الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب السادس عشر
في النهي
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
النهي هو: استدعاء ترك الفعل بالقول على جهة الاستعلاء.
* * *
المسألة الثانية:
النهي له صيغة موضوعة له في اللغة تدل بمجردها عليه وهي: " لا تفعل "؛ لإجماع أهل اللغة على أن " لا تفعل " صيغة للنهي؛ حيث إن السيد لو قال لعبده: " لا تدخل هذه الدار "، فلو دخلها فإنه يستحق العقوبة بإجماع عقلاء أهل اللغة، دون نكير، فكان ذلك إجماعاً منهم على أن ذلك اللفظ وضع للنهي.
ولأن أهل اللغة قد قسموا الكلام: إلى " أمر " و " نهي " و" خبر " و " استخبار "، فجلعوا للأمر " افعل "، وللنهي " لا تفعل "، وللخبر " قد فعلت "، وللاستخبار " هل فعلت؟ ".
وبناء على ذلك: فإن صيغة " لا تفعل " من باب الظاهر، حيث إن لها معنيان: معنى راجح وهو طلب الترك، ومعنى مرجوح وهو: عدم إفادتها لشيء، فرجَّحنا إفادتها لطلب الترك، ويعمل على ذلك بدون قرينة.
* * *
المسألة الثالثة:
صيغة " لا تفعل " تستعمل لمعان هي:
الأول: التحريم، كقوله تعالى:(وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا).
الثاني: الكراهة، كقوله تعالى:(وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ).
الثالث: الإرشاد، كقوله تعالى:(لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ).
الرابع: الدعاء، كقوله تعالى:(رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا).
الخامس: التقليل والاحتقار، كقوله تعالى:(لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ).
السادس: بيان العاقبة، كقوله تعالى:(وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)).
السابع: التسكين والتصبر، كقوله تعالى:(لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)).
الثامن: اليأس، كقوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ).
التاسع: الشفقة، كقوله صلى الله عليه وسلم:" لا تتخذوا الدواب كراسي ".
العاشر: الالتماس، كقولك لمن هو في مرتبتك:" لا تضرب فلانا ".
الحادي عشر: التهديد، كقول السيد لعبده:" لا تفعل اليوم شيئا ".
* * *
المسألة الرابعة:
صيغة النهي وهي: " لا تفعل "، إذا تجردت عن القرائن فإنها تقتضي التحريم حقيقة، ولا تحمل على غيره من المعاني السابقة إلا بقرينة؛ لإجماع الصحابة والتابعين؛ حيث كانوا يستدلون على تحريم الشيء بصيغة " لا تفعل " فيقولون: حرم القتل؛ لقوله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) وحرم الزنا، لقوله تعالى:(وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا) ونحو ذلك، فقد كانوا ينتهون عن ذلك بمجرد سماعهم لتلك الصيغة، ويعاقبون من يفعل المنهي عنه، واستدلالهم على التحريم، وانتهائهم عن المنهي عنه، ومعاقبتهم لمن يفعل المنهي عنه دليل واضح على أن الصيغة حقيقة في التحريم، فإذا استعملت في غيره: كان ذلك مجازاً.
وبناء على ذلك: فإن النهي في قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يبع بعضكم على بيع بعض "، يقتضي التحريم ابتداء، ولا يصرف عنه إلى غيره إلا بقرينة.
* * *
المسألة الخامسة:
صيغة النهي الواردة بعد الأمر تقتضي التحريم، بخلاف
الأمر الوارد بعد النهي فإنا قلنا: إنه يقتضي الإباحة، وقلنا ذلك لوجود الفرق بينهما من وجوه:
الوجه الأول: أن دلالة النهي على التحريم أقوى من دلالة
الأمر على الوجوب؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: " ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرام الحلال ".
الوجه الثاني: أن الأصل في الأشياء العدم، فالقول بأن النهي بعد الأمر يقتضي التحريم فيه عمل بالأصل.
الوجه الثالث: أن الشارع قد اعتنى بدرء المفاسد أشد من عنايته بجلب المنافع والمصالح، فالقول بأن النهي بعد الأمر للتحريم فيه عمل بهذا الأصل.
وبناء على ذلك: فإن السيد لو قال لعبده: " كُلْ من هذا الطعام " ثم قال له: " لا تأكل منه " فإن أكل من ذلك الطعام فإنه يستحق العقوبة بلا قرينة.
* * *
المسألة السادسة:
النهي يقتضي الانتهاء عن المنهي عنه على الفور ويقتضي التكرار؛ لأن النهي يقتضي عدم الإتيان بالفعل، وعدم الإتيان بالفعل لا يتحقق إلا بترك الفعل في جميع أفراده في كل الأزمنة، وبذلك يكون ترك الفعل مستغرقاً جميع الأزمنة، ومن جملتها الزمن الذي يلي النهي مباشرة، فيكون النهى مفيداً للتكرار كما هو مفيد للفور.
ولأن الناهي لا ينهى إلا عن قبيح، والقبيح يجب اجتنابه على الفور، وفي كل وقت.
* * *
المسألة السابعة:
النهي عن الشيء أمر بضده إذا كان له ضد واحد، وإن كان له أضداد فهو أمر بأحدها، فقوله:" لا تقم " هو أمر بالقعود؛ لأن المنهي يتحتم عليه ترك المنهي عنه، ولا يمكنه ترك المنهي عنه إلا بفعل ضده، وما تحتم فعله إلا لأنه مأمور به.
وبناء على ذلك: فإن الرجل إذا قال لزوجته: " إن خالفت أمري فأنت طالق "، ثم قال لها:" لا تقومي " فقامت، فإنه يلزم أنها تطلق، لأن النهي عن الشيء أمر بضده.
* * *
المسألة الثامنة:
النهي يقتضي فساد المنهي عنه مطلقاً - أي: سواء كان المنهي عنه عبادة أو معاملة.
والمراد بالفساد: عدم ترتب الآثار فأثر النهي في العبادات: عدم براءة الذمة، وأثر النهي في المعاملات: عدم إفادة الملك وعدم الحل.
فالنهي عن البيع بعد النداء الثاني، والنهي عن بيع المزابنة، والنهي عن نكاح المتعة والشغار يقتضي فساد المنهي عنه؛ لأن
الشارع لا ينهى عن شيء إلا لأن المفسدة متعلقة بالمنهي عنه، أو لازمة له، ويلزم من ذلك أن الأشياء المنهي عنها فيها مفاسد، وإذا كانت كذلك فسيلحق الناس منها ضرر، وإزالة الضرر وإعدامه مناسب عقلاً وشرعاً، ولا يمكن ذلك إلا بقولنا: إن النهي يقتضي فساد المنهي عنه مطلقاً.
ولإجماع الصحابة على ذلك؛ حيث إنهم استدلوا على فساد عقود الربا بالنهي الوارد في قوله عليه الصلاة والسلام: " لا تبيعوا الذهب بالذهب. . . "، واستدلوا على فساد نكاح المُحْرِم في الحج بالنهي عنه الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم:" لا ينكح المحرم ولا يُنكح "، فلو لم يكن النهي يقتضي فساد المنهي عنه لما استدلوا بتلك النواهي على فساد الأمور المنهي عنها، ولم ينكر أحد هذا الاستدلال فكان إجماعاً.
وبناء على ذلك: فإن نذر صيام يوم العيد فاسد، ولو صام الناذر لا يصح صومه، ولا يسقط القضاء عنه؛ لأنه نهي عن صوم يوم العيد، والنهي يقتضي الفساد، فلا يكون صوم يوم العيد مشروعاً.