الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب السابع عشر
في العموم
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
العام هو: اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد.
* * *
المسألة الثانية:
العموم من عوارض الألفاظ حقيقة، والعوارض: جمع عارض، والعارض هو الذي يذهب ويجيء، ولذلك سمي المال عرضاً في قوله تعالى:(تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا) لأنه يذهب ويجيء، فالعموم عارض للفظ قد يجيء إليه، وقد يزول عنه.
وليس المراد من ذلك: أن العموم داخل في حقيقة اللفظ بحيث كلما وجد اللفظ يكون عاماً، ليس هذا هو المقصود، وإنما المقصود ما ذكرناه.
* * *
المسألة الثالثة:
العموم له صيغة في اللغة خاصة به موضوعة له تدل على
العموم حقيقة، ولا تحمل على غيره إلا بقرينة - وهي: صيغ العموم التي سيأتي ذكرها كأدوات الشرط والاستفهام، وكل اسم دخلت عليه " أل " الاستغراقية، و " كل " و " جميع " وغيرها مما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى؛ لإجماع الصحابة على أن تلك الصيغ للعموم؛ حيث كانوا يجرون تلك الألفاظ والصيغ على العموم إذا وردت في الكتاب والسنة، ولا يطلبون دليلاً على ذلك؛ نظراً لأن إفادتها للعموم أمر مسلم به عندهم، ولكنهم كانوا يطلبون دليل التخصيص: فإن وجدوا المخصص أخذوا به، وإن لم يجدوا أجروا تلك الصيغ على أصلها وحقيقتها، وهو العموم، وكانوا يفعلون ذلك دون نكير من أحد، فكان إجماعاً.
ومن أمثلة ذلك: أنهم عاقبوا جميع السارقين والسارقات، وعاقبوا جميع الزناة والزانيات وذلك لورود صيغة العموم في قوله تعالى:(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) وقوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) ومنها أنهم تمسكوا بقوله عليه السلام: " أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " على عدم جواز قتال مانعي الزكاة حتى نبَّههم أبو بكر رضي الله عنه على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " إلا بحقها " حيث إنه استثناء، والاستثناء يدل على أن المستثنى منه عام.
ومنها: احتجاج أبي بكر رضي الله عنه على الأنصار لما قالوا: " منا أمير ومنكم أمير " بقوله صلى الله عليه وسلم: " الأئمة من قريش " ولم ينكر عليه أحد.
ومنها: احتجاجهم بقوله تعالى: (وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا) على تحريم جميع أنواع الربا، واحتجوا بغير ذلك من النصوص التي وردت فيها صيغة من صيغ العموم على تعميم الحكم بسبب تلك الصيغة.
وأيضاً: أن القضاة والحكام والمفتين يبنون على أن تلك الصيغ والألفاظ تفيد العموم إذا نطق بها المتكلم فيحكمون أن جميع العبيد والإماء أحرار إذا قال السيد: " أعتقت عبيدي وإمائي "، ولو قال زيد لعمرو:" لي عليك ألف ريال "، فقال عمرو:" ما لك علي شيء "، لكان هذا إنكاراً لجميع الألف، لأنه نكرة في سياق نفي وهي تفيد العموم.
وبناء على ذلك: فإن قوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) عام لجميع الناس دون استثناء.
* * *
المسألة الرابعة:
صيغ العموم هي:
الصيغة الأولى: أدوات الاستفهام، كقولك:" من عندك؟ ".
ودلَّ على أنها من صيغ العموم: أنها إما أن تكون للعموم فقط، أو للخصوص فقط، أو لهما معاً بالاشتراك اللفظي، أو لا تكون لكل واحد منهما والكل باطل إلا الأول، وإليك بيان ذلك.
لا يصح أن تكون موضوعة للخصوص فقط: لأنه لو كانت موضوعة له: لما حسن من المجيب أن يجيب بلفظ " كل " أو " جميع "، ولكنه يجوز أن يجيب: فلو قال: " من عندك؟ " فإنه يمكن للمجيب أن يقول: " عندي جميع الطلاب ".
ولا يصح أن تكون موضوعة للخصوص والعموم بالاشتراك اللفظي، لأنه يكون مجملاً، والمجمل لا يمكن أن يجاب عنه. بجواب معين إلا بعد عدة استفهامات عن الأقسام الممكنة:
فلو قال: " من عندك؟ " فإن المجيب لا بد أن يقول: " أتسألني عن الرجال أم عن النساء؟ "، فإذا قال: أسالك عن الرجال فلا بد أن يقول: أتسألني عن العرب أم عن العجم؟ وهكذا إلى أن يأتي على جميع أحياء العرب مثلاً، وعلى جميع أصنافها من العلماء، والجهال، والبيض والسود ونحو ذلك، فثبت أنه لو صح الاشتراك لوجدت هذه الاستفهامات، لكنها غير واجبة؛ لأن أهل اللسان يستقبحون مثل هذه الاستفهامات؛ لأنها غير متناهية، فبطل كون تلك الصيغ موضوعة للعموم والخصوص بالاشتراك اللفظي.
ولا يصح أن لا تكون تلك الصيغ موضوعة للعموم ولا للخصوص؛ لأنه يؤدي إلى أنه يوجد في الكتاب والسنة ألفاظ لا تفيد شيئاً وهذا باطل. فلما بطلت الأقسام الثلاثة الأخيرة لم يبق إلا الأول وهو: أنها موضوعة للعموم، وهو المطلوب.
الصيغة الثانية: أدوات الشرط كمن، كقولك:" من نجح فله جائزة ".
ودل على أنها للعموم: صحة الاستثناء مما دخلت عليه أداة الشرط فيصح أن تقول: " مَن دخل داري فأكرمه إلا زيداً "، والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل، فيدل الاستثناء على أن المستثنى منه عام.
الصيغة الثالثة: " كل " و " جميع ".
دل على أنها للعموم: أن أهل اللغة واللسان إذا أرادوا التعبير والغوص في الاستغراق فإنهم يفزعون إلى استعمال لفظ " كل " أو " جميع "، ولو لم يكونا مفيدين للعموم لما فزعوا إليهما.
ولصحة الاستثناء مما دخلت عليه كل أو جميع فتقول: " كل الطلاب يكرمون إلا زيداً ".
الصيغة الرابعة: الجمع المعرَّف بأل كالرجال، والمسلمين، والناس، بشرط: أن لا تكون " أل " هذه عهدية.
ودل على ذلك: صحة الاستثناء من الجمع المعرَّف بأل فتقول: " أكرم الرجال إلا زيداً "، فلو لم يفد العموم لما صح الاستثناء منه.
وأيضاً: أنه يؤكد بما يقتضي العموم، كقوله تعالى:(فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ).
وبناء على ذلك: فإنه لو قال: " والله لأصومن الأيام " للزمه أن يصوم جميع أيام العمر.
الصيغة الخامسة: الجمع المعرَّف بالإضافة، كقولك:" أكرم طلاب الكلية ".
ودل على أنها للعموم: صحة الاستثناء فتقول: " أكرم طلاب الكلية إلا زيدا "، وهو كما سبق.
الصيغة السادسة: واو الجمع، كقوله:" قوموا ".
ودل على أنها للعموم: صحة الاستثناء، فلو قال: للطلاب الذين أمامه: " قوموا إلا زيدا " لصح، وهذا يدل على إفادة ذلك العموم.
وبناء على ذلك: فإنه لو قال لوكلائه: " أعطوا زيداً مما في أيديكم عشرة "، للزم من ذلك أن كل واحد مأمور بإعطائه شيئاً، ويلزم أيضاً: أن كل واحد مأمور بإعطاءه عشرة غير ما يعطيه صاحبه.
الصيغة السابعة: النكرة في سياق النفي، كقولك:" لا رجل في الدار ".
دل على أنها تفيد العموم صحة الاستثناء من هذه النكرة، فتقول:" لا رجل في الدار إلا زيداً "، و " ما قام أحد إلا زيداً ".
ولأنه لو لم تكن النكرة في سياق النفي تعم لما كان قول الموحِّد: " لا إله إلا الله "، نفياً لجميع الآلهة سوى الله تعالى.
وبناء على ذلك: فإنه لو قال: " والله لا آكل رغيفا "، يحنث إذا أكل رغيفاً فأكثر.
الصيغة الثامنة: المفرد المحلَّى بأل، كقولك:" قدم الحاج " أي: جميع الحجاج.
دل على أنه يفيد العموم صحة الاستثناء منه، كقوله تعالى:(إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا).
ولأنه ينعت بما ينعت به العموم، كقوله تعالى:(أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ).
وبناء على ذلك: فإن المرأة لو قالت: " قد أذنت للعاقد بهذا البلد أن يزوجني "، فإنه يجوز لكل عاقد أن يزوجها.
وكذلك لو قال الزوج: " إذا قدم الحاج فأنتِ طالق "، فإنها لا تطلق إلا إذا قدم جميع حجاج هذه البلدة، فلو مات أحد حجاج هذه البلدة، أو لم يرجع فإنها لا تطلق.
الصيغة التاسعة: المفرد المنكر المضاف إلى معرفة، كقولك:" أكرم عالم هذه المدينة ".
ودل على أنها تفيد العموم: صحة الاستثناء في ذلك، فتقول:" أكرم عالم هذه المدينة إلا زيداً "، والاستثناء يدل على أن المستثنى منه عام.
وبناء على ذلك: فإنه لو قال: " زوجتي طالق وعبدي حر " ولم ينو معيناً، فإن جميع زوجاته طوالق أو جميع عبيده أحرار استدلالاً بهذه القاعدة.
الصيغة العاشرة: الاسم الموصول سواء كان مفرداً كالذي،
والتي، أو مثنى كالذين أو جمعاً كالذين واللاتي واللائي، ودل على أنها تفيد العموم: صحة الاستثناء، فتقول:" أكرم الذي نجح إلا زيداً ".
الصيغة الحادية عشرة: " سائر "، المشتقة من سور المدينة، كقولك:" أكرم سائر العلماء ".
والدليل على كونها مفيدة للعموم: صحة الاستثناء.
* * *
المسألة الخامسة:
الجمع المنكر في سياق الإثبات لا يفيد العموم؛ لأن الجمع المنكر صالح لكل مرتبة من مراتب الجماعة التي تبتدي من الثلاثة إلى العشرة، فيصح أن تقول:" رجال ثلاثة وأربعة وخمسة "، ولا يمكن ذلك في أقل من الثلاثة، إذن الثلاثة لا بد منها فثبت أنها تفيد الثلاثة فقط؛ لأنه أقل الجمع، ولا يحمل على ما زاد عليه إلا بدليل.
وبناء على ذلك: فلو قال السيد لعبده: " أكرم علماء " فإنه تبرأ ذمة العبد إذا أكرم ثلاثة فقط.
* * *
المسألة السادسة:
نفي المساواة بين الشيئين يقتضي نفي المساواة بينهما من كل الوجوه التي يمكن نفيها عنهما؛ فإذا قال: " لا يستوي زيد وعمر "، فإن هذا يقتضي نفي المساواة في جميع الوجوه: في الكرم، والعلم، والخُلق وغير ذلك.
وقلنا ذلك: لأن هذا من قبيل النكرة في سياق النفي،
والنكرة في سياق النفي من صيغ العموم - كما سبق - وهي تفيد العموم من جميع الوجوه.
وبناء على ذلك: فإن المسلم لا يقتل بالكافر الذمي؛ لقوله تعالى: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ)، ونفي المساواة يقتضي نفيه من جميع الوجوه، فلو قتل المسلم بالكافر لحصل بينهما استواء في القصاص، ومعروف أن الكافر الذمي غير مساو للمسلم، بل هو أقل منه في العصمة.
* * *
المسألة السابعة:
إذ كان الفعل متعدياً، ولم يذكر مفعوله ووقع ذلك الفعل في سياق نفي كقولك:" والله لا آكل "، أو وقع في سياق شرط كقولك:" إن أكلتِ فأنتِ طالق "، فإن ذلك يكون عاماً في جميع المأكولات، فلو أكل هذا الحالف أيَّ أكل فإنه يحنث وتجب عليه الكفارة، ولو أكلت الزوجة أي أكل فإنها تطلق، وقلنا ذلك لأن الفعل من باب النكرة، والنكرة إذا وقعت في سياق النفي فإنها تعم، وكذلك الفعل إذا وقع في سياق شرط فإنه يعم؛ لما سبق ذكره من أن النكرة في سياق النفي، وأدوات الشرط من صيغ العموم.
وبناء على ذلك: فإنه لو قال: " إن أكلت فأنتِ طالق "، فإنها تطلق إن أكلت أيَّ شيء، لكن لو نوى أكلاً معيناً كالتفاح فإنها لا تطلق إن أكلت غيره كالبرتقال، لأن كلامه عام، وخصَّصه بالنية؛ لأن العام يقبل التخصيص.
* * *
المسألة الثامنة:
دلالة العام ظنية، وليست قطعية، أي: أن تلك الصيغ والألفاظ تدل على العموم والخصوص، لكن دلالتها على العموم أرجح من دلالتها على الخصوص.
وقلنا ذلك لأن هذه الصيغ تستعمل للعموم - كما سبق بيانه - ومع ذلك فقد كثر إطلاقها وإرادة الخصوص كثرة لا تحصى حتى أنه اشتهر قولهم: " ما من عام إلا وقد خصص إلا قوله تعالى: (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، واستعمال تلك الألفاظ والصيغ في الخصوص كثيراً تجعل دلالتها على العموم ظنية؛ لأن احتمال إرادة الخصوص بها وارد وثابت بدليل.
وبناء على ذلك: فإن أي دليل ظني كخبر الواحد، والقياس، والمفاهيم، يقوى على تخصيص العام؛ لأن الظني يقوى على تخصيص الظني.
المسألة التاسعة:
أقل الجمع ثلاثة حقيقة، ولا يطلق الجمع على الاثنين والواحد إلا مجازاً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:" الراكب شيطان والراكبان شيطانان، والثلاثة رَكب "، ولقوله:" الشيطان يهم بالواحد والاثنين، فإذا كانوا ثلاثة لم يهم بهم "،، فقد فصل النبي صلى الله عليه وسلم بين التثنية والجمع، وجعل للاثنين اصطلاحاً دون الجمع، فعلم أن التثنية ليست بجمع حقيقة.
ولأن الثلاثة تنعت بالجمع، والجمع ينعت بالثلاثة فيقال:" ثلاثة رجال "، و " رجال ثلاثة " لكن التثنية لا تنعت بالجمع، ولا الجمع ينعت بالتثنية فلا يقال:" رجال اثنان " ولا " اثنان رجال "، فلو كان الاثنان أقل الجمع: لجاز نعت أحدهما بالآخر، لكن ذلك لا يجوز، فلا يكون الاثنان جمعاً.
ولأن أهل اللغة فرقوا بين التثنية والجمع بالضمير المتصل والمنفصل والتأكيد، فقالوا في الجمع:" فعلوا " و " هم " و " جاء الزيدون أنفسهم "، ولم يقولوا ذلك في التثنية.
وبناء على ذلك: فإنه لو قال: " والله لا أكلم رجالاً "، فإنه يحنث إذا كلم ثلاثة رجال، ولا يحنث إذا كلَّم اثنين أو واحد.
وكذلك إذا نذر صوم أيام فإنه يلزمه ثلاثة أيام.
وكذلك لو قال لزوجته: " أنتِ طالق طلقات "، فإنه يلزمه ثلاث طلقات.
* * *
المسألة العاشرة:
العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، أي: أن اللفظ الوارد على سبب خاص لا يختص به، بل يكون عاماً لمن تسبب في نزول الحكم ولغيره؛ لأن الحجة في لفظ الشارع: فإن أورد الشارع الحكم، وهو مشتمل على صيغة من صيغ العموم: جعلنا الحكم عاماً سواء نزل ذلك الحكم بسبب أو بغير سبب، وإن أورد الشارع الحكم بلفظ خاص: خصصنا ذلك الحكم، فالمعتبر هو اللفظ.
ولإجماع الصحابة رضي الله عنهم على تعميم الأحكام الواردة على أسباب خاصة كآيات الظهار التي نزلت في شأن أوس بن الصامت وزوجته، وآيات اللعان النازلة في عويمر العجلاني وزوجته، وآية السرقة النازلة في سرقة رداء صفوان بن أمية، وآية القذف النازلة في شأن عائشة - رضي الله عن الجميع - فقد علم الصحابة تلك الأحكام بدون نكير، فكان إجماعاً.
وبناء على ذلك: فإن الأحكام الواردة على أسباب قد ثبتت
لأوس، ولعويمر، ولصفوان، ولعائشة وللحوادث المشابهة لها عن طريق اللفظ والنص.
* * *
المسألة الحادية عشرة:
قول الصحابي: " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو نهى، أو قضى، أو حكم، يقتضي العموم؛ لإجماع الصحابة والتابعين على ذلك؛ حيث كانوا يرجعون إلى هذه الألفاظ، ويحتجون بها في عموم الصور التي تحصل في أزمانهم.
فقد قال ابن عمر: كنا نخابر أربعين سنة حتى أخبرنا رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة، وإذا رأى أحد منهم شخصاً يبيع بالمزابنة أو المحاقلة منعوه استدلالاً بقول الصحابي:" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة والمحاقلة "، وأخذوا بقول الصحابي:" أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضع الجوائح "، وبقوله:" رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في السَّلَم "، وبقوله:" رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في العرايا "، وبقوله:" قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة للجار "، وكانوا يفعلون ذلك، ويستدلون بتلك الألفاظ، دون نكير، فكان إجماعاً.
وبناء على ذلك: فإن النهي عن بيع المزابنة، والمنابذة، والملامسة، والمحاقلة، والغرر، والأمر بوضع الجوائح، والقضاء بالشفعة للجار، وفيما لم يقسم: عام وشامل للأشخاص الذين
نُهوا وأمروا وقضي في حقهم، ولمن جاء بعدهم ممن شابههم، وذلك عن طريق لفظ الصحابي ونصه.
* * *
المسألة الثانية عشرة:
إذا قال الصحابي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل كذا فإن هذا يفيد العموم؛ لأن الراوي إنما يحكي الفعل والحادثة بلفظ: " كان "، إذا ثبت عنده تكرار ذلك الفعل؛ حيث لا يُفهم من لفظ:" كان " إلا التكرار في مخاطباتنا العادية، فمثلاً يقول القائل:" كان زيد يأتي هذه المكتبة "، فإنا لا نفهم من ذلك عادة إلا أن زيداً يتردد عليها أكثر من مرة.
وبناء على ذلك: فإن تعبير الصحابي بلفظ " كان " يدل على أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم الذي أداه هذا الصحابي بلفظ " كان " متكرر، ومعلوم أن ما تكرر وقوعه من فعله صلى الله عليه وسلم أقوى مما وقع مرة واحدة، وهذا يفيد عند التعارض.
* * *
المسألة الثالثة عشرة:
العبد يدخل تحت خطاب التكليف بالألفاظ العامة المطلقة، كلفظ:" الناس " و " المؤمنين " و " المسلمين " و " الأمة "، فهو كالحر، ولا فرق، ولا يخرج منها إلا بقرينة، لأن العبد من جملة من يتناوله اللفظ، فهو من الناس، ومن المؤمنين، ومن المسلمين،
ومن الأمة؛ حيث إن العبد يوصف بذلك فيقال: هذا العبد مسلم، ومؤمن، ومن الناس، ومن الأمة، ولا يوجد مانع من دخوله، لا شرعي، ولا عقلي.
وبناء على ذلك: فإن العبد يدخل ضمن الخطابات الموجهة إلى الناس، والأمة، والمؤمنين والمسلمين، دخولاً أصلياً، ولا يخرج عن ذلك الخطاب إلا بدليل وسبب، كسقوط صلاة الجمعة والحج والجماعة بسبب اشتغاله بخدمة سيده، ولو أذن له سيده لوجبت عليه.
* * *
المسألة الرابعة عشرة:
النساء يدخلن ضمن الجمع الذي تبيَّنت فيه علامة التذكير، كالمسلمين، والمؤمنين، وفعل:" اشربوا وكلوا " و " قاموا " ولا يخرجن إلا بدليل؛ لأن العرب اعتادوا أنه إذا اجتمع الذكور والإناث فإنهم يغلبون جانب التذكير في ألفاظهم وخطاباتهم، ولو كان الذكر واحداً، فإذا كان أمامك عدد من الرجال والنساء فإن الصحيح عند أهل اللغة هو قولك:" قوموا "، ولو قلت للرجال:" قوموا " وللنساء " قمن "، لعده أهل اللغة لكنة وعيَّاً.
وقد وقع ذلك في قوله تعالى - وهو يخاطب آدم، وحواء، وإبليس - (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا) فقال:(اهْبِطُوا) مع وجود حواء.
ولأن أكثر أوامر الشرع ونواهيه وخطاباته العامة وردت بلفظ التذكير كقوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)، وقوله:(وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا) ونحو ذلك، وانعقد الإجماع على أن النساء يشاركن الرجال في أحكام تلك الأوامر والنواهي.
وبناء على ذلك: فإنه لو قال رجل لجمع من الرجال والنساء ومعهم زوجته - وهو يعلم بوجودها -: " طلقتكم " فإنها تطلق؛ لأنها تدخل في خطاب الرجال.
ولو قال لمن أمامه من الرجال والنساء: " ملكتكم هذه الدار "، فإن النساء يشاركن في ملكية هذه الدار.
* * *
المسألة الخامسة عشرة:
العام إذا أدخله التخصيص فإنه حقيقة فيما بقي بعد التخصيص مطلقاً؛ لأن المخصِّص قد أثر في المخصوص والمخرج - فقط -، ولم يؤثر في الباقي بعد التخصيص، فيبقى على ما هو عليه.
فمثلاً: لفظ " السارق " قد وضع لجميع السارقين، وأنها تقطع يد كل واحد منهم، ولما جاء المخصص - وهو قوله صلى الله عليه وسلم:" رفع القلم عن ثلاثة: الصغير حتى يبلغ والمجنون حتى يفيق " - صرف دلالة لفظ: " السارق " عن بعض السارقين وبين أن هذا
البعض - وهما: المجنون والصبي - لا تقطع أيديهما إذا سرقا، وإذا صرفت دلالته عن هذين الشخصين فإن دلالة اللفظ - وهو السارق - على الأفراد غير المخصوصين باقية لم تتغير، ومستمرة على ما هي حقيقة، إذن المخصص لم يؤثر في الباقين، بل أثر في المخصص والمخرج، فتبقى دلالة اللفظ العام المخصوص حقيقة فيما بقي.
وبناء على ذلك: فإن الأفراد الذين بقوا بعد التخصيص قد دل عليهم اللفظ العام وتناولهم حقيقة، أي: دخلوا في عمومه بدون قرينة، وأي لفظ دل على ما بقي بدون قرينة فإنه يكون أقوى من اللفظ الذي لا يدل إلا بقرينة، وهذا يفيد عند تعارض اللفظين.
* * *
المسألة السادسة عشرة:
يجوز أن يخص العام إلى أن يبقى واحد؛ لوقوعه في القرآن؛ حيث قال تعالى: (أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ) وأراد بذلك عائشة رضي الله عنها وقال تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) والمراد بالناس واحد وهو: نعيم بن مسعود الأشجعي كما ذكره المفسرون.
ولوقوعه عند أهل اللغة؛ حيث كتب عمر إلى سعد بن أبي
وقاص رضي الله عنهما قائلًا: " قد انفذت إليك ألفي رجل "، وكان قد أرسل إليه ألفاً من الرجال والقعقاع بن عمرو، ولم ينكر عليه أحد.
وبناء على ذلك: فإنه إذا كان للرجل أربع نساء وقال: " نسائي طوالق "، ثم قال: كنت قد أخرجت ثلاثاً: فإنه يقبل، حيث إن الباقية واحدة ويجوز تخصيص إلى أن يبقى واحد.
* * *
المسألة السابعة عشرة:
المخاطِب - بكسر الطاء - والمتكلم يدخل في عموم خطابه مطلقاً؛ لأن السيد لو قال لعبده: " من أحسن إليك فأكرمه "، ثم أحسن إليه السيد، فإن أكرمه فإنه يستحق المدح والثناء، وإن لم يكرمه فإنه يستحق اللوم، وهذا باتفاق العقلاء من أهل اللغة، فاستحقاقه للمدح في الحالة الأولى وللذم في الحالة الثانية دليل على أن السيد داخل في عموم خطابه ومتناول له.
وبناء على ذلك: فإن المخاطب يدخل في عموم خطابه ولا يخرج إلا بقرينة، فلو قال:" نساء المسلمين طوالق " فإن زوجته تطلق، لأن المخاطب والمتكلم يدخل في عموم كلامه.
ولو قال: " عندي لورثة أبي ألف ريال " فإنه يدخل معهم، ويكون له نصيب من هذه الألف.
* * *
المسألة الثامنة عشرة:
يجب اعتقاد عموم اللفظ في حال علمنا به، وإذا اعتقد عمومه وجب العمل بذلك إذا جاء وقت العمل به قبل البحث عن المخصص، فإن وجدنا مخصصاً تركنا العام وعملنا بالمخصص وما بقي بعد التخصيص، وإن لم نجد مخصصاً له نستمر في العمل بالمخصص؛ لأن ترك التمسك بالعام لاحتمال وجود مخصص له يلزم منه ترك العمل بالدليل الثابت يقيناً من أجل دليل قد شك في ثبوته وهذا لا يجوز.
ولأن الأصل عدم التخصيص، وذلك يوجب ظن عدم التخصيص، وهو: يكفي في ظن إثبات الحكم باللفظ العام والعمل به فور علمنا به.
وبناء على ذلك: فإن اللفظ العام يجب أن يعمل به حال سماعنا به بدون قرائن.
* * *
المسألة التاسعة عشرة:
الجمع المنكر المضاف إلى ضمير الجمع يقتضي العموم في
كل من المضاف والمضاف إليه فقوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) يقتضي أخذ الصدقة من كل نوع من أنواع مال كل مالك، فلا تكفي صدقة من نوع واحد من الأموال.
وقلنا ذلك لأن الجمع المضاف من صيغ العموم، وضمير الجمع من صيغ العموم - أيضاً، فإذاً يكون العموم في كل من المضاف والمضاف إليه؛ عملاً بالظاهر.
وتطبيق ذلك كما قلنا بالمثال.
* * *
المسألة العشرون:
المفهوم له عموم، أي: يثبت الحكم في جميع صور المسكوت عنه إما على موافقة المنطوق به، أو على مخالفته، قياساً على اللفظ، فكما أن اللفظ يثبت الحكم في جميع صور مسمياته فكذلك مفهومه يثبت الحكم في جميع صور مسمياته، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما قال:" في سائمة الغنم الزكاة "، فقد تضمن ذلك القول قولاً آخر، وهو: أنه لا زكاة في المعلوفة، ولو صرح بذلك: لكان عاماً.
وبناء على ذلك: فإن قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا بلغ الماء قُلتين لم ينجس "، قد دل بمفهومه على أن ما دونهما ينجس بملاقاه النجاسة، وهذا عام لجميع صوره، أي: سواء تغير أو لا، كوثر بماء طاهر ولم يبلغ قلتين أو لم يُكاثر.
المسألة الواحدة والعشرون:
ترك الاستفصال في حكاية الحال مع وجود الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، فقوله صلى الله عليه وسلم لغيلان الثقفي - الذي أسلم وتحته عشرة نسوة -:" أمسك أربعاً وفارق سائرهن "، وهو لم يستفسر منه هل عقد على هذه النسوة بعقد واحد في زمن واحد، أو عقد عليهن بعقود متعددة في أزمان مختلفة؛ هذا يفيد العموم في جميع الأحوال؛ لأن ترك الرسول صلى الله عليه وسلم الاستفصال من الحاكي في حكايته مع قيام الاحتمال الذي من شأنه أن يؤثر في الحكم، ينزل منزلة العموم في المقال، أي: أن الحكم - وهو: إمساك أربع ومفارقة الباقي عام في الحالتين المذكورتين سابقاً، وهذا يتبين فيه سماحة الإسلام ويسره.
* * *
المسألة الثانية والعشرون:
المقتضَى لا عموم له، أي: أن الشيء الذي اقتضاه اللفظ لصدق الكلام، أو لصحته العقلية، أو لصحته الشرعية، يكون واحداً فقط؛ لأن ثبوت المقتضَى كان للضرورة حتى إذا كان الكلام مفيداً للحكم بدونه لم يصح إثباته لغة ولا شرعاً، وإذا كان للضرورة فإن الضرورة تقدّر بقدرها، ولا حاجة لإثبات
العموم فيه ما دام الكلام مفيداً بدونه، ويبقى فيما وراء موضع الضرورة - وهو استقامة الكلام - فلا يثبت العموم فيه؛ قياساً على أكل الميتة فإنه لما أبيح للضرورة قدِّر بقدرها، وهو: سدُّ الرَمَق - فقط - فكذلك هنا.
وبناء على ذلك: فإن من تكلَّم في صلاته ناسياً، أو مخطئاً، بطلت صلاته ولا إثم عليه، وعليه الإعادة، لأن قوله صلى الله عليه وسلم:" رفع عن أمتي الخطأ والنسيان " لا عموم له، فيكون المرفوع حكماً واحداً وهو:" الإثم " المقتضي للعقوبة في الآخرة، ولم يرفع الحكم الدنيوي وهو: الإعادة.