الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ، فَأَشْفَقْت إنْ اغْتَسَلْت أَنْ أَهْلِكَ، فَتَيَمَّمْت، ثُمَّ صَلَّيْت بِأَصْحَابِي الصُّبْحَ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا عَمْرُو، أَصَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ، وَأَنْتَ جُنُبٌ؟ فَأَخْبَرْته بِاَلَّذِي مَنَعَنِي مِنْ الِاغْتِسَالِ، وَقُلْت: إنِّي سَمِعْت اللَّهَ عز وجل يَقُولُ: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] . فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا» . وَسُكُوتُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى الْخَطَأِ؛ وَلِأَنَّهُ خَائِفٌ عَلَى نَفْسِهِ، فَأُبِيحَ لَهُ التَّيَمُّمُ كَالْجَرِيحِ وَالْمَرِيضِ، وَكَمَا لَوْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ عَطَشًا أَوْ لِصًّا أَوْ سَبُعًا فِي طَلَبِ الْمَاءِ.
وَإِذَا تَيَمَّمَ وَصَلَّى، فَهَلْ يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا، لَا يَلْزَمُهُ. وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ؛ لِحَدِيثِ عَمْرٍو، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَأَمَرَهُ بِهَا؛ وَلِأَنَّهُ خَائِفٌ عَلَى نَفْسِهِ، أَشْبَهَ الْمَرِيضَ؛ وَلِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ مَنْ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ. وَالثَّانِيَةُ يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ.
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّهُ عُذْرٌ نَادِرٌ غَيْرُ مُتَّصِلٍ، فَلَمْ يَمْنَعْ الْإِعَادَةَ كَنِسْيَانِ الطَّهَارَةِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
وَيُفَارِقُ نِسْيَانَ الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِمَا أُمِرَ بِهِ، وَإِنَّمَا ظَنَّ أَنَّهُ أَتَى بِهِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مُسَافِرًا، وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَضَرَ مَظِنَّةُ الْقُدْرَةِ عَلَى تَسْخِينِ الْمَاءِ، وَدُخُولِ الْحَمَّامَاتِ، بِخِلَافِ السَّفَرِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُعِيدُ إنْ كَانَ حَاضِرًا، وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ.
[مَسْأَلَة قَالَ إذَا تَيَمَّمَ صَلَّى الصَّلَاةَ الَّتِي حَضَرَ وَقْتُهَا وَصَلَّى بِهِ فَوَائِتَ]
(375)
مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا تَيَمَّمَ صَلَّى الصَّلَاةَ الَّتِي حَضَرَ وَقْتُهَا، وَصَلَّى بِهِ فَوَائِتَ إنْ كَانَتْ عَلَيْهِ، وَالتَّطَوُّعَ إلَى أَنْ يَدْخُلَ وَقْتُ صَلَاةٍ أُخْرَى) الْمَذْهَبُ أَنَّ التَّيَمُّمَ يَبْطُلُ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ وَدُخُولِهِ، وَلَعَلَّ الْخِرَقِيِّ إنَّمَا عَلَّقَ بُطْلَانَهُ، بِدُخُولِ وَقْتِ صَلَاةٍ أُخْرَى تَجَوُّزًا مِنْهُ، إذَا كَانَ خُرُوجُ وَقْتِ الصَّلَاةِ مُلَازِمًا لِدُخُولِ وَقْتِ الْأُخْرَى، إلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ وَقْتُ الْفَجْرِ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مُنْفَكًّا عَنْ دُخُولِ وَقْتِ الظُّهْرِ، وَيَبْطُلُ التَّيَمُّمُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ صَلَاتَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، رضي الله عنهم، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَإِسْحَاقَ. وَرَوَى الْمَيْمُونِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ فِي الْمُتَيَمِّمِ، قَالَ: إنَّهُ لَيُعْجِبُنِي أَنْ يَتَيَمَّمَ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَلَكِنَّ الْقِيَاسَ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الطَّهَارَةِ حَتَّى يَجِدَ الْمَاءَ، أَوْ يُحْدِثَ؛ لِحَدِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْجُنُبِ.
يَعْنِي قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يَا أَبَا ذَرٍّ، «الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ، فَإِذَا وَجَدْت الْمَاءَ فَأَمِسَّهُ بَشَرَتَك» . وَهُوَ مَذْهَبُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي جَعْفَرٍ؛ لِأَنَّهَا طَهَارَةٌ تُبِيحُ الصَّلَاةَ، فَلَمْ تَتَقَدَّرْ بِالْوَقْتِ كَطَهَارَةِ الْمَاءِ.
وَلَنَا، مَا رَوَى الْحَارِثُ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: التَّيَمُّمُ لِكُلِّ صَلَاةٍ. وَابْنُ عُمَرَ قَالَ: تَيَمَّمْ لِكُلِّ صَلَاةٍ؛ وَلِأَنَّهَا طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ، فَتَقَيَّدَتْ بِالْوَقْتِ؛ كَطَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَطَهَارَةُ الْمَاءِ لَيْسَتْ لِلضَّرُورَةِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. وَالْحَدِيثُ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ يُشْبِهُ الْوُضُوءَ فِي إبَاحَةِ الصَّلَاةِ، وَيَلْزَمُهُ التَّسَاوِي فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ.
إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُ إذَا نَوَى بِتَيَمُّمِهِ مَكْتُوبَةً، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ مَا شَاءَ مِنْ الصَّلَوَاتِ، فَيُصَلِّي الْحَاضِرَةَ، وَيَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، وَيَقْضِي فَوَائِتَ، وَيَتَطَوَّعُ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَبَعْدَهَا. هَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُصَلِّي بِهِ فَرْضَيْنِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ قَالَ: لَا يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ إلَّا صَلَاةً وَاحِدَةً، ثُمَّ يَتَيَمَّمُ لِلْأُخْرَى. وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمَا؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: مِنْ السُّنَّةِ أَنْ لَا يُصَلِّيَ بِالتَّيَمُّمِ إلَّا صَلَاةً وَاحِدَةً، ثُمَّ يَتَيَمَّمُ لِلْأُخْرَى. وَهَذَا مُقْتَضَى سُنَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ وَلِأَنَّهَا طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ فَلَا يَجْمَعُ بِهَا بَيْنَ فَرِيضَتَيْنِ، كَمَا لَوْ كَانَا فِي وَقْتَيْنِ. وَلَنَا أَنَّهَا طَهَارَةٌ صَحِيحَةٌ، أَبَاحَتْ فَرْضًا، فَأَبَاحَتْ فَرْضَيْنِ، كَطَهَارَةِ الْمَاءِ؛ وَلِأَنَّهُ بَعْدَ الْفَرْضِ الْأَوَّلِ تَيَمُّمٌ صَحِيحٌ مُبِيحٌ لِلتَّطَوُّعِ، نَوَى بِهِ الْمَكْتُوبَةَ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ فَرْضًا، كَحَالَةِ ابْتِدَائِهِ؛ وَلِأَنَّ الطَّهَارَةَ فِي الْأُصُولِ، إنَّمَا تَتَقَيَّدُ بِالْوَقْتِ دُونَ الْفِعْلِ، كَطَهَارَةِ الْمَاسِحِ عَلَى الْخُفِّ، وَهَذِهِ فِي النَّوَافِلِ، وَطَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ تَيَمُّمٍ أَبَاحَ صَلَاةً أَبَاحَ مَا هُوَ مِنْ نَوْعِهَا، بِدَلِيلِ صَلَوَاتِ النَّوَافِلِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَيَرْوِيهِ الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ لَا يُصَلِّيَ بِهِ صَلَاتَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِ صَلَوَاتٍ مِنْ التَّطَوُّعِ، وَيَجْمَعَ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ فَرْضٍ وَنَفْلٍ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ الْجَمْعُ بَيْنَ فَرْضَيْ وَقْتَيْنِ، لِبُطْلَانِ التَّيَمُّمِ، بِخُرُوجِ وَقْتِ الْأُولَى مِنْهَا. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْخِرَقِيِّ إنَّمَا ذَكَرَ قَضَاءَ الْفَوَائِتِ وَالتَّطَوُّعِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْجَمْعَ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ، وَكَذَا ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجُوزَ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي ثَوْرٍ.
وَالصَّحِيحُ جَوَازُ الْجَمْعِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَدِلَّةِ؛ وَلِأَنَّ مَا أَبَاحَ فَرْضَيْنِ فَائِتَيْنِ مَا أَبَاحَ فَرْضَيْنِ فِي الْجَمْعِ، كَسَائِرِ الطِّهَارَاتِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَيس لِلْمُتَيَمِّمِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ الثَّانِيَةَ تَفْتَقِرُ إلَى تَيَمُّمٍ، وَالتَّيَمُّمُ يَفْتَقِرُ إلَى طَلَبٍ، وَالطَّلَبُ يَقْطَعُ الْجَمْعَ، وَمِنْ شَرْطِهِ الْمُوَالَاةُ - يَعْنِي عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَقَيَّدَ بِالْجَمْعِ فِي وَقْتِ الْأُولَى، فَأَمَّا الْجَمْعُ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ، فَلَا تُشْتَرَطُ لَهُ الْمُوَالَاةُ فِي الصَّحِيحِ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يُمْكِنُ قَضَاءُ الْفَوَائِتِ، وَالتَّرْتِيبُ شَرْطٌ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُ الْفَائِتَةِ عَلَى الْحَاضِرَةِ فَكَيْفَ تَتَأَخَّرُ الْفَائِتَةُ عَنْهَا؟ قُلْنَا: يُمْكِنُ ذَلِكَ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنْ يُقَدِّمَ الْفَائِتَةَ عَلَى الْحَاضِرَةِ.