظلم بمكة، فقدم رجل من زبيد بسلعة، فباعها من العاص بن وائل السهمي، فظلمه فيها وجحده ثمنها، فناشده بالله فلم ينفعه، فنادى ذات يوم عند طلوع الشمس وقريش في أنديتها:

يا ال فهر لمظلوم بضاعته

ببطن مكّة نائى الحىّ والنّفر

ومحرم أشعث لم يقض عمرته

يا ال فهر، وبين الركن والحجر

وقال أيضا:

يال قصىّ كيف هذا في الحرم

وحرمة البيت وأخلاق الكرم

أظلم لا يمنع منّى من ظلم

ص: 475

فقال الزبير: ما لهذا يترك «1» ؟! فجمع إخوته واجتمعت بنو هاشم وبنو المطلب، وبنو أسد بن عبد العزّى، وبنو زهرة في دار أبى زهير: عبد الله بن جدعان القرشي، فتحالفوا ألّا يجدوا بمكة مظلوما إلا نصروه ورفدوه «2» وأعانوه، حتى يؤدّى إليه حقّه، وينصفه ظالمه من مظلمته «3» ، وعادوا عليه بفضول أموالهم ما بلّ بحر صوفة. وشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الحلف، وكان يقول:«ما سرّنى بحلف شهدته في دار عبد الله بن جدعان حمر النعم» ، فسمّي الحلف حلف الفضول؛ لبذلهم فضول أموالهم، وتكلّفهم فضولا لا تجب عليهم، وقام الزبير ومن معه بأمر الزبير حتّى أنصفه العاص بن وائل، ومات الزبير ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن بضع وثلاثين سنة، وكان للزبير بنت يقال لها أم الحكم، وكانت رضيعة النبى صلى الله عليه وسلم.

* الرابع: حمزة بن عبد المطلب، أسد الله وأسد رسوله، وأخوه من الرضاعة، وأسلم قديما وهاجر إلى المدينة، وشهد بدرا، وقتل يوم أحد شهيدا ولم يكن له إلا ابنه الفضل.

* الخامس: العباس، أسلم وحسن إسلامه وهاجر إلى المدينة، وكان أسنّ من النبى صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، وقيل بسنتين، وكان له من الولد: الفضل، وهو أكبر ولده، وبه كان يكنى، وعبد الله، وعبيد الله، وقثم، ولهم صحبة، وكان لهم السقاية وزمزم، دفعهما لأبيهم العباس النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، توفى سنة اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان رضى الله عنه في المدينة، بعد أن كفّ بصره.

* السادس: أبو طالب، واسمه عبد مناف، وهو أخو عبد الله أبى النبى صلى الله عليه وسلم من أمه، ومات على دين قومه، وفيه قال بعضهم:

أبا طالب ما أنت قرن لحمزة

لأنّكما في الدين مختلفان

دعاك النّبيّ الهاشميّ فلم تجب

وحمزة لبّاه بكلّ لسان

(1) يعنى كيف يترك هذا؟!

(2)

من الرفادة: أي الإكرام والضيافة.

(3)

أى يرغم الظالم على أن يردّ له مظلمته.

ص: 476

وعاتكة صاحبة الرؤيا في بدر، أخت عبد الله وأبى طالب لأمهما، وأمهم فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم.

ولأبى طالب من الولد: طالب، ومات على دين قومه، وعقيل، وجعفر، وعلي، وأم هانيء، وجمانة، واسم أم هانيء: فاختة، وقيل هند، وقيل فاطمة، أسلموا ولهم صحبة. وسائر بنى أبى طالب أمّهم فاطمة بنت أسد بن هاشم التى أسلمت بعد موت زوجها بمكة، وكان النبى صلى الله عليه وسلم يدعوها إلى الإسلام فتأباه وتقول:«إنى لأعلم منك صدقا وخيرا، ولكنى أكره أن أموت إلا على دين غمك» . إلى أن أسلمت في مرضها.

وكان أبو طالب منيعا عزيزا في قريش، وكانت قريش تطعم، فإذا أطعم أبو طالب لم يطعم يومئذ أحد غيره، ومن كلامه:

منعا الرسول رسول الملي

ك ببيض تلألأ مثل البروق

أذبّ وأحمى رسول الملي

ك حماية عمّ عليه شفيق

* السابع: أبو لهب بن عبد المطلب، واسمه عبد العزّى، كناه أبوه بذلك لحسن وجهه.

وأولاده: عتبة، وعتيبة، ومعتب، أسلما يوم «1» الفتح ولم يهاجرا من مكة، وعتيبة لم يسلم، قتله الأسد بالزرقاء من الشأم بدعوة النبى صلى الله عليه وسلم «2» ، وسبيعة، وبعضهم عدّ من أولاده «درّه» ولعلها لقب لسبيعة، ولهم صحبة.

وأما عزة وخالدة فلم تثبت لهما رواية.

* الثامن: عبد الكعبة، واسمه «المغيرة» ولقبه «حجل» (بفتح الحاء المهملة وسكون الجيم وباللام، وفي كتاب عبد البر تقديم الجيم علي الحاء وقد صحّح عليه) وهو أخو العباس لأمه.

* التاسع: الغيداق بن عبد المطلب (بفتح الغين المعجمة وسكون الياء التحتية

(1) الضمير في قوله: «أسلما» يرجع إلى عتبة ومعتب» .

(2)

قال عليه الصلاة والسلام: «اللهم سلّط عليه كلبا من كلابك» وبه استدلوا على أن الأسد من فصيله الكلاب.

ص: 477

وبالدال المهملة والقاف) لقّب بذلك لجوده، وكان أكثر قريش مالا، واسمه «مصعب» وقيل «نوفل» .

* العاشر: ضرار بن عبد المطلب (بكسر الضاد المعجمة وتخفيف الراء الأولى) وهو شقيق العباس.

* الحادى عشر: المقوّم (بضم الميم وفتح القاف وتشديد الواو مفتوحة ومكسورة) ويكنى أبا بكر.

وروى ابن ماجه بسنده عن علي بن صالح، قال: كان ولد عبد المطلب عشرة كل واحد منهم يأكل الجذعة «1» اهـ.

فهم عشرة بدون عدّ قثم الذى مات صغيرا، وقد ذكر الخلاف في عددهم قلة وكثرة في الفصل الأوّل من الباب الأوّل من هذا الكتاب.

ولم يدرك الإسلام منهم غير أربعة: أبو طالب، وأبو لهب، وحمزة، والعباس، وفضلهما «2» مشهور، وحبّه صلى الله عليه وسلم لهما مما ذاع عند جميع الناس.

وأما عماته صلى الله عليه وسلم: فأولاهن صفية بنت عبد المطلب، شقيقة حمزة، أسلمت وهاجرت، وهى أم الزبير بن العوام، توفيت بالمدينة في خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وهى أخت عبد الله لأبيه، وشقيقة حمزة.

الثانية: عاتكة بنت عبد المطلب، قيل إنها أسلمت، وهى صاحبة الرؤيا في بدر، وكانت عند أبى أمية بن عبد الله بن مخزوم، ولدت له عبد الله، أسلم وله صحبة.

الثالثة: أروي: وكانت تحت عمير بن وهب بن عبد الدار بن قصي، فولدت له ولدا كان من المهاجرين، قتل شهيدا في بدر، وقيل بأجنادين، وليس له عقب.

الرابعة: أميمة، كانت تحت جحش بن رباب بن يعمر، فولدت له عبد الله بن جحش، وزينب زوج النبى صلى الله عليه وسلم، وحمنة، وحبيبة، كلهم له صحبة، وعبد الله بن جحش أسلم ثم تنصّر ومات بالحبشة «3» .

(1) الجذعة: الصغير من البقر والغنم....

(2)

الضمير يعود إلى حمزة والعباس.

(3)

مات على النصرانية.

ص: 478

الخامسة: برّة، كانت تحت عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، ولدت له أبا سلمة، واسمه «عبد الله» وكان زوج أم سلمة قبل النبى صلى الله عليه وسلم، وتزوج برة بعد عبد الأسد أبو رهم بن عبد العزى بن قيس، فولدت له «أبا سبرة» ابن أبى رهم.

السادسة: أم حكيم، واسمها «البيضاء» وكانت عند كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف، فولدت له:«أروى» بنت كريز، وهى أم عثمان بن عفان. ولم يسلم منهن بلا خلاف غير «صفية» وشهدت الخندق، وقتلت رجلا من اليهود، فضرب لها عليه الصلاة والسلام بسهم، واختلف في إسلام أروى وعاتكة، وإلى إسلامها ذهب أبو جعفر العقيلي، وعدّهما في الصحابة.

وأما أخواله صلى الله عليه وسلم فأربعة:

الأوّل: عبد بن يغوث، والثاني: عبيد بن يغوث، وهما من صفية زوجة وهب، أبى امنة، فهما أخواها لأبيها، ذكر ذلك الزبيدى في أنساب قريش، وكان معاصرا للبخاري، ولم يثبت فيهما الإسلام.

والثالث: الأسود بن وهب. والرابع: عمير بن وهب، وكانا صحابيين، ذكرهما السخاوى في المقاصد الحسنة، وابن حجر في الإصابة في معرفة الصحابة.

وروى أن عميرا أتى للنبى صلى الله عليه وسلم فبسط له رداءه، فقال: كيف أجلس على ردائك يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «نعم، إنما الخال أب» ، وكذلك وقع لخاله «الأسود ابن وهب» كما ذكره السخاوى في المقاصد.

ولم يكن لعبد الله ولا لامنة ولد غير النبى صلى الله عليه وسلم، فلذلك لم يكن له أخ، ولا أخت، كذا في الذخائر.

* وأما مواليه صلى الله عليه وسلم من الرجال فهم فوق الثلاثين رجلا:

فمنهم زيد بن حارثة بن شرحبيل، ويقال ابن شراحيل (الكلبى) بن عبد العزّى بن امرئ القيس بن عامر بن النعمان بن عبد ودّ، وأم زيد هذا هى «سعدي» بنت ثعلبة (من طىء) ، وقد كانت سعدى زارت قومها، فأغارت خيل

ص: 479

لبنى القين في الجاهلية، ومرّوا على أبيات بنى معن، فاحتملوا زيدا وهو يومئذ غلام، فوافوا به سوق عكاظ، فاشتراه منهم حكيم بن حزام بن خويلد لعمته خديجة بنت خويلد بأربعمائة درهم، فلما تزّوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم استوهبه منها فوهبته له، فقبضه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعتقه وتبنّاه، كما سيأتي، وكان يقال له زيد ابن محمد، وكان عمره ثمان سنين، وكان حارثة أبو زيد قال فيه حين فقد أبياتا منها:

بكيت على زيد ولم أدر ما فعل

أحيّ فيرجى أم تخرّمة الأجل

فو الله ما أدرى وإن كنت سائلا

أغالك سهل الأرض أم غالك الجبل

فياليت شعرى هل لك الدهر رجعة

فحسبى من الدنيا رجوعك لى يحلّ «1»

تذكّرنيه الشمس عند طلوعها

ويعرض ذكراه إذا عارض الطّفل «2»

وإن هبّت الأرواح «3» هيّجن ذكره

فيا طول أحزانى عليه ويا وجل

سأعمل نصّ «4» العيس في الأرض جاهدا

ولا أسأم التطواف أو تسأم الإبل

حياتى أو تأتى عليّ منيّتي

وكلّ امري فان وإن غرّه الأمل

سأوصى به عمرا وقيسا كليهما

وأوصى يزيدا ثمّ من بعده جبل

يعنى جبلة بن حارثة أخا زيد، وكان أكبر من زيد، ويزيد كان أخا زيد لأمه، وهو يزيد بن كعب بن شراحيل، فحجّ ناس من كلب، فرأوا زيدا فعرفهم وعرفوه، فقال لهم: أبلغوا أهلى هذه الأبيات؛ فإني أعلم أنهم قد جزعوا عليّ، فقال:

فانطلق الكلبيون، فأعلموا أباه حارثة بمكانه وأخبروه، فخرج حارثة وكعب ابنا شراحيل، وجبلة بن حارثة بفدائه، فقدموا مكة، فسألوا عن النبى صلى الله عليه وسلم، فقيل:

هو في المسجد، فدخلوا عليه، فقالوا: يا ابن عبد الله وعبد المطلب وابن هاشم سيد قومه، أنتم حرم الله وجيرانه، تفكّون العاني، وتطعمون الضيف، جئناك في

(1) أى تعظيما.

(2)

الطفل: إقبال الليل والظلمة.

(3)

الأرواح: لغة في الرياح.

(4)

نص العيس: منتهى ما تصل إليه. العيس: الإبل الكريمة.

ص: 480

ابننا عندك، فامنن علينا، وأحسن في فدائه إلينا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«فهلا غير ذلك، ادعوه فأخيّره، فإن اختاركم فهو لكم بغير فداء، وإن اختارنى فو الله ما أنا الذى أختار على من اختارنى شيئا» ، فقالوا: قد زوّدتنا على النّصف «1» وأحسنت. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا فقال: أتعرف هؤلاء؟ فقال: نعم، أبى وأخي وعمي، فقال:«أنا من قد علمت، وقد رأيت صحبتي، فاخترنى أو اخترهم» ، فقال: ما أنا بمختار عليك أحدا، أنت منّى مكان العم والأب. فقال له أبوه: ويحك يا زيد أتختار العبودية على الحرية وعلى أبيك؟ قال: نعم؛ قد رأيت من هذا الرجل شيئا ما أنا بمختار عليه أحدا. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك من زيد، أخرجه إلى الحجر، وقال لمن حضر: اشهدوا أن زيدا ابنى أرثه ويرثني. فطابت نفوسهم، فكان زيد يدعى: زيد بن محمد. حتى جاء الله عز وجل بالإسلام فزوّجه رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش، وهى بنت عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أميمة بنت عبد المطلب، فطلّقها زيد، وخلف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتكلم المنافقون وطعنوا في ذلك، وقالوا: محمد يحرّم نساء الولد وقد تزوج امرأة ابنه، فأنزل الله عز وجل: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً [الأحزاب: 40] . ونزلت: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ «2» فدعي يومئذ: زيد بن حارثة، ونسب كل رجل تبنّاه رجل من قريش إلى أبيه، مثل سالم مولى أبى حذيفة، وعامر بن ربيعة. وكان زيد يسمى «الحبّ» «3» لأنه حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يقال:«الحبّ بن الحبّ» ، وكان أسامة ابنه يدعى الرّدف لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يردفه كثيرا؛ عن عروة عن أسامة أن النبى صلى الله عليه وسلم ركب حمارا بإكاف «4» على قطيفة، فأردف أسامة خلفه، وأتى سعد بن عبادة يعوده قبل وقعة بدر.

ولم يذكر في القران أحد من الصحابة باسمه إلا هو «5» ، كما أنه لم تذكر امرأة

(1) أى فعلت شيئا أكثر من الإنصاف.

(2)

الأحزاب: 5.

(3)

بكسر الحاء، أى المحبوب.

(4)

البرذعة أو ما يقوم مقامها.

(5)

فى قوله تعالى: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً وكفاه هذا شرفا، وأيّ شيء أعظم من هذا؟

ص: 481

باسمها في القران إلا مريم.

ولم يزل زيد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى بعثه الله، فصدّقه وأسلم، وصلّى معه وشهد بدرا وأحدا والمشاهد، روى عنه ابنه أسامة، وابن عباس، والبراء بن عازب، وغيرهم رضى الله عنهم.

* ومنهم ثوبان (بفتح الثاء وبالباء المواحدة) ابن بجدد (بضم الباء المواحدة وسكون الجيم وضم الدال المهملة) وهو من حمير (من اليمن) وله نسب فيهم، وقيل هو من السراة موضع بين مكة واليمن، وقيل هو من سعد العشيرة من مذجح، اشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعتقه، وقال له:«إن شئت أن تلحق بمن أنت منهم، وإن شئت أن تكون (من «1» ) أهل البيت؟» فثبت على ولاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يزل معه سفرا وحضرا إلى أن توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فخرج إلى الشأم، فنزل إلى الرملة وابنتى بها دارا، وابنتى بمصر دارا، وبحمص دارا، وتوفى بها سنة أربع وخمسين. وشهد فتح مصر، روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أحاديث ذوات عدد، روى عنه شدّاد بن أوس، وأبو إدريس الخولاني، ومعدان بن أبى طلحة، وأبو الأشعث الصنعاني، وأبو الخير اليزنى وغيرهم.

روي عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله زوى لى الأرض حتّى رأيت مشارقها ومغاربها، وأعطانى الكنزين: الأحمر والأبيض، وإنّ ملك أمتى سيبلغ ما زوى لى منها، وإنى سألت ربى لأمّتى ألايهلكها بسنة «2» عامّة، وأن لا يسلّط عليها عدوّا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، وإنّ ربى قال لي: يا محمد إنى إذا قضيت قضاء، فإنه لا يردّ، وإني قد أعطيت لأمتك أنى لا أهلكهم بسنة عامة، وألاأسلّط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من أقطارها حتّى يكون بعضهم يهلك بعضا» .

وروى ثوبان أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قيل: يا رسول الله أمن قلة نحن يومئذ؟ قال:

(1) ما بين القوسين وضعناه لإصلاح الكلام.

(2)

جدب وقحط.

ص: 482

أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنّ الله عز وجل المهابة عن صدوركم، وليقذفنّ الوهن في قلوبكم، قيل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حبّ الدنيا وكراهة الموت» «1» .

قال النبى صلى الله عليه وسلم: من يضمن لى خصلة أضمن له الجنة؟ قال ثوبان: أنا يا رسول الله. قال: «لا تسل الناس شيئا» . فكان ثوبان يقع سوطه من يده فلا يقول لأحد «ناولنيه» حتى ينزل فيأخذه، وكانت عائشة تقول:«تعهّدوا ثوبان؛ فإنه لا يسأل الناس شيئا» .

* ومنهم أسامة بن زيد بن حارثة السالف الذكر، ويكنى أبا محمد، أمه أم أيمن خاضنة النبى صلى الله عليه وسلم، فهو وأيمن أخوان لأمّ، وهو مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبويه.

روى ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ أسامة بن زيد لأحبّ الناس إليّ، أو من أحب الناس إليّ، وأنا أرجو أن يكون من صالحيكم، فاستوصوا به خيرا» .

واستعمله النبى صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمانى عشرة سنة على جيش، كما سيأتى بعد.

وروي عن عائشة رضى الله عنها، قالت: عثر أسامة بأسكفة الباب، فشجّ في وجهه، فقال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أميطى عنه» ، فكأنى تقذّرته، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمصّه ثم يمجّه.

وقال: «لو كان أسامة جارية لكسوته وحلّيته حتّى ينقه» «2» .

ولما فرض عمر بن الخطاب رضى الله عنه للناس، فرض لأسامة بن زيد خمسة الاف، وفرض لابنه عبد الله بن عمر ألفين، فقال ابن عمر: فضّلت عليّ أسامة، وقد شهدت ما لم يشهد! فقال: إن أسامة كان أحب إلى رسول الله منك، وأبوه أحب إلى رسول الله من أبيك.

ص: 483

ولم يبايع أسامة عليا ولا شهد معه شيئا من حروبه، وقال له أى لعليّ:«لو أدخلت يدك في فم تنين لأدخلت يدى معها، ولكنك قد سمعت ما قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قتلت ذلك الرجل الذى شهد ألاإله إلا الله» ، وهو ما أخبرنا به أبو جعفر عبيد الله بن أحمد بن علي البغدادي، بإسناده عن يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدّثنى محمد بن أسامة بن محمد بن أسامة بن زيد، عن أبيه، عن جده أسامة بن زيد، «قال أدركته (يعنى كافرا كان قتل في المسلمين في غزاة لهم) أنا ورجل من الأنصار، فلما شهرنا عليه السلاح، قال: أشهد ألاإله إلا الله، فلم نبرح عنه حتّى قتلناه، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرناه خبره، فقال: يا أسامة من لك بلا إله إلا الله!! فقلت: يا رسول الله إنما قالها تعوذا من القتل، فقال: من لك يا أسامة بلا إله إلا الله!! فو الذى بعثه بالحق ما زال يرددها حتى وددت أن ما مضى من إسلامى لم يكن، وأنى أسلمت يومئذ، فقلت: أعطى الله عهدا ألاأقتل رجلا يقول لا إله إلا الله» «1» .

وروى محمد بن إسحاق، عن صالح بن كيسان، عن عبيد الله بن عبد الله، قال: رأيت أسامة بن زيد يصلّى عند قبر النبى صلى الله عليه وسلم، فدعى مروان إلى جنازة ليصلّى عليها، فصلّى عليها، ثم رجع وأسامة يصلّى عند باب بيت النبي، فقال له مروان:«إنما أردت أن يرى مكانك، فعل الله بك» ، وقال قولا قبيحا، ثم أدبر، فانصرف أسامة وقال:«يا مروان إنك اذيتني، وإنك فاحش متفحش، وإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يبغض الفاحش المتفحش» «2» .

وقال بعضهم: يجوز للامر بالمعروف والناهى عن المنكر والمؤدّب أن يقول لمن يخاطبه في ذلك الأمر: يا ضعيف الحال أو يا قليل النظر لنفسه، أو يا ظالم نفسه، وما أشبه ذلك، بحيث لا يتجاوز إلى الكذب، ولا يكون فيه لفظ قذف؛

(1) ومن مثل هذا يفهم أنّ الصحابة الذين امتنعوا عن القتال مع الإمام على رضى الله عنه وكرم الله وجهه: إنما امتنعوا لعلل وأسباب أخرى، لا لكراهية القتال مع الإمام، رضى الله عنهم جميعا، وأن الذين خاضوا في أعراض الصحابة إنما ارتكبوا جرما وإجراما؛ نسأل الله السلامة والعافية.

(2)

رواه الإمام أحمد.

ص: 484

لأن الغرض به التأديب والزجر، وليكون الكلام أوقع في النفس، لما روى أنس رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة «1» ، فقال: اركبها، فقال:

إنها بدنة، قال اركبها، قال: إنها بدنة، قال في الثالثة:«اركبها ويلك» . ولقول أبى بكر الصديق رضى الله عنه لابنه عبد الرحمن لمّا لم يجده عشّى أضيافه: «يا غنثر» «2» .

ونهى عن انتهار الفقراء والضعفاء واليتيم والسائل ونحوهم، بل يلين لهم القول ويتواضع معهم، لقوله تعالى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ [الضحي: 9، 10] ولقوله تعالى: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر: 88] .

وكان أسامة أسود أفطس، وتوفى اخر أيام معاوية سنة ثمان أو تسع وخمسين، وقيل: توفى بعد قتل عثمان بالجرف، وحمل إلى المدينة.

روى عنه أبو عثمان، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وغيرهما، أخرجه ثلاثتهم.

وقد ذكر ابن منده أن النبى صلى الله عليه وسلم أمّر أسامة بن زيد على الجيش الذى سيّره إلى مؤتة في علته التى توفى فيها، وهذا ليس بشيء؛ فإن النبى صلى الله عليه وسلم استعمل على الجيش الذى سار إلى مؤتة أباه زيد بن حارثة، فقال:«إن أصيب فأميركم جعفر بن أبى طالب، فإن أصيب فأميركم عبد الله بن رواحة الأنصاري، فإن أصيب فسيفتح الله على يدي رجل من المسلمين» وأشار بيده إلى خالد بن الوليد»

، فلما التقوا مع الروم وقتل زيد أخذ الراية جعفر، فقاتل حتى قطعت يده اليمنى، فأخذها بشماله فقاتل حتّى قطعت شماله، فحضن الراية وقاتل حتّى قتل رضى الله عنه، ويقال: إنه وجد فيما أقبل من بدنه أربعة وخمسون جرحا، ما بين طعنة رمح وضربة بسيف، وقتل في ثمانية من الهجرة.

(1) بقرة.

(2)

الغنثرة: كثرة الشعر، وكلمة شتم.

(3)

ومنه تأخذ أن تأمير خالد على هذا الجيش، إنما كان أيضا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 485

وأما أسامة: فإن النبى صلى الله عليه وسلم استعمله على جيش، وأمره أن يسير إلى الشام أيضا، وفيهم عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فلما اشتد المرض برسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى أن يسير جيش أسامة، فساروا بعد موته صلى الله عليه وسلم، وليست غزوة مؤتة.

* ومنهم أبو كبشة: واسمه «سليم» من مولّدى السراة، وقيل من مولدى مكة، وقيل من أرض دوس. شهد بدرا وأحدا والمشاهد كلها، وأعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفى في أوّل يوم من خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه.

* ومنهم «أنيسة» من مولّدى السراة، يكنى «أبا سرح» ، اشتراه النبي صلى الله عليه وسلم وأعتقه، قيل: قتل يوم بدر، وقيل: بل شهد يوم أحد، وتوفى في خلافة أبى بكر الصديق رضى الله تعالى عنه، وكان يأذن عيي النبى صلى الله عليه وسلم.

* ومنهم شقران، واسمه «صالح» ، قيل ورثه صلى الله عليه وسلم من أبيه، وقيل: اشتراه من عبد الرحمن بن عوف، شهد بدرا وهو مملوك، فاستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأسرى ولم يسهم له، فأهداه كل رجل كان له أسير، فأصاب أكثر مما أصابه رجل من المقسم، وأعتقه) صلى الله عليه وسلم. وكان «شقران» ممن نزل في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

* ومنهم رباح، ويكنى «أبا أيمن» وهو عبد أسود نوبي، اشتراه صلى الله عليه وسلم من وفد عبد القيس، وأعتقه، وكان يأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحيانا، وهو الذى استأذن لعمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه على النبى لمّا اعتزل نساءه في المشربة (بفتح الميم هى الغرفة) ثم صيّره صلى الله عليه وسلم مكان يسار حين قتل، فكان يقوم بأمر لقاحه*.

* ومنهم يسار الراعى النوبي، أصابه صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته، وأعتقه، وجعله فى لقاحه يرعاها، فأغار عليها قوم من «عرينة» ، وأخذوا يسارا وقطعوا يديه ورجليه، وغرزوا الشوك في عينيه ولسانه، واستاقوا اللقاح، وأدخل المدينة ميتا.

فقام بأمر اللقاح بعده «رباح» كما سلف.

* ومنهم أبو رافع، واسمه «أسلم» كان عبدا قبطيا للعباس بن عبد المطلب، فلما بشّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإظهار العباس إسلامه أعتقه وزوجه «سلمي» مولاته صلى الله عليه وسلم،

* اللقاح: جمع لقحة الناقة الحلوب الغزيرة اللبن.

ص: 486

وولدت له عبيد الله. ووجّه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا رافع مع زيد بن حارثة من المدينة لحمل عياله من مكة، وبشّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بولادة إبراهيم، فوهب له غلاما، وكانت سلمى زوجته قابلة «1» إبراهيم، وشهدت خيبر مع زوجها، وكان عبيد الله ابنه خازنا لعلى بن أبى طالب، أو كاتبا له أيام خلافته. وشهد أبو رافع أحدا والخندق وما بعدهما من المشاهد، ولم يشهد بدرا لأنه كان بمكة، كما تدلّ عليه قصته مع أبى لهب الاتية؛ قال أبو رافع: كنت غلاما للعباس، فأسلم العباس، وأسلمت أمّ الفضل وأسلمت، وكان العباس يهاب قومه ويكره خلافهم، وكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرّق في قومه «2» فلما جاء مصاب أهل بدر وجدنا فى أنفسنا عزة وقوّة، وكنت ضعيفا أعمل الأقداح وأنحتها في حجرة زمزم، فبينا أنا أنحت أقداحى وعندى أم الفضل جالسة، وقد سررنا بما جاءنا من خبر أهل بدر، أقبل أبو لهب فجلس، وجاء أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، فقال أبو لهب: إليّ يا ابن أخي، ما خبر الناس؟ فقال: ما هو إلا أن لقيناهم حتّى منحناهم أكتافنا، ولقينا رجالا على خيل بلق «3» ، فقلت: تلك الملائكة. فلطمنى أبو لهب لطمة شديدة، وثاورته، فضرب بى الأرض، فقالت له أم الفضل: أراك تستضعفه أن غاب عنه سيده، وأخذت شيئا فضربته به فشجته، فقام ذليلا، فو الله ما عاش إلا سبع ليال حتّى رماه الله بالعدسة فقتله، وقد ترك حتّى أنتن وتباعد عنه بنوه، فبقي ثلاثا لا تقرب جنازته ولا يدفن، فلما خافوا السبّة دفعوه بعود في حفرته، ودفن بأعلى مكة، وقذفوا عليه الحجارة من بعد حتّى واروه بها، كما سبق في الفصل الأوّل من الباب الأوّل، وتوفى أبو رافع قبل عثمان، وقيل في خلافة عليّ رضى الله عنهم. [و «العدسة» : بثر كانت تخرج على الناس، تزعم العرب أنها تعدي، شبيهة بالطاعون.]

وعلى ذكر ذلك فقد روي عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان الوباء بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارا منه، وإذا سمعتم به

(1) يقصد قابلة أم إبراهيم أى التى قامت بتوليدها.

(2)

ذلك والله أعلم هو سر من أسرار إخفائه الإسلام حتّى يتمكن من جمع ماله من قريش.

(3)

بيضاء.

ص: 487

بأرض فلا تقدموا عليه» . رواه الشيخان، وقد سبق التنويه إلى ذلك في «الفصل الأوّل من الباب الأوّل» ، وفي نهيه صلى الله عليه وسلم عن الدخول في الأرض التى حلّ بها الطاعون فائدتان، الأولى: لئلا يستنشقوا الهواء الذى قد عفن وفسد فيمرضون، والثانية: لئلا يجاوروا المرضى الذين قد مرضوا بذلك، فتتضاعف عليهم البلية لوجود الأمرين.

وقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ من القرف «1» التلف» (والقرف مداناة الوباء ومداناة المرض) .

وقوله: «فلا تدخلوا عليه» إثبات الحذر، والنهى عن التعرض للتلف، وفي قوله:«فلا تخرجوا فرارا منه» إثبات التوكل والتسليم لأمر الله؛ فأحد الأمرين تأديب وتعليم، والاخر تفويض وتسليم. وقال الحافظ الجوزي:«إنما نهى عن الخروج لأن الأصحّاء إذا خرجوا هلكت المرضى؛ فلا يبقى من يقوم بحالهم؛ فخروجهم لا يقطع بنجاتهم، وهو قاطع بهلاك من بقى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» «2» ، وقال صلى الله عليه وسلم:«الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه» . والوباء مرض عام، يفضى إلى الموت غالبا، وسببه فساد جوهر الهواء الذى هو مادة الروح وسبب لصلاحه، ولذلك لا يمكن حياة الإنسان بدون استنشاق، ومتى عدم الحيوان استنشاق الهواء وتنسّمه مات مختنقا. والوباء مضرّ بالأبدان مزيل لصحتها، معرّض لهلاكها، فلذلك نهاهم النبى صلى الله عليه وسلم عن الدخول بأرض حلّ بها الوباء، فيحرم دخولها خوفا عليهم وتعليما لهم، وقال بعضهم: فى نهيه عن الخروج منها معنيان، أحدهما: ثقة بالله وتوكلا عليه، فيحرم ذلك بقصد الفرار، وقال الشيخ ابن سينا: يجب على كل محترز من الوباء أن يخرج عن بدنه الرطوبات الفضلية، ويقلّل الغذاء، ويميل إلى التدبير المجفّف من كل وجه، ويجتنب الرياضة والحمّام، فإنهما مما يجب أن يحذرا؛ لأن البدن لا يخلو غالبا من فضل رديء كان فيه، فيثيراه، وذلك يجلب بلية عظيمة، بل

(1) فى مختار الصحاح: القرف: مداناة المرض، وفي الحديث أن قوما شكوا إليه وباء أرضهم فقال «تحوّلوا، فإن من القرف التلف» .

(2)

رواه الترمذي، والنسائي، والبخارى ومسلم.

ص: 488

يجب عند وقوع الوباء السكون والراحة وتسكين هيجان الأخلاط؛ إذ لا يمكن الخروج من أرض الوباء إلا بالحركة، وهى مضرة.

وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه خرج إلى الشام حتّى إذا كان ب «سرغ» لقيه أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء والطاعون قد وقع بالشام، قال ابن عباس: قال لى عمر: ادع لى المهاجرين الأوّلين.

فدعوتهم، فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا، فقال بعضهم:

خرجت لأمر فلا نرى أن ترجع عنه، وقال اخرون: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء والطاعون، فقال عمر: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لى الأنصار. فدعوا، فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني، فقال: ادع لى من ههنا من مشيخة قريش، من مهاجرة الفتح. فدعوا له، فلم يختلف عليه منهم اثنان، قالوا: نرى أن ترجع بالناس، ولا نرى أن تقدم على هذا الوباء والطاعون، فأذّن عمر في الناس: إنى مصبح على ظهر «1» فأصبحوا عليه. قال أبو عبيدة بن الجراح: يا أمير المؤمنين أفرارا من قدر الله! فقال: «لو غيرك قالها يا أبا عبيدة!! نعم؛ نفرّ من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا له عدوتان، إحداهما خصبة والاخرى جدبة، ألست إن رعيت رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟!» قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف، وكان متغيبا في بعض حاجته، فقال: إن عندى في هذا علما، وذكر الحديث المتقدم ذكره، فحمد الله ثم انصرف.

فعلمنا من هذه الأحاديث حكم النهى عن دخول بلد بها الطاعون والخروج منها بقصد الفرار منه، وعن أبى نعيم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:«الطاعون شهادة لأمتى، ووخز أعدائكم من الجن، غدّة كغدّة الإبل تخرج في الاباط والمرافق، من مات فيه مات شهيدا، ومن قام فيه كان كالمرابط في سبيل الله، ومن فرّ منه كان كالفارّ من الزحف» رواه الطبراني «2» .

(1) كناية عن أنه سيركب دابته مسافرا.

(2)

وروى مسلم عن أسامة بن زيد: «الطاعون اية الرجز، ابتلى الله به ناسا. وقال صلى الله عليه وسلم: «الطاعون شهادة لكل مسلم» رواه البخاري، ومسلم، والإمام أحمد. وللحديث طرق أخرى.

ص: 489

وقال صاحب الصحاح: الطاعون من حيث اللغة: الموت بالوباء، ومن حيث الطب: ورم رديء قتّال، يخرج مع تلهّب شديد مؤذ، ويصير ما حوله في الأكثر أسود وأخضر وغير ذلك، ويؤول أمره إلى التقرّح سريعا.

وقال بعضهم: المسك عظيم في دفع ضرر الطاعون شربا وشمّا، وركوب البحر. وكذلك العنبر، يدفع ضرر الطاعون والوباء، بخورا وشمّا، وهو أفخر أنواع الطّيب بعد المسك، وألوانه مختلفة؛ فمنه الأبيض، والأشهب، والأحمر، والأصفر، والأخضر، والأزرق، والأسود، وأجوده الأشهب القوي، الخفيف الدسم، ثم الأزرق، ثم الأصفر، وأردؤه الأسود، يغش بالشمع واللاذن وغيره، ويقاوم الهواء المحدث للوباء إذا أدمن شمّه والتبخر به، وشربه يدفع ضرر الطاعون والوباء، وأكله ينفع من استطلاق البطن، وينفع من الزكام بخورا وطلاء، وكذلك العود عظيم في دفع ضرر الطاعون والوباء بإذن الله تعالى: شربا وبخورا.

والعود أنواع: أفضلها الهندي، ثم الصيني، وأجوده الأسود النقيّ من البياض، الصلب الرزين الدسم، المرّ الأرسب في الماء، والطافى رديء.

وقال الشعراني: اللبان عظيم في دفع ضرر الطاعون والوباء بخورا، يسنّ تبخير المنزل به، فيدفع ضرر الوباء والطاعون وريح الهواء؛ لما روى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بخّروا بيوتكم باللبان» .

وقال الشيخ ابن سينا: والطواعين تكثر في الوباء، وفي البلاد الوبائية، ولمّا كان ذلك كذلك كانوا يعبّرون بالطاعون عن الوباء لشهرة هذا الاسم عندهم، ولملازمته للوباء في أكثر الأحوال، قال بعضهم: الوباء: الطاعون. وقيل: هو كل مرض عام.

وقال العلّامة القاضى عياض: أصل الطاعون: القروح الخارجة في الجسد، والوباء: عموم الأمراض، فسميت طاعونا لشبهها في الهلاك بذلك، وإلا فكل طاعون وباء، وليس كلّ وباء طاعونا. والصحيح الذى قاله المحققون في الفرق بينهما أنّ الوباء مرض لكثير من الناس في جهة من الأرض دون سائر الجهات، ويكون مخالفا للمعتاد في الكثرة وغيرها، ويكون مرضهم نوعا واحدا، بخلاف سائر الأوقات، وقد روى عن جماعة من السلف أنهم فرّوا من الطاعون، منهم

ص: 490

أبو موسى، ومسروق، والأسود بن هلال، وقال عمرو بن العاص:«فرّوا عن هذا الرجز في الشعاب والأودية ورؤس الجبال» ذكره الإمام النووى في شرح مسلم.

(تنبيه) قال أبو الحسن المدائني: كانت الطواعين المشهورة العظام في الإسلام ستة:

الأوّل: طاعون شيرويه بالمدائن، فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة ستة من الهجرة.

الثاني: طاعون عمواس في زمن عمر بن الخطاب، كان بالشام، ومات فيه خمسة وعشرون ألفا.

الثالث: طاعون في زمن خلافة عبد الله بن الزبير، فى شوال سنة تسع وستين، ومات فيه بالطاعون في ثلاثة أيام كل يوم سبعون ألفا، ومات فيه لأنس ابن مالك ثلاثة وثمانون ولدا، ومات فيه لعبد الرحمن بن عوف أربعون ولدا.

الرابع: طاعون الفتيان، فى شوال سنة سبع وثمانين بالبصرة وواسط والشأم والكوفة، ويقال له طاعون «الأشراف» لما مات فيه من الأشراف.

الخامس: طاعون سنة إحدى وثلاثين ومائة، فى رجب، واشتد في رمضان، وكان يخرج في كل يوم ألف، ثم خفّ في شوّال.

السادس: طاعون كان بالكوفة سنة خمس، وفيه توفى المغيرة بن شعبة.

ولم يقع الطاعون بالمدينة المنورة ولا مكة قط، قاله الإمام النووي.

وعن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا طلع النجم ارتفعت العاهة عن كل بلد» وأراد بالنجم الثريّا «1» قال ابن عباس: يعنى الثريا، والعرب تسمى الثريا نجما، والمراد بالعاهة الافة التى تلحق الزرع والثمار في فصل الشتاء، وصدر فصل الربيع، فيحصل الأمن عليها عند طلوع الثريا في الوقت المذكور، وقال ابن عمر:«إذا طلعت الثريا فقد أمن» يعنى صاحب الزرع والثمار، ولذلك نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة وشرائها قبل أن يبدو صلاحها. اهـ.

(1) لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا طلعت الثريا أمن الزرع من العاهة» رواه الطبراني في الأوسط.

ص: 491

ومن شعر سيدى عبد العزيز الديريني:

وصغّرت ثرية لكثره

والخصب في طلوعها واليسره

(رجع إلى ذكر مواليه) :

* ومنهم أبو مويهبة: وهو من مولّدى مزينة، اشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعتقه، فشهد المريسيع، وكان يقود لعائشة رضى الله تعالى عنها بعيرها.

* ومنهم فضالة اليماني، نزل بالشام ومات بها.

* ومنهم رافع، وهو «رويفع» ، كان لسعيد بن العاص، فابتاعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعتقه. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قلنا يا نبيّ الله، من خير الناس؟ قال: ذو القلب المخموم، واللسان الصادق، قلنا: قد عرفنا اللسان الصادق، فما القلب المخموم؟ قال: هو التّقيّ النقيّ الذى لا إثم فيه ولا بغي، ولا حسد «1» .

قلنا: يا رسول الله فمن على أثره؟ قال: الذى يشنأ الدنيا ويحب الآخرة، قلنا: ما نعرف هذا فينا، إلا أن يكون رافعا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن على أثره؟ قال:

مؤمن له خلق حسن» .

ويقال إن أولاد سعيد بن العاص لمّا ورثوا رافعا عن أبيهم أعتقه بعضهم وأمسكه بعضهم، فجاء رافع إلى النبى صلى الله عليه وسلم يستعينه، فوهب له، وكان يقول: أنا مولى النبى صلى الله عليه وسلم. وبعض أرباب السير يخلط أبا رافع المسمّى «أسلم» برافع، فيقول: إن رافعا وأبا رافع هما شخص واحد، ويجعل «رويفعا» من سبى هوازن، وأن النبى صلى الله عليه وسلم أعتقه.

* ومنهم «مدعم» بكسر الميم وسكون الدال المهملة وفتح العين المهملة، هو عبد أسود لرفاعة بن زيد بن وهب الجذامي، ثم الضبيبى (بضم الضاد المعجمة وفتح الباء المواحدة بصيغة التصغير) أهداه له رفاعة، وهو الذى قتل بوادى القرى بسهم أصابه، فقال الناس: هنيئا له الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلا والذى نفسى

(1) فى المختار: قلب مخموم: أي نقى من الغل والحسد.

ص: 492

بيده؛ إن الشملة التى أخذها يوم خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم تشتعل عليه نارا» وكنيته أبو سلام.

* ومنهم «كركرة» (بفتح الكاف الأولى وكسرها والثانية مكسورة فيهما) هو عبد نوبي، أهداه له هوذة بن علي الحنفى فأعتقه، وقيل: مات وهو مملوك، وكان على ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما مات قال صلى الله عليه وسلم:«هو في النار» ، فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلّها.

ومنهم «زيد» جد هلال بن يسار بن زيد بن عبيد بن طهمان.

* ومنهم مأبور القبطي، وهو عبد خصى أهداه له المقوقس.

* ومنهم «واقدة» أبو واقد، وجعلهما ابن سيد الناس اثنين.

* ومنهم هشام، وهو الذى روى عن النبى صلى الله عليه وسلم حديث:«أن رجلا أتاه فقال: يا رسول الله إن لى امرأة لا تدفع كفّ لامس، فقال: طلّقها» «1» .

* ومنهم «أبو ضمرة» ويقال له: «أبو ضميرة» وهو من العرب، مما أفاء الله عز وجل على رسوله، فأعتقه، ثم خيّره أن يقيم معه أو يلحق بقومه، فاختار المقام، فكتب رسول الله له ولأهل بيته كتابا أن يحفظهم كلّ من لقيهم من المسلمين.

فذكروا أنّ لصوصا لقوا قوما منهم، فأخرجوا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يتعرّضوا لهم.

ووفد حسين بن عبد الله بن ضميرة بن أبى ضمرة على المهدى أمير المؤمنين، وجاء معه بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى كتبه له، فأخذ المهدى الكتاب وقبّله ووضعه على عينيه وأعطى حسينا خمسمائة دينار.

* ومنهم «سفينة» أعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: كان عبدا لأمّ سلمة، فأعتقته وشرطت عليه أن يخدم النبى صلى الله عليه وسلم حياته، فقال: لو لم تشترطى عليّ ما فارقته.

(1) معنى (لا تدفع كفّ لامس) أنها غير عفيفة، وأنها لعوب يسهل استدراجها إلى الفاحشة، وهى كناية لطيفة عن هذا المعنى الذى يستحى من ذكره صراحة.

ص: 493

وكان اسمه «مفلح» وقيل كان اسمه «رباحا» ، وقيل «مهران» فسماه النبى صلى الله عليه وسلم سفينة؛ لأنه كان معهم في سفرة، فكان كل من أعيا ألقى عليه متاعه: ترسا أو سيفا، فمر به النبى صلى الله عليه وسلم فقال: أنت سفينة، وروى عنه أنه قال: كنا مع النبى صلى الله عليه وسلم، فقال: ابسط كساءك، وقال للقوم: اطرحوا أمتعتكم فيه، ثم قال: احمل إنما أنت سفينة، وقال فلو كان وقر بعير أو بعيرين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة لحملته. وهو أسود من مولّدى الأعراب.

* ومنهم «أبو هند» مولى فروة بن عمرو البياضي، ابتاعه النبى صلى الله عليه وسلم عند منصرفه من الحديبية، وأعتقه، وكان حجّام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال فيه النبى صلى الله عليه وسلم:

«يا بنى بياضة، زوّجوا أبا هند وتزوّجوا إليه» ، ففعلوا، ولم يشهد بدرا، وشهد المشاهد كلها. قيل اسمه «عبد الله» وقيل «يسار» .

* ومنهم «أنجشه» (بفتح الهمزة وسكون النون وفتح الجيم وبالشين المعجمة) كان عبدا أسود وقيل حبشيا يكنى «أبا مارية» ، وكان حادى النبى صلى الله عليه وسلم، وكان حسن الصوت بالحداء، فحدا بأزواج النبى صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فأسرعت الإبل، فقال النبى صلى الله عليه وسلم:«ويحك يا أنجشة، رفقا بالقوارير» والقوارير أوانى الزجاج، الواحدة قارورة، شبّههن لضعف قلوبهنّ بقوارير الزجاج.

ويروى أن أنجشة كان يحدو بالنساء، وكان البراء بن مالك يحدو بالرجال.

وممن حدا بمشهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة، فقد روى النسائى عن عبد الله بن رواحة أنه كان مع رسول الله في مسير له، فقال له: يا ابن رواحة انزل فحرّك الركاب، فقال: يا رسول الله قد تركت ذلك، فقال عمر رضى الله عنه: اسمع وأطع، فرمى بنفسه، وقال:

لا همّ لولا أنت ما اهتدينا

ولا تصدّقنا ولا صلّينا

فأنزلن سكينة علينا

وثبّت الأقدام إن لاقينا

والحدو والحداء: سوق الإبل والغناء لها. قال الشاعر:

فغنّها فهى لك الفداء

إنّ غناء الإبل الحداء

ص: 494

* ومن مواليه «أبو لبابة» واسمه «زيد بن المنذر» من بنى قريظة، كان لبعض عماته، فوهبته له، فأعتقه، وقيل: ابتاعه صلى الله عليه وسلم وهو مكاتب فأعتقه.

هؤلاء الموالي المشهورون، وله صلى الله عليه وسلم غيرهم، وقيل يبلغون أربعين مولى.

وأما مولياته صلى الله عليه وسلم:

* فسلمى أمّ رافع، ويقال؛ كانت مولاة لصفية عمّته، وهى زوجة أبى رافع، وداية فاطمة الزهراء، وقابلة إبراهيم بن النبى صلى الله عليه وسلم.

* وأم أيمن، واسمها بركة الحبشية، ورثها النبيّ صلى الله عليه وسلم من أبيه، وهى أم أسامة بن زيد، كانت وصيفة لعبد الله بن عبد المطلب، وقيل: كانت لأم النبى عليه الصلاة والسلام، وكانت من الحبشة. فلما ولدت امنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما توفى أبوه، كانت أم أيمن تحضنه حتّى كبر، فأعتقها حين تزوّج خديجة، وزوّجها عبيدة بن زيد بن الحارث الحبشي، فولدت له أيمن وكنيت به، واستشهد أيمن يوم حنين، ثم تزوجها زيد بن حارثة بعد النبوّة فولدت له أسامة، وقيل:

أعتقها أبو النبى عليه السلام، وهى التى شربت بول النبى صلى الله عليه وسلم. وفي الشفاء «1» روى أنّ أم أيمن كانت تخدم النبى صلى الله عليه وسلم، وكان له قدح من عيدان يوضع تحت سريره يبول فيه من الليل، فبال فيه ليلة، ثم افتقده فلم يجد فيه شيئا، فسأل بركة عنه، فقالت: قمت وأنا عطشانة فشربته وأنا لا أعلم، فقال: لن تشتكى وجع بطنك أبدا، وللترمذى «لن تلج النار بطنك» وصحّحه الدارقطني، وحمله الأكثرون على التداوي.

وأخرج حسن بن سفيان في مسنده، والحاكم والدارقطني، وأبو نعيم، والطبراني، من حديث أبى مالك النخعى يبلغه إلى أم أيمن أنها قالت: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل إلى فخّارة في جانب البيت فبال فيها، فقمت من الليل وأنا عطشانة فشربت ما فيها، وأنا لا أشعر، فلما أصبح النبى صلى الله عليه وسلم، قال: يا أم أيمن

(1) كتاب القاضى عياض.

ص: 495

قومى فأهريقى ما في تلك الفخارة، قلت: قد والله شربت ما فيها؟ قالت:

فضحك النبى صلى الله عليه وسلم حتّى بدت نواجذه، ثم قال:«أما والله لا يجعن بطنك أبدا» .

وعن ابن جريج قال: أخبرت أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يبول في قدح من عيدان ثم يوضع تحت سريره، فجاء فإذا القدح ليس فيه شيء، فقال لامرأة يقال لها «بركة» كانت تخدم أمّ حبيبة، جاءت معها من أرض الحبشة:«أين البول الذى كان في القدح؟ قالت: شربته، قال: «صحة يا أم يوسف» فما مرضت قط، حتى كان مرضها الذى ماتت فيه.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أمّ أيمن أمّى بعد أمّي» وكان يزورها، ثم أبو بكر، ثم عمر.

وقال الواقدي: حضرت أم أيمن أحدا فكانت تسقى الماء وتداوى الجرحى وشهدت خيبر، وتوفيت في أوّل خلافة عثمان، كذا في الصفوة.

قال ابن الجوزي: مواليه ثلاثة وأربعون، وإماؤه إحدى عشرة، كذا في المواهب اللدنية. ولم يكونوا في وقت واحد، بل كان كلّ بعض في وقت.

ويأتى ذلك موضحا في الفصل الأوّل من الباب الأوّل الاتى في خدمه وحشمه وأرباب الوظائف الدينية التى كانت إذ ذاك في الخطة الإسلامية، واقتدى به فيها الخلفاء الراشدون، وتوسّع فيها الملوك والسلاطين المقتدون.

قال صاحب كتاب «تخريج الدلالات السمعية» «1» ما ملخصه: «إنّ من لم ترسخ في المعارف قدمه، وليس لديه من أدوات الطالب إلا يداه وقلمه، يحسب كثيرا من الأعمال السلطانية مبتدعا لا متّبعا، وأن العامل على خطة دنيوية ليس عاملا في عمالة سنّيّة، ويظن أن عمالته دنيّة، فلهذا جمعت ما علمته من تلك العمالات في كتاب يوضّح نشرها، ويبين الأمر لمن جهل أمرها، فيعترف الجاهل، وينصف المتحامل، فذكرت في كل عمالة من ولّاه عليها الرسول صلى الله عليه وسلم من الصحابة، ليعلم ذلك من يليها الان، فيشكر الله على أن استعمله في عمل

(1) للعلامة أبى الحسن علي بن محمد المعروف بالخواص التلمسانى المتوفى 1789 هـ، نشره المجلس الأعلى للشئون الإسلامية عام 1415 هـ/ 1995 م.

ص: 496

شرعى كان يتولاه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلح له، وأقامه المولى في ذلك مقامه، فيجتهد في إقامة الحق فيه، بما يوجبه الشرع ويقتضيه، فيكون قد أحيا سنة وأحرز حسنة.» اهـ.

ومن هذا الكتاب استخرجت الزّبد اللائقة، والخلاصات الفائقة، الاتية في أبوابها، النافعة لطلّابها، حيث لم يف ذلك غالب مؤلفى كتب السير، بل جميعهم. فبانضمام هذه العمالات والوظائف السياسية والشرعية إلى ما حوته هذه السيرة من ماجرياته صلى الله عليه وسلم ابتداء وانتهاء، تفوز بفضيلة السبق، وترضى بعونه تعالى الخالق والخلق «1» .

(1) الحديث في الفقرتين الأخيرتين عن كتاب اخر يعدّه المؤلف متمما لهذا الكتاب، ويحمل عنوان (الدولة الإسلامية، نظامها وعمالاتها) وقد نشرته مكتبة الاداب في مجلد واحد مع كتاب (نهاية الإيجاز) .

ص: 497