الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الخامس عشر
في الأمر
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
الأمر هو: استدعاء الفعل بالقول على جهة الاستعلاء.
المسألة الثانية:
لا تشترط إرادة الآمر المأمور به: لأن الله تعالى أمر إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه ولم يرده؛ لأنه لو أراده لوقع؛ لأن الله تعالى فعال لما يريد.
ولأنه يحسن أن يقول الرجل لعبده: " أمرتك بكذا ولم أرده منك "، ولو كان من شرط الأمر الإرادة لما حسن ذلك، كما لا يحسن أن يقول الرجل لعبده:" أردت منك كذا ولم أرده "؛ لما فيه من التناقض.
المسألة الثالثة:
الأمر له صيغة موضوعة لغة له، وتدل عليه حقيقة، أي: بدون قرينة، كدلالة سائر الألفاظ الحقيقية على موضوعاتها ومعانيها، وهي: صيغة فعل الأمر: " افعل "، مثل:" أخرج "، والمضارع المجزوم بلام الأمر كقولك:" ليفعل "، واسم فعل الأمر كقوله تعالى:(عَليكم أَنفُسَكُم)، والمصدر النائب عن فعله كقوله تعالى:(فَضَرْبَ الرِّقَابِ).
وإنما خصصنا صيغة " افعل " بالذكر؛ نظراً لكثرة دورانها في الكلام.
وقلنا: إن للأمر صيغة قد وضعت له وهي: " افعل "؛ لأن العرب قد وضعوا لما لا يُحتاج إليه كثيراً أسماء كالأسد، والهر، والخمر، فمن باب أولى أن يضَعوا صيغة للأمر تدل عليه، وذلك لأن الحاجة داعية إلى معرفة الأمر، لكثرة مخاطبات الناس عن طريقه، حيث لا يمكن أن يتخاطبوا بغير صيغة، فدل هذا على أنهم وضعوا له صيغة هي:" افعل ".
ولأن السيد لو قال لعبده: " اسقني ماء " فلم يسقه، فإنه يستحق عند عقلاء أهل اللغة الذم والتوبيخ، فلو لم تكن هذه الصيغة موضوعة للأمر لما استحق ذلك.
وبناء على ذلك: فإنه إذا ورد لفظ: " افعل " في الكتاب والسنة فإنه ظاهر؛ حيث إنه له معنيان هما: إفادته للأمر " و " عدم إفادته له " ويرجح الأول، وهو إفادته للأمر بدون قرينة، ويعمل
على ذلك.
* * *
المسألة الرابعة:
الأمر ليس بحقيقة في الفعل أي: أنه إذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم فعلاً فلا يدل هذا على أن المفعول مأمور به حقيقة، لوجود فرق بين الأمر والفعل من وجوده هي كما يلي:
الوجه الأول: أن الأمر هو: الاستدعاء بالقول على وجه الاستعلاء كما سبق، ولا يقال ذلك في الفعل، وإن قيل في الفعل تعريف الأمر السابق فإنه يحتاج إلى دليل يعتمد عليه، فيكون الأمر حقيقة في القول المخصوص لعدم الحاجة إلى دليل في ذلك.
الوجه الثاني: إن الآمر بالقول يقال له إنه آمر، أما فاعل الفعل فإنه لا يقال له إنه آمر بذلك الفعل.
الوجه الثالث: أن الفعل يصح نفي الأمر عنه، فتقول:" فعل ذلك ولم يأمر به "، ولكن لا يجوز قول ذلك في الأمر بالقول، فلا يقال:" أمر بذلك ولم يأمر به "؛ لأنه يلزم منه التناقض.
وبناء على ذلك: فإنه إذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم فعلاً أمام الصحابة رضي الله عنهم، فإن هذا الفعل ليس بأمر لهم بأن يفعلوا مثله على الوجوب، أو على الندب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد يفعل الشيء وهو له خاصة، وقد يفعله على جهة النفل والفضل
والندب، وقد يفعله سجيَّة وخلقاً، لكن إذا أمر بالقول فإن الأمر يؤخذ من هذا القول فيكون للوجوب أو الندب على حسب الصيغة والقرينة.
* * *
المسألة الخامسة:
صيغة " افعل " تستعمل لمعان هي:
الأول: الوجوب، كقوله تعالى:(وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ).
الثاني: الندب، كقوله تعالى:(فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا)، والصارف له من الوجوب إلى الندب هو: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على الصحابة الذين لم يكاتبوا العبيد الذين كانوا تحت أيديهم مع أن فيهم خيراً للإسلام والمسلمين.
الثالث: التأديب كقوله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن أبي سلمة: " يا غلام سم الله، وكُل بيمينك، وكُل مما يليك ".
والفرق بينهما: أن الندب خاص بالمكلفين، أما التأديب فهو عام للمكلفين ولغيرهم.
الرابع: الإرشاد كقوله تعالى: (وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ).
والفرق بينه وبين الندب: أن المندوب مطلوب لمنافع الآخرة؛ ولذلك يوجد فيه ثواب، أما الإرشاد فهو مطلوب المنافع الدنيا، فلا ثواب فيه.
الخامس: الإباحة، كقولك لشخص آخر:" كل من طعامي ".
السادس: التهديد، كقوله تعالى:(اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ).
السابع: الإكرام، كقوله تعالى:(ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46)). الثامن: الإهانة، كقوله تعالى:(ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49))، وتعريفه: أن يؤتى بلفظ دال على الإكرام، والمراد ضده.
التاسع: التعجيز، كقوله تعالى:(فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ).
العاشر: السخرية، كقوله تعالى:(كُونُوا قِرَدَةً).
الحادي عشر: الدعاء، كقولك:" رب اغفر لي ".
الثائي عشر: التسوية، كقوله تعالى:(فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ) بعد قوله: (اصْلَوْهَا).
الثالث عشر: التمني، كقوله صلى الله عليه وسلم " كن أبا ذر "، أي: تمنى أن يكون ذلك الرجل المقبل هو أبو ذر.
الرابع. عشر: الامتنان، كقوله تعالى:(كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ).
والفرق بينه وبين الإباحة: أن الإباحة مجرد إذن، أما الامتنان فلا بد من اقترانه بذكر احتياج الخلق إليه، وعدم قدرتهم عليه.
الخامس عشر: التكوين، كقوله تعالى:(كُنْ فَيَكُونُ)، والفرق بينه وبين السخرية: أن التكوين: سرعة الوجود من العدم، وليس فيه انتقال إلى حال ممتهنة، بخلاف السخرية فإنه لغة: الذل والامتهان.
السادس عشر: التحذير والإخبار عما يؤول إليه أمرهم، كقوله تعالى:(تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ).
السابع عشر: الخبر، كقوله صلى الله عليه وسلم:" إذا لم تستح فاصنع ما شئت "، أي: إذا لم تستح صنعت ما شئت.
الثامن عشر: التعجب، كقوله تعالى:(انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ).
التاسع عشر: الالتماس، كقولك لنظيرك:" أعطني كتابا ".
العشرون: المشورة، كقوله تعالى:(فَمَاذَا تَأْمُرُونَ).
الواحد والعشرون: التصبر، كقوله تعالى:(لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا).
الثاني والعشرون: الاحتقار، كقوله تعالى:(أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ)، وذلك في قصة موسى عليه السلام يخاطب السحرة.
والفرق بينه وبين الإهانة: أن الإهانة تكون بالقول، أو بالفعل أو بالسكوت، والاحتقار يكون في الاعتقاد، يقال في ذلك: احتقره، ولا يقال: أهانه.
الثالث والعشرون: التكذيب، كقوله تعالى:(فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).
الرابع والعشرون: التحسير، كقوله تعالى:(قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ).
الخامس والعشرون: التفويض، كقوله تعالى:(فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ).
السادس والعشرون: الاعتبار، كقوله تعالى:(انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ).
السابع والعشرون: الاحتياط، كقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا قام أحدكم
من النوم فلا يغمس يده في الأناء حتى يغسلها ثلاثاً "، بدليل قوله بعده: " فإنه لا يدري أين باتت يده ".
* * *
المسألة السادسة:
صيغة الأمر: وهي: افعل، إذا تجردت عن القرائن تقتضي الوجوب حقيقة، واستعمالها فيما عداه من المعاني السابقة الذكر كالندب والإباحة وغيرها يكون مجازاً، أي: لا يحمل على أي معنى مما سبق إلا بقرينة.
وقلنا: إنها للوجوب؛ لقوله تعالى: (ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ)،
حيث إن الله تعالى قد ذم إبليس لما امتنع عن السجود وأنكر عليه بقوله: (مَا مَنَعَكَ)، فلو لم يكن السجود واجباً عليه لما استحق الذم والتوبيخ على تركه؛ لأنه لا يذم أحد إلا بسبب تركه لواجب، حيث قلنا - فيما سبق -: إن الواجب هو: ما ذم تاركه شرعاً مطلقاً، فتكون الصيغة - وهي: افعل - تقتضي الوجوب عند التجرد.
ولإجماع الصحابة رضي الله عنهم على أن الأمر يقتضي الوجوب؛ حيث إنهم كانوا يسمعون الأمر من الكتاب والسنة فيحملونه على الوجوب، ولهذا لم يرد عنهم أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن المراد بهذا الأمر، بل كانوا يحملون جميع الأوامر على الوجوب إلا إذا اقترن به قرينة تصرفه عن الوجوب، ولم ينكر بعضهم على بعض ذلك، فكان إجماعاً. من ذلك: استدلالهم على وجوب الصلاة عند ذكرها بالأمر المطلق الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم: " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها "،
واستدلالهم على وجوب الزكاة على المرتدين بالأمر المطلق الوارد في قوله تعالى: (وَآتُوا الزَّكَاةَ)، واستدلالهم على وجوب أخذ الجزية من المجوس بقوله صلى الله عليه وسلم:" سنُّوا بهم سنة أهل الكتاب " وغير ذلك.
وبناء على ذلك: فإن جميع الأوامر الواردة في الكتاب والسنة للوجوب إلا إذا وجدت قرينة تصرف الأمر من الوجوب إلى غيره فإنها تعمل بما تقتضيه تلك القرينة، فمثلاً قوله تعالى:(فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ)، فيه أمر يوجب الإشهاد على المراجعة، فإن ترك الإشهاد فهو آثم.
* * *
المسألة السابعة:
صيغة الأمر - وهي: إفعل - اقتضت الوجوب بوضع اللغة؛ لأنه قد ثبت عن أهل اللغة تسمية من خالف مطلق الأمر عاصياً، وإذا كان الأمر كذلك فإن الأمر المطلق يقتضي الوجوب.
ولأن الوعيد مستفاد من اللفظ نفسه كما يستفاد منه الاقتضاء الجازم.
وبناء على ذلك: فإنه يجب حمل الأمر على الوجوب سواء كان قد ورد من الشارع أو من غيره إلا ما خرج بدليل.
* * *
المسألة الثامنة:
أيُّ قرينة قوية تصرف الأمر من الوجوب إلى غيره سواء كانت نصاً، أو إجماعاً، أو قياساً، أو مفهوماً، أو مصلحة، أو ضرورة، أو سياق كلام، أو غير ذلك مما يراه المجتهد، لأن القرينة تعتبر دليلاً شرعياً، فلو لم نأخذ بها للزم من ذلك ترك دليل شرعي قد ثبت، وهذا لا يجوز.
وبناء على هذا: فإن وليمة العرس ليست واجبة، والأمر الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف حين تزوج:" أَوْلِم ولو بشاة " مصروف عن الوجوب إلى الندب بالقياس؛ حيث إنه طعام لسرور حادث فأشبه سائر الأطعمة.
* * *
المسألة التاسعة:
إذا وردت صيغة الأمر: وهي افعل: بعد الحظر - وهو النهي - فإنها تقتضي الإباحة؛ لأنه بعد الاستقراء والتتبع للأوامر الواردة بعد النهي في النصوص الشرعية لم نجد أمراً بعد حظر - إلا والمراد به الإباحة، كقوله تعالى:(فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) ،
وقوله: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) وقوله صلى الله عليه وسلم: " كنت قد نهيتكم عن ادخار. لحوم الأضاحي أما الآن فكلوا وادخروا ".
ولأنه لو قال السيد لعبده: " لا تأكل من هذا الطعام "، ثم قال له بعد ذلك:" كل منه " فإن هذا الأمر بعد الحظر يقتضي الإباحة؛ لأنه لو لم يأكل لا يذم، ولو أكل لا يمدح، وهذا هو حد الإباحة.
وبناء على ذلك: فإن النظر إلى المخطوبة مباح؛ لأنه أمر بعد النهي؛ حيث نهى عن النظر إلى المرأة الأجنبية، ثم أمر بالنظر إليها في قوله صلى الله عليه وسلم:" اذهب فانظر إليها ".
* * *
المسألة العاشرة:
الأمر المطلق لا يقتضي التكرار أي: لا يقتضي فعل المأمور به إلا مرة واحدة - فقط -، فلو قال السيد لعبده:" صم "، فإنه يخرج عن العهدة وتبرأ ذمته بصوم يوم واحد فقط، لأن قول القائل لغيره:" ادخل الدار " معناه: كن داخلاً، وبدخلة واحدة يوصف بأنه داخل، فكان ممتثلاً، وكان الأمر عنه ساقطاً.
ولأنه لو قال: " والله لأصومن "، فإنه يَبرُّ بصوم يوم واحد، فكذلك الأمر المطلق ولا فرق.
وبناء على ذلك: فإن السارق إذا سرق مرة ثانية، فإن يده اليسرى لا تقطع، لأن الأمر في قوله تعالى:(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) لا يقتضي التكرار؛ ولا يحتمله، فلا تقطع من الأيدي إلا يمين السارق فقط.
وكذلك يبنى على ذلك: أن الزوج لو وكل شخصاً آخر بأن يطلق امرأته وقال له: " طلق زوجتي "، فإنه لا يجوز للوكيل أن يطلق إلا مرة واحدة؛ لأن الأمر يقتضي المرة الواحدة.
* * *
المسألة الحادية عشرة:
الأمر المعلق بشرط لا يقتضي التكرار وإن تكرر الشرط؛ لأن العرف دل على ذلك؛ حيث إنه لو قال السيد لعبده: " إن دخلت السوق فاشتر ثوبا "، فإنه لا يفهم منه عرفاً إلا شراء ثوب واحد مرة واحدة عند دخوله السوق، ولا يفهم منه عرفاً تكرار شراء ثوب كلما دخل السوق.
ولأن أهل اللغة فرقوا بين قول القائل: " أعط زيداً درهماً إذا طلعت الشمس "، وقوله:" أعط زيداً درهما كلما طلعت الشمس "، حيث إن الأولى تفيد: أنه لا يتكرر الإعطاء بتكرر طلوع الشمس، أما الثانية فإنها تفيد تكرر الإعطاء بتكرر طلوع الشمس بسبب كلمة "كلما"، فلو كان الأمر المعلق بشرط يقتضي التكرار: لما كان بين العبارتين فوق.
وبناء على ذلك: فإن الزوج لو قال لوكيله: " إن دخلت زوجتي الدار فطلقها "، فإنه لا يطلقها إلا مرة واحدة وإن تكرر الدخول ".
* * *
المسألة الثانية عشرة:
إذا كرر لفظ الأمر نفسه كقوله: " صلِّ ركعتين صل ركعتين "، فإنه لا يقتضي التكرار، فيجب عليه أن يصلي ركعتين فقط، فلا يجوز حمل لفظ الأمر الثاني على واجب غيره؛ قياساً على اليمين؛ حيث إنه لو قال:" والله لأصومن، والله لأصومن " فإنه يبر بصوم يوم واحد فقط، فلم يكن للفظ الأمر الثاني أيُّ أثر، وقد وقع ذلك؛ حيث إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:" والله لأغزون قريشاً، والله لأغزون قريشاً، والله لأغزون قريشاً "، فلم يكن لهذا التكرار من أثر؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم غزاهم مرة واحدة، وهي غزوة الفتح، وإذا كان الفعل لا يتكرر هنا فكذلك لفظ الأمر لا يقتضي تكرار الفعل، ولا فرق.
وبناء على ذلك: فإنه لو قال لوكيله: " طلِّق زوجتى طلِّق زوجتي " فإنه لا يطلقها إلا مرة واحدة.
وكذلك يبنى عليه: أنه لو قال لزوجته: " طلقي نفسك طلقي نفسك "، فإنها لا تطلق نفسها إلا مرة واحدة فقط.
المسألة الثالثة عشرة:
الأمر المطلق يقتضي الفور، ولا يجوز تأخيره إلا بقرينة؛ لأن الأمر قد اقتضى الوجوب، فحمله على وجوب الفعل عقيبه مباشرة واجب؛ لأمرين:
أولهما: أنه إذا فعل المأمور به فور صدور صيغة الأمر يكون ممتثلاً للأمر بيقين، دون شك.
ثانيهما: أنه بمجرد تأخير الفعل يكون مُعَرضاً نفسه لخطر عدم القيام به ودرءاً لذلك واحتياطاً فإنه تجب المبادرة إليه.
ولأن صدور صيغة " افعل " هو سبب للزوم الفعل، فيجب أن يقع الفعل عَقيب صدوره؛ قياساً على قول البائع للمشتري:" بعتك هذه الدار بكذا "، فإن ملكية الدار تنتقل فوراً إلى المشتري القابل لهذا دون تأخير، وقياساً على قول الزوج:" فلانة طالق "، فإن الطلاق يقع فوراً، فكذلك الأمر المطلق يقتضي الفور ولا فرق، والجامع أن كل لفظ اقتضى معنى يجب أن يقع ذلك عَقيبه.
وبناء على ذلك: فإن قضاء ما فات من رمضان يجب على الفور، وإذا أخره بدون عذر فإنه يأثم، ولا يجوز فعل النوافل من الصيام حتى يؤدي ما عليه من رمضان.
وكذلك يبنى عليه: أنه إذا بلغ المال النصاب، وحال عليه الحول: فإنه يجب إخراجها على الفور، وإن أخر ذلك فهو آثم، لأن الأمر الوارد في قوله تعالى:(وَآتُوا الزَّكَاةَ) للفور.
* * *
المسألة الرابعة عشرة:
الواجب المؤقت لا يسقط بفوات وقته، فيكون القضاء واجباً بالأمر الأول، ولا يحتاج إلى أمر جديد، فلو لم يصل الفجر في وقتها وطلعت الشمس فإنه يقضيها بنفس الأمر الأول، وهو: أمر الأداء؛ لأن الأمر أثبت وجوب الفعل في ذمة المكلف، وكل ما ثبت وجوبه في الذمة، فلا يمكن أن تبرأ الذمة منه إلا بشيئين:
أولهما: أن يؤدى ذلك الفعل.
ثانيهما: أن يبرئه من كان له حق عليه من الآدميين، فلا يسقط هذا الفعل إلا بأحد هذين الشيئين، وبخروج الوقت لم يحصل الأداء، ولا الإبراء، فلم يسقط الواجب، فتكون الذمة مشغولة بهذا الوجوب، ولا يزول هذا الشغل إلا بمزيل، وهو أحد الشيئين السابقين فقط.
وبناء على ذلك: فإن دليل القضاء هو نفسه دليل الأداء،
فمن ترك الصلاة عمداً حتى خرج وقتها يلزمه القضاء بالأمر
الأول، فيكون الأمر الأول قد اشتمل على أمرين هما:" الفعل أداء " و " الفعل قضاء إن فاته الأداء ".
* * *
المسألة الخامسة عشرة:
الأمر بالأمر بالشيء ليس أمراً بذلك الشيء ما لم يدل عليه دليل، أي: أن الأمر المتعلق بأمر المكلِّف لغيره بفعل من الأفعال لا يكون أمراً لذلك الغير بذلك الأمر، فلو قال زيد لبكر:" مر عمراً بأن يشتري لي كذا "، فإن زيداً لا يكون آمراً عمراً بشراء تلك السلعة؛ لأنه لو كان الأمر بالشيء أمراً لذلك الغير: لكان ذلك مقتضاه لغة، ولو كان كذلك: لكان أمره صلى الله عليه وسلم لأولياء الصبيان بقوله: " مروهم بالصلاة لسبع " أمراً للصبيان بالصلاة من الشارع، ولكن هذا ليس أمراً للصبيان من الشارع ولا إيجاباً عليهم؛ لأن الأمر موجه إلى الأولياء؛ حيث إنه أمر تكليف، ولذلك يذم الولي بترك هذا الأمر شرعاً.
وأيضاً لو كان ذلك أمراً للصبيان لكانوا مكلَّفين بأمر الشارع، وهذا غير متصوَّر في حق الصبيان؛ لعدم فهمهم خطاب الشارع.
وبناء على ذلك: فإن الزوج لو قال لابنه: " قل لأمك:
أنت طالق "، فإن أراد التوكيل فهذا واضح، حيث إنها تطلق؛ لأن الابن يعتبر وكيلاً في طلاق أمه، أما إذا لم يرد شيئاً فإنه لا يلزم منه وقوع الطلاق على أمه.
* * *
المسألة السادسة عشرة:
إذا خاطب الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بفعل عبادة بلفظ ليس فيه تخصيص، كقوله تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ)، وقوله:(يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ)، فإن أمته تشاركه في حكم ذلك الأمر والفعل حتى يدل دليل على تخصيصه بذلك الحكم؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم إذا اختلفوا في حكم من الأحكام الشرعية فإنهم يرجعون إلى أفعال النبي صلى الله عليه وسلم، كرجوعهم إلى فعله في الغسل من التقاء الختانين من غير إنزال، ونحو ذلك، فلو كان مخصوصاً بهذا الحكم لما صح رجوعهم إلى فعله صلى الله عليه وسلم، فدل على مساواته بغيره في أحكام الشرع.
ولأن بعض الصحابة يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الأمر فيجيب عن حال نفسه، وهذا يدل على أنه لا فرق بينه وبينهم، كما روته أم سلمة رضي الله عنها أن امرأة قبَّلها زوجها وهو صائم، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له ذلك: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم: " ألا فأخبريها أني أفعل ذلك "، فلو كان الحكم مختصاً به لم يصلح فعله أن يكون جواباً لذلك.
وبناء على ذلك: فإن الأمة تدخل في الخطابات الموجهة إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق اللفظ والنص، ولا يخرج أحد إلا بدليل خارجي.
* * *
المسألة السابعة عشرة:
إذا توجه الخطاب بالأمر إلى الصحابة رضي الله عنهم والأمة كقوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً)، وقوله صلى الله عليه وسلم:" يا أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا "، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يدخل فيه، ولا يخرج إلا بقرينة؛ لأن ابن عمر قال: لما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحل بعمرة قلنا: فما يمنعك يا رسول الله أن تحل معنا؟ قال: " إني هديت ولبَّدت فلا أحل حتى أنحر هديي "، فلم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم سؤالهم، بل أقرَّهم عليه؛ لأنه يعرف أن الصحابة أرادوا بسؤالهم أن يفسر لهم انفراده عنهم بالحكم في هذه المرة، فلو لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم داخلاً معهم في الخطابات الموجهة إليهم لما سألوه عن سبب عدم موافقته لهم، ولما أقرَّهم على ذلك.
وبناء على ذلك: فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يدخل في الخطابات الموجهة إلى الأمة عن طريق اللفظ والنص، ولا يخرج إلا بدليل خارجي.
المسألة الثامنة عشر:
ْإذا توجه الأمر إلى واحد من الصحابة كرجم ماعز، وقطع يد سارق رداء صفوان بن أميَّة، فإن غيره يدخل ضمن هذا الأمر؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يرجعون إلى ما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم على أعيان وأشخاص منهم، فيأخذون تلك الأحكام المعينة ويعممونها له ولهم، كرجوعهم في حد الزنى إلى قصة ماعز، وفي المفوِّضة إلى قصة بروع بنت واشق، ونحو ذلك، ولم يوجد منكر لذلك، فهذا يدل على تساوي الجميع في تلك الأحكام.
وبناء على ذلك: فإن بقية الصحابة يدخلون في الخطاب الموجه إلى فرد منهم عن طريق اللفظ والنص، ولا يخرجون إلا بدليل خارجي.
* * *
المسألة التاسعة عشرة:
الأمر يتعلق بالمعدوم على تقدير وجوده، ووجود شروط التكليف فيه، أي: أن الأمر يتناول المعدومين الذين علم الله تعالى أنهم سيوجدون على صفة التكليف؛ لإجماع الصحابة والتابعين على ذلك؛ حيث إن جميع الصحابة والتابعين كانوا يأخذون بأوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم، ويطبقونها على من لم يوجد في زمان نزول تلك الأوامر، بدون نكير، فكان هذا إجماعاً منهم على أن الأوامر الشرعية تتناول من كان معدوماً حال الخطاب بالأمر.
ولقوله تعالى: (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ)، والمعدوم قد بلغه الأمر حين وجوده، فدلَّ على أن الأمر يتعلق بالمعدوم.
وبناء على ذلك: فإن الأمر قد توجه إلى المعدومين عن طريق اللفظ والنص.
ولا يخرج أي واحد منهم إلا بدليل، فمثلاً لو أن السيد خاطب عبيده قائلاً:" ليقف كل واحد منكم ساعة "، ثم اشترى عبداً جديداً فإنه يدخل معهم بالنص واللفظ.