الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبناء على ذلك: فإن دائرة القياس تكون أوسع من دائرة القياس عند الذين اشترطوا: أن تكون العلة في الفرع معلومة قطعاً، حيث تكون نادرة.
* * *
المسألة الثالثة والثلاثون:
لا يُشترط في الفرع أن يكون مما ثبت بالنص جملة
، بل يجوز القياس مطلقاً؛ لعموم أدلة حجية القياس السابقة الذكر؛ حيث إنها دلت على حجية القياس مطلقاً دون أن تفرق بين ما ثبت حكم الفرع فيه على جهة الإجمال وبين غيره.
وبناء على ذلك: فإن دائرة القياس تكون أوسع من دائرة القياس عند الذين اشترطوا لصحة القياس: أن يثبت حكم الفرع بالنص على جهة الإجمال.
* * *
المسألة الرابعة والثلاثون:
مسالك العلة، أو طرق ثبوت العلة هي:
المسلك الأول: النص الصريح، وهو ما وضع للتعليل من غير احتمال، فيكون قاطعاً في تأثيره، كأن يصرح الشارع بكون هذا الوصف علة أو سبباً للحكم الفلاني، كقوله: اقطعوا يد فلان لعلة كذا، أو لسبب كذا، أو لموجب كذا، أو لأجل كذا، أو من أجل كذا.
المسلك الثاني: النص الظاهر، وهو: ما لا يكون قاطعاً في
تأثيره، أي: يحتمل التعليل ويحتمل غيره، ولكن التعليل به أرجح.
مثل: التعليل بلفظ: " كي "، كقوله تعالى:(كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا)، والتعليل باللام كقوله تعالى:(أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ)، والتعليل بـ " أَنْ " كقوله تعالى:(يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا)، والتعليل بلفظ:" حتى "، كقوله تعالى:(وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ)، والتعليل بذكر المفعول له كقوله تعالى:(لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ)، والتعليل بلفظ " الفاء " كقوله تعالى:(يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا).
المسلك الثالث: الإجماع، وهو: اتفاق مجتهدي العصر على أن هذا الوصف المعين علة للحكم المعين، مثال ذلك: البكر الصغيرة يولى عليها، والعلة هي: الصغر إجماعاً، ويقاس عليها الثيب الصغيرة في وجوب التولية عليها بجامع: الصغر.
وكذا: أن الأخ الشقيق مقدم على الأخ لأب في الإرث، والعلة هي: امتزاج النسبين: نسب الأم ونسب الأم واختلاطهما إجماعاً، ويقاس على ذلك: تقديم الأخ الشقيق على الأخ لأب في ولاية النكاح وتحمل العاقلة بجامع امتزاج النسبين.
المسلك الرابع: الإيماء إلى العلة وهو: ما كان التعليل فيه مفهوماً من لازم مدلول اللفظ؛ أي: يفهم التعليل فيه من السياق أو القرائن اللفظية الأخرى، وهو أنواع:
النوع الأول: أن يذكر الوصف ثم يذكر الحكم بعده وهو مقترن بالفاء كقوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقطَعُوا).
وقوله: (قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ)،
وقوله صلى الله عليه وسلم: " من بدَّل دينه فاقتلوه ". فإنه يفهم من ذلك: أن علة قطع اليد هي: السرقة، وعلة وجوب اعتزال النساء في المحيض هو: الأذى، وعلة القتل هو: تبديل الدِّين.
وهذا يُفهم العلية مطلقاً، أي: سواء عرفنا المناسبة كالأمثلة السابقة، أو لم نعرف المناسبة كقوله صلى الله عليه وسلم:" من مسَّ ذكره فليتوضأ "، لأنه لا يمكن أن يتكلم الشارع بالعبث، ولا توجد علة أخرى فتعيَّن أن الوصف علة.
وكذلك: هذا النوع يُفهم العلية سواء كان الكلام من الشارع كما سبق من الأمثلة، أو كان الكلام من الصحابي، كقوله:" سهى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجد "؛ لأن الصحابي - وهو الراوي - الذي شهد الله له بالعدالة، والعارف بمواقع الكلام، ومجاري اللغة، والعالم بدلالات الألفاظ واشتقاقاتها، وأساليبها لا يمكن أن يُعبِّر بلفظ يفهم السببية والعلية إلا إذا كان الأمر كذلك حقيقة.
ويشترط في الصحابي هذا: أن يكون فقيهاً؛ لأن احتمال الخطأ والوهم في كلام الراوي غير الفقيه أقوى من احتماله في كلام الراوي الفقيه.
النوع الثاني: ترتب الحكم على الوصف بصيغة الجزاء والشرط، كقوله تعالى:(وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا)، وقوله عليه الصلاة والسلام:" من بدَّل دينه فاقتلوه "، فإذا وردت أداة من أدوات الشرط فإن فعل الشرط يكون وصفاً وعلة، وجواب الشرط يكون هو الحكم.
النوع الثالث: أن يذكر الشارع حكماً بعد سؤال سائل مباشرة: فإن ذلك يغلب على الظن: كون ذلك السؤال علة لذلك الحكم.
مثاله: حديث الأعرابي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " هلكت يا رسول الله، قال: " ماذا صنعت؟ " قال: وقعت على أهلي في رمضان، قال: " اعتق رقبه .. ". فهنا غلب على الظن: أن الوقاع وهو: جماع مكلف عمداً لزوجته في نهار رمضان " علة لوجوب الكفارة، لأنه وقع بعد سؤال الأعرابي مباشرة فكأنه قال: إذا واقعت أهلك في نهار رمضان. فكفِّر بكذا.
ْالنوع الرابع: أن يُسال النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم شيء ما، فيسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن وصف له، وبعد إخباره بالوصف: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: إن حكمه كذا، فهذا يفيد أن ذلك الوصف الذي أخبروه به علة لذلك الحكم الذي نطق به بعده.
مثاله: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن جواز بيع الرطب بالتمر، فقال عليه الصلاة والسلام:: أينقص الرطب إذا جف؟ " فقالوا: نعم: فقال: " فلا إذن "، فهنا: قد دل سؤاله واستكشافه عن نقصان الرطب عند الجفاف على أن هذا النقصان علة لعدم جواز بيعه رطباً، ولو لم يفهم ذلك منه: لما كان للسؤال عنه وذكر الحكم بعده فائدة.
النوع الخامس: أن يتوجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم سؤال عن حكم واقعة معينة، فيذكر الرسول صلى الله عليه وسلم حكم حادثة أخرى مشابهة لها منبهاً على وجه الشبه بذكر وصف مشترك بينهما، فإن هذا يفيد أن ذلك الوصف علة لذلك الحكم.
مثاله: أن امرأة جاءت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله: " إن أمي أدركتها الوفاة وعليها فريضة الحج، فهل يجزئ أن أحج عنها؟ " فقال: " أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ " قالت: نعم. قال: " فدَين الله أحق أن يُقضى ". فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم نظير دين الله، وهو دَين الآدمي، ونبَّه على التعليل به؛ ولو لم يكن قد سأله لهذا الغرض - وهو التعليل به - لكان عبثاً، ففهم من هذا أن نظيره في المسؤول عنه - وهو دين الله وهو هنا الحج - كذلك علة لمثل ذلك الحكم؛ حيث إن كلاً منهما يُسمى ديناً اشتغلت به الذمة، ولا تبرأ الذمة إلا بأدائه.
النوع السادس: أن يذكر الشارع وصفاً ظاهراً في محل الحكم ابتداء من غير سؤال لو لم يكن هذا الوصف مؤثراً في الحكم لكان ذِكره عبثاً.
مثاله: أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لابن مسعود بعد ما توضأ بماء نبذت فيه تمرات لتجذب ملوحته: " تمرة طيبة وماء طهور "، فقد نبه صلى الله عليه وسلم على تعليل الطهورية ببقاء اسم الماء عليه.
النوع السابع: أن يذكر الشارع الحكم لدفع إشكال في محل آخر، ويردفه بوصف، فحينئذ يغلب على الظن أن ذلك الوصف علة لذلك الحكم.
مثاله: أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه امتنع من الدخول على
قوم عندهم كلب، فقيل له: إنك تدخل على بني فلان وعندهم هرَّة، فقال صلى الله عليه وسلم:" إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات ". فهنا قد قالوا ما قالوا ظناً منهم أن الكلب والهرة في الحكم سواء، فبين لهم صلى الله عليه وسلم أن الحكم مختلف؛ حيث إن الهرة طاهرة، وعلة طهارتها: كثرة تطوفها وصعوبة التحرز منها، ولو لم يكن لذكر تطوافها عقيب الحكم أثر في الطهارة لما كان لذكره فائدة.
النوع الثامن: أن يُفرق الشارع بين أمرين في الحكم بأن يذكر صفة ما تشعر بأنها هي علة التفرقة في الحكم ما دام أنه قد خصَّها بالذكر دون غيرها، فلو لم تكن علة لكان ذلك على خلاف ما أشعر به اللفظ كقوله تعالي:(لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ)، فقد فرق بينهما في أن تعقيد الأيمان هي المؤثرة في المؤاخذه.
النوع التاسع: أن يأتي أمر الشارع أو نهيه في شيء ما، ثم يذكر في أثناء هذا الأمر أو هذا النهي شيئاً أخر لو لم يُقدر كونه علة لذلك الحكم المطلوب لم يكن له تعلق بالكلام، لا بأوله ولا بآخره مما قد يُعتبر خبطاً واضطراباً في الكلام يتنزه عنه الشارع.
مثاله: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) فإن يُفهم من ذلك: أن علة النهي عن البيع هي: كونه مانعا من السعي إلى الجمعة؛ لأننا لا يمكن أن نقدر النهي عن البيع مطلقاً حيث يقع التناقض
مع قوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) ويكون خبطاً في كلام الشارع واضطراباً فيه؛ فلم يبق إلا أن يكون النهي عن البيع في وقت محدد، وهو وقت كونه شاغلاً عن السعي للجمعة.
النوع العاشر: أن يذكر الشارع مع الحكم وصفاً مناسباً لأن يكون علة لذلك الحكم، كقوله تعالى:(إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14))، وقولك:" أكرم العلماء وأهن الفساق ". فعلة جعل الأبرار في النعيم هي: البر، وعلة جعل الفجار في الجحيم هي: الفجور، وعلة إكرام العلماء هو: العلم، وعلة إهانة الفساق هي: الفسوق.
وهذا النوع إما أن تكون العلة هي نفس الوصف مثل الأمثلة السابقة.
أو تكون العلة: ما تضمنه الوصف واشتمل عليه، كقوله صلى الله عليه وسلم:" لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان ". فقد نهى الشارع عن القضاء مع الغضب، والعلة ليست هي نفس الوصف - وهو الغضب - ولكن العلة ما تضمنه الوصف وهي: الدهشة المانعة من تركيز الفكر التي تضمنها وصف الغضب، لأنا لما علمنا. أن الغضب اليسير الذي لا يمنع من استيفاء الفكر ولا يشوش عليه لا يمنع من القضاء، وأن الجوع المبرح والألم الشديد ومدافعة الأخبثين يمنع من استيفاء الفكر وتركيزه، علمنا أن علة المنع من القضاء ليست هي الغضب، بل تشويش الفكر.
وبناء على ذلك: فإنه يجوز قياس كل ما يشوش الفكر على الغضب كالجوع، والعطش، والألم، وحصر البول ونحو ذلك؛ حيث إن العلة متعدية.
المسلك الخامس: الوصف المناسب وهو: وصف ظاهر منضبط يحصل عقلاً من ترتب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصوداً للعقلاء من حصول مصلحة أو دفع مفسدة.
وقلنا إن الوصف المناسب من مسالك العلة؛ لأن الأحكام مشروعة لمصالح العباد، حيث إن الله تعالى حكيم بإجماع المسلمين، ولا معنى لحكمته إلا أنه لا يأمر بشيء إلا وفيه مصلحة للعباد، ولا ينهى عن شيء إلا وفيه مفسدة لهم.
فإذا وجدنا مصلحة قد تضمنها الحكم فإنا نُعَلِّل بها لأنه غلب على ظننا أنها هي العلة.
ولكن إذا عورضت هذه المصلحة المناسبة التي علَّلنا بها الحكم بمفسدة مساوية أو راجحة فإنها تبطل؛ لأن العمل بالمصلحة حينئذ لا يُعدُّ من المصلحة عند العقلاء، بل يكون عبثاً يخرجه العقل عن كونها مناسبة إلى كونها غير مناسبة.
المسلك السادس: السبر والتقسيم وهو: حصر الأوصاف التي تحتمل أن يُعلَّل بها حكم الأصل في عدد معين، ثم إبطال
ما لا يصلح بدليل، فيتعين أن يكون الباقي علة.
فمثلاً: يقول المجتهد: إن تحريم الربا في البُر ثبت لعلة، وهذه العلة يحتمل أن تكون: كونه مكيلاً، أو كونه موزوناً، أو كونه مطعوماً، أو كونه مقتاتاً، أو كونه مدخراً، أو كونه مالاً، وعجز عن استنباط علة أخرى فوق هذه العلل الست، فهذا يُسمَّى بالتقسيم، ثم يبدأ بسبر واختبار تلك الأوصاف، وينظر فيها ويسقط ما لم يجده مناسباً، وما لا يصلح لتعليل الحكم به، فإذا أبطلها كلها إلا واحدة كانت هي العلة، فيقول: إن علة تحريم الربا في البر هي: الاقتيات، فيقيس كل شيء مقتات عليه كالأرز والذرة فيحرم الربا فيهما؛ قياساً على البر.
مثال آخر: أن يقول المجتهد في ولاية الإجبار على النكاح: إن هذا الحكم إما أن يعلل بالصغر، أو يعلل بالبكارة، أما تعليل الإجبار على النكاح بالصغر فإنه باطل؛ لأنها لو كانت العلة الصغر لمبثت ولاية الإجبار على الثيب الصغيرة؛ نظراً لوجود نفس العلة فيها، وهذا مخالف لنص قوله صلى الله عليه وسلم:" الثيب أحق بنفسها "، وهو عام للثيب الصغيرة والكبيرة، فلم يبق إلا أن يعلل بالثاني وهي: البكارة.
المسلك السابع: تنقيح المناط، وهو: أن ينص الشارع على حكم ويضيفه إلى وصف فيقترن به أوصاف أخرى لا مدخل لها في الإضافة ولا أثر لها في الحكم، فيقوم المجتهد بحذف ما لا يصلح علة ليتسع الحكم.
وهو قريب من مسلك السبر والتقسيم، إلا أن تنقيح المناط خاص في الأوصاف التي دل عليها ظاهر النص، وهي محصورة بواسطة هذا الظاهر، بخلاف السبر والتقسيم فإنه خاص في الأوصاف المستنبطة الصالحة للعلية.
مثال تنقيح المناط: حديث الأعرابي، وهو: أنه قد أتى أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت يا رسول الله، قال:" ما لك؟ "، قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال:" اعتق رقبة ".
فقد أشار النص إلى أوصاف وهي: " كون المواقع أعرابيا " و " كون الموطوءة زوجته " و " كون الوقاع حصل في رمضان خاص " و " كون الوقاع حصل في رمضان من مكلف " و " كونه أفسد صوماً محترماً "، فحذف المجتهد جميع هذه الصفات بالأدلة إلا وصفاً واحداً وهو:" كونه مكلفاً واقَع في نهار رمضان " فعلل الحكم بهذا الوصف.
وُيفرق بين تحقيق المناط، وتنقيح المناط، وتخريج المناط: بأن تحقيق المناط هو: أن المجتهد قد تحقق من وجود العلة والمناط في الأصل، ولكنه يجتهد من تحقق وجودها في الفرع. فوظيفة المجتهد هنا سهلة؛ حيث إن علة الأصل موجودة في الأصل، ولكنه يتأكد فقط من وجودها في الفرع بنوع اجتهاد.
مثاله: الاجتهاد في القبلة؛ حيث إن استقبال القبلة معلوم بالنص، ولكن لو اختلطت عليه القبلة في صحراء فإنه يجتهد فيها.
كذلك علة طهارة سؤر الهرة معلومة بالنص، حيث قال صلى الله عليه وسلم:" إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات "، ولكن المجتهد يتأكد من وجودها في الفرع كالفأرة ونحوها.
أما تنقيح المناط فهو: ما سبق بيانه، ووظيفة المجتهد هنا أصعب من وظيفته في تحقيق المناط؛ حيث إنه يبذل جهداً في إبراز علة حكم الأصل وتعيينها، ثم يجتهد مرة أخرى في تحققها في الفرع.
أما تخريج المناط فهو: أن ينص الشارع على حكم في محل، ولا يتعرض لمناطه وعلته لا صراحة ولا إيماء، فوظيفة المجتهد هنا أصعب من السابقين؛ حيث إن المجتهد يقوم باستنباط العلل التي يمكن أن يُعلل بها الحكم، ويختبرها، ثم يرجح أحدها، ثم يتحقق من وجودها في الفرع، مثل قولنا: إن علة تحريم الخمر هي الإسكار، فقسنا عليه النبيذ، وقولنا: إن علة تحريم الربا في البر هي: الاقتيات، فقسنا عليه الأرز وهكذا، وهذا هو القياس الخفي الذي اختلف العلماء فيه.
المسلك الثامن: الدوران، وهو: أن يوجد الحكم عند وجود الوصف، وينعدم عند انعدامه، مثل: دوران حكم العصير مع وجود الإسكار وعدمِ وجوده؛ حيث إن عصير العنب قبل وجود الإسكار كان حلالا، فلما حدث الإسكار حرم، فلما زال الإسكار وصار خلاً صار حلالاً، فهنا بأن لك: أن الحكم - وهو التحريم - قد دار مع الإسكار وجوداً وعدماً، فكما وجد وصف كونه مسكراً وجد الحكم وهو: التحريم، ولما انتفى عنه وصف الإسكار انتفى عنه الحكم، وهو: التحريم، فهذا الدوران دلنا
على أن العلة في تحريم العصير إنما هي السكر، وقلنا ذلك لأن الدوران يفيد العلية في الأمور العادية والمألوفة، فلو أن زيداً قد دخل فرأينا عمراً قد قام فلما خرج زيد جلس عمرو وتكرر ذلك فإنه يغلب على ظننا: أن العلة في قيام عمرو هي: دخول زيد، فإذا كان الأمر كذلك في الأمور العادية فإنه يفيد ظن العلية في غيرها؛ لعدم الفارق.
المسلك التاسع: الوصف الشبهي وهو: الوصف الذي لم تظهر فيه المناسبة بعد البحث التام عنها ممن هو أهله، ولكن ألف من الشارع الالتفات إليه في بعض الأحكام.
ولبيان ذلك لا بد من تقسيم الوصف إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الوصف المناسب، وهو: الوصف الذي ظهرت فيه المناسبة - بعد البحث التام - كالإسكار أو القتل العمد العدوان ونحو ذلك، وهذا يُعتبر طريقاً من طرق إثبات العلة كما سبق بيانه.
القسم الثاني: الوصف الطردي، وهو: الوصف الذي لم تظهر فيه المناسبة، ولم يؤْلَف من الشارع الالتفات إليه في شيء من الأحكام كالطول، والقصر، والسواد، والبياض، كقول القائل في طهارة الكلب: حيوان مألوف له شعر كالصوف فكان طاهراً كالخروف، فهذا لا يعتبر ولا يصلح دليلاً على صحة العلة؛ لأن تلك الأوصاف طردية لا مناسبة بينها وبين الحكم الشرعي؛ حيث إن الشارع لم يُعهد عنه أنه التفت إليها، أو علَّل بها، فلا يغلب
على الظن اعتباره علة لثبوت الأحكام فلا يُعتبر.
القسم الثالث: الوصف الشبهي، وهو الذي عرفناه فيما سبق.
وسُمِّي بذلك لأنه أشبه الوصف الطردي من جهة: أن المجتهد لم يقف على مناسبة بين هذا الوصف وبين الحكم رغم البحث والتقصي، فهنا ظن المجتهد أنه غير معتبر كالوصف الطردي.
وأشبه الوصف المناسب من جهة: أن المجتهد قد وقف على اعتبار الشرع له في بعض الأحكام والتفت إليه، فإن هذا يوجب على المجتهد أن يتوقف عن الجزم بانتفاء مناسبته، فاعتبر هذا طريقاً من طرق ثبوت العلة؛ قياساً على الوصف المناسب؛ لأنه يشبهه.
مثاله: الاستدلال على إزالة النجاسة حيث قلنا: طهارة تراد لأجل الصلاة فلا تجوز بغير الماء كطهارة الحدث، والجامع: كون كل منهما طهارة لأجل الصلاة، أما مناسبتها لتعيين الماء فيها فإنها غير ظاهرة، لكن عهد من الشارع الالتفات إليها في بعض الأحكام كمس المصحف، والطواف وذلك يوهم اشتمالها على المناسبة.
والوصف الشبهي يخالف قياس الأشباه وهو: أن يتردد فرع