الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فصل في تشبيه الطلاق ووصفه]
قوله: (إذا وصف الطلاق بضرب من الشدة والزيادة كان بائنًا مثل أن يقول: أنت طالق بائنًا أو ألبتة، وقال [الشافعي] يقع رجعيًا إذا كان بعد الدخول) ثم علل له، ثم قال: "ولنا أنه وصفه بما يحتمله، ألا ترى أن البينونة قبل الدخول وبعد العدة تحصل به، فيكون هذا الوصف لتعيين أحد الحكمين)، ثم قال بعد ذلك:(ولو عُنِي بقوله: أنت طالق واحدة، وبقوله: بائن، أو ألبتة أخرى تقع تطليقتان؛ لأن هذا الوصف يصلح لابتداء الإيقاع).
وقع في بعض النسخ مثل أن يقول: أنت طالق بائنًا أو ألبتة بنصبهما وفي بعض بائنٌ أو ألبتة برفعهما، وفي كلٍّ منهما نظر، أما على تقدير نصبهما
انتصاب المصدر فلا يصح قوله بعد ذلك: (ولو عُني بقوله/ أنت طالق واحدة، وبقوله: بائن أو ألبتة أخرى تقع ثنتان)؛ لأنه إذا انتصب على المصدرية امتنع جعله خبر مبتدأ محذوف تقديره: أنت طالق أنت بائن؛ لأن الخبر يكون مرفوعًا وهذا منصوب، ولأن الخبر يكون خبرًا عنها، وهذا صفة للطلاق فامتنع لذلك أن تقع اثتنان إذا نواهما بهذا اللفظ وأما على تقدير رفعهما فلا يصح أن يكون صفة للطلاق؛ ففسد قوله:(وإذا وصف الطلاق بضرب من الشدة والزيادة كان بائنًا مثل أن يقول: أنت طالق بائن)؛ لأن قوله: "بائن" والحالة هذه يكون إما صفة لطالق أو خبرًا بعد خبر، وذلك ينافي كونه صفة للطلاق.
وقوله: (ولنا أنه وصفه بما يحتمله): للشافعي رحمه الله أن يمنع صحة احتماله للبينونة، ويمنع تنظيره بثبوت البيونة قبل الدخول وبعد العدة؛ لأن الرجعة شرعت في الطلاق بعد الدخول قبل انقضاء العدة فإثبات البينونة بعد الدخول قبل انقضاء العدة تغيير للمشروع فلغو، فإن قيل: نوي ما فيه تغليظ عليه فيصدق، فجوابه: أنه لا بد أن ينوي ما هو مشروع، وإلا فنيته لا تعمل في تغيير المشروع، ولو وصف الطلاق بأي شيء وصفه، والتفريع إلى آخر وسيأتي تكميل هذا البحث في الكنايات إن شاء الله.
قوله: (فلأنها تحتمل أن تكون نعتًا لمصدر محذوف معناه تطليقة واحدة).
يعني قوله: أنت واحدة، ولا تحتاج إلى أن يكون قوله: واحدة نعتًا لمصدر محذوف، فإن فيه تكلفًا لا حاجة إليه، وإنما هو خبر عنها فيحتمل أن يريد أنها واحدة، أو منفردة لا زوج لها، لأن أن يكون المراد أنها تطليقه واحدة تجوزًا فتأمله!
قوله: (وبقية الكنايات إذا نوي بها الطلاق كانت واحدة بائنة).
أصل الخلاف في أن ما دون الثلاث من الطلاق هل يكون بائنًا أم لا؟ مترتب على أن الرجعة هل ي حق الله تعالي، أو حق الزوج، أو حق الزوجين؟ فيه ثلاث مذاهب:
الأول: مذهب الشافعي وإحدى الروايات عن أحمد، فلو قال: أنت طالق بائنة وقعت رجعية، ولا يملك إسقاطه الرجعة.
الثاني: مذهب أبي حنيفة رحمة الله والرواية الثانية أحمد فيملك
إسقاط الرجعة بأن تطلق الزوجة واحدة بائنة.
الثالث: مذهب مالك، والرواية الثالثة عن أحمد، فلو تراضي الزوجان بالخلع بلا عوض وقع طلاقًا بائنًا، ولا رجعة فيه؛ لأنه يمتنع أن يخير الرجل بين أن يجعل الشيء حلالاً وأن يجعله حرامًا، ولكن إنما يخير بين أمرين مباحين له، وله أن يباشر أسباب التحليل وأسباب التحريم، وليس له إنشاء نفس التحليل والتحريم، والله سبحانه وتعالي إنما شرع له الطلاق واحدة بعد واحدة يملك ارتجاع زوجته في مرتين، ولا يملكه في المرة الثالثة بقوله:{الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} إلى أن قال: {فإن
طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره} الآية.
والله تعالي جعل الطلاق بيد الزوج لا بيد المرأة رحمة منه وإحسانًا ومراعاة لمصلحة الزوجين، نعم له أن يملكها أمرها باختياره فيخيرها بين المقام معه والفراق، وأما أن يخرج الأمر من يده بالكلية إليها ولا بد من عقد جديد فمن أين؟ قالوا: وكما أنه لا يكون إطلاق بيدها لا تكون الرجعة بيدها، قالوا: وقد ملكه الطلاق على وجه معين، وهو أن يطلق واحدة، ويكون أحق برجعتها ما لم تنقض عدتها، ثم إن شاء طلق الثانية كذلك ويبقي له واحدة، وأخبر أنه إن أوقعها حرمت عليه، ولا تعود إليه إلا أن تتزوج غيره ويصيبها ويفارقها، ولم يشرع الله الطلاق غير معقب للرجعة إلا طلاق غير المدخول بها، والطلقة الثالثة، فهذا هو الذي ملكه الله تعالي إياه، فمن قال: إن الله شرع/ له غير [ذلك] فليبين لنا أين شرع ذلك؟
قوله: (كقوله اعتدي، واختاري، أمرك بيدك، فإنه لا يصدق فيها؛ لأن الغضب يدل على إرادة الطلاق).
سوى المصنف بين هذه الألفاظ الثلاثة، وليست مستوية مطلقًا بل لا بد في "اختاري" و"أمرك بيدك" من جواب حتى لو قال: اختاري ينوي الطلاق، لم يقع ما لم تقل اخترت نفسي أو نحو، وكذلك الأمر باليد، والقول بأنه طلاق منجز، قول الحسن البصري، ورواية عن أحمد، وهو مروي عن علي وزيد بن ثابت رضي الله عنهما، وقد ردته عائشة رضي الله عنها حيث قالت:"خيرنا رسول الله -صلي الله عليه وسلم- فاخترناه فلم يعدها [علينا] شيئًا". وفي
لفظ: "خيرنا رسول الله -صلي الله عليه وسلم- أفكان طلاقًا"، متفق عليها، وقد ذكر المصنف ذلك في فصل المشيئة أيضًا.
قوله: (ولنا أن تصرف الإبانة صدر من أهله مضافًا إلى محله عن ولاية شرعية، ولا خفاء في الأهلية والمحلية، والدلالة على الولاية أن الحاجة ماسة إلى إثباتها كيلا ينسد عليه باب التدراك، ولا يقع في عهدتها بالمراجعة من غير قصد).
في استدلاله على أن الشارع أثبت له ولاية الإبانة بما ذكره من المعنى
نظر، وتصوير ما ذكره من المعني: أن الزوج قد يحتاج إلى الإبانة لئلا يقع في الرجعة بغير قصد منه، بأن تأتي المرأة إليه فتقبله بشهوة فيصير بذلك مراجعًا وهو لا يريد الرجعة فيحتاج إلى طلاق ثان وثالث، فيسند عليه باب التدارك بالنكاح بعد ذلك، فهو لأجل ذلك يحتاج إلى أن يشرع له إثبات البينونة عند الطلاق لئلا ينسد عليه باب تدارك هذه المصلحة، ولقد ضعفت مسألة هذا دليلها، فإن هذه المصلحة التي يريدها يمكن تحصيلها من غير ارتكاب هذا المحذور الذي يلزم منه إذا ندم بعد ذلك يجد باب التدارك مسدودًا عليه بل هذا أغلب وأكثر وقوعًا؛ إن الرجل إنما يطلق زوجته لما يقوم في نفسه منها من النفرة، والإنسان محل التغير فربما يندم بعد ذلك وتتغير تلك النفرة برغبة ولا يتمكن من العود إليها إلا برضاها، وقد لا ترضي فيقع في حرج عظيم، فأين هذه المصلحة من تلك المصلحة التي يمكن تداركها بالتحرز عنها؟ وباب التحرز عنها واسع، فلا يعمر قصرًا ويهدم مصرًا.
وكيف يقال فيما فيه مصلحة من وجه ومفسدته أعظم من مصلحته أنه يكون مشروعًا، فهذه الخمر وإن كان فيها منافع للناس، ولكن مضارها تربو على منافعها فكان من كمال هذه الشريعة تحريمها، وهذه سنة الله فيما شرعه، وفيما قدره، فما كانت مصلحة حصوله أعظم من مفسدة فواته شرعة وقدره، والعكس بالعكس، مع أن ثبوت الرجعة من جانب المرأة وإن كان اختلاسًا منها بغير اختيار من الزوج بأن قبلته بشهوة، أو لمسته بشهوة، أو نظرت إلى
فرجه بشهوة، قد خالف فيه أبو يوسف رحمه الله، وقوله أقوي دليلاً، فإن الله تعالي إنما شرع الرجعة لرجل لا للمرأة فقال:{وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرداوا إصلاحًا} ولم يجعل الله الرجعة إلى المرأة، ولا رسوله، فإثبات الرجعة بفعل المرأة لا يقوي، فكيف يغير له حكم الطلاق عن وصفه المشروع؟!