الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[كِتَابُ الطَّهَارَةِ] [
بَابُ مَا تَكُونُ بِهِ الطَّهَارَةُ مِنْ الْمَاءِ]
قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ رحمه الله: بَابُ مَا تَكُونُ بِهِ الطَّهَارَةُ مِنْ الْمَاءِ، التَّقْدِيرُ: هَذَا بَابُ مَا تَكُونُ بِهِ الطَّهَارَةُ مِنْ الْمَاءِ، فَحَذَفَ الْمُبْتَدَأَ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَقَوْلُهُ " مَا تَكُونُ الطَّهَارَةُ بِهِ "، أَيْ تَحْصُلُ وَتَحْدُثُ، وَهِيَ هَاهُنَا تَامَّةٌ غَيْرُ مُحْتَاجَةٍ إلَى خَبَرٍ.
وَمَتَى كَانَتْ تَامَّةً كَانَتْ بِمَعْنَى الْحَدَثِ وَالْحُصُولِ، تَقُولُ: كَانَ الْأَمْرُ، أَيْ حَدَثَ وَوَقَعَ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] أَيْ: إنْ وُجِدَ ذُو عُسْرَةٍ.
وَقَالَ الشَّاعِرُ
إذَا كَانَ الشِّتَاءُ فَأَدْفِئُونِي
…
فَإِنَّ الشَّيْخَ يُهْرِمُهُ الشِّتَاءُ
أَيْ إذَا جَاءَ الشِّتَاءُ. وَفِي نُسْخَةٍ مَقْرُوءَةٍ عَلَى ابْنِ عَقِيلٍ: (بَابُ مَا تَجُوزُ بِهِ الطَّهَارَةُ مِنْ الْمَاءِ) وَمَعْنَاهُمَا مُتَقَارِبٌ.
وَالطَّهَارَةُ فِي اللُّغَةِ: النَّزَاهَةُ عَنْ الْأَقْذَارِ، وَفِي الشَّرْعِ: رَفْعُ مَا يَمْنَعُ الصَّلَاةَ مِنْ حَدَثٍ أَوْ نَجَاسَةٍ بِالْمَاءِ، أَوْ رَفْعُ حُكْمِهِ بِالتُّرَابِ.
فَعِنْدَ إطْلَاقِ لَفْظِ الطَّهَارَةِ فِي لَفْظِ الشَّارِعِ أَوْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمَوْضُوعِ الشَّرْعِيِّ دُونَ اللُّغَوِيِّ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَالَهُ مَوْضُوعٌ شَرْعِيٌّ وَلُغَوِيٌّ، إنَّمَا يَنْصَرِفُ الْمُطْلَقُ مِنْهُ إلَى الْمَوْضُوعِ الشَّرْعِيِّ كَالْوُضُوءِ، وَالصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ التَّكَلُّمُ بِمَوْضُوعَاتِهِ.
وَالطُّهُورُ - بِضَمِّ الطَّاءِ -: الْمَصْدَرُ، قَالَهُ الْيَزِيدِيُّ وَالطَّهُورُ - بِالْفَتْحِ - مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُتَعَدِّيَةِ، وَهُوَ الَّذِي يُطَهِّرُ غَيْرَهُ، مِثْلُ الْغَسُولِ الَّذِي يُغْسَلُ بِهِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: هُوَ مِنْ الْأَسْمَاءِ اللَّازِمَةِ، بِمَعْنَى الطَّاهِرِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ فِي التَّعَدِّي وَاللُّزُومِ، فَمَا كَانَ فَاعِلُهُ لَازِمًا كَانَ فَعُولُهُ لَازِمًا.
بِدَلِيلِ قَاعِدٍ وَقَعُودٍ، وَنَائِمٍ وَنَئُومٍ، وَضَارِبٍ وَضَرُوبٍ. وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] ، وَرَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي؛ نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَرَادَ بِهِ الطَّاهِرَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَزِيَّةٌ؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ.
وَسُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «عَنْ التَّوَضُّؤِ بِمَاءِ الْبَحْرِ، فَقَالَ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» .
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الطَّهُورُ مُتَعَدِّيًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ جَوَابًا لِلْقَوْمِ، حَيْثُ سَأَلُوهُ عَنْ التَّعَدِّي، إذْ لَيْسَ كُلُّ طَاهِرٍ مُطَهِّرًا، وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَسْتَقِيمُ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ فَرَّقَتْ بَيْنَ
الْفَاعِلِ وَالْفَعُولِ، فَقَالَتْ: قَاعِدٌ لِمَنْ وُجِدَ مِنْهُ الْقُعُودُ، وَقَعُودُ لِمَنْ يَتَكَرَّرُ مِنْهُ ذَلِكَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا هَاهُنَا، وَلَيْسَ إلَّا مِنْ حَيْثُ التَّعَدِّي وَاللُّزُومُ.
(1)
مَسْأَلَةٌ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ، رحمه الله:(وَالطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ الْمُطْلَقِ الَّذِي لَا يُضَافُ إلَى اسْمِ شَيْءٍ غَيْرِهِ: مِثْلُ مَاءِ الْبَاقِلَّا، وَمَاءِ الْوَرْدِ، وَمَاءِ الْحِمَّصِ وَمَاءِ الزَّعْفَرَانِ، وَمَا أَشْبَهَهُ، مِمَّا لَا يُزَايِلُ اسْمُهُ اسْمَ الْمَاءِ فِي وَقْتٍ) .
قَوْلُهُ " " وَالطَّهَارَةُ " مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: وَالطَّهَارَةُ مُبَاحَةٌ، أَوْ جَائِزَةٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلِاسْتِغْرَاقِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَكُلُّ طَهَارَةٍ جَائِزَةٌ بِكُلِّ مَاءٍ طَاهِرٍ مُطْلَقٍ، وَالطَّاهِرُ: مَا لَيْسَ بِنَجِسٍ.
وَالْمُطْلَقُ: مَا لَيْسَ بِمُضَافٍ إلَى شَيْءٍ غَيْرِهِ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ " لَا يُضَافُ إلَى اسْمِ شَيْءٍ غَيْرِهِ ". وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ صِفَةً لَهُ وَتَبْيِينًا، ثُمَّ مَثَّلَ الْإِضَافَةَ، فَقَالَ:" مِثْلُ مَاءِ الْبَاقِلَّا، وَمَاءِ الْوَرْدِ، وَمَاءِ الْحِمَّصِ، وَمَاءِ الزَّعْفَرَانِ، وَمَا أَشْبَهَهُ ".
وَقَوْلُهُ: " مِمَّا لَا يُزَايِلُ اسْمُهُ اسْمَ
الْمَاءِ فِي وَقْتٍ "، صِفَةٌ لِلشَّيْءِ الَّذِي يُضَافُ إلَيْهِ الْمَاءُ، وَمَعْنَاهُ: لَا يُفَارِقُ اسْمُهُ اسْمَ الْمَاءِ. وَالْمُزَايَلَةُ: الْمُفَارَقَةُ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 25] ، وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ
وَقَدْ طَاوَعُوا أَمْرَ الْعَدُوِّ الْمُزَايِلِ
أَيْ الْمُفَارِقِ. أَيْ: لَا يُذْكَرُ الْمَاءُ إلَّا مُضَافًا إلَى الْمُخَالِطِ لَهُ فِي الْغَالِبِ.
وَيُفِيدُ هَذَا الْوَصْفُ الِاحْتِرَازَ مِنْ الْمُضَافِ إلَى مَكَانِهِ وَمَقَرِّهِ، كَمَاءِ النَّهْرِ وَالْبِئْرِ؛ فَإِنَّهُ إذَا زَالَ عَنْ مَكَانِهِ زَالَتْ النِّسْبَةُ فِي الْغَالِبِ، وَكَذَلِكَ مَا تَغَيَّرَتْ رَائِحَتُهُ تَغَيُّرًا يَسِيرًا، فَإِنَّهُ لَا يُضَافُ فِي الْغَالِبِ.
وَقَالَ الْقَاضِي: هَذَا احْتِرَازٌ مِنْ الْمُتَغَيِّرِ بِالتُّرَابِ؛ لِأَنَّهُ يَصْفُو عَنْهُ، وَيُزَايِلُ اسْمُهُ اسْمَهُ. وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَحْكَامٍ مِنْهَا إبَاحَةُ الطَّهَارَةِ بِكُلِّ مَاءٍ مَوْصُوفٍ بِهَذِهِ الصُّفَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا، عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ، مِنْ الْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ، وَالْعُذُوبَةِ وَالْمُلُوحَةِ، نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ، أَوْ نَبَعَ مِنْ الْأَرْضِ، فِي بَحْرٍ أَوْ نَهْرٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ غَدِيرٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11]، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ:{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» ، وَقَوْلُهُ فِي الْبَحْرِ:«هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» .
وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، إلَّا أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّهُمَا قَالَا فِي الْبَحْرِ: التَّيَمُّمُ أَعْجَبُ إلَيْنَا مِنْهُ. هُوَ نَارٌ.
وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] وَمَاءُ الْبَحْرِ مَاءٌ، لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ إلَى التَّيَمُّمِ مَعَ وُجُودِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ، وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنْ الْمَاءِ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا، أَفَنَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ لَمْ يُطَهِّرْهُ مَاءُ الْبَحْرِ فَلَا طَهَّرَهُ اللَّهُ " وَلِأَنَّهُ مَاءٌ بَاقٍ عَلَى أَصِلْ خِلْقَتِهِ، فَجَازَ الْوُضُوءُ بِهِ كَالْعَذْبِ.
وَقَوْلُهُمْ: " هُوَ نَارٌ " إنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ نَارٌ فِي الْحَالِ فَهُوَ خِلَافُ الْحِسِّ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ يَصِيرُ نَارًا، لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ الْوُضُوءَ بِهِ حَالَ كَوْنِهِ مَاءً.
وَمِنْهَا أَنَّ الطَّهَارَةَ مِنْ النَّجَاسَةِ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِمَا يَحْصُلُ بِهِ طَهَارَةُ الْحَدَثِ؛ لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ الطَّهَارَةِ، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَزُفَرُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَجُوزُ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ بِكُلِّ مَائِعٍ طَاهِرٍ مُزِيلٍ لِلْعَيْنِ وَالْأَثَرِ، كَالْخَلِّ، وَمَاءِ الْوَرْدِ، وَنَحْوِهِمَا. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا» .
أَطْلَقَ الْغَسْلَ،