الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[باب القرآن]
وقوله: (وقال مالك: التمتع أفضل من القرآن).
ومذهب مالك كمذهب الشافعي في تفضيل الإفراد. بل قد جاء عن الشافعي أنه اختار التمتع تارة والإفراد تارة بخلاف مالك. وتفضيل التمتع مذهب أحمد، وعنه أن القرآن مع سوق الهدي أفضل؛ فإن لم يكن معه سوق هدي فالتمتع أفضل ذكر [ذلك] صاحب المغني وغيره.
قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "القرآن رخصة").
لا ذكر لهذا اللفظ في كتب الحديث، ولكن روى مسلم عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما:"أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في المتعة"، وهي في عرف الصحابة تشتمل القرآن والتمتع الخاص، ولكن جاء في رواية:"لا أدري متعة الحج أو متعة النساء". فهل يجوز أن يقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "القرآن رخصة" والحالة هذه؟!.
قوله: (ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: يا آل محمد أهلوا بحجة وعمرة معًا").
قال السروجي: ثم صحاب الكتاب ترك الأحاديث الصحيحة الثابتة. في أدلة القرآن، واستدل عليه بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"يا آل محمد أهلوا بحجة وعمرة معًا"، ولم يذكره أهل الحديث فيما علمت غير الطحاوي، انتهى. ولكن لفظه:"أهلوا يا آل محمد بعمرة في حجة"، وأخرج معناه الإمام أحمد، وابن حبان في صحيحه.
قوله: (والسفر غير مقصود والحلق خروج عن العبادة فلا ترجيح بما ذكر).
يشير بذلك إلى الرد على الشافعي في ترجيح الإفراد على القرآن، والتحقيق في المسألة أنه إذا أفرد الحج بسفرة، والعمرة بسفرة فهو أفضل كما قال محمد بن الحسن رحمه الله: حجة كوفية، وعمرة كوفية أفضل عندي من القرآن.
وذكر الكرماني وغيره عن أبي حنيفة أن الإفراد في رواية أفضل من القرآن والتمتع، وقد نص على ذلك أحمد أيضًا مع مالك،
والشافعي وغيرهم. وهذا هو الإفراد الذي فعله أبو بكر وعمر وكانا يختارانه للناس. ونقل عن عثمان وعلي، وغيرهم أيضًا. ويؤيده ما
تقدم من أن القرآن، والتمتع الخاص رخصة؛ فتكون العزيمة إفراد كل من النسكين بسفرة.
وما نقل عن علي وغيره في قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} أنهم قالوا: "إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك"، أو قال:"أن تهل من دويرة أهلك" إن [صح] يحتمل أن يكون المراد إفراد كل واحد منهما من دويرة أهلك بسفرة وإحرام. وكان سفيان بن عيينة يفسره: أن ينشئ لها سفرًا يقصد له ليس أن يحرم من أهله حتى يقدم الميقات. وهذا هو الأولى؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها في عمرتها: "أجرك على قدر نصبك" ويروى: "أفضل الأعمال أحمزها" أي ...................................
أشقها. ولا شك أن إفراد كل نسك بسفرة أشق، وكان إتمامهما على وجه الكمال أفضل من غيره، ومن حمل قوله على أنه يحرم بهما معًا من دويرة أهله، أو بأحدهما ففيه نظر؛ فإنه لم ينقل عنه، ولا عن غيره من الصحابة أنه أحرم بهما من دويرة أهله. وقد نقل عن عمر رضي الله عنه أنه أنكر على عمران بن الحصين إحرامه من البصرة؛ ونقل عن ابن عمر أنه أحرم من أيلياء، ولهذا تنازع العلماء هل الإحرام قبل الميقات مكروه، أو مباح، أو مستحب؟.
وقول المصنف: (والسفر غير مقصود). جوابه أنه لا يتوسل إلى المقصود إلا به فيكون مقصودًا بهذا الاعتبار. ويأتي في كلام المصنف في التعليل لأبي حنيفة في حلق موضع المعاجم أن عليه دمًا؛ لأن حلقه مقصود؛ لأنه لا يتوسل إلى المقصود إلا به، وفي كلام الأصحاب أيضًا، ما لا يتوسل إلى الواجب إلا به يجب لوجوبه، كما قالوا ذلك في الخروج من الصلاة بفعل المصلى عند أبي حنيفة. ولو لم يكن فيه إلا أنه عبادة أجرها عظيم، وكذلك الحلق، كيف وهو نسك عندنا فكان في إفراد كل من الحج والعمرة بسفرة زيادة نسك وزيادة سفر، وزيادة إحرام، وزيادة نفقة، ليس في الجميع؛ فلا ينبغي أن يكون في إفراد العمرة بسفرة خلاف أنه أفضل.
فإن قيل: في إفرادها بسفرة تعريضها للفوات لاحتمال موته قبل أن يعتمر فكان الإتيان بها مع الحج أولى صونًا لها عن الفوات. قيل: هذا غير مسلم؛ فإن من قدر على الاعتمار قبل أوان الحج بحيث يتمكن من الإتيان بالعمرة ثم بالحج في ذلك العام لا تفويت في حقه، ومن قدر عند أوان الحج وقصد إفراد العمرة لا يضره خوف الفوات؛ لأنه له نية، ولو قدر أنه عاش حتى أتى بالعمرة مفردة بسفر بعد حجته هل يقال إن من ضم العمرة إلى الحج في سفرة أفضل منه؟ هذا غير مسلم. وأما إذا [أتى] الميقات في أشهر الحج، وجمع النسكين في سفر واحد كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في حجة الوداع فالذي
ثبت عند أئمة الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن بين الحج والعمرة، وساق الهدي. وأصحابه منهم من تمتع، ومنهم من أفرد، ومنهم من قرن، فلما طافوا بالبيت، وبين الصفا والمروة، أمر النبي صلى الله عليه وسلم جميع الناس أن يحلوا من إحرامهم ويتمتعوا بالعمرة إلى الحج، إلا من ساق؛ فإن يبقى على إحرامه إلى أن ينحر هديه يوم النحر. فامتثلوا أمره، وحل من إحرامه كل من لم يسق الهدي، وأتوا النساء ولبسوا الثياب وهم الجمهور؛ فإن الذين كانوا قد ساقوا الهدي قليلون، ثم لما كان يوم التروية أحرموا بالحج وهم منطلقون إلى منى، ولم يعتمر أحد من مكة بعد الحج إلا عائشة رضي الله عنها وحدها؛ فإنها كانت قد حاضت وكانت متمتعة فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي فقال: مالك، أنفست؟ -أي حضت- قالت: نعم، فقال: هذا شيء كتبه الله على بنات آدم، فاقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت. وأمرها أن تدع العمرة، وتهل بالحج. ووقفت بعرفة، وهي حائض. فلما قضت حجها سألته أن يعمرها فأرسلها مع أخيها إلى التنعيم؛ فأهلت بالعمرة، ثم بنيت هناك بعد ذلك مساجد، وسميت مساجد عائشة.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم لما أمرهم بالإحلال كبر عليهم ذلك. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت"، وهذا كله متفق عليه عن غير واحد من الصحابة. وهذا حجة قاطعة لمن رجح التمتع الخاص، والقران الذي هو نوع من التمتع على إفراد الحج وعلى إفراده والاعتمار بعده من التنعيم، كما يفعله كثير من الناس في زماننا. ثم [من] قال: إن التمتع أفضل من القران مطلقًا، سواء ساق الهدي أو لم يسقه، استدل بقوله صلى الله عليه وسلم:"لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت". وفي لفظ حديث آخر: "لما سقت الهدي، ولجعلتها متعة". ومن قال: إن القران أفضل مطلقًا سواء ساق
الهدي أو لم يسقه استدل بأن النبي صلى الله عليه وسلم قرن. ومن قال: إن ساق الهدي فالقران أفضل اتباعًا لفعله صلى الله عليه وسلم، وإن لم يسق الهدي فالتمتع أفضل اتباعًا لأمره كما هو إحدى الروايتين عن أحمد وغيره، فهذا أعدل الأقوال؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قرن وساق الهدي، وأمر من لم يسق الهدي بالتحلل من إحرامه وأن يجعلها عمرة. فيكون [ال] أفضل ما فعله كما فعله، وما أمر به كما أمر به، فصار الإفراد أفضل في بعض الأحوال، والقران أفضل في بعض الأحوال، والتمتع أفضل في بعض الأحوال كما تقدم تفصيله.
قوله: (ثم يبدأ بأفعال الحج فيطوف طواف القدوم سبعة أشواط، ويسعى كما بينا في المفرد (.
في اعتبار القارن بالمفرد في حق طواف القدوم وإن قيل بعدم التداخل في الأفعال نظر؛ فإنَّ المفرد قادم فيشرع في حقه طواف القدوم، أمَّا القارن فقد طاف لعمرته، وسعى لها فلم يبق قادمًا في حق أفعال الحج فلا يشرع في حقه طواف القدوم كالمكي، ولم يرد ما يستدل به لهذا من السنة. ويأتي الكلام على تثنية الطواف والسعي للقارن إن شاء الله تعالى.
قوله: (ولا يحلق بين العمرة والحج؛ لأنَّ ذلك جنايةً على إحرام الحج، وإنما يحلق في يوم النحر كما يحلق المفرد).
اختلف العلماء في جواز الفسخ في حق المفرد، والقارن الذي لا هدي معه، فذهب ابن عباس إلى وجوب الفسخ، وهو قول أهل الظاهر،
وذهب أحمد بن حنبل وأهل الحديث إلى جوازه، وذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة إلى المنع منه، وقد تواترت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه في حجة الوداع لما طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحلّوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي؛ فإنه أمره أن يبقى على إحرامه حتى يبلغ الهدي محلّه.
وللمانعين ثلاثة أعذار، أحدها: أنها منسوخة لما روى البزار عن عمر رضي الله عنه، أنه لما ولي قال:"يا أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحل لنا المتعة ثم حرمها علينا". وقد أجيب عنه بأن سنده لا يقوم به حجة، ومتنه كذلك؛
فإنَّ المراد بالمتعة فيه متعة النساء التي أحلَّها رسول الله- صلى الله عليه وسلم، ثم حرّمها، وذلك أن الأمة أجمعت على أن متعة الحج غير محرمة.
الثاني: أنها مخصوصة بالصحابة رضي الله عنهم، لما روى الحارث بن بلال بن الحارث المزني عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله: أرأيت فسخ الحج إلى العمرة ألنا خاصةً أم للناس عامةً؟ قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: "بل لكم خاصةً" رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجة، ولكنه لم يثبت. وقد رده الإمام أحمد وغيره. ولما نقل عن أبي ذر رضي الله عنه من اختصاص المتعة
بالصحابة في الصحيح والسنن في ألفاظٍ متعددة، وفي سنن أبي داود عن عثمان أيضًا كذلك. وقد أجيب عنه بأن ذلك رأي من [أبي] ذر وعثمان رضي الله عنهما، وقد قال ابن عباس وأبو موسى الأشعري أن ذلك عام
للأمة؛ فرأي عثمان وأبي ذر معارض برأيهما، وسلمت النصوص الصحيحة. بل دعوى النسخ والاختصاص يردها قوله- صلى الله عليه وسلم لسراقة بن مالك لما سأله عن هذه العمرة التي أمرهم بالفسخ إليها، ألنا هذه خاصة؟ قال:"بل للأبد" وذلك في "الصحيحين" وغيرهما. وهذا أحد سندًا من المروي عن
أبي ذر وعثمان رضي الله عنهما، وأولى أن يؤخذ به منه لو قاومه في الصحة. على أن المروي عنهما يحتمل اختصاص جواز ذلك بالصحابة كما فهمه من حرف الفسخ، ويحتمل اختصاص وجوبه بالصحابة، وهذا اختاره طائفة من أهل الحديث؛ فإن النبي- صلى الله عليه وسلم أمرهم به، وحتمه عليهم ففرض عليهم امتثال أمره، وأما الجواز أو الاستحباب فللأمة إلى يوم القيامة، ويحتمل أنه ليس لأحدٍ بعد الصحابة أن يبتدئ حجة قارنًا أو مفردًا بلا هدي يحتاج معه إلى الفسخ، لكن فرض عليه أن يفعل ما أمر به أصحابه في آخر الأمر من التمتع لمن لم يسبق الهدي، والقرآن لمن ساق، كما صح عنه ذلك.
قال المانعون من الفسخ: قول أبي ذر وعثمان أن ذلك منسوخ أو خاص لا يقال مثله بالرأي، فمع قائله زيادة خفيت على من ادعى بقاءه وعمومه.
قال المجوزون للفسخ: قد ذكرنا ما ينفي النسخ، والاختصاص من قوله- صلى الله عليه وسلم:"لا، بل للأبد"، ومثل هذا لا يقبل النسخ، ولا الاختصاص.
الثالث: معارضة أحاديث الفسخ بما يدل على خلافها، وذلك ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها من رواية الزهري عن عروة عنها "فمنا من أهل بعمرةٍ، ومنا من أهل بحجٍ حتى قدمنا، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: من أهل بعمرةٍ ولم يهد فليحلل، ومن أحرم بعمرةٍ فأهدى فلا يحل حتى ينحر هديه، ومن أهل بحجٍ فليتم حجه". وقد أجيب عن ذلك بأن هذه رواية شاذة مخالفة لما روي عنها وعن غيرها من الصحابة من الأمر بالإحلال لكل من لم يسق الهدي؛ فإما أن تحمل على الغلط، أو على أن ذلك قبل الأمر بالإحلال وجعله عمرة، ويكون هذا أمرًا آخر قد طرى على الأمر بالإتمام
كما طرى على التخيير بين الإفراد والتمتع والقران. ويتعين ذلك لئلا يلزم تغير الحكم مرتين. وكذلك ما رواه مسلم أيضًا من حديث مالك عن أبي الأسود عن عروة، عنها، وفيه "وأما من أهل بالحج، أو جمع الحج والعمرة فلم يحلوا حتى كان يوم النحر" شاذة أيضًا، أنكره الحفاظ، وقال أحمد: هذا خطأ، وما رواه مسلم أيضًا في "صحيحه" عن أبي الأسود عن عروة وفيه "قد حج رسول الله- صلى الله عليه وسلم فأخبرتني عائشة رضي الله عنها، أن أول شيء بدأ به حين قدم مكة أن توضأ، وطاف بالبيت، ثم حج أبو بكر وكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة، ثم عمر كذلك، ثم حج عثمان فرأيته أول شيءٍ بدأ به الطواف بالبيت، ثم لم تكن عمرة، ثم معاوية وعبد الله بن
عمر، ثم حججت مع أبي: الزبير بن العوام فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت، ثم لم تكن عمرة، ثم رأيت المهاجرين والأنصار يفعلون ذلك، ثم لم تكن عمرة، ثم آخر من رأيت فعل ذلك ابن عمر ثم لم ينقضها بعمرة
…
الحديث". فقد أجيب عن ذلك بأنه لا ينافي جواز الفسخ، وإنما ينافي وجوبه فيكون حجة على من قال بوجوبه.
قوله: (ولنا أنه لما طاف صبي بن معبد طوافين، وسعى سعيين قال له عمر: هديت لسنة نبيك).
إنما روى هذا الأمر كما أشار إليه المصنف الحارثي في مصنف أبي حنيفة، وروى أحمد وابن ماجه وأبو داود والنسائي عنه قال: "أهللت
بهما جميعًا؛ [فقال عمر: هديت لسنة نبيك- صلى الله عليه وسلم" وحديث طواف القارن طوافين، وسعيه سعيين رواه الدارقطني عن عبد الله بن عمر، وعلي،
وابن مسعود، وعمران بن حسين، وما أحسن الاستدلال بها لو كانت صحيحة، ولكن قد تكلم عليها، وضعفت، ولولا خوف الإطالة لسقت ما قالوه في ذلك.
وأكثر العلماء على اكتفاء القارن بطوافٍ واحد وسعيٍ واحد، قالوا: عمل العمرة دخل في الحج كما يدخل الوضوء في الغسل من الجنابة إذا اغتسل ولم يتوضأ، وقالوا: لأن الأحاديث الصحيحة تبين أن النبي- صلى الله عليه وسلم لم يطف إلا طوافًا واحدًا، ولم يسع إلا سعيًا واحدًا وكان قارنًا. وهذا قبل
التعريف؛ أما بعد التعريف فإنه يطوف طواف الحج الذي هو طواف الإفاضة، وليس عليه سعي بعد ذلك، إذا كان قد سعى عقيب طواف القدوم؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم لم يسع بعد طواف الإفاضة. وهذا أمر متفق عليه عند أهل الحديث. ولم يرد أن النبي- صلى الله عليه وسلم طاف طوافين، وسعى سعيين في حديثٍ يعتد عليه حتى يصلح لمعارضة ما ورد في نفي تثنية الطواف والسعي،
أو الزيادة عليه. وقد نقل عن عطاء أن القارن يطوف طوافين، ويسعى سعيًا واحدًا. جعل طواف القدوم فرضًا.
واختلفوا في المتمتع الخاص هل يكتفي بسعيه لعمرته عن السعي لحجته على قولين وهما روايتان عن أحمد: وذلك لأجل ما روي من أن الصحابة رضي الله عنهم الذين تمتعوا بالعمرة إلى الحج لم يسعوا بين الصفا والمروة إلا مرةً واحدة، وهذا يدل على أن عمرة المتمتع بعض حجه، كما أن وضوء المغتسل من الجنابة بعض غسله فيقع السعي عن جملة النسك، كما قال عليه السلام:"دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة"، فهذا مما يؤيد الاكتفاء في القرآن بسعيٍ واحد؛ فإن التمتع أبعد عن التداخل من القرآن.
قوله: (ولأنه لا تداخل في العبادات).
ممنوع، بل التداخل قد وجد في العبادات، كما في الوضوء والغسل، وسجدات التلاوة. والاكتفاء بركوع الصلاة عن سجدة التلاوة فيها في حق لب القياس. وقالوا: إن الفتوى عليه، والمسألة معروفة في أصول الفقه. وهذا بالمناسك أشبه؛ فإن مبناها على التوقيف، وقد صح أن النبي- صلى الله عليه وسلم اكتفى بسعيٍ واحدٍ عقيب طواف القدوم. ولولا ترخيصه لعائشة في ترك طواف القدوم للحيض من غير جابر لقلنا بفرضيته كما قال عطاء. بل رخص لها في تركه وقال لها بعد ذلك:"يسعك طوافك لحجك وعمرتك".
قوله: (ومعنى ما راوه دخل وقت العمرة في وقت الحج).
إنما يصار إلى التأويل الذي هو صرف الكلام عن ظاهره وحقيقته للضرورة، ولا ضرورة هنا، مع أنه قد صح أنه- صلى الله عليه وسلم، إنما طاف طوافًا واحدًا، سعي سعيًا واحدًا وكان قارنًا، كما في حديث جابر، وعائشة وغيرهما، ولم يثبت عنه خلاف ذلك كما تقدم، فقد اعتضد قوله بفعله،
والنبي صلى الله عليه وسلم قد بين لهم دخول وقت العمرة في وقت الحج بفعله وقوله؛ فإنه كان قد اعتمر قبل ذلك ثلاث عُمَرٍ في ذي القعدة أوسط أشهر الحج، وكان قد قال لهم عند الميقات:"من شاء أن يهلّ بعمرةٍ فليفعل، ومن شاء أن يهل بحجةٍ فليفعل، ومن شاء أن يهل بعمرةٍ وحجةٍ فليفعل".
وكان قد أمر من لم يسق الهدي أن يتحلل بعمرة. فلم يكونوا محتاجين إلى بيان أن وقت العمرة دخل في وقت الحج، بل كان سبب هذا القول أمره الصحابة رضي الله عنهم بفسخ الحج إلى العمرة، وشق ذلك عليهم فأخبرهم النبي- صلى الله عليه وسلم أن العمرة تدخل في الحج ليبيّن لهم أن عمرة المتمتع بعض الحج؛
ولهذا قال أحمد في رواية: إن المتمتع يكتفي بسعي العمرة مع بيانه بالفعل أن أفعال العمرة دخلت في أفعال الحج.
قوله: (فإن لم يدخل القارن مكة وتوجه إلى عرفات فقد صار/ رافضًا لعمرته بالوقوف) إلى آخر الباب.
هذه المسألة مبنية على عدم دخول أفعال العمرة في أفعال الحج كما تقدم الكلام في ذلك، وقد استدل الأصحاب لهذه المسألة أيضًا بحديث عائشة رضي الله عنها؛ فإنها لما حاضت بسَرِف قال لها رسول الله- صلى الله عليه وسلم:"دعي عمرتك وانقضي شعرك، وامتشطي، وافعلي ما يفعل الحاج، ففعلت، فلما قضت الحج أرسل معها أخاها عبد الرحمن إلى التنعيم فاعتمرت؛ فقال: هذه مكان عمرتك" متفق عليه. وفي رواية: "وأهلي بالحج ودعي العمرة" مكان قوله: "وافعلي ما يفعل الحاج". وفي رواية: "وكنت فيمن أهل بعمرة
فحضتُ قبل أن أدخل مكة، فأدركني يوم عرفة وأنا حائض فشكوت ذلك إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم"، وذكر نحو ما سبق.
قل المخالفون: لا يلزم من ذلك أنها صارت رافضة لعمرتها، وأن عمرتها التي اعتمرت مع أخيها عبد الرحمن كانت قضاء عن تلك العمرة التي رفضتها، بدليل قولها: إنها لما طهرت وطافت بالكعبة، وبالصفا والمروة قال لها النبي- صلى الله عليه وسلم:"قد حللت من حجتك وعمرتك جميعًا" متفق عليه. وفي روايةٍ لمسلم وأحمد: "يسعك طوافك لحجك وعمرتك"، وفي روايةٍ لمسلم:"يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك".
وهذا يدل على شيئين: أحدهما: أنها صارت قارنة؛ لقوله: "لحجك وعمرتك".
والثاني: لأنه لا يجب عليها قضاء تلك العمرة، ويكون معنى قوله:"دعي عمرتك" لا تطوفي لها، ولا تسعي؛ لأنها هي الطواف والسعي. وأما الإحرام فشرطها، وقد كانت محرمة بعمرةٍ فقط. وليس في الإذن لها بأن
تنقض رأسها وتمشط ما ينافي ذلك، وإن كان في ذلك خلاف بين العلماء فالدليل يفصل بين المتنازعين؛ فإنه لم يأت نص عن الشارع يمنع منه، وهذا نص يدل على جوازه، ويكون معنى قوله:"هذه مكان عمرتك"، مكان طوافك وسعيك الذي شق عليك تركه لما قدمت. قالوا: وإنا ألجأنا إلى هذا قوله- صلى الله عليه وسلم لها: "حللت من حجتك وعمرتك" كما تقدم، وهذا محكم الدلالة على المدعى، وذلك اللفظ محتمل، فيرد المحتمل إلى المحكم توفيقًا بين النصين، ويكون إذنه لها في الاعتمار تطبيقًا لقلبها لما رآها قد شق عليها تخلفها عن الطواف والسعي أول ما قدمت ومكثت أيامًا لا تشارك الناس فيما هم فيه من العبادة، وتبكي على ما فاتها من الطاعة معهم؛ ولهذا كانت المرأة أنقص من الرجل دينًا لما يفوتها من الخير أيام حيضها. وهذا القول في القوة كما ترى.
قوله: (وعليه قضاؤها لصحة الشروع فيها، فأشبه المحصر).
يعني العمرة، وفي تشبيهي بالمحصر نظر؛ لأن ظاهره أنه قياس مختلف فيه على متفق عليه، جمهور العلماء على أنه لا قضاء على المحصر، إلا أن يريد التوضيح، يعني كما قال الأصحاب أن المحصر بالعمرة يقضي، فكذلك هذا الذي ابتدأ بالوقوف ولكنه خلاف الظاهر.