الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فصل]
قوله: (والأصل فيه ما روي أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم سئل: عمن واقع امرأته وهما محرمان بالحج، قال: "يريقان دمًا ويمضيان في حجهما وعليهما الحج من قابل").
قال السروجي: وعن يزيد بن نعيم الأسلمي التابعي، أن رجلًا جامع امرأته وهما محرمان فسأل رسول الله- صلى الله عليه وسلم، فقال لهما:"اقضيا نسككما، وأهديا هديًا. ثم ارجعا حتى إذا جئتما المكان الذي أصبتما فيه ما أصبتما افترقا، ولا يرى واحد منكما صاحبه، وعليكما حجة أخرى، فأحرما من ذلك المكان وأتما نسككما" رواه البيهقي، وقال: إنه منقطع انتهى. وما ذكره المصنف غير معروف.
قوله: (وليس عليه أن يفارق امرأته في قضاء ما أفسده عندنا، خلافًا لمالك إذا خرجا من بيتهما).
لا أصل لما ذكره عن مالك، ومذهب زفر أنه يفارقها إذا أحرما. كذا ذكره ابن المنذر وغيره.
قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "الطواف صلاة إلا أن الله أباح فيه النطق").
تقدم ذكر هذا الحديث في باب الإحرام. وأن الصحيح أنه موقوف على ابن عباس رضي الله عنهما.
قوله: (وإن كان جنبًا فعليه بدنة، كذا روي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
ليس لهذا ذكر في كتب الحديث فيما أعلم. وما ذكره المصنف رحمه الله من التفريع في طواف الجنب، والمحدث ينبغي أن يفرق فيه بين المحدث والجنب، والحائض والنفساء التي تتمكن من طواف الإفاضة طاهرة قبل
رحيل الركب في زماننا، وبين الحائض والنفساء التي لا تتمكن من ذلك؛ فإن هذه معذورة. فلا ينبغي أن تمنع من الطواف الركني للضرورة. ولا ينافي ذلك وجوب الدم عند من يقول به؛ فإن الفدية تجب على المعذور كما في قوله تعالى:{فمن كان منكم مريضًا أو به أذىً من رأسه ففديةٌ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نسك} .
ولو قيل بعدم وجوب الدم في حقّها لم يبعد، كما قال الأصحاب في القيام والمشي؛ فإنهما من واجبات الطواف كستر العورة فيه، والأخذ عن اليمين، والطواف من وراء الحطيم، وقد قالوا: لو طاف راكبًا أو محمولًا على إنسانٍ أو في مِحَفَّة، إن كان لعذرٍ لا شيء عليه. ذكره السروجي وغيره، بغير عذرٍ يلزمه إعادته ما دام بمكة، وإن لم يُعده فعليه دم. فيخرج
على هذا وجه في المذهب بعدم وجوب الدم في حقّ هذه المعذورة.
ولم تكن هذه المسألة واقعة في زمن السلف فلذلك خلت كتبهم عن ذكرها، بل كانوا يتمكَّنون من الاحتباس لأجل الحيض؛ ولذلك قال النبي- صلى الله عليه وسلم لما حاضت صفية رضي الله عنها:"أحابستنا هي؟ " فقالوا له: إنها قد أفاضت. قال: "فلا إذن". وروي عن أبي هُريرة رضي الله عنه أنه قال: "أمير وليس بأمير: امرأة مع قومٍ حاضت قبل الإفاضة فيحتسبون لأجلها حتى تطهر وتطوف" أو كما قال. وأما هذا الزمان فكثير من النساء لا يمكنهن الاحتباس بعد الوفد/ للخوف على أنفسهن ومالهن، ولا يمكن الوفد الاحتباس لأجلهن لما فيه من الضرر بمكث الكل، أو تفرقهم؛ فلا يقال لهذه: لا تطوفي، ولكن إن طفت كان عليك ذبح بدنة، كما يقال ذلك لغيرها ممن لا عذر له.
وقوله عليه السلام في حديث عائشة رضي الله عنها: "وافعلي ما يفعل الحاج غير أن تطوفي بالبيت" إنما قاله لها لأنها كانت تتمكن من الطواف بعد ذلك طاهرة، وقد قال عليه السلام:"إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم". وقد قال تعالى: {قاتقوا الله ما استطعتم} ، وهو مبين لقوله تعالى:{اتقوا الله حق تقاته} ولا واجب في الشريعة مع
عجز. ولا حرام مع ضرورة. وأي ضرورة أعظم من أن تبقى محرمة لا يأتيها زوجها إلى السنة الأخرى، وقد تأتيها حيضها في السنة الأخرى في ذلك الأوان، بل هو الغالب. فإن التي تأتي عادةً في الحيض قبل أن تتغير عنها، بها يظهر الفرق بين هذا وبين الصوم والصلاة مع الحيض؛ فإن الصلاة أسقطها الشرع عنها للحرج في القضاء، وأوجب عليها قضاء الصوم لتيسره عليها بعد رمضان، وأما هذا فالحرج في حقها حاصل، فالقول قول بسقوط الواجب في حقها وهو الطهارة، أو الشرط عند من يجعلها شرطًا للحرج مثل سقوط طواف الصدر عنها. وسقوط الوقف بالمزدلفة بعد الفجر، بل المبيت بها أيضًا عن الضعفة والرعاة، وسقوط القيام والمشي في الطواف عمن طاف محمولًا لعذرٍ كما تقدم، وسقوط ستر العورة عمن لا يجد ثوبًا في الصلاة، وسقوط الطهارة عمن لا يجد إلا ثوبًا نجسًا فيها، وإن كان قد يجد ما يستر عورته، أو يزيل النجاسة بعد الوقت، والقضاء خلف عن الأداء وهذه أولى.
قوله: (ومن ترك من طواف الزيارة ثلاثة أشواط فما دونها فعليه شاة؛ لأن النقصان بترك الأقل يسير فأشبه النقصان بسبب الحدث فيلزمه شاة).
جمهور العلماء على أن إكمال عدد السبط شرط، منهم الأئمة الثلاثة،
ولا يعرف عن الصحابة رضي الله عنهم في ذلك خلاف، وقالوا: إن تقدير الطواف بالعدد السبع ثابت بالنصوص المتواترة عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم قولًا وفعلًا. وقوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت} مجمل بينه وبين النبي- صلى الله عليه وسلم بفعله، كما في الصلاة والزكاة، وقوله:{وليطوفوا} يقتضي تكثير الطواف وتكريره، وذلك مجمل أيضًا في العدد، وبينه النبي- صلى الله عليه وسلم، وقد قال عليه السلام:"خذوا عني مناسككم" وقد طاف سبعًا، والمقادير لا تعرف إلا بالسماع، لا بالرأي والاجتهاد، والأعداد المقدرة بالشرع لا يكون أكثرها قائمًا مقام كلها كعدد ركعات الصلاة، والحدود، والشهرين، والثلاثة الأيام في الكفارة، ونصب الزكاة، ولا يجوز في ذلك كله الاكتفاء بالأكثر.
وقد اعتبر بعض الأصحاب الطواف والسعي في الاكتفاء بأكبر العدد فيه بإدراك الإمام في الركوع، وبالنية في الصوم قبل نصف النهار، وفي ذلك نظر؛ فإنه ليس ذلك من باب الأعداد بخلاف الطواف، مع أن في النية في الصوم قبل نصف النهار من النزاع. ومنهم من قال: [إن الطواف من أسباب
التحلل فيقوم الأكثر فيه مقام الكل كالحلق. وهذا فاسد؛ فإن طواف الإفاضة ركن مقصود لذاته لا للتحلل، وقد قالوا: إن المحلل في حق النساء هو الحلق السابق ولن يؤخر عمله إلى ما بعد الطواف في حق النساء خاصة، مع أن الحلق يكفي عنه التقصير فضلًا عن أن يقوم فيه الأكثر مقام الكل، فلم يكن نظير الطواف]. ومنهم من قال: إن قوله تعالى: {وليطوفوا} يقتضي المبالغة في تكثير الطواف، فلابد من الزيادة على أقل الجمع الذي هو ثلاثة وذلك أربعة. وهذا مسلك آخر غير إقامة الأكثر مقام الكل، وفيه نظر، فإن قولهم لابد من الزيادة على أقل الجمع ونحو ذلك من العبارات مجرد دعوى، وإلا؛ فلو فسره النبي- صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشواط لصلح بيانًا.
ومنهم من بالغ في اعتبار الأكثر فقال: إن المقدار المفروض منه هو ثلاثة أشواط وأكثر الشوط الرابع كصاحب البدائع وغيره، وعلل لذلك بقوله تعالى:{وليطوافوا بالبيت العتيق} . والأمر لا يقتضي التكرار إلا أن الزيادة على المرة الواحدة إلى أكثر الأشواط ثبت بدليلٍ آخر وهو الإجماع، ولا إجماع في الزيادة على أكثر الأشواط، انتهى. وفيه نظر؛ فإن قوله
تعالى: {وليطوفوا} ، يفهم منه التكرير والتكثير لأنه صيغة مبالغة، وليس هو نظير ما لو قال "وليطوفوا" بالتخفيف. وكذلك قال في السعي:{فلا جناح عليه أن يطوف بهما} بالتشديد لا بالتخفيف، ولابد في ذلك من زيادة على المخفف، فإن الزيادة في اللفظ يؤذن بالزيادة في المعنى، وبين لنا النبي- صلى الله عليه وسلم المقدار بفعله وقوله.
ودعوى الإجماع التي ذكرها منتقضة بأشياء فلو ادعاها من قال: إن الخارج من السبيلين على غير وجه الاعتياد لا ينقض الوضوء، أو ادعاها من قال بالاكتفاء بالقراءة في ركعة، أو ادعاها من قال بأن حد السكر أربعون جلدة، أو ادعاها من قال بعدم جواز القيمة في الزكاة، وصدقة الفطر، أو ادعاها من قال إن البدن من الإبل دون البقر لكان ذلك نظير دعواه. وقد
ادعاها ابن المنذر غير الأب الصغير أو الصغيرة على النكاح فقال: وقد أجمع أهل العلم على أن اليتيمين الصغيرين فرجاهما محظوران محرمان إلا بالمعنى الذي أباحه الله به. وقد أجمعوا على أن عقد الأب عليهما يبيح الفرج المحظور، واختلفوا في عقد سائر الأولياء عليهما النكاح، فغير جائز أن يباح فرج قد أجمعوا على تحريمه إلا بإجماعٍ مثله، أو خبرٍ عن الرسول- صلى الله عليه وسلم لا معارض له، انتهى. ودعوى ابن المنذر الإجماع والاستدلال به هنا أظهر من استدلال صاحب البدائع، فإن كان حجة لزمة ما ادعاه ابن المنذر وهو لا يقول به.
قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "فادفعوا بعد غروب الشمس").
كأن المصنف نقل هذا بالمعنى من حديث محمد بن قيس بن مخرمة قال: خطب رسول الله- صلى الله عليه وسلم وقال: "يا أيها الناس، إن أهل الجاهلية كانوا
يدفعون من عرفة حين تكون الشمس كأنها عمائم الرجال في وجوههم قبل أن تغرب، ومن المزدلفة بعد أن تطلع الشمس حتى تكون كأنها عمائم الرجال في وجوههم، وإنا لا ندفع من عرفة حتى تغرب الشمس، وندفع من مزدلفة قبل أن تطلع الشمس. فهدينا مخالف لهدي أهل الأوثان والشرك"، أخرجه الشافعي في مسنده. ويكفي عن الاستدلال بهذا أن النبي- صلى الله عليه وسلم لم يزل واقفًا بعرفة حتى غربت الشمس، ثم أفاض كما قال جابر رضي الله عنه في حديثه الطويل.
قوله: "وله حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: "من قدم نسكًا على نسك فعليه دم").
قال السروجي: لا أصل لهذا عن ابن مسعود، وإنما ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما كما ذكرته عن الطحاوي وابن المنذر وابن
حزم، انتهى. وقال ابن التركماني: روى البيهقي من حديث ابن عباس: "من قدم من نسكه شيئًا أو أخره فلا شيء عليه". ثم روى البيهقي من قوله خلاف هذا أنه قال: "من نسي شيئًا من نسكه أو تركه فليهرق دمًا" انتهى. فقد اضطربت الرواية في فتوى ابن عباس رضي الله عنهما. وفي "الصحيحين" عنه رضي الله عنهما: "أنه- صلى الله عليه وسلم قيل له: في الذبح، والحلق، والرمي، والتقديم، والتأخير، فقال: لا حرج". وفي "الصحيحين" أيضًا عن عبد الله بن عمرو بن العاص: "أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع للناس يسألونه فجاءه رجل فقال: لم أشعر فحلقت قبل الذبح، فقال: اذبح ولا حرج، فجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي، فقال: ارم، ولا حرج. فما سئل النبي- صلى الله عليه وسلم يومئذ عن شيءٍ قدم، ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج".
وفي رواية: "أنه شهد النبي- صلى الله عليه وسلم يخطب يوم النحر فقام رجل فقال: كنت أحسب أن كذا قبل كذا، ثم قام آخر فقال: كنت أحسب أن كذا قبل كذا، ثم قام آخر، فقال كنت أحسب أن كذا قبل كذا، حلقت قبل أن أنحر، نحرت قبل أن أرمي، وأشباه ذلك. فقال النبي- صلى الله عليه وسلم: افعل، ولا حرج لهن كلهن.
فما سئل يومئذٍ عن شيءٍ إلا قال: افعل ولا حرج".
وفي يوم النحر أربعة أشياء: الرمي، ثم النحر، ثم الحلق، ثم الطواف، فعند أبي حنيفة [رحمه الله] ترتيبها واجب يجب بتركه الدم، وقال أحمد وغيره: إن أخل بترتيبها ناسيًا أو جاهلًا بالسنة فيها فلا شيء عليه؛ فإن قول السائل لم أشعر يحتمل النسيان والجهل وقوله في الرواية الأخرى: "كنت أحسب كذا قبل كذا" يدل على جهله بالحكم، وجاء هذا مصرحًا به في روايةٍ لمسلم:"فما سمعته يسأل يومئذٍ عن أمرٍ، مما ينسى المرء أو يجهل، من تقديم بعض الأمور قبل بعض، وأشباهها، إلا قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: افعلوا [ذلك] ولا حرج". وللشافعي [رحمه الله] تفصيل في ذلك ليس هذا موضع بسطه. وإذا كانت فتوى ابن عباس رضي الله عنهما مختلفة في ذلك
ولم يرد نص يغير حكم الناسي والجاهل فالظاهر بقاؤه في حق هذه الأربعة التي تفعل في يوم النحر، والظاهر أن السؤال إنما كان عنها، وما ورد في حديث أسامة بن شريك:"سعيت قبل أن أطوف" أخرجه أبو داود ولم يثبت.
قوله: (فإن حلق القارن قبل أن يذبح فعليه دمان عند أبي حنيفة، دم بالحلق قبل أوانه لأن أوانه بعد الذبح، ودم بتأخير الذبح عن الحلق، وعندهما يجب عليه دم واحد وهو الأول. ولا يجب بسبب التأخير على ما قلنا).
هذا يناقض ما ذكره قبل هذا بصفةٍ في مسألة تأخير الحلق وهو قوله: (وقالا: لا شيء عليه في الوجهين) إلى أن قال: (والحلق قبل الذبح). فقد أثبت أن هناك أن الحلق قبل الذبح غير موجب عندهما شيئًا، ثم أوجب هنا عندهما فيه دمًا.
وقد أجاب السنغاقي عن هذا الإشكال بأنهما يوجبان على القارن دم القران. ولا يوجبان شيئًا بسبب تقديم الحلق وتأخيره، ثم اعترف بأن تعليل صاحب الهداية وقع في غير محله، وقد قرر الشيخ حافظ الدين ما ذكره "صاحب الهداية" من إيجاء دمٍ آخر عندهما غير دم القران للذبح قبل أوانه. وعلى تقدير صحة هذا يشكل إشكالًا آخر وهو أن جناية القارن مضمونة بدمين، فينبغي على ما ذكره "صاحب الهداية" أن يجب خمسة دماء عن أبي حنيفة أو أربعة، وعندهما ثلاث، وهذا لم يقولوه.
قوله: (واستثنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم الخمس الفواسق، وهي الكلب العقور، والذئب والحدأة، والغراب، والحية، والعقرب).
هذه غفلة من المصنف فإنه ذكر خمسًا وعد ستًا، والخمس التي استثناها رسول الله- صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة وعبد الله بن عمر وغيرهما في "الصحيحين" وغيرهما، هي: الفأرة، والعقرب، والغراب، والحدأة، والكلب
العقور. وفي روايةٍ لمسلم: الحية بدل العقرب في حديث عائشة. وفي أخرى له: عن ابن عمر قال: حدثتني إحدى نسوة النبي- صلى الله عليه وسلم "أنه كان يأمر بقتل الكلب العقور، والفأرة، والعقرب، والحديا والغراب، والحية" قال: "وفي الصلاة أيضًا". وليس فيه ذكر لفظ الخمس، وقد عد ستًا بزيادة الحية. وزاد أبو داود والترمذي وابن ماجه:"السبع العادي" من حديث أبي
سعيد الخدري. قال ابن التركماني: وذكر الذئب في رواية الطحاوي من حديث أبي هريرة، وفي سندهما كلام، انتهى. فظهر أن ذكر الخمس في الحديث لا مفهوم له والحالة ما ذكر.
قوله: (ولا ما روينا من حديث أبي قتادة رضي الله عنه، وقال عطاء: أجمع الناس على أن على الدال الجزاء، ولأن الدلالة من محظورات الإحرام، وأنه يفوت الأمن من الصيد؛ إذ هو آمن بتوحشه، وتواريه، فصار كالإتلاف، ولأن المحرم بإحرامه التزم الامتناع عن التعرض فيضمن بترك ما
التزمه كالمودع بخلاف الحلال لأنه لا التزام من جهته).
فيه إشكال، فإن حديث أبي قتادة لا يدل على أن الكفارة على الدال، وإنما يدل على حرمة الصيد بإشارة المحرم للحلال إلى الصيد، وغاية ما فيه أنه أعان على قتل الصيد بالإشارة، وحرمة الصيد على المحرم كحرمة مال المسلم ونفسه بل دونهما، ولا يضمن الدال على مال المسلم وعلى نفسه شيئًا بسبب الدلالة فكذلك هنا. وقد أجابوا عن هذا بأنه لم يلتزم التعرض إلى ذلك لعقدٍ خاص هناك. وأما هنا فقد التزم بعقد الإحرام ترك التعرض إلى الصيد، وفيه نظر؛ فإن المسلم بإسلامه التزم ترك التعرض إلى مال اخيه المسلم، ونفسه، وعرضه، بغير حق. وما نسبه إلى عطاء لا يعرف من رواه عنه.
فإن قيل: قال الطحاوي رحمه الله: وجوب الجزاء على الدال مروي عن عدةٍ من الصحابة ولم يرو عن غيرهم خلافه، فكان
إجماعًا. فجوابه أنه قد نقل عن عدةٍ من الصحابة ضمان الصيد بالمثل من حيث الصورة. ولم يرد عن غيرهم خلافه فهلا قال هناك كما قال هنا. ويظهر أن الأمر بالعكس في المسألتين؛ فإن هذه المسألة لم يثبت ما نقل فيها عن الصحابة وهو على تقدير ثبوته فهي من باب الرأي المحض، وتلك المسألة النقل فيها عن الصحابة ثابت، وهي من باب فهم معنى النص، وهم أحق به ممن بعدهم، ويأتي الكلام في تلك المسألة إن شاء الله تعالى، وقد قال مالك والشافعي وغيرهم إنه لا شيء على الدال.
وهو اختيار ابن المنذر. والفرق بينه وبين المودع أن المودع التزم حفظ الوديعة، والمحرم إنما التزم ترك التعرض إلى الصيد كمال التزم المسلم ترك التعرض إلى مال المسلم ونفسه؛ فالتزام المودع أخص من التزام المحرم. وقد فرقوا بين مال المسلم ونفسه وبين الصيد أن الواجب في مال الغير ونفسه ضمان المحل، والواجب على المحرم كفارة الجناية. وأجيب عن ذلك أن جناية الدال دون جناية القاتل فلا يلزم من شرع الكفارة في حق القاتل شرعها في حق الدال.
قوله: (وسواء في ذلك العامد والناسي؛ لأنه ضمان يعتمد الإتلاف فأشبه غرمات الأموال).
كأن المصنف رحمه الله أراد بالناسي المخطئ؛ ولهذا علل له بما ذكر من تشبيهه بغرامات الأموال، وإلا فالناسي لإحرامه عامد للقتل، وأكثر العلماء على وجوب الكفارة على المخطئ كالعامد، وقال ابن عباس، وسعيد بن جبير، وطاوس. وأبو ثور، وابن المنذر، والقاسم، وعطاء، وسالم،
وداود: إنه لا شيء عليه، وهو رواية عن أحمد. وعن الحسن فيه روايتان. والمثبت للكفارة على المخطئ يحتاج إلى دليل؛ لأن الآية فيها ذكر المعتمد دون المخطئ. وعن الزهري أنه قال: على المعتمد بالكتاب، وعلى المخطئ بالسنة. ولم يذكر ما ورد من السنة في حقه. وقال في المغني: إن وجه الوجوب قول جابر: "جعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم في الضبع يصيده المحرم كبشًا"، وقال عليه الصلاة والسلام:"في بيض النعام يصيبه المحرم ثمنه" ولم يفرق. رواها ابن ماجه. ولأنه ضمان إتلافٍ فاستوى
عمده وخطأه كمال الآدمي، انتهى. وكأن هذا الذي أراده الزهري بقوله بالسنة. وفي نظر؛ فإنه إن صح يمكن حمله على المقيد في الآية، والأصل براءة الذمة فلا تشغل بما فيه احتمال.
وقول المصنف (إنه ضمان إتلاف) يمنع ويقال: بل هو كفارة جناية. كفارة محضة عند زفر، وعند الثلاثة كفارة فيها معنى الضمان، وقد سماه الله كفارة بقوله:{أو كفارة طعام مساكين} ولهذا شرع فيه الصيام، ولو كان ضمان إتلاف لم يشرع فيه الصيام، ولو اشترك محرمان في قتل صيد لوجب على كلٍ منهما جزاء كامل عند أبي حنيفة. وهو رواية عن أحمد، ولو كان من باب الضمان لوجب عليهما جزاء واحد كما لو اشتركا في إتلاف شاة الغير مثلًا؛ فإن على كل منهما نصف قيمتها. ويأتي في كلام المصنف في الكلام على صيد الحرم أو الواجب على المحرم بطريق الكفارة جزاء على فعله.
وقال السروجي: ولأنه لما وجب الجزاء وهو كفارة في العمد ففي الخطأ أولى، ولو كان على العكس لما وجب في العمد، لأن الواجب كفارة كما ذكرنا، وهي في الخطأ دون العمد كما في قتل العمد، ويمين الغموس على
أصلنا وأصل مالك، وابن حنبل انتهى. وجوابه المنع من الأولية، فإن الكفارة لما وجبت في الفطر عمدًا في رمضان لم يقل بوجوبها في الأكل والشرب، والجماع ناسيًا فيه أو مخطئًا. وقال السروجي أيضًا: ولأن جنايات الإحرام لا يختلف فيها المعذور وغيره في وجوب الفدية، ألا ترى أن الله تعالى قد عذر المريض ومن به أذىً في رأسه ولم يحلهما عن الكفارة!.
وجوابه: أن من فعل محظورًا حرامه لعذر فقد باشر فعل المحظور عن قصدٍ للجناية بخلاف المخطئ؛ فإن هذا غير قاصد للجناية على إحرامه فذاك بمنزلة المريض إذا أكل في رمضان بسبب المرض، وهو بمنزلة الناسي لصومه إذا أكل في رمضان. واحتج السروجي أيضًا بما نقل عن عمرو بن دينار قال:"رأيت الناس يغرمون في الخطأ"، وعن عمر مثله، وعن ابن مسعود "أنه قضى في اليربوع في الخطأ بجفرة".
جوابه: أن قول هؤلاء معارض بقول أمثالهم من الصحابة والتابعين، والمسألة مسألة نزاع كما تقدم فليس قول بعضهم حجة على البعض. ولو كان الحكم يعم النوعين كان قوله:{ومن قتله منكم} يبين الحكم مع الإيجاز؛ فإذا قال: {ومن قتله منكم متعمدًا} كان قد زاد اللفظ ونقص المعنى، وهذا مما يصان عنه كلام رب العالمين المعجز الموجز. فإن قلتم: نسخ هذا التخصيص؛ فأين الناسخ؟
قوله: (والصحابة رضي الله عنهم أوجبوا النظر من حيث الخلقة والمنظر) ثم قال بعد ذلك: ولأبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله أن المثل المطلق هو المثل صورة ومعنى، ولا يمكن الحمل عليه فحمل على المثل معنى لكونه معهودًا في الشرع كما في حقوق العباد) إلى آخر كلامه في المسألة.
لا يعرف عن الصحابة رضي الله عنهم في هذه المسألة خلاف، وإنما حصل الخلاف من بعدهم، وهم أخبر بمعنى القرآن ممن جاء بعدهم، والأكثر على موافقتهم، وتأويل ما نقل عنهم وصرفه عن ظاهره لا يجوز لغير معارض، وفي ثبوت المعارض نظر. ومحمد رحمه الله إنما خالف الشيخين فيما لما تبين له من الرجحان، وكفى بالصحابة قدوةً في فهم معنى القرآن، فهم أول مخاطب به من الأمة، وبلسانهم نزل، وهم أخص من غيرهم من أهل اللسان. وقوله:(فحمل على المثل معنىً لكونه معهودًا في الشرع، كما في حقوق العباد) سيأتي إن شاء الله تعالى ما في الضمان بالمثل صورة في حقوق العباد في القيمي كما في ضمان القصعة بالقصعة، والحيوان بالحيوان من الكلام.
قوله: (وقال محمد والشافعي رحمهما الله: الخيار إلى الحكمين في ذلك).
مذهب مالك والشافعي وأحمد أن الخيار إلى القاتل، كذا ذكره ابن قدامة في المغني، وابن المنذر في الإشراف، ونقله النووي عن الشافعي أيضًا وحكى الكرخي عن محمد أن الخيار إلى القاتل عنده أيضًا، غير أنه [إن] اختار الهدي، لا يجوز [له] إلا إخراج النظير. ذكره في البدائع. والدليل لهذا القول هو الظهار، والقول بتخيير الحكمين بعيد، ولا حاجة إلى نصب الخلاف لروايةٍ ضعيفة عن محمد بن الحسن رحمه الله.
قوله: (ومن كسر بيض نعامة فعليه قيمته، وهذا مروي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما.
أخرجه عن ابن عباس سعيد بن منصور، وما ذكره عن علي رضي الله
عنه، قال السروجي: لا أصل له، بل مذهبه ما ذكرته. وكان قد ذكر عنه: جنين ناقة في كل بيضة انتهى. وحكاه ابن المنذر في "الإشراف" مفسرًا فقال: وفيه قول ثالث وهو أن تحمل الفحل على إبلك، فإذا تبين لك لقاحها سميت عدد ما أصبت من البيض فقلت: هذا هدي، فما صلح من ذلك كما صلح، وما فسد كما فسد، فليس عليك كل البيض منه ما يصلح ومنه ما يفسد. روينا ذلك عن علي رضي الله عنه انتهى.
قوله: (والقياس على الفواسق ممتنع لما فيه من إبطال العدد).
في تعليله هذا نظر، فإن أبا حنيفة قد زاد الذئب على العدد. وقد تقدم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي- صلى الله عليه وسلم:"كان يأمر بقتل الكلب العقور، والفأرة، والعقرب، والحديا، والغراب، والحية" أخرجه مسلم وقد ذكرها المصنف أيضًا قبل هذا التعليل بسطور. وهذه ست، وبالذئب تصير سبعًا، فقد ثبتت الزيادة على العدد الذي هو الخمس.
قوله: (واسم الكلب لا يقع على السبع عرفًا، والعرف أملك). تقدم في كلام المصنف (وقيل: المراد بالكلب العقور: الذئب، أو يقال: الذئب في معناه).
فإذا كان قد استدل على إلحاق الذئب بالكلب العقور بما ذكر. كيف ينكر استدلال الشافعي على إلحاق سائر السباع بالكلب بنظير ما استدل به هو على إلحاق الذئب به؟ لا تنه عن خلق وتأتي مثله.
قوله: (ولنا ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قتل سبعًا وأهدى كبشًا، وقال: إن ابتدأناه).
لا يعرف هذا عن عمر رضي الله عنه.
قوله: (بخلاف محرم آخر؛ لأن تناوله ليس من محظورات إحرامه).
في دعوى كون أكل المحرم ما صاده هو من محظور إحرامه دون محرم آخر إشكال؛ فإنه مجرد دعوى، ولو كان الأكل منه كقتله في كونه محظور إحرامه لكان إيجاب الجزاء- كما قال عطاء- أقرب من إيجاب القيمة، ولا يزيد الصيد بعد قتل المحرم له على كونه ميتة، فيستوي في حكم الأكل منه القاتل وغيره من المحرمين في وجوب التوبة دون الكفارة أو القيمة. وقولهم: إن الكفارة إذا وجبت بالوسيلة التي هي الذبح فبالأكل الذي هو المقصود أولى لا يصح، لأن أبا حنيفة لم يقل إن فيه الكفارة، وإنما قال: إن فيه
القيمة. ولو قيل: إن القيمة بمنزلة الكفارة؛ فإيجابها في الوسيلة لا يلزم منه إيجابها في المقصود، لأن الكفارة إنما وجبت في الصيد لاستحقاقه الأمن بدخول المحرم في الإحرام، كما يستحق الأمن بدخوله هو الحرم فبالقتل أزال أمنه فوجبت الكفارة، ولا كذلك بأكله خصوصًا على قول الإمام أبي حنيفة؛ فإن عنده وجب الكفارة بصيد ما لا يؤكل لحمه ولم يقل إنه لو اصطاد سبعًا لجلده ثم استعمل جلده أن عليه قيمة ما نقصه؛ لأن المقصود بصيده؛ فعلم أن الكفارة إنما وجبت لإزالته الأمن عن الصيد خصوصًا على قول من أوجبها على الدال.
قوله: (ولنا ما روي أن الصحابة رضي الله عنهم تذاكروا لحم الصيد في حق المحرم فقال عليه الصلاة والسلام: "لا بأس به").
لا أصل لهذا الحديث، ويغني عن الاستدلال به حديث أبي قتادة؛ فإنه
نص فيه، ففي الصحيحين "أنه أكل منه"، وليس فيه وفيما ذكره المصنف حجة على مالك؛ لأنه مطلق وما رواه مقيد.
قوله: (فإن أصاب حلال صيدًا ثم أحرم فأرسله من يده غيره يضمن
عند أبي حنيفة، وقالا: لا يضمن).
هذه المسألة نظير كسر المعازف، والخلاف فيها واحد. وسيأتي الكلام في بيان رجحان قولهما عند الكلام على تلك المسألة إن شاء الله تعالى.
قوله: (فإن قطع حشيش الحرم أو شجره الذي ليس بمملوك وهو مما لا ينتبه الناس فعليه قيمته إلا فيما جف منه، لأن حرمتهما ثبتت بسبب الحرم، لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يختلى خلاها، ولا يعضد شوكها").
ليس فيما ذكر دليل على وجوب ضمان القيمة. وقد قال مالك، وأبو ثور، وداود الظاهري: لا يجب عليه إلا الاستغفار. قال أبو بكر ابن المنذر: لا أجد دلالة أوجب بها في شجر الحرم فرضًا من كتاب، ولا سنة،
ولا إجماع. وأقول كما قال مالك: يستغفر الله، انتهى. والحديث الذي أشار إليه المصنف متفق عليه، وفيه "ولا ينفر صيدها"، ولم يذكر في الحديث ضمانًا. وتنفير الصيد لا ضمان فيه؛ فكيف يستدل به على الضمان في قطع الحشيش والشجر، وفيه إشكال من حيث اللفظ وهو أن الخلا اسم للنبات الرطب، والحشيش اسمه إذا يبس. قال في الصحاح: ولا يقال له رطبًا الحشيش.
قوله: (وكل شيء فعله القارن مما ذكرناه أن فيه على المفرد دمًا فعليه دمان؛ دم لحجته ودم لعمرته، وقال الشافعي رحمه الله: دم واحد بناءً على أنه محرم بإحرامٍ واحد عنده، وعندنا بإحرامين وقد مر من قبل).
تقدم ذكر ما استدل به الشافعي رحمه الله من أنه- صلى الله عليه وسلم كان قارنًا، لم يطف إلا طوافًا واحدًا، وسعى سعيًا واحدًا، وقال:"دخلت العمرة في الحج" فاعتضد قوله بفعله. وهنا إشكال آخر، وهو أنه على تقدير عدم
دخول أفعال العمرة، فالإحرام شرط غير ركن في النسكين عند أبي حنيفة، فينبغي أن لا يكون في تداخله خلاف؛ فإن الشروط تقبل التداخل بلا خلاف، وأيضًا فالمحرم لو قتل صيدًا في الحرم، دخل موجب قتل الصيد في الإحرام، ولم يجب عليه إلا جزاء واحد في جواب الاستحسان وهو المذهب، فهنا أولى؛ ووجه الأولوية أن موجب قتل الصيد في الحرم ضمان قيمته يتصدق بها بمنزلة ضمان المتلفات؛ ولهذا لا يجزي فيه الصوم عند أبي حنيفة وصاحبيه. وموجب قتل الصيد في الإحرام جزاء الجناية بمنزلة الكفارة إن لم يكن كفارة محضة، ولو أنه قتل صيدًا مملوكًا لحلالٍ لوجب عليه الجزاء والضمان، ومع هذا لا يجب على المحرم بقتل الصيد في الحرم إلا جزاء واحد، فلأن لا يجب على القارن بقتله الصيد إلا جزاء واحد أولى.