الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فصل في بيان المحرمات]
قوله: (وذكر الأصلاب لإسقاط اعتبار التبني، لا لإحلال حليلة الابن من الرضاعة).
هذا مذهب الأئمة الأربعة وأتباعهم وغيرهم. وأما من قال: إن لبن الفحل لا يتعلق به تحريم: وهم: سعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان وعطاء بن يسار، والنخعي، والقاسم،
وأبو قلابة، ومذهب أهل الظاهر. وروي ذلك عن ابن عمر وابن الزبير وعائشة ذكر ذلك السروجي وغيره فلا يتأتى على قولهم تحريم حليلة الابن من الرضاع، لكن دليل من قال إن لبن الفحل يتعلق به التحريم أقوى للسنة الثابتة في ذلك، وأما تحريم حليلة الابن من الرضاع فيحتاج إلى
دليل؛ فإن الأصل حلها لقوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} . وإنما ذكروا في الاستدلال على تحريمها قوله عليه السلام: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" متفق عليه. وفي الاستدلال بهذا الحديث على تحريم حليلة الابن من الرضاع نظر، وكذلك موطوءة الأب من الرضاعة؛ فإنه عليه السلام قال:"ما يحرم من النسب"، ولم يقل: ما يحرم بالمصاهرة، ولا ذكر تحريم الجمع في الرضاع، والصهر قسيم النسب. قال تعالى:{وهو الذي خلق من الماء بشرًا فجعله نسبًا وصهرًا وكان ربك قديرًا} . فالعلاقة بين الناس بالنسب والصهر، وهما سببا التحريم، والرضاع فرع على النسب، وتحريم الجمع بين الأختين، وبين المرأة وعمتها أو خالتها لئلا يفضي إلى قطيعة الرحم المحرمة، ومعلوم أن الأختين من الرضاع ليس بينهما رحم.
فإن قيل:/ القائلون بحل حليلة الابن من الرضاع، إنما بنوه على أن لبن الفحص لا يتعلق به تحريم؛ فإذا لم يثبت أن لبن الفحل لا يتعلق به تحريم لا يثبت ما بني عليه. فجوابه: أن المقصود في تحريم هذه نزاعًا، وبقي النظر في المأخذ، فإذا لم يثبت مأخذ نفى التحريم بلبن الفحل بقي المأخذ الآخر.
قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر
فلا يجمعن ماءه في رحم أختين").
هذا الحديث غير معروف في كتب الحديث.
قوله: (ولنا أن الوطء سبب بواسطة الولد حتى يضاف إلى كل واحد منهما كملا، فتصير أصولها وفروعها كأصوله وفروعه، وكذلك على العكس، والاستمتاع بالجزء حرام إلا في الموطوءة، والوطء محرم من حيث إنه سبب الولد).
إثبات حرمة المصاهرة بالزنا ضعيف؛ فإن الله إنما قال: {وحلائل أبنائكم} . والتي زنا بها الابن لا تسمى حليلة لغة ولا شرعًا ولا عرفًا، وكذلك -قوله تعالى-:{ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء} إنما المراد به
النكاح الذي هو ضد السفاح، ولم يأت في القرآن النكاح المراد به الزنا قط ولا الوطء المجرد عن عقد، والتحريم لا يكون إلا بدليل من الكتاب أو السنة أو الإجماع ولم يوجد، وقياس السفاح على النكاح غير صحيح.
والقصد هاهنا التنبيه على ما في هذا التعليل من الإشكال، وذلك أن الجزئية الحاصلة بين المتناكحين إنما هو اختلاط جزئه بجزئها. لا أن جزءه اختلط بها حتى يقال: إن القياس يقتضي أن لا يطأ الرجل زوجته بعد الوطئية الأولى؛ لأنها صارت بمنزلة جزئه لشيوع جزئه فيها، فإن هذا لا يقوم عليه دليل، بل إذا وطئ الرجل وأنزل، وأنزلت المرأة اختلط الماء فكان منهما الولد، فإضافة الولد إلى كل من الأبوين باعتبار أنه مخلوق من جزئهما، لا أن جزءه شاع فيها، ولا يكون المستمتع بزوجته بعد وطئها مستمتعًا بجزئه، حتى يقال إن الاستمتاع بالجزء حرام إلا في الموطوءة. ولو أن المرأة صارت حاملًا لا يكون بوطئها في حالة الحبل واطئًا بجزئه؛ فإن جزءه وجزءها قد اختلطا واستقرا في قعر الرحم. قال تعالى:{ألم نخلقكم من ماء مهين * فجعلناه في قرار مكين * إلى قدر معلوم} . ولا تصير أصولها وفروعها كأصله وفروعه إلا في حقهما خاصة، وتحل أصولها وفروعها لأصوله وفروعه، وبالعكس، حتى يجوز لابن الزوج من غيرها أن يتزوج ببنتها من غيره.
قوله: (ولا يجوز تزوج المجوسيات لقوله عليه الصلاة والسلام: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب، غير ناكحي نسائهم، ولا آكلي ذبائحهم").
أول هذا الحديث رواه مالك في الموطأ عن جعفر بن محمد عن أبيه: "أن عمر رضي الله عنه ذكر المجوس فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم؟ فقال
عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب".
وليس فيه هذه الزيادة التي ذكرها المصنف وهي قوله: "غير ناكحي نسائهم، ولا آكلي ذبائحهم" وإن كان الحكم كذلك. وأصل الحديث منقطع؛ لأن محمد بن علي لم يلق عمر ولا عبد الرحمن. كذا في التمهيد، وفي التمهيد: وذكر عبد الرزاق، أن الثوري، عن قيس بن مسلم، عن الحسن بن محمد بن علي قال: "كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مجوس هجر يدعوهم إلى الإسلام، فمن أسلم قبل منه، ومن أبى كتب عليه
الجزية، ولا يؤكل لهم ذبيحة، ولا ينكح لهم امرأة" انتهى، وهو مرسل.
قوله: (ولنا ما روي "أنه عليه الصلاة والسلام تزوج ميمونة وهو محرم"، وما رواه محمول على الوطء).
روى ابن عباس رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم" أخرجه الجماعة إلا الموطأ، وفي رواية للبخاري قال:"تزوج ميمونة في عمرة القضاء"، وفي أخرى له قال:"تزوج ميمونة وهو محرم، وبنى بها وهو حلال، وماتت بسرف". ولكن روى/ مسلم وابن ماجه عن يزيد ابن الأصم قال: حدثتني ميمونة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال"
قال: "وكانت خالتي وخالة ابن عباس. [و] رواه أحمد والترمذي، ولفظهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها حلالًا وبنى بها حلالًا، وماتت بسرف، ودفناها في الظلة التي بنى بها فيها". وروى الترمذي عن أبي رافع قال:"تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو حلال، وكنت أنا الرسول بينهما". وقال سعيد بن المسيب: "وهم ابن عباس، وإن كانت خالته، ما تزوجها رسول الله إلا بعدما حل". ذكره أبو داود. وعنه أبضًا: "هذا عبد الله بن عباس يزعم
أن رسول الله نكح ميمونة وهو محرم، وإنما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الحل والنكاح جميعًا، فشبه ذلك على الناس". ورجحوا ذلك أيضًا بحديث عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا ينكح المحرم، ولا ينكح ولا يخطب". أخرجه مسلم والنسائي، والموطأ وابن ماجه.
فقوله: "لا ينكح المحرم" بفتح الياء أي لا يزوج، وفي قوله:"ولا ينكح" بضم الياء وكسر الكاف أي لا يزوج غيره. كقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا} .
وقوله: "ولا يخطب" نهي عن الخطبة بكسر الخاء التي هي طلب زواج المرأة. وصاحبة القضية والسفير بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو رافع أخبر من غيرهما. وابن عباس رضي الله عنهما لم يكن ممن حضر معهم في تلك العمرة، وإنما قاله سماعًا من غيره. وكان حينئذ ممن [لم] يبلغ
الحلم. ولو قد تعارض القول والفعل هنا لوجب تقديم القول لوجوه.
أحدها: أن الفعل يحتمل الخصوص. الثاني: أن الفعل متعارض ولا معارض للقول. الثالث: أن الفعل موافق للبراءة الأصلية، والقول ناقل عنها، فيكون رافعًا لحكم البراءة الأصلية، وهو موافق لقاعدة الأحكام، ولو قدم القول لكان رافعًا لموجب البراءة الأصلية، والفعل رافع لموجب القول فيلزم تغيير الحكم مرتين، وهو خلاف قاعدة الأحكام. ولا يصح قوله:(وما رواه محمول على الوطء)؛ لأن قوله: ولا ينكح أي [لا] يزوج غيره. وقوله: "يخطب" يرد هذا الاحتمال.
قوله: (وعندنا الجواز مطلق لإطلاق المقتضى. وفيه امتناع عن تحصيل الجزء الحر إلا إرقاقه، وله أن لا يحصل الأصل فيكون له أن لا
يحصل الوصف).
المسألة مشهورة ومنشأ الخلاف فيها من مفهوم الشرط. هل هو حجة أم لا؟ والإشكال فهيا هضم الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {ومن لم يستطع منكم طولًا أن ينكح المحصنات المؤمنات} إلى آخرها، من آيات الأحكام، فإذا أخليت من أن يستفاد منها حكم، أو حملت على الكراهة مع صحة ما دلت بمفهومها على حظره والمنع منه، وعدم صحته كان في ذلك هضم لفائدتها. وإنما أمرنا بتدبر القرآن لفهم معانيه، ويجب حمله على أعلى الفوائد وأكملها. وتقديم ما يُفْهَمُ منها على عموم قوله تعالى: {فانكحوا ما
طاب لكم من النساء}، وقوله تعالى:{وأحل لكم ما وراء ذلكم} ، وعلى قوله:{وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم} أولى من العكس؛ فإنَّ ذلك العموم مخصوص غير محفوظ فتطرق الخصوص إليه أولى من إخلاء هذه الآية الكريمة مما دلت عليه بمفهومها دلالة واضحة، ولم يعارضها ما يدل على خلافها صريحًا، مع أنَّ الحكم الذي دلت عليه يناسب كمال الشريعة المطهرة. وهو أن لا يرق ولده وهو يقدر على حريته.
وما قاله المصنف من أنَّه فيه امتناع عن تحصيل الجزء الحر، لا إرقاقة ممنوع، فإنَّه إذا استولد أمة الغير بالنكاح وهو يقدر على نكاح الحرة، فقد أرق جزءه من غير ضرورة، وإن كان إرقاقه حكمًا شرعيًا ليس إليه، فهو الذي تسبَّب فيه، وهو إتلاف معنوي كما في القتل، فإن المقتول وإن كان قد مات بأجله فالقاتل هو الذي تسبَّب في إعدامه الحياة وذلك لا يحل له، فكذلك هذا/.
وقوله: (وله أن لا يحصّل الأصل فيكون له أن لا يحصل الوصف) فيه نظر؛ فإنّ الإنسان يختار أن لا يكون له ولد على أن يكون ولده رقيقًا يباع ويشترى كالبهائم، كما يختار أن لا يكون له ولد على وجود ولد معطل المنافع؛ فإن كل منفعة تفوت ينزل منزلة الهلاك؛ ولهذا وجبت دية النفس كلها في إتلاف اليدين أو الرجلين، أو السمع، أو البصر، أو غير ذلك من الأعضاء
والأوصاف، فكذلك إرقاق الولد، وكما أنه ليس له أن يتسبب في إتلاف سمع ولده، أو بصره أو نحو ذلك من أوصافه، كذلك ليس له أن يتسبب في إرقاقه وهو يقدر على أن يفعل. ونفي الجواز مذهب الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وغيرهم، وإحدى الروايتين عن مالك رحمه الله.
قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تنكح الأمة على الحرة").
وقوله بعد ذلك: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "وتنكح الحرة على الأمة").
هذا اللفظ غير معروف في كتب الحديث مرفوعًا، وإنما روى البيهقي عن الحسن أنه عليه الصلاة والسلام:"نهى أن تنكح الأمة على الحرة"، قال البيهقي: مرسل إلا أنه بمعنى الكتاب. ومعه قول جماعة من الصحابة.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه: فيه رجل مجهول. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: "لا تنكح الأمة على الحرة، وتنكح الحرة على الأمة" أخرجه البيهقي، وقال: هذا إسناد صحيح.
قوله: (وقال مالك رحمه الله: يجوز؛ لأنه في حق النكاح بمنزلة الحر عنده، حتى ملكه بغير إذن المولى).
قال السروجي: هذا لم يقله مالك، يعني أنه يملكه بغير إذن المولى. قال أبو بكر بن العربي في "العارضة": إنه لا خلاف لأحد في أن العبد لا يجوز له زواج بغير إذن سيده؛ فإن تزوج بغير إذنه كان للسيد إجازته أو رده، فإن أقدم عليه فلا حد عليه، وأوجب الظاهرية عليه الحد.
قوله: "وإن تزوج حبلى من الزنا جاز النكاح، ولا يطأ حتى تضع حملها، وهذا عند أبي حنيفة، ومحمد، وقال أبو يوسف: النكاح فاسد. ثم قال: لهما أنه من المحللات بالنص، وحرمة الوطء كيلا يسقي ماءه زرع غيره".
قول أبي يوسف رحمه الله هو قول مالك، وأحمد، وزفر، وشرط أحمد وقتادة، وإسحاق، وأبو عبيد في جواز نكاح الزانية شرطًا آخر، وهو أن تتوب من الزنا واستدلوا بقوله تعالى:{والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} .
قالوا: فقد جعله الله إما زانيًا أو مشركًا؛ فإنه إما أن يلتزم حكمه سبحانه، ويعتقد وجوبه عليه أو لا، فإن لم يلتزمه ويعتقده فهو مشرك. وإن التزمه واعتقد وجوبه وخالفه فهو زان. ثم صرح بتحريمه فقال:{وحرم ذلك على المؤمنين} . قالوا: ولا يعارضه قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} ، وقوله:{فانكحوا ما طاب لكم من النساء} ، وقوله: {وأنكحوا الأيامى
منكم}، لما تقدم أن عموم هذا النصوص مخصوص. وضعفوا حمل النكاح على الزنا؟ إذ يصير معناها: الزاني لا يزني إلا بزانية أو مشركة، والزانية لا يزني بها إلا زان أو مشرك، وكلام الله يصان عن مثل هذا.
قالوا: والله سبحانه إنما أباح نكاح الحرائر والإماء بشرط الإحصان، وهو العفة فقال:{فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان} ، وقال تعالى:{الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات} ، والخبيثات الزواني. وقال تعالى:{والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان} .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله" رواه أحمد وأبو داود بإسناد صحيح، وأيضًا فمن القبائح
أن يكون الرجل زوج بغي، وقبح هذا مستقر في الفطر. يقال: شتمه بالزاي والقاف، أي قال له: يا زوج القحبة، وأيضًا فإن البغي لا يؤمن أن تفسد على الرجل فراشه وتعلق عليه أولادًا من غيره، والتحريم يثبت بدون/هذا.
وفي المسألة نظر آخر أخص من هذا: وهو أن الحبلى من الزنا ينبغي أن لا يجوز العقد عليها عند أبي حنيفة ومحمد أيضًا، لن النكاح بمنزلة الوطء؛ ولهذا قالوا: إن من تزوج أخت أمته التي كان قد وطئها لا يجوز أن يطأ الأمة؛ لأن المنكوحة موطوءة حكمًا، ولا المنكوحة للجمع إلا إذا حرم الموطوءة على نفسه بسبب من الأسباب فحينئذ يطأ المنكوحة لعدم الجمع، ويطأ المنطوحة إن لم يكن وطئ الموطوءة وطئًا؛ إذا المرقوقة ليست موطوءة حكمًا. هذه عبارة المصنف في أوائل هذا الفصل.
وإذا كان عقد النكاح بمنزلة الوطء حكمًا لأنه سببه يجب أن يمنع منه في حق الحبلى من الزنا كما أقيم المس بشهوة مقام الوطء في إثبات حرمة المصاهرة؛ لأن الموضع موضع الاحتياط فكذا هنا أولى. [والاحتياط هنا أولى]، لأنه لو تزوجها ثم جاءت بالولد لستة أشهر أو أكثر يلحق
به، ويكون من ماء الزنا، ولئلا يصير زوج القحبة، بخلاف ما بعد التوبة؛ لأنها تمحو الذنب. ولو كان أكبر الذنوب؛ ولهذا لا يجوز أن يسمى من أسلم مشركًا باعتبار ما كان.
قوله: (ومن وطئ أمته، ثم زوجها لرجل جاز النكاح؛ لأنها ليست لفراش لمولاها؛ فإنها لو جاءت بولد لا يثبت نسبه من غير دعواه إلا أن عليه أن يستبرئها صيانة لمائة، فإذا جاز النكاح فللزوج أن يطأها قبل الاسبتراء عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد [رحمه الله]: لا أحب له أن يطأها حتى يستبرئها؛ لأنه احتمل الشغل بماء المولى فوجب التنزه كما في الشراء، ولهما أن الحكم بجواز النكاح أمارة الفراغ، فلا يؤمر بالاستبراء لا وجوبًا ولا استحبابًا، بخلاف الشراء؛ لأنه يجوز مع الشغل، وكذلك إذا رأى امرأة تزني فتزوجها حل له أن يطأها قبل أن يستبرئها عندهما. وقال محمد: لا أحب أن يطأها ما لم يستبرئها. والمعنى ما ذكرنا).
مذهب الأئمة الثلاثة وغيرهم أنه لا يصح نكاحها قبل الاستبراء
بحيضة. وفي التعليل المذكور نظر من وجوه:
أحدها: قوله: (لأنها ليست بفراش لمولاها)، لحديث وليدة زمعة؛ فإن عائشة رضي الله عنها قالت:«اختصم سعد بن أبي وقاص، وعبد بن زمعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال سعد: يا رسول الله: ابن أخي عتبة بن أبي وقاص عهد لي أنه ابنه، انظر إلى شبهه: وقال عبد بن زمعة: ها أخي يا رسول الله: ولد على فراش أبي من وليدته. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شبهه، فرأى شبهًا بينًا بعتبة، فقال: هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش، وللعاهر الحجر، واحتجي منه يا سودة بنت زمعة، قال: فلم ير سودة قط» رواه الجماعة إلا الترمذي. وفي
رواية أبي داود ورواية للبخاري: «هو أخوك يا عبد» ، وفي رواية الموطأ عن عائشة أنها قالت:«كان عتبة بن أبي وقاص وعهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن ابن وليدة زمعة مني فاقبضه إليك، قالت: فلما كان الفتح أخذه سعد بن أبي وقاص وقال: ابن أخي كان قد عهد إلي فيه،، فقال عبد بن زمعة: أخي وابن وليدة أبي، ولد على فراشه: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الولد للفراش وللعاهر الحجر. ثم قال لسودة بنت زمعة: احتجي منه، لما رأى من شبهه بعتبة، فما رآها حتى لقي الله» .
فقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالولد لزمعة، وصرح بأنه صاحب الفراش، وجعل ذلك علة للحكم بالولد له. فسبب الحكم ومحله إنما كان في الأمة فلا يجوز إخلاء الحديث منه، وحمله على الحرة وحدها. واللفظ إذا كان عامًا، فلا يقول أحد أن سبب القول لا يدخل في عمومه، ولم يرد أن هذه الأمة ولدت له قبل ذلك، ولا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولا استفصل فيه.
وقال المخالفون أيضًا: عجبًا لكم كيف تجعلون الزوجة فراشًا بمجرد العقد، وإن كان بينها وبين الزوج بعد المشرقين، ولا تجعلون سريته التي تكرر استفراشه ليلًا ونهارًا فراشًا؟!
الثاني: قوله: (إلا أن عليه أن يستبرئها صيانة لمائه)؛ فإنه يناقض ما/ ادعاه من جواز النكاح؛ لأنه إذا لزمه الاستبراء صيانة لمائة فلازمه عدم جواز تزويجه، لأن ذلك ينافي صيانة مائة، بل يؤدي إلى اختلاط المياه،
واشتباه نسب الولد أن لو قدر منه حمل.
الثالث: قوله: (وقال محمد: لا أحب أن يطأها حتى يستبرئها؛ لأنه احتمال الشغل بماء المولى، فوجب التنزه كما في الشراء) فإنه تناقض لأنه قال: لا أحب له ثم قال: لأنه احتمل الشغل بماء المولى، فوجب التنزه كما في الشراء. والوجوب، والتشبيه بالمشتراة يزيد على الاستجاب، فدعوى الاستجاب والاستدلال عليه بما يدل على الوجوب تتناقض.
الرابع: قوله: (ولهما أن الحكم بجواز النكاح أمارة الفراغ) فإذن هذا غير مسلم، بل الوطء دليل احتمال الشغل بلا ريب، والحكم بجواز النكاح فصل مجتهد فيه يستدل له لا يستدل به، فلا يصلح لمعارضة احتمال الشغل بالوطء بل المر بالعكس؛ فإن احتمال الشغل بوطء المولي يدل على عدم جواز تزويجه إياها، لا أن يكون حكم المجتهد بجواز النكاح برأيه دليلاً على فراغ رحمها بعد وطء المولى وإنزاله، مع أنه ذكر "صاحب الذخيرة" أن الصحيح وجوب الاستبراء على من أراد أن يزوج أمته التي كان يطأها، قال، وإليه مال شمس الأئمة السر خسي.
الخامس: قوله: (وكذلك إذا رأى امرأة تزني فتزوجها حل له أن يطأها
…
إلى أخره)؛ فإن ماء الزاني إن لم يكن محترمًا، فماءه محترم، فكيف يحل له وطؤها مع احتمال شغلها بماء فيأتيها ولد لا يدري من أي الماءين هو، ونظير هذا: القول بجواز التحيل على إسقاط الاستبراء، وسيأتي الكلام فيه في موضعه إن شاء الله تعالى.
قوله: (وقال مالك رحمه الله هو جائز - يعني نكاح متعة - لأنه كان مباحًا فيبقى إلا أن يظهر ناسخه، وقلنا: ثبت النسخ بإجماع الصحابة رضي الله عنهم، وابن عباس رضي الله عنهما صح رجوعه إلى قولهم فتقرر الإجماع).
فيه نظر من وجهتين؛ أحدهما: نقله عن مالك جواز المتعة وهو غلط، بل قد اختلط أصحاب مالك في وجوب حد الزنا فيه.
الثاني: قوله: (إن النسخ ثبت بإجماع الصحابة) فإن أراد أن نسخه ثبت بالسنة وأجمعت الصحابة على نقله إلينا أو على حكمه فمسلم، وإن أراد به أنه كان ثابتًا بالسنة وأن الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعوا على نسخه فممنوع؛ فإن النسخ لا يكون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والظاهر من كلامه أنه أراد المعنى الثاني وهو سهو منه؛ فإنه قال: وابن عباس صح رجوعه إلى قولهم فتقرر الإجماع، ومثل هذا الكلام لا يقال في المعنى الأول فإن نقل النسخ لا يحتاج فيه إلى إجماع، بل يحتاج على ثبوته بنقل العدل فقط، ومن خالفه
فهو مستمر على ما كان الأمر عليه، ومع الناقل زيادة علم خفي على من لم يبلغه الناسخ، وهكذا كان أمر ابن عباس رضي الله عنهما في المتعة، حتى قال له على رضي الله عنه:«إنك رجل تائه! إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء» رواه مسلم. واختلف في الوقت الذي نسخت فيه المتعة، فقيل: يوم خبير، وقيل: عام الفتح، وقيل: عام حنين وهذان القولان في الحقيقة واحد لاتصال غزاة حنين بالفتح، وقيل: عام حجة الوداع، وهو وهم من بعض الرواة، سافر فيه وهمه من فتح مكة إلى حجة الوداع، وهذا كثير ما يعرض للحفاظ فمن دونهم.
والصحيح أن المتعة حرمت عام الفتح لأنه قد ثبت في صحيح مسلم أنهم استمتعوا عام الفتح مع النبي صلى الله عليه وسلم بإذنه، ولو كان التحريم زمن خبير لزم النسخ مرتين، وهذا لم يقع مثله في الشريعة. وأيضاً فإن خيبر لم تكن فيها مسلمات، وإنما كن يهوديات، وإباحة نكاح نساء أهل الكتاب لم يكن ثبت بعد، وإنما أبحن بعد ذلك في «سورة المائدة» عام حجة الوداع لما نزل قوله
تعالى/ {اليوم أكملت لكم دينكم} إلى قوله: {والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ..} الآيات، ولا كان للمسلمين رغبة في الاستمتاع بنساء عدوهم، بل استرق من استرق منهن، وصرن إماء للمسلمين، وقد نبه ابن عبد البر في «التمهيد» على أن تحريم لحوم الحمر الأهلية كان زمن خيبر دون متعة النساء.
والأحاديث التي في تحريم متعة النساء ثابتة في "الصحيحين وغيرهما، والغرض هنا التنبيه على إشكال يرد هنا، وهو أن يظن الصحابة أجمعوا على نسخ ما كان ثابتاً إلى حين وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: (ومن ادعت عليه امرأة أنه تزوجها، وأقامت بينة على ذلك فجعلها القاضي امرأته، ولم يكن تزوجها وسعها المقام معه، وأن تدعه يجامعها) إلى آخر الباب.
هذه المسألة من فروع القضاء بالشهادة الزور في العقود والفسوخ وأنه ينفذ ظاهرًا وباطنًا عند أبي حنيفة رحمه الله، وخالفه فيها أصحابه الثلاثة أبو يوسف، ومحمد، وزفر، وبقية الأئمة رحمهم الله. وقالوا: ينفذ ظاهرًا فقط، وكان الشيخ أبو الليث السمرقندي وغيره يأخذ بقولهما في الفتوى. ويرجع قولهم حديث أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى (له علي) نحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من النار» رواه الجماعة، وهو يشمل العقود والفسوخ وغيرهما.
وقد أوردوا على ذلك أنه يلزم منه أن يجتمع على هذه المرأة رجلان يطأها أحدهما ظاهرًا الإيراد بالقضاء في الأملاك المرسلة: بأن ادعى رجل في جارية ملكًا مطلقًا وأقام شاهدي زور فقضى له بها القاضي؛ فإن القضاء هنا ينفذ ظاهرًا لا باطنًا بالإجماع، وما كان جوابهم عن هذه فهو جواب الآخرين عن تلك. مع أنا نقول: لا يحل لهذا المقضي له الوطء مطلقًا، لا ظاهرًا ولا باطنًا، وإنما يمكنه متنها باعتبار ما أبداه من الحجة، هي باقية على حرمتها عليه، وهو زان بها فيما بينه وبين الله تعالى.
وإذا وطئها هذا لا يحل للآخر أن يطأها بعده، لاحتمال اشتغال رحمها بماء هذا، فلا يحل له أن يجمع ماءه مع مائه، وهي موطوءة بشبهة، أو بمنزلتها فلا تحل للأول بغير استبراء. وأورد أيضًا أنه يلزم منه تعطيل الفرج لأنها لا تحل للأول ولا للثاني، ولا تتمكن من الزواج بزوج، وفيه ضرر عليها.
ويجاب عن هذا بأن حلها للزوج الأول باق، وعلى هذا الذي أقام شهود
الزور على دعواه الكاذبة التوبة من هذا الذنب العظيم، وكذلك الذين شهدوا بالزور، ومن تمام توبتهم رد هذه المرأة إلى زوجها، ومن قال: إن توبتهم تصح بدون ردها إلى زوجها مع ظلمهم إياه فقد أبعد، ويتسلط بذلك كثير من الجهال؛ فإنه إذا أعجبته امرأة إنسان يأتي معه بآخر فيشهدان على الزوج أنه طلقها، ثم يتزوجها ويقول: إني أتوب من شهادة الزور ثم أتمتع بهذه المرأة حلالًا، وهذا هو المحذور، لا ما قيل: إنه يجتمع عليها رجلان يطأها أحدهما سرًا والآخر علانية؛ فإنا نقول: إن ها الذي يطأها علانية زان، وإن كنا لا نقيم عليه الحد للشبهة وعدم الاطلاع على حقيقة أمره، ولا نقول: إنها حلال باعتبار تقدير عقد سابق على القضاء، أو على طلاق في حق الصورة الأخرى ولم يوجد، ولا ألجأن إلى هذا التقدير ملجأ.
وقد استدل لأبي حنيفة بما روى: «أن رجلًا ادعى على امرأة نكاحًا بين يدي علي رضي الله عنه، وأقام شاهدين فقضى بالنكاح بينهما، فقالت المرأة: إن لم يكن بد يا أمير المؤمنين فزوجني منه، فقال رضي الله عنه: شاهداك زوجاك» .
وهذا الأثر لم يثبت فلا حاجة إلى الاشتغال برد الاستدلال به إلا بعد ثبوته، وعلى تقدير ثبوته لا حجة فيه فإنه أضاف التزويج إلى شهادة الشاهدين لا إلى حكمه، ولم يجبها إلى/ التزويج لأن فيه طعنًا على الشهود وقول
المصنف: وإذا ابتنى القضاء على الحجة وأمكن تنفيذه باطنًا بتقديم النكاح نفذ. قطعًا للمنازعة.
جوابه: أن الحجة باطلة، وتنفيذ القضاء ممكن بتمكين المدعي من المرأة باعتبار ما أبداه من الحجة، فلا حاجة إلى القول بتقديم النكاح وقد انقطعت المنازعة بالتمكين، وحكم الحاكم لا يحلل الحرام، ولا يحرم الحلال. فإذا كان حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الخصوم لا يحلل لهم ما حرم عليهم لقوله:«فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار» كما تقدمك في الحديث. فكيف بحكم الحاكم بعده؟!
* * *