الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثامن
في المجاز
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
المجاز هو: اللفظ المستعمل في غير موضوعه الأصلي لعلاقة.
* * *
المسألة الثانية:
المجاز واقع في اللغة: لأن اللغة العربية لغة فصيحة، والمجاز لا ينافي الفصاحة، بل ربما كان المجاز أبلغ من الحقيقة.
ولأن المجاز قد وقع في اللغة؛ حيث كانت العرب تستعمله كثيراً في لغتهم، كاستعمال لفظ " الأسد " للرجل الشجاع، ولفظ " الحمار " للرجل البليد، وقول الشاعر:
أشاب الصغير وأفنى الكبير. . . كرُّ الغداة ومرُّ العشي
المسألة الثالثة:
يشترط في المجاز: وجود العلاقة، وهذه العلاقة أنواع:
الأول: السببية: وهو إطلاق السبب على المسبِّب، كقولهم:" سال الوادي "، والمراد: سال الماء في الوادي، لكن لما كان الوادي سبباً قابلاً لسيلان الماء فيه: صار الماء من حيث القابلية كالمسبب له، فوضع لفظ الوادي موضعه.
الثاني: المسببية: وهو إطلاق المسبِّب على السبب، كتسمية المرض الشديد بالموت؛ لأن المرض الشديد عادة يؤدي إلى الموت.
الثالث: المشابهة: بأن يُسمى الشيء باسم مشابهة في صفة ظاهرة، كتسمية الرجل الشجاع بالأسد، ويُسمَّى المجاز الذي باعتبار المشابهة بالاستعارة.
الرابع: المجاورة: بأن يُسمَّى الشيء باسم مجاوره، كإطلاق " الراوية " على القربة، والراوية في الأصل اسم للجمل الذي يحمل تلك القربة، ولكنه أطلق على القربة لمجاورتها له.
الخامس: المضادة: بأن يُسمَّى الشيء باسم ضده، كقوله تعالى:(وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا)، فقد أطلق على الجزاء سيئة مع أنه عدل، لكونها ضدها.
السادس: إطلاق اسم الشيء كله على ما أعد له، مثل قولهم:" الزوجة محللة "، ومعروف أن المحلَّل هو وطئها فقط.
السابع: النقصان: بأن يذكر المضاف إليه ويراد به مجموع المضاف مع المضاف إليه، كقوله تعالى:(وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ).
الثامن: الكلية: بأن يطلق الجزء، والمراد به الكل، كقولك:" أنا أملك رأسين من الغنم "، فأطلق الجزء وهو:" الرأس "، وأراد جميع الجسم.
التاسع: الجزئية: بأن يطلق الكل، والمراد الجزء، كقوله تعالى:(يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ)، فقد أطلق الكل وهي: الأصابع، والمراد الجزء وهي: الأنامل منها فقط، لأن العادة أن الإنسان لا يدخل أصبعه في أذنه.
العاشر: تسمية الشيء باعتبار ما كان عليه، كتسمية المعتَق عبداً باعتبار أنه كان كذلك.
الحادي عشر: تسمية الشيء باعتبار ما سيكون عليه، كتسمية الخمر في الدُّن بالمسكر، حيث إن الخمر في الدُّن ليس بمسكر، بل سيكون مسكراً إذا شُرب.
الثاني عشر: التعلق، وهو التعلق الحاصل بين المصدر واسم المفعول، واسم الفاعل، فإن كلاً منها يطلق على الآخر مجازاً.
فيطلق المصدر على اسم المفعول كقوله تعالى: (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ) أي: مخلوقه، ويطلق اسم المفعول على المصدر كقوله تعالى:(بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6)) أي: الفتنة، ويطلق اسم الفاعل على اسم المفعول كقوله تعالى:(مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ) أي: مدفوق، ويطلق اسم المفعول على اسم الفاعل كقوله تعالى:(حِجابًا مَّستُورُا) أي: ساتراً، ويطلق اسم الفاعل على المصدر كقولك:" قم قائماً " أي: قياماً، ويطلق المصدر على اسم الفاعل كقولك:" رجل عدل "، أي عادل.
الثالث عشر: إطلاق الأثر على المؤثر، كتسمية ملك الموت موتاً.
الرابع عشر: إطلاق المؤثر على الأثر، كقولك:" ما في الوجود إلا الله تعالى "، تريد آثاره، والدلالة عليه في العالم.
الخامس عشر: إطلاق اسم اللازم على الملزوم، كإطلاق " المس " على الجماع.
السادس عشر: إطلاق اسم الملزوم على اللازم، كقوله تعالى:(أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ)، أي: يدل، والدلالة من لوازم الكلام.
السابع عشر: إطلاق اسم البدل على المبدل، كتسمية الدية بالدم، فيقولون:" أكل فلان دم فلان "، أي: ديته.
الثامن عشر: إطلاق اسم المبدل على البدل، كتسمية الأداء بالقضاء في قوله تعالى:(فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ)، أي: أديتم.
* * *
المسألة الرابعة:
أسباب العدول من الحقيقة إلى المجاز هي:
السبب الأول: الحرص على بلاغة الكلام، قال بعض أهل اللغة: إن المجاز في الاستعمال أبلغ من الحقيقة، وأنه يلطف الكلام ويكسبه حلاوة، ويكسوه رشاقة، فمثلاً قوله تعالى:(فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ)، وقوله:(وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)) لو استعملت الحقيقة في ذلك لم تعط ما أعطي المجاز من البلاغة والإعجاز اللغوي.
السبب الثاني: تكثير الفصاحة، وتحريك الذهن، لأن فهم
المعنى منه يتوقف على قرينة، وفي ذلك غموض يحوِج إلى حركة الذهن، فيحصل من الفهم شبيه بلذة الكسب.
السبب الثالث: التعظيم والتبجيل كقولهم: " سلام الله على الحضرة العالية والمجلس الكريم "، فيعدل عن اللقب الصريح إلى المجاز تعظيماً محال المخاطب.
السبب الرابع: التنزه عن ذكر الحقيقة، فيُعبِّر العربي عن قضاء الوطر من النساء بالوطء، وُيعبر عن ذكر ما يخرج من الإنسان من القذارة بالغائط.
السبب الخامس: الحرص على اختصار الكلام، وإيجازه كقوله تعالى:(وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا)، وقولهم:" رأيت أسداً يخطب ".
السبب السادس: تفهيم المعقول بصورة المحسوس لتلطيف الكلام وزيادة الإيضاح، كقوله تعالى:(وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ).
* * *
المسألة الخامسة:
الحقيقة لا تستلزم المجاز: فلا يلزم أن يكون لكل حقيقة مجاز؛ لأن كون اللفظ قد استعمل فيما وضع له لا يلزم منه أن يستعمل فيما عداه من المعاني، بل قد يكون له معنى واحد فقط.
* * *
المسألة السادسة:
أن المجاز يستلزم الحقيقة، فيلزم أن يكون لكل مجاز وجود حقيقة في شيء أَخر؛ لأن المجاز فرع والحقيقة أصل، ومتى ما
وجد الفرع لا بد أن يوجد الأصل.
* * *
المسألة السابعة:
المجاز خلاف الأصل: لأن الأصل في الكلام الحقيقة، وقلنا ذلك؛ لأن المجاز يحتاج إلى الوضع الأول، ويحتاج إلى المناسبة بين الموضوع الأصلي والمدلول المجازي، والنقل إلى المعنى الثاني، والمجاز أيضاً مخل بالفهم؛ إذا لم توجد قرينة، أو لم يتنبه للقرينة، أو تعددت المجازات.
أما الحقيقة فهي محتاجة إلى الأمر الأول - وهو: الوضع الأول - ومعلوم أن المفتقر إلى أمر واحد أغلب وجوداً وأرجح مما هو مفتقر إلى أمور كثيرة.
* * *
المسألة الثامنة:
نعرف الحقيقة من المجاز بالطرق التالية:
الطريق الأول: سبق الفهم: أي: يكون اللفظ حقيقة في المعنى الذي تبادر إلى فهم السامع مطلقاً، أي: بدون قرينة.
الطريق الثاني: العراء عن القرينة؛ حيث إن أهل اللغة إذا أرادوا إفهام غيرهم معنى من المعاني اقتصروا على عبارة مخصوصة، بدون ذكر قرينة، فهذا هو الحقيقة، أما لو أراد المجاز فإنهم يذكرون معها قرينة.
الطريق الثالث: صحة الاشتقاق: أي: يكون أحد اللفظين
يصح فيه الاشتقاق والتصريف إلى الماضي والمستقبل واسم الفاعل واسم المفعول، واللفظ الآخر لا يصح فيه ذلك، فيكون الأول هو الحقيقة، والثاني هو المجاز؛ لأن تصريف اللفظ يدل على قوته وأصالته، وعدم تصريفه يدل على ضعفه وفرعيته، فلفظ " الأمر " يطلق على الطلب مثل:" اُدخل "، ويطلق على " الفعل " كقوله تعالى:(وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ)، فوجدنا العرب يصرفون الأمر الذي بمعنى الطلب فيقولون: أمر يأمر أمراً فهو مأمور، وهو: آمر، في حين أنهم لا يقولون ذلك في الأمر بمعنى الفعل.
الطريق الرابع: صحة نفي المجاز؛ حيث يصح أن يقال لمن سمي من الناس حماراً لبلادته: إنه ليس بحمار، ولكن لا يصح أن يقال: إنه ليس بإنسان في نفس الأمر؛ لأنه حقيقة فيه.
الطريق الخامس: الاطراد وعدمه، فالمطرد هو الحقيقة، وغير المطرد هو المجاز، كتسمية الرجل الطويل نخلة فهذا مجاز؛ لأنه لا يطرد؛ حيث لا يسمى كل طويل من شجر أو عصا ونحو ذلك بالنخلة.
الطريق السادس: إطلاق اللفظ على المستحيل يُعلم به أن هذا الإطلاق مجاز كقوله تعالى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ)، فإن السؤال بالنسبة إلى القرية مستحيل عادة.
* * *
المسألة التاسعة:
إذا دار اللفظ المتجرد عن القرائن بين الحقيقة والمجاز فإنه يحمل على الحقيقة، ولا يكون مجملاً ومشتركاً بين المعنيين، لأننا لو رأينا كل لفظ احتمل أن يكون حقيقة وأن يكون مجازاً وجعلناه مجملاً، للزم من ذلك أمران باطلان.
أولهما: بقاء كثير من ألفاظ الكتاب والسنة بدون أن يعمل بها، فيفضي ذلك إلى عدم الاستفادة منها؛ لأن حكم المجمل هو التوقف حتى يأتي دليل يرجح أحد المعاني، وهذا يؤدي إلى تعطيل كثير من النصوص بلا عمل، وهذا ظاهر البطلان.
ثانيهما: اختلال واضطراب مقصود الوضع اللغوي، أي: لا نفهم من أي لفظة أي معنى مقصود مما يؤدي إلى عدم تفاهم الناس في مخاطباتهم.
وعلى هذا لا يمكن صرف اللفظ إلى المجاز إلا بقرينة.
* * *
المسألة العاشرة:
إذا غلب المجاز في استعمال الناس أي: تعارف الناس واعتادوا على التخاطب بالمجاز دون الحقيقة، وانتشر ذلك بينهم: فإن اللفظ يحمل على المجاز، وتكون الحقيقة كالمتروكة المنسية التي لا تنقدح في أذهان المتخاطبين.
فلو قال شخص: " رأيت راوية "، أو قال:" رأيت غائطا "، أو قال:" وطئت زوجتي "، فإنه ينقدح في أذهان الناس أن المقصود بالأول هو:" وعاء الماء "، وفي الثاني: الشيء المستقذر الخارج من الإنسان، وفي الثالث: الجماع.
ولا تنقدح في أذهانهم الحقيقة وهي في الأول: الجمل الذي يستقى عليه، وفي الثاني: المكان المطمئن المنخفض من الأرض، وفي الثالث: الوطء بالرجل.
ففي هذه الأمثلة صارت الحقيقة منسية متروكة، والمجاز معروفاً سابقاً إلى الفهم، ولا يمكن صرفه إلى الحقيقة إلا بدليل.