الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْل الْجُشَاءُ لَا وُضُوءَ فِيهِ]
(264)
فَصْلٌ: فَأَمَّا الْجُشَاءُ فَلَا وُضُوءَ فِيهِ. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا قَالَ مُهَنَّا: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلِ يَخْرُجُ مِنْ فِيهِ الرِّيحُ مِثْلُ الْجُشَاءِ الْكَثِيرِ؟ قَالَ. لَا وُضُوءَ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ النُّخَاعَةُ لَا وُضُوءَ فِيهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ الرَّأْسِ أَوْ الصَّدْرِ؛ لِأَنَّهَا طَاهِرَةٌ، أَشْبَهَتْ الْبُصَاقَ.
[مَسْأَلَة أَكْلُ لَحْمِ الْإِبِلِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ]
(265)
مَسْأَلَةٌ: قَالَ: وَأَكْلُ لَحْمِ الْجَزُورِ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ أَكْلَ لَحْمِ الْإِبِلِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ عَلَى كُلِّ حَالٍ نِيئًا وَمَطْبُوخًا، عَالِمًا كَانَ أَوْ جَاهِلًا. وَبِهَذَا قَالَ جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو خَيْثَمَةَ وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: ذَهَبَ إلَى هَذَا عَامَّةُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ بِحَالٍ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«الْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ لَا مِمَّا يَدْخُلُ» وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ:«كَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَرْكَ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَلِأَنَّهُ مَأْكُولٌ أَشْبَهَ سَائِرَ الْمَأْكُولَاتِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: فِي الَّذِي يَأْكُلُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ: إنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ لَيْسَ عَلَيْهِ وُضُوءٌ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ قَدْ عَلِمَ وَسَمِعَ، فَهَذَا عَلَيْهِ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ، فَلَيْسَ هُوَ كَمَنْ لَا يَعْلَمُ وَلَا يَدْرِي. قَالَ الْخَلَّالُ: وَعَلَى هَذَا اسْتَقَرَّ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي هَذَا الْبَابِ.
وَلَنَا: مَا رَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ لُحُومِ الْإِبِلِ، فَقَالَ: تَوَضَّئُوا مِنْهَا وَسُئِلَ عَنْ لُحُومِ الْغَنَمِ، فَقَالَ: لَا يُتَوَضَّأُ مِنْهَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد، وَرَوَى جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «تَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ، وَلَا تَتَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ.»
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ ذَلِكَ، قَالَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ وَابْنُ رَاهْوَيْهِ: فِيهِ حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ حَدِيثُ الْبَرَاءِ وَحَدِيثُ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ. وَحَدِيثُهُمْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا أَصْلَ لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ، وَلَوْ صَحَّ لَوَجَبَ تَقْدِيمُ حَدِيثِنَا عَلَيْهِ؛ لِكَوْنِهِ أَصَحَّ مِنْهُ وَأَخَصَّ وَالْخَاصُّ يُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِّ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ لَا يُعَارِضُ حَدِيثَنَا أَيْضًا؛ لِصِحَّتِهِ وَخُصُوصِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَحَدِيثُ جَابِرٍ مُتَأَخِّرٌ، فَيَكُونُ نَاسِخًا.
قُلْنَا: لَا يَصِحُّ النَّسْخُ بِهِ لِوُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ؛ أَحَدُهَا، أَنَّ الْأَمْرَ بِالْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ مُتَأَخِّرٌ عَنْ نَسْخِ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ، أَوْ مُقَارِنٌ لَهُ؛
بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَرَنَ الْأَمْرَ بِالْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ بِالنَّهْيِ عَنْ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ، وَهِيَ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ النَّسْخُ حَصَلَ بِهَذَا النَّهْيِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِشَيْءٍ قَبْلَهُ؛ فَإِنْ كَانَ بِهِ، فَالْأَمْرُ بِالْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ مُقَارِنٌ لِنَسْخِ الْوُضُوءِ مِمَّا غَيَّرَتْ النَّارُ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا بِهِ؟ وَمِنْ شُرُوطِ النَّسْخِ تَأَخُّرُ النَّاسِخِ، وَإِنْ كَانَ النَّسْخُ قَبْلَهُ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُنْسَخَ بِمَا قَبْلَهُ.
الثَّانِي، أَنَّ أَكْلَ لُحُومِ الْإِبِلِ إنَّمَا نَقَضَ؛ لِكَوْنِهِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ، لَا لِكَوْنِهِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ، وَلِهَذَا يَنْقُضُ وَإِنْ كَانَ نِيئًا، فَنَسْخُ إحْدَى الْجِهَتَيْنِ لَا يَثْبُتُ بِهِ نَسْخُ الْجِهَةِ الْأُخْرَى، كَمَا لَوْ حَرَّمَتْ الْمَرْأَةُ لِلرَّضَاعِ، وَلِكَوْنِهَا رَبِيبَةً، فَنَسْخُ التَّحْرِيمِ بِالرَّضَاعِ لَمْ يَكُنْ نَسْخًا لِتَحْرِيمِ الرَّبِيبَةِ.
الثَّالِثُ، أَنَّ خَبَرَهُمْ عَامٌّ وَخَبَرَنَا خَاصٌّ، وَالْعَامُّ لَا يُنْسَخُ بِهِ الْخَاصُّ؛ لِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ النَّسْخِ تَعَذُّرَ الْجَمْعِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ مُمْكِنٌ بِتَنْزِيلِ الْعَامِّ عَلَى مَا عَدَا مَحَلِّ التَّخْصِيصِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ خَبَرَنَا صَحِيحٌ مُسْتَفِيضٌ، ثَبَتَتْ لَهُ قُوَّةُ الصِّحَّةِ وَالِاسْتِفَاضَةِ وَالْخُصُوصِ، وَخَبَرَهُمْ ضَعِيفٌ؛ لِعَدَمِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ فِيهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: الْأَمْرُ بِالْوُضُوءِ فِي خَبَرِكُمْ يَحْتَمِلُ الِاسْتِحْبَابَ، فَنَحْمِلُهُ عَلَيْهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْوُضُوءِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ غَسْلَ الْيَدَيْنِ؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ إذَا أُضِيفَ إلَى الطَّعَامِ، اقْتَضَى غَسْلَ الْيَدِ، كَمَا كَانَ عليه السلام يَأْمُرُ بِالْوُضُوءِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ، وَخُصَّ ذَلِكَ بِلَحْمِ الْإِبِلِ؛ لِأَنَّ فِيهِ مِنْ الْحَرَارَةِ وَالزُّهُومَةِ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهِ.
قُلْنَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَمُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا، أَنَّ مُقْتَضَى الْأَمْرِ الْوُجُوبُ. الثَّانِي، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ حُكْمِ هَذَا اللَّحْمِ، فَأَجَابَ بِالْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ مِنْهُ فَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ تَلْبِيسًا عَلَى السَّائِلِ، لَا جَوَابًا. الثَّالِثُ، أَنَّهُ عليه السلام قَرَنَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّهْيِ هَاهُنَا نَفْيُ الْإِيجَابِ لَا التَّحْرِيمِ، فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ الْأَمْرِ عَلَى الْإِيجَابِ، لِيَحْصُلَ الْفَرْقُ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَلَا يَصِحُّ لِوُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ حَمْلُ الْأَمْرِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، فَإِنَّ غَسْلَ الْيَدِ بِمُفْرَدِهِ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهُ.
الثَّانِي: أَنَّ الْوُضُوءَ إذَا جَاءَ عَلَى لِسَانِ الشَّارِعِ، وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْمَوْضُوعِ الشَّرْعِيِّ دُونَ اللُّغَوِيِّ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْهُ، أَنَّهُ إنَّمَا يَتَكَلَّمُ بِمَوْضُوعَاتِهِ.