المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب الإحرام قوله: (وصلى ركعتين لما روى جابر رضي الله عنه - التنبيه على مشكلات الهداية - جـ ٣

[ابن أبي العز]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب الحج

- ‌فصل

- ‌باب الإحرام

- ‌[فصل]

- ‌[باب القرآن]

- ‌[باب التمتع]

- ‌باب الجنايات

- ‌[فصل]

- ‌[باب مجاوزة الوقت بغير إحرام]

- ‌[باب إضافة الإحرام إلى الإحرام]

- ‌[باب الإحصار]

- ‌[باب الفوات]

- ‌[باب الحج عن الغير]

- ‌باب الهدي

- ‌[مسائل منثورة]

- ‌[كتاب النكاح]

- ‌[فصل في بيان المحرمات]

- ‌باب الأولياء والأكفاء

- ‌فصل في الكفاءة

- ‌(فصل في الوكالة في النكاح وغيرها)

- ‌[باب المهر]

- ‌[فصل]

- ‌[باب نكاح الرقيق]

- ‌[باب نكاح أهل الشرك]

- ‌[باب القسم]

- ‌[كتاب الرضاع]

- ‌[كتاب الطلاق]

- ‌[باب طلاق السنة]

- ‌[فصل]

- ‌[باب إيقاع الطلاق]

- ‌[فصل في إضافة الطلاق إلى الزمان]

- ‌[فصل]

- ‌[فصل في تشبيه الطلاق ووصفه]

- ‌[فصل]

- ‌[باب تفويض الطلاق]

- ‌فصل في الاختيار

- ‌فصل في الأمر باليد

- ‌[فصل في المشيئة]

- ‌باب الأيمان في الطلاق

- ‌فصل في الاستثناء

- ‌باب طلاق المريض

- ‌باب الرجعة

- ‌فصل فيما تحل به المطلقة

- ‌باب الإيلاء

- ‌باب الخلع

- ‌باب الظهار

- ‌[فصل في الكفارة]

- ‌باب اللعان

- ‌باب العنين وغيره

- ‌باب العدة

- ‌فصل

- ‌باب ثبوت النسب

- ‌باب الولد من أحق به

- ‌فصل

- ‌[باب النفقة]

- ‌فصل

- ‌[فصل]

- ‌فصل

الفصل: ‌ ‌باب الإحرام قوله: (وصلى ركعتين لما روى جابر رضي الله عنه

‌باب الإحرام

قوله: (وصلى ركعتين لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، صلى بذي الحليفة ركعتين عند إحرامه). الذي في حديث جابر رضي الله عنه "فصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد، ثم ركب القصواء"، ولم يذكر ركعتين، وهو في صحيح مسلم. وفي حديث ابن عباس:"صلى ركعتين بذي الحليفة وأوجب في مجلسه" أخرجه أهل السنن.

وعن أنس: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى الظهر ثم ركب راحلته، فلما علا على

ص: 999

الجبل -البيداء- أهل" رواه أبو داود. وإحرامه -صلى الله عليه وسلم- كان بعد أن صلى الظهر ركعتين بذي الحليفة، وهي الصلاة المطلقة في الحديث الآخر، ولهذا قال الأصحاب: أنه تجزيه المكتوبة. وقال الشافعي: وأحب إلى أن يهل خلف صلاة مكتوبة، أو نافلة. حكاه البيهقي عنه. وفي بعض نسخ الهداية بعد قوله: "إن النبي -صلى الله عليه وسلم-، صلى بذي الحليفة ركعتين عند إحرامه وقال: اللهم إن أريد الحج فيسره لي، وتقبله مني، ولأن أداءه في أزمنة متفرقة، وأماكن متباينة") بالواو.

في قوله: "ولأن" وذلك يشعر أن مراده أن ما قبلها أيضًا من تمام حديث جابر، ولم يرد ذلك في حديث جابر، ولا غيره، والنية عمل القلب ولا عبرة للسان، حتى لو سمى بلسانه عمرة ونوى بقلبه حجًا، فالعبرة لنية القلب.

قوله: (وقوله: إن الحمد بكسر الألف لا بفتحها ليكون ابتداءً لا بناءً؛ إذ الفتحة صفة الأولى).

ص: 1000

في قوله: إذ الفتحة صفة الأولى تجوز، ومراده أنها للتعليل فتكون متعلقة بما قبلها، وفي قوله: ليكون ابتداءً لا بناء نظر؛ فقد تكون "إن" المكسورة للتعليل أيضًا كالمفتوحة فتصلح للابتداء والبناء، فلا يصح نفي البناء عنها، كما في قوله تعالى {ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون} ، ونحوه، ولكن المفتوحة خالصة للتعليل ولا يلزم من كونها للتعليل أن تكون المكسورة أولى منها، لأنه وإن كان الحمد والنعمة لك على كل حال فلا يمنع أن يكون هذا المعنى مع التعليل، وأن يكون المعنى لأن الحمد على كل حال، والنعمة لك، والملك [لك] وحدك دون غيرك حقيقة لا شريك لك، ولو ادعى الأولوية لكان أظهر.

قوله: (ولو زاد فيها -يعني التلبية- جاز خلافًا للشافعي في رواية الربيع عنه).

قال أبو حامد الغزالي: ذكر أهل العراق عن الشافعي أنه كره الزيادة على ذلك، قال: وهو غلط، لا يكره ولا يستحب.

ص: 1001

قوله: (لما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، نهى أن يلبس المحرم هذه الأشياء. وقال في آخره: ولا خفين إلا أن لا يجد نعلين فليقطعهما أسفل الكعبين).

هذا الحديث أخرجه الجماعة. وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم-، يخطب بعرفات:"من لم يجد إزارًا فليلبس سراويل، ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين" متفق عليه. وأخرج مسلم وأحمد عن جابر مثله، ولكن ليس فيه بعرفات، ولكن القصة واحدة. فذهب الإمامان مالك وأبو حنيفة إلى قطعهما، وذهب الإمام الشافعي إلى قطع الخف دون

ص: 1002

السراويل، وذهب الإمام أحمد إلى عدم لزوم قطعهما. فمن خص القطع بالخف اقتصر على المنصوص، ومن عمهما بالقطع قاس السراويل على الخف. ومأخذ الثلاثة حمل المطلق في حديث جابر، وابن عباس، على المقيد في حديث ابن عمر. ومأخذ الإمام أحمد أن ابن عباس روى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطب بعرفات وأطلق كما تقدم، وابن عمر يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول على هذا المنبر، هكذا رواه الإمام أحمد بهذه الزيادة، وفي رواية الدارقطني أن رجلاً نادى في المسجد: ماذا يترك المحرم من الثياب؟ فيمتنع حينئذ حمل المطلق على المقيد؛ لأن أهل الموقف لم يكونوا قد سمعوا تقييده الذي قاله بالمدينة. ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة اكتفاء بما قاله

ص: 1003

بالمدينة، ولا يمكن أن يكون قد اشتهر إلى حد أنه بلغ من حضر الموقف من ذلك الخق العظيم؛ فلو كان هذا قيدًا لابد منه لوجب بيانه في وقت الحاجة، وحينئذ فإما أن يكون القطع مستحبًا أو منسوخًا.

وروى أبو حفص عن عبد الرحمن بن عوف "أنه طاف وعليه خفان، فأنكر عليه عمر، فقال: لبستهما مع من هو خير منك" يعني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وذكر جماعة من الحفاظ أن قوله: "وليقطعهما أسفل من الكعبين" مدرج من كلام نافع، فتعين التثبت في إتلاف الخف أو السراويل، والترخص في لبس ذلك للضرورة المبيحة لما هو أعظم من هذا، وإلا فليس في لبس الخف المقطوع والسراويل، المقطوع رخصة عند من يجيز لبس النعل المحيط والقباء

ص: 1004

المحيط وأذياله إلى فوق؛ فإن مثل هذا عنده يجوز مع وجود غير المحيط، ولو كان المراد الجواز للعذر مع لزوم الكفارة لبينه؛ إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولما اختص الترخص بالخف والسراويل، بل كان القميص ونحوه كذلك، هذا ملخص بحث الحنبلة، وهو ظاهر كما ترى.

قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "إحرام الرجل في رأسه، وإحرام المرأة في وجهها"). قال السروجي: وليس ذلك حديثًا عنه -صلى الله عليه وسلم-، بل ذكره الدارقطني عن ابن عمر. والصحيح عنه خلافه، كما ذكره عنه مالك،

ص: 1005

والبيهقي، وأبو ذر الهروي.

قوله: (ولأن المرأة لا تغطي وجهها مع أن في الكشف فتنة فالرجل بطريق الأولى).

فيه نظر؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يشرع للمرأة كشف الوجه للرجال في الإحرام ولا غيره خصوصًا عند خوف الفتنة، وإنما جاء النص بالنهي عن النقاب خاصًا، كما جاء النهي عن القفازين، وزيد في حديث ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال:"لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين" رواه أحمد، والبخاري، والنسائي والترمذي وصححه. وقد تقدم أن القول بأن إحرام المرأة في وجهها إنما هو من كلام ابن عمر، قال ابن المنذر: "وكانت أسماء ابنة أبي بكر

ص: 1006

تغطي وجهها، وهي محرمة. وروينا عن عائشة أنها قالت:"المحرمة تغطي وجهها إن شاءت"، انتهى. وعن عائشة قالت:"كان الركبان يمرون بنا، ونحن مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- محرمات، فإذا جاوزوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه". رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، فالذي دلت عليه السنة أن وجه المرأة كبدن الرجل يحرم ستره بالمفصل على قدره كالنقاب، والبرقع، بل وكيدها يحرم سترها بالمفصل على قدر اليد كالقفاز، وأما سترها بالكم، وستر الوجه بالملحفة، والخمار

ص: 1007

ونحوهما فلم تنه عنه المرأة: البتة.

ومن قال: إن وجهها كرأس المحرم فليس معه نص. وإنما جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وجهها كيدها؛ فلا تغطي وجهها بنقاب ونحوه، ولا يدها بقفاز ونحوه. وتغطيهما إذا شاءت بغير ذلك. هكذا فهمت عائشة، وأسماء وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم، وليس قول بعضهم حجة على بعض بغير نص، فلا يصح قول المصنف أن المرأة لا تغطي وجهها مع ما فيه من الفتنة.

وقول من قال من الأصحاب وغيرهم أنها إذا سدلت على وجهها شيئًا تجافيه عنه لم يرد فيه نص، قال ابن القاسم: وما علمت أن مالكًا كان

ص: 1008

يأمرها إذا سدلت رداءها أن تجافيه عن وجهها، ولا علمت كان ينهاها عن أن يصيب الرداء وجهها إذا سدلته.

قوله: (لا تمس طيبًا لقوله عليه الصلاة والسلام: "الحاج الشعث التفل").

رواه ابن ماجه، وهو حديث ضعيف. والدليل الصحيح على المنع من الطيب ما ثبت في "الصحيح" في حديث ابن عمر رضي الله عنهما من قوله -صلى الله عليه وسلم-:"ولا ثوبصا مسه ورس، ولا زعفران". وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث الحرم الذي مات: "لا تحنطوه"، وفي لفظ:"ولا تمسوه طيبًا".

ص: 1009

قوله: (ولنا أن له رائحة طيبة).

يعني العصفر. وفي جعله تلك من الطيب نظر؛ فإن رائحته ليست بذاك. وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أنه "نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب، وما مس الورس، والزعفران من الثياب، ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب، معصفرًا أو خزًا" رواه أبو داود. فإذنه للمرأة في لبس المعصفر يدل على أن المعصفر ليس بطيب.

قوله: (وقال مالك: يكره أن يستظل بالفسطاط، وما أشبه ذلك).

قال في "الذخيرة" المالكية: لا خلاف في دخوله تحت السقف والخيمة،

ص: 1010

وأجاز مالك تظلله بالمحمل، ومنعه سحنون، ومنع مالك أن يضع ثوبه على شجرة فيتظلل به، وجوزه الجمهور، ومنع مالك، وابن حنبل الراكب من ذلك. وقال مالك: في الرجل يعادل المرأة في المحمل: لا تجعل عليها ظلاً. وقال أشهب: تستظل به دونه، وقاله ابن القاسم: فليس ما ذكره صاحب الهداية عن مالك على إطلاقه.

قوله: (لما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كما دخل مكة، دخل المسجد").

ص: 1011

هذا اللفظ غير محفوظ، ولكن معناه مخرج في "الصحيحين"، وتركيبه غريب، ذكره ابن هشام في "المغني" من معاني الكاف: المبادرة، ومثل له بقولهم: سلم كما ترحل، صل كما يدخل الوقت، ثم قال: وهو غريب جدًا، انتهى.

قوله: (وإذا عاين البيت كبر، وهلل. وكان ابن عمر رضي الله عنهما، يقول إذا لقي البيت: "باسم الله والله أكبر").

هذا الأمر غير مذكور في كتب الحديث فيما أعلم.

قوله: (لما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل المسجد فابتدأ بالحجر فاستقبله،

ص: 1012

وكبر وهلل).

هذا اللفظ غير محفوظ، ولكن ورد أنه سئل عمر عن استلام الحجر؛ فقال:"رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستلمه ويقبله" أخرجه البخاري والنسائي. وعن عمر رضي الله عنه أنه كان يقبل الحجر، ويقول:"إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك" رواه الجماعة. وعن عمر رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا عمر، إنك رجل قوي، لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف، إن وجدت خلوة فاستلمه، وإلا فاستقبله وهلل وكبر" رواه أحمد.

قوله: (ويرفع يديه لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا ترفع الأيدي إلا في

ص: 1013

سبع مواطن". وذكر من جملتها استلام الحجر).

تقدم أن هذا الحديث غير صحيح بهذا الفظ -أعني لفظ النفي والإثبات-، وإنما ورد ولم يثبت:"ترفع الأيدي في سبعة مواطن" كما تقدم.

قوله: (ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "وليصل الطائف لكل أسبوع ركعتين").

قال السروجي: لا أصل لهذا في كتب الحديث، انتهى. وإنما عرفت ركعتا الطواف من فعله -صلى الله عليه وسلم-، لا من قوله. وقيل: أخذ الوجوب من قوله تعالى: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} ، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم-، صلى ركعتين بعد طوافه وتلاها فنبه على أن الصلاة كانت امتثالاً لأمر الله. وفيه نظر؛ فإن الأمر إنما هو باتخاذه مصلى، لا بالصلاة عنده فتأمله.

ص: 1014

قوله: (وقال مالك: إنه واجب).

يعني طواف القدوم وتحرير مذهب مالك أنه واجب وجوب السنن، لا وجوب الفرائض، أي يجب بتركه الدم الأفقي إذا تركه. والوقت متسع، وإن تركه لضيق الوقت فلا شيء عليه. وحكى عنه أبو ثور أن طواف الزيارة يجزي عن طواف القدوم، والزيارة، والصدر. ذكر ذلك ابن المنذر بمعناه وغيره.

قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "من أتى البيت فليحيه بالطواف").

وهذا الحديث أيضًا لا أصل له، وإنما عرف طواف القدوم من فعله -صلى الله عليه وسلم- لا من قوله، والفرق بين حكم ركعتي الطواف وبين طواف القدوم فيه نظر؛

ص: 1015

فإن كليهما عرف من فعله، وإما أن يقال بسنيتهما أو بوجوبهما.

قوله: (والرفع سنة الدعاء).

يعني: يرفع يديه في الدعاء على الصفا والمروة، لأن الرفع سنة الدعاء. وهذا يرد قوله: أن الرفع مختص بسبعة مواطن واستشهاده بالحديث الذي تقدم الكلام عليه، فإن الدعاء والرفع معه مشروع في كل مكان وزمان فانتفى حصره.

قوله: (ولنا قوله تعالى: {فلا جناح عليه أن يطوف بهما} ومثله يستعمل للإباحة).

في قوله: (ومثله يستعمل للإباحة) نظر، ولا يكون مثله يستعمل للإباحة إلا إذا قيل:{أن لا يطوف بهما} . ولهذا من قال بأن السعي سنة قال: إن "لا" مقدرة، وهو مذهب نحاة الكوفة. وتقدم التنبيه على أن التقدير في مثله لا يصح، وأنه ليس نظير قوله تعالى:{يبين الله لكم أن تضلوا} في الكلام على وجوب الفدية على الشيخ الفاني الذي لا يقدر على الصوم وأفطر.

ص: 1016

قوله: (ثم معنى ما روي كتب استحبابًا كما في قوله تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت

} الآية).

فيه نظر؛ فإن معنى: {كتب عليكم} فرض عليكم وألزمكم، ولا يقال إن كتب عليكم بمنعى استحب لكم، فإن "على" للإلزام، والكتابة للتوثق، والعقد، والاحتفاظ. وذلك فوق الاستحباب. وأكد ذلك بقوله:{فاسعوا} كما أكد في الآية الكريمة بقوله: {حقًا على المتقين * فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم} . وهذه

ص: 1017

إلزامات أخر، وهذا الذي دلت عليه الآية هو قول الجمهور؛ فإنهم قالوا: إنهم كانوا في أول الإسلام على عادتهم في الجاهلية لا يورثون الأولاد، فأمر الله بالوصية للوالدين والأقربين ولم يأمرهم بالوصية للأولاد لأنهم كانوا هم الورثة، فلما كتب الوصية للوالدين والأقربين لم يكونوا وارثين، فكتب على الناس أن يوصلوا لهم بالمعروف، ولم يقدر ما يوصى به، ثم فرض لهم ما يستحقونه، فأعطاهم الله ما يستحقونه فلم يجمع لهم بين الأصل والبدل، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:"إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث"

ص: 1018

فالوصية للوالدين وبقية الورثة من الأقربين لم تبق مشروعة فضلاً عن أن تكون مستحبة، فلا يصح قوله:"كتب استحبابًا". ولكن قد تكلموا في ضعف الحديث، ولا يضره التضعيف فإن الشافعي رحمه الله لم يعتمد عليه وحده، بل عضد به فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي خرج بيانًا لمجمل الأمر بالحج، كما في الوقوف بعرفة فإن ثبوته كذلك. وقولهم: إن قوله تعالى: {فلا جناح عليه أن يطوف بهما} تنفي الركنية والإيجاب قد أجابت عنه عائشة رضي الله عنها، فعن عروة قال: "سألت عائشة رضي الله عنها، فقلت لها: أرأيت قول الله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة؟

ص: 1019

قالت: بئسما قلت يا بن أختي! إن هذه لو كانت على ما أوليتها كانت لا جناح عليه أن لا يطوف بهما، ولكنها أنزلت في الأنصار كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانواي يعبدونها عند المشلل، وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فقالوا: يا رسول الله! إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله عز وجل: {إن الصفا والمروة من شعائر الله

} الآية. قالت عائشة: "وقد سن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما". قال الزهري: "فأخبرت أبا بكر بن عبد الرحمن، فقال: إن هذا العلم ما كنت سمعته

" الحديث، أخرجه الجماعة.

قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "الطواف بالبيت صلاة").

ص: 1020

أخرجه أحمد والترمذي من حديث ابن عباس مرفوعًا وموقوفًا. وقال المنذري في أحاديث المهذب: الصواب موقوف عليه، وكذلك نبه غيره من أهل الحديث على أن رفعه وهم.

قوله: (وقال زفر رحمه الله: يخطب في ثلاثة أيام متوالية، أولها يوم التروية).

الخطبة يوم التروية ليس لها أصل في السنة بالكلية، وإنما الخطبة الصحيحة

ص: 1021

يوم عرفة في حديث جابر أخرجه مسلم. وفي حديث غيره. والخطبة الصحيحة أيضًا في يوم النحر في حديث أبي بكرة.

أخرجه البخاري ومسلم وفي حديث غيره. ولا خلاف في الخطبة يوم عرفة. وقد صح الحديث في الخطبة يوم النحر؛ فقول من قال بالخطبة

ص: 1022

فيه أقوى، والخطبة في اليوم السابع من ذي الحجة في حديث ابن عمر أخرجه البيهقي، والخطبة في أيام التشريق في حديث ابن عمر، أخرجه البيهقي، وفيه:"في أوسط أيام التشريق" ولكن قيل: إن الوسط هنا بمعنى

ص: 1023

الخيار، وأنه ثاني يوم النحر. واحتج من قال ذلك بما رواه أبو داود من حديث سراء بنت نبهان فإنه قال فيه:"وهو اليوم الذي يدعون يوم الرؤوس"؛ ولهذا قال أهل الظاهر: إن الخطب خمس، ولكن لم يرد أنه -صلى الله عليه وسلم- خطب بمنى إلا خطبتين، فتكون خطبه أربعًا. وبهذا قال الشافعي وأحمد رحمهما الله، ولكن الخطبة الرابعة عندهما يوم النفر الأول لا يوم النفر.

ص: 1024

قوله: (يخطب خطبتين يفصل بينهما بجلسة كما في الجمعة، هكذا فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-).

في حديث جابر الطويل: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خطب على ناقته، فلما فرغ من خطبته، أذن المؤذن، وقا النبي -صلى الله عليه وسلم- فصلى الظهر والعصر

" الحديث.

ص: 1025

ولا يتصور أن يكون قد خطب خطبتين فصل بينهما بجلسة، وهو على الناقة، ولم يكن في عرفات منبر حتى يقال: لعله خطب بها على منبر، هذا ما لا شك فيه، ولا يصح في خطب الحج كلها أنه خطب خطبتين فصل بينهما بجلسة، ولهذا نص كثير من الحنبلية أنه يخطب خطبة واحدة.

قوله: (وقال مالك: يخطب بعد الصلاة).

مذهب مالك موافق لمذهب بقية الأئمة أن الخطبة قبل الصلاة كما في الجمعة لا كما يدعيه المصنف.

قوله: (والصحيح ما ذكرنا).

يعني أن المؤذن يؤذن قبل الخطبة كما في الجمعة، ثم قال:(لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما خرج واستوى على ناقته أذن المؤذن بين يديه).

هذا لا أصل له، وإنما في حديث جابر الصحيح أن الأذان والإقامة كانا بعد الخطبة؛ فالصحيح الرواية التي نقلها المصنف عن أبي يوسف لموافقة

ص: 1026

الحديث الصحيح.

قوله: (ولا يتطوع بين الصلاتين تحصيلاً لمقصد الوقوف؛ ولهذا قدم العصر على وقته).

في التعليلين نظر؛ أما الأول فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يصلي من الرواتب في السفر إلا الوتر وسنة الفجر؛ فإنه كان لا يدعهما حضرًا ولا سفرًا.

وعن حفص بن عاصم عن أبيه قال: صحبت ابن عمر في طريق مكة، قال: فصلى بنا الظهر ركعتين، ثم أقبل وأقبلنا معه، حتى جاء رحله وجلس، وجلسنا معه، فحانت منه التفاتة نحو حيث صلينا، فرأى ناسًا قيامًا فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قلت: يسبحون. قال: لو كنت مسبحًا لأتممت صلاتي، يا ابن أخي، إني صحبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، ثم صحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، ثم صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وقد قال الله تعالى: {لقد كان لكم في

ص: 1027

رسول الله أسوة حسنة}. أخرجه مسلم بطوله، واختصره البخاري فلم يكن يترك التطوع بين الصلاتين ليحصل مقصود الوقوف، وأيضًا فإن الوقوف بعرفة لا تنافيه الصلاة، بل المصلي بعرفة جامع بين عبادتين: الصلاة، وكونه بعرفة في هذا الوقت.

وأما تعليله الثاني: وهو قوله: (ولهذا قدم العصر على وقته)؛ فإن الصلاة لا تنافي الوقوف بعرفة كما تقدم. وتعليل الجمع بعذر السفر أظهر كما هو مذهب جمهور العلماء؛ فإن مذهب أبي حنيفة أنه لا جمع إلا بعرفة والمزدلفة، ومذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه أنه لا يجمع المسافر إذا كان نازلاً، وإنما يجمع إذا كان سائرًا، بل عند مالك إذا جد به السير، ومذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه أنه لا يجمع المسافر إذا كان نازلاً، وإنما يجمع إذا كان سائرًا، بل عند مالك إذا جد به السير، ومذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى أنه يجمع المسافر وإن

ص: 1028

كان نازلاً. وسبب هذا الاختلاف ما بلغهم من أحاديث الجمع. فالجمع بعرفة والمزدلفة متفق عليه، وهو منقول بالتواتر فلم يتنازعوا فيه، وأبو حنيفة لم يقل بغيره لحديث ابن مسعود الذي في الصحيح أنه قال:"ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، صلى صلاة لغير وقتها إلا صلاة الفجر بمزدلفة، وصلاة المغرب ليلة جمع"، وأراد بقوله:"في الفجر لغير وقتها" الذي كانت عادته أن يصليها فيه، فإنه جاء في الصحيح عن جابر:"أنه صلى الفجر بمزدلفة بعد أن برق الفجر". وهذا أمر متفق عليه أن الفجر لا يصلى حتى يطلع الفجر، لا بمزدلفة ولا غيرها، ولكن بمزدلفة غلس بها تغليسًا شديدًا.

وأما أكثر الأئمة فبلغهم في الجمع أحاديث صحيحة كحديث أنس، وابن عباس، وابن عمر، ومعاذ. وكلها في الصحيح. وفي تأويل من تأول من الأصحاب ما ورد من الجمع أنه جمع فعلاً لا وقتًا نظر، وفي ثبوت هذا

ص: 1029

التأويل عن أبي حنيفة نظر. والظاهر أن عمدته حديث ابن مسعود المتقدم، وكونه لم ير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلى صلاةً لغير وقتها إلا صلاة الفجر والمغرب بالمزدلفة، مع ملازمته لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- دليل على عدم الجمع في غير ما ذكر. وهذا استدلال ضعيف؛ لأن ابن مسعود رضي الله عنه قد رآه صلى العصر بعرفة قبل وقتها، وإنما مراده -والله أعلم- الصلاة بالمزدلفة لا مطلقًا؛ لأنه هو رضي الله عنه قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال بعد أن صلى الفجر بالمزدلفة: "إن هاتين الصلاتين حولتا عن وقتهما في هذا المكان: المغرب فلا يقدم الناس جمعًا حتى يعتموا، وصلاة الفجر هذه الساعة" رواه البخاري.

وفي الصحيح: ما يرد تأويل من تأول بأنه جمع في الفعل، بمعنى أنه آخر الظهر إلى آخر وقتها، وقدم العصر إلى أول وقتها، وصلاهما جميعًا، لكن كل واحدة في وقتها. وكذلك المغرب والعشاء. ففي حديث أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم-:"كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فصلاهما جميعًا، وإذا ارتحل بعد أن تزيغ الشمس صلى الظهر ثم ركب"، وفي لفظ في الصحيح:"كان النبي -صلى الله عليه وسلم-، إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في السفر أخر الظهر حتى يدخل [أول] وقت العصر ثم يجمع بينهما"، وفي لفظ في الصحيح أيضًا: "أن ابن عمر كان إذا جد به السير جمع بين المغرب

ص: 1030

والعشاء بعد أن تغيب الشفق، ويقول: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء". وفي حديث ابن عباس بعد أن ذكر جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك، أن سعيد بن جبير قال له: "وما حمله على ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته. وكذلك قال معاذ في حديثه. وعنه رضي الله عنه أنهم خرجوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، في غزوة تبوك فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجمع بين الظهر والعصر جميعًا، ثم دخل، ثم خرج، فصلى المغرب والعشاء جميعًا

" الحديث رواه مالك في الموطأ. وهو نص في أن للمسافر أن يجمع وإن لم يجد به السير، وليس فيما يوري من الآثار عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء ما يعارض حديث معاذ، وهو ظاهر في أنه أخر الظهر إلى وقت العصر، وقدم العشاء إلى وقت المغرب، مع أن

ص: 1031

هذا التأخير والتقديم بالفعل جائز لكل أحد في كل وقت، ورفع الحرج إنما يكون عند الحاجة. فلابد أن يكون قد رخص لأهل الأعذار فيما يرفع عنهم الحرج دون غيرهم، وهذا ينبني على أصل كان عليه جماعة من الصحابة ومن بعدهم، بل قد قيل: إنه لم ينقل عن الصحابة خلاف في ذلك، وهو أن المواقيت لأهل الأعذار ثلاثة، ولغيرهم خمسة؛ فإن الله تعالى قال: {وأقم

ص: 1032

الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل}، فذكر ثلاثة مواقيت، وكذلك قوله تعالى:{أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر} . وبنوا على هذا مسألة الحائض إذا طهرت قبل طلوع الفجر أو قبل غروب الشمس أن عليها مع العشاء والعصر المغرب والظهر. بل قد ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه جمع في المدينة، كما في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "صلى لنا

ص: 1033

رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الظهر والعصر جميعًا، في غير خوف ولا سفر" وفي لفظ في "الصحيحين" عنه:"أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى بالمدينة سبعًا وثمانيًا: الظهر والعصر، والمغرب والعشاء". قال أيوب: لعله في ليلة مطيرة، قال: عسى. وقال في رواية: "أراد أن لا يحرج أمته". وكان أهل المدينة يجمعون في الليلة المطيرة بين المغرب والعشاء، ويجمع معهم عبد الله بن عمر وروي ذلك مرفوعًا. وقد ورد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المستحاضة بالجمع في

ص: 1034

حديثين، ولذلك قال عطاء ومالك والليث وأحمد وإسحاق بالجمع للمرض. وقال مالك: والمريض أولى بالجمع من المسافر وغيره لشدة ذلك

ص: 1035

عليه. وقال أيضًا: إن جمع المريض بين الصلاتين وليس بمضطر إلى ذلك أعاد ما دام في الوقت، وإن خرج الوقت فلا شيء عليه.

وثم أمر آخر وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم، صلى الظهر والعصر بعرفة ركعتين ركعتين، وكذلك صلى العشاء بالمزدلفة ركعتين وصلى معه أهل مكة وغيرهم من أهل الآفاق جمعًا وقصرًا ولم ينقل أنه قال لهم:"أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر" كما توهمه من توهمه، وإنما قال ذلك لما صلى بأهل مكة في المسجد الحرام. فقال مالك: وأحمد في رواية عنه: إن أهل مكة يصلون

ص: 1036

بعرفة والمزدلفة قصرًا وجمعًا، وطرده آخرون في كل سفر طال أو قصر، وقد تقدم الكلام في تقدير مدة السفر.

قوله: (وقال عليه الصلاة والسلام: "خير المواقف ما استقبلت به القبلة").

لم يثبت هذا اللفظ مرفوعًا، والله أعلم.

قوله: (لأنه عليه الصلاة والسلام اجتهد في الدعاء في هذا الموقف لأمته فاستجيب له إلا في الدماء والمظالم).

ص: 1037

هذا الحديث الذي أشار إليه، ليس هو من رواية ابن عباس، وإنما هو من رواية العباس بن مرداس، رواه عنه ابن ماجه والحديث ضعيف.

قوله: (ولنا ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم، ما زال يلبي حتى أتى جمرة العقبة، ولأن التلبية فيه كالتكبير في الصلاة فيأتي بها إلى آخر جزء من الإحرام).

ص: 1038

في تعليله نظر؛ فإن التلبية لا يؤتى بها إلى آخر جزء من الإحرام، وإنما يقطع التلبية إذا رمى جمرة العقبة، ولا التكبير يؤتى به إلى آخر جزء من الصلاة. وكأنه أراد إلى آخر فعل فقال: إلى آخر جزء. ويرد عليه أن المعتمر يقطع التلبية إذا أخذ في الطواف، ولو كانت يؤتى بها إلى آخر فعل لكان المعتمر يلبي إلى أن يأخذ في السعي؛ فإنه من أفعال العمرة إما ركنًا أو واجبًا على ما عرف.

قوله: (ولنا رواية جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بينهما بأذان وإقامة واحدة؛ ولأن العشاء في وقته فلا يفرد بالإقامة إعلامًا، بخلاف العصر بعرفة لأنه مقدم على وقته فأفرد بها لزيادة الإعلام).

في حديث جابر رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم، أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما" وهو في صحيح

ص: 1039

مسلم، وكذا في حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه "أنه أقام للعشاء الآخرة فصلى" وهو في صحيح مسلم أيضًا، وإنما ورد الجمع بين المغرب والعشاء بإقامة واحدة في حديث ابن عمر رضي الله عنه، ولكن قال البخاري: عن ابن عمر "جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب والعشاء بجمع، كل واحدة منهما بإقامة، ولم يسبح بينهما، ولا على إثر كل واحدة منهما" وبالأذان والإقامتين قال الشافعي، وأحمد وعطاء والظاهرية، وزفر وأبو ثور،

ص: 1040

واختاره الحافظ أبو جعفر الطحاوي، وابن الماجشون من المالكية. وقوله: ولأن العشاء في وقته فلا يفرد بالإقامة إلى آخره تعليل فاسد؛ فإن كل الصلوات التي تؤدي في وقتها تشرع فيها الإقامة.

قوله: (ولا يتطوع بينهما لأنه يخل بالجمع).

في التعليل نظر؛ وإنما لا يتطوع بينهما لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يواظب على شيء من السنن الرواتب في السفر إلا على سنة الفجر وصلاة الوتر كما تقدم، ولا يرد على ذلك تسبيحه صلى الله عليه وسلم على راحلته حيث توجهت به. لأن ذلك تطوع مطلق غير السنن الرواتب، والجمع بين الصلاتين لا ينافيه التطوع إلا أن يراد أن الجمع إنما شرع للتخفيف فلا يناسبه الإتيان معه بالتطوع. فإن قيل: إن هذا مراد المصنف، قيل: يرده قوله: بإعادة الإقامة لأجله، وذلك ينافي التخفيف.

قوله: (لما روي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى المغرب بالمزدلفة ثم تعشى، ثم أفرد الإقامة للعشاء").

ص: 1041

هذا الحديث لا أصل له، والأحاديث الصحيحة ترده، وهذا يناقض ما قاله أولاً، واستدل به من حديث جابر لأبي حنيفة وصاحبيه أنه صلى الله عليه وسلم، صلى المغرب والعشاء بأذان وإقامة واحدة، وتقدم رده.

قوله: (وقال الشافعي رحمه الله: إنه ركن).

يعني الوقوف بالمزدلفة. وللشافعي رحمه الله قولان: أحدهما أنه واجب، والآخر أنه سنة. والوقوف به سنة عنده، وليس هو ركنًا عند الشافعي، ولكن خرجه بعض أصحابه وجهًا في مذهبه. وقد قال به جماعة

ص: 1042

من العلماء. قال السروجي: وذهب علقمة بن قيس، والشعبي، والنخعي، والبصري، والأوزاعي، وحماد بن أبي سليمان إلى أن الحج يفوت بفوات الوقوف بالمزدلفة، ويروى عن ابن الزبير. انتهى. وروي أيضًا عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو قول أبي عبيد القاسم بن سلام، وداود الظاهري، وابن جرير، وابن خزيمة، وقالوا إن تقديم أصحاب الأعذار إلى منى لا ينافيه لأنهم وجد منهم الوقوف بها، كما في المرور بعرفة وهو الركن، وامتداده واجب كعرفة.

قوله: (وروى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قطع التلبية عند أول حصاة رمى بها جمرة العقبة).

ص: 1043

هذا الحديث غير محفوظ من رواية جابر، وإنما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه، رواه البيهقي، ولفظه:"رمقت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل يلبى حتى رمى جمرة العقبة بأول حصاة"، وحديث الفضل ابن عباس رضي الله عنه:"فلم يزل يلبى حتى رمى جمرة العقبة" رواه الجماعة لكن ليس فيه ذكر أول حصاة.

قوله: (لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن أول نسكنا هذا أن يومي، ثم نذبح، ثم نحلق").

ص: 1044

قال السروجي رحمه الله: لم يذكر هذا في كتب الحديث فيما علمت، ويغني عنه ما ذكرته، وكان قد ذكر حديث أنس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى الجمرة فرمى بها، ثم أتى منزله بمنى ونحر نسكه، ثم دعا بالحلاق فحلق رأسه

الحديث" انتهى. كأن المصنف اشتبه عليه الحديث بحديث البراء: "أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا نصلي ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء

" الحديث متفق عليه. ولكن إنما قال ذلك يوم النحر بالمدينة.

ص: 1045

قوله: (ويكتفى في الحلق بربع الرأس اعتبارًا بالمسح).

قد تقدم الكلام في مقدار ما يمسح من الرأس في الوضوء، وأن الاكتفاء بمسح الربع من الرأس فيه ليس بقوي، فقياس حلق الربع عليه لا يصح مع أنه لو كان في مسح الرأس هو الربع فقياس الحلق عليه لا يقوى إذ لا جامع بينهما، وليس مسح الربع قائمًا مقام الكل، كما جرى في عبارة بعض الأصحاب؛ فإنهم قالوا: إن النص مجمل، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم خرج بيانًا للمجمل. فإن قيل: بل الفرض مسح الرأس كله، ولكن فعل النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الربع يقوم مقام الكل. قيل: النبي صلى الله عليه وسلم مسح على ناصيته وكمل على العمامة، ولم يرد أنه مسح على الناصية فقط، وإن كان هذا مشهورًا في كتب الأصحاب، لكنه غير معروف في كتب الحديث.

قوله: (وفي الحديث أفضلها أولها).

يعني أيام النحر. ولا يعرف هذا اللفظ مرفوعًا، وكأنه من كلام بعض السلف ولا خلاف فيه.

ص: 1046

قوله: (فيبدأ بالتي تلي مسجد الخيف فيرميها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ويقف عندها، ثم يرمي التي تليها مثل ذلك، ويقف عندها، ثم يرمي جمرة العقبة كذلك، ولا يقف عندها، هكذا روى جابر رضي الله عنه، فيما نقل من نسك رسول الله صلى الله عليه وسلم مفسرًا).

ليس هذا في حديث جابر، وإنما فيه:"أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة يوم النحر ضحى وأما بعد، فإذا زالت الشمس" أخرجه الجماعة. وإنما ورد ذلك في حديث ابن عمر أخرجه البخاري، وأحمد. وفي حديث عائشة

ص: 1047

أخرجه أحمد، وأبو داود.

قوله: (ويرفع يديه لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن"، وذكر من جملتها عند الجمرتين. والمراد رفع الأيدي بالدعاء).

تقدم الكلام على هذا عند رفع اليدين في الدعاء على الصفا والمروة، وقبله أيضًا في باب صفة الصلاة في موضعين.

قوله: (ومذهبه مروي عن ابن عباس، ولأنه لما ظهر أثر التخفيف في هذا اليوم في حق الترك فلأن يظهر في جوازه في الأوقات كلها أولى).

يعني أن مذهب أبي حنيفة في جواز الرمي في اليوم الرابع قبل الزوال مروي عن ابن عباس. قال ابن التركماني: عن ابن عباس قال: "إذا أصبح

ص: 1048

النهار من يوم النفر الأخير فقد حل الرمي". في سنده طلحة بن عمرو ضعفه البيهقي. انتهى. وقول أبي يوسف ومحمد أظهر؛ فإن المناسك عرفت بالتوقيف. وقد اتفق الأئمة مالك وأبو حنيفة والشافعي على أن أول وقت الوقوف بعرفة إذا زالت الشمس، وإنما عرف ذلك بفعله صلى الله عليه وسلم، فكذلك الرمي.

لكن بقي أمر آخر، وهو أن هذا في حق من يمكنه الإقامة إلى بعد الزوال ولكن أراد أن ينفر من غير عذر، أما إذا رحل الركب قبل الزوال ولا يمكنه الإقامة إلى بعد الزوال خوفًا على نفسه أو ماله فهذا إذا قيل ليس عليه شيء بترك الرمي كما يسقط طواف الصدر عن الحائض من غير دم كان أظهر، وأما ما ذكره من التعليل ففيه نظر؛ فإن الرخصة وردت في الترك لأجل تعجيل

ص: 1049

النفر دون التقديم، ولو جاز تقديمه على الزوال لجاز تقديمه على النهار؛ إذ الرمي في هذه الأيام أول وقته زوال الشمس، ورمي جمرة العقبة يوم النحر أول النهار.

قوله: (ولنا قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ترموا جمرة العقبة إلا مصبحين"، ويروى: "حتى تطلع الشمس". فيثبت أصل الوقت بالأول، والأفضلية بالثاني).

إذا صح ما استدل به الإمام الشافعي رحمه الله من "أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص

ص: 1050

للرعاة أن يرموا ليلاً". أمكن التوفيق بينه وبين قوله صلى الله عليه وسلم لضعفة أهل [هـ] حين قدمهم إلى منى ليلة المزدلفة: "لا ترموا مصبحين"، وقوله: "حتى تطلع الشمس" أن الأول وقت الجواز؛ والثاني وقت الفضل؛ والثالث الأفضلية، كما في الوضوء مرة، ومرتين، وثلاثًا، وأن يقال: إن الذين قال لهم: "إلا مصبحين" أو "حتى تطلع الشمس" هم ضعفة أهله، والقصة واحدة، فلم يكن قال إلا أحد اللفظين. وقد ثبت في الصحيح قوله:

ص: 1051

"حتى تطلع الشمس". واللفظ الآخر لم يثبت، بل فيه كلام، والرعاة غيرهم. فثبت أول الوقت بحديث الرعاة، والأفضلية بالآخر.

قوله: (وكل رمي بعده رمي فالأفضل أن يرميه ماشيًا، وإلا فيرميه راكبًا).

ينبغي أن يكون الأفضل أن يرمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا، وبقية الرمي في الأيام كلها ماشيًا كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ "فإنه رمى جمرة العقبة راكبًا" رواه مسلم، وأحمد والنسائي من حديث جابر، "ورمى الجمرات في بقية الأيام ماشيًا" رواه الترمذي وصححه من حديث ابن عمر. وروى الإمام

ص: 1052

أحمد عنه "أنه كان يرمي الجمرة يوم النحر راكبا وسائر ذلك ماشيًا ويخبرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك".

قوله: (لأن الأول بعده وقوف ودعاء على ما ذكرنا فيرمي ماشيًا ليكون أقرب إلى التضرع).

فيه نظر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بعرفة والمزدلفة للدعاء على ناقته القصواء.

فإن قيل: ركوبه في الموقفين ليسمع الناس؛ فيؤمنوا على دعائه ويقتدوا به. فالجواب: أنه لو كان هذا هو المراد وحده لفعله في مواقفه التي [وقف]

ص: 1053

فيها للدعاء كلها؛ فإنه وقف للدعاء على الصفا، وعلى المروة، وبعد رمي الجمرة الأولى، والثانية ماشيًا، فركب في موقفين، ووقف على قدميه في أربعة مواقف. فدل ذلك على جواز الأمرين في الكل. ودل تخصيصه كل موقف بصفة على فضل تلك الصفة في ذلك الموقف متابعة له، وامتثالاً لأمره بقوله:"خذوا عني مناسككم"، والله أعلم.

قوله: (لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم: "استقى دلوًا بنفسه فشرب ثم أفرغ باقي الدلو في البئر").

لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه استقى من زمزم بنفسه في حجته، وإنما رواه الواقدي، وهو لا يحتج بقوله، بل في حديث جابر الطويل ما ينفي

ص: 1054

ذلك، وهو أنه قال:"فأتى بني عبد المطلب، وهم يسقون على زمزم، فقال: انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم، فناولوه دلوًا فشرب منه" أخرجه مسلم. وبمعناه في حديث ابن عباس أخرجه البخاري، ولنك هذا كان بعد طواف الإفاضة، لا بعد طواف الصدر. هكذا جاء مفسرًا في حديث جابر الطويل.

قوله: (ويستحب أن يأتي الباب ويقبل العتبة).

ليس لهذا أصل في السنة، ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل من البيت غير الحجر الأسود، والاتباع أولى من الابتداع، بل هو الواجب؛ ولهذا قال عمر رضي الله عنه حين قبل الحجر الأسود: "إنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت

ص: 1055

رسول الله صلى الله [عليه وسلم] يقبلك ما قبلتك". وكذا لم يرد في التشبث بالأستار من السنة شيء.

وأما وضع الصدر والوجه على الملتزم فقد ورد فيه حديثان لكنهما ضعيفان.

ص: 1056

قوله: (قالوا: وينبغي أن ينصرف وهو يمشي وراءه، ووجهه إلى البيت).

هذا أيضًا ليس له أصل، وإنما قالوا: إن في هذا تعظيم البيت وهو واجب التعظيم. وهذا التعليل ليس بشيء؛ فإنه لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو بدعة. وقد ذم رسول الله صلى الله عليه وسلم التشبه بفارس والروم في قيامهم على عظمائهم، ويشبه أن يكون الرجوع القهقري من هذا القبيل، والله أعلم.

ص: 1057