الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث عشر
المبيَّن، والمبيِّن، والبيان
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
المبيَّن - بفتح الياء -: اسم مفعول من التبيين وهو: الموضَّح والمفسَّر، وهو: اصطلاحاً يطلق ويراد به الخطاب المبتدأ المستغني عن البيان، وهو الواضح بنفسه.
ويطلق ويراد به: ما وقع عليه البيان مما احتاج إليه، وهو: الواضح بغيره، وُيسمَّى ذلك الغير مبيِّناً.
والمبيِّن - بكسر الياء -: اسم فاعل من بيَّن، يبيِّن فهو مبيِّن، أي: موضِّح لغيره، وهو: الدليل المبيِّن.
والبيان: اسم مصدر بيَّن.
وهو اصطلاحاً: الدليل، والدليل هو: ما يتوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري.
* * *
المسألة الثانية:
المراد من البيان هو: الدليل؛ حيث إن البيان عام لما سبقه إجمال، ولما جاء ابتداء، ولا يكون خاصاً بالمجمل فقط، وقلنا
ذلك؛ لأن الواقع يشهد أن الشخص إذا دلَّ غيره على شيء فإنه يقال له: " بينه له " ويوصف بأنه: " بيان حسن " فهذا يصح إطلاقه، فإن لم يكن قد سبقه لفظ مجمل، والأصل في الإطلاق الحقيقة.
ولأن النصوص الشرعية التي أوردت الأحكام ابتداء تُسمَّى بياناً قال تعالى: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ) وأراد به القرآن، فلا يشترط فيه أن يكون بياناً لمشكل.
* * *
المسألة الثالثة:
أقسام المبيَّن - بفتح الياء -:
القسم الأول: المبيَّن بنفسه، وهو: الذي استقل بإفادة معناه بنفسه، أي: من غير أن ينضم إليه قول أو فعل، وُيسمَّى بالواضح بنفسه، وهو نوعان:
النوع الأول: أن تكون إفادته للمراد بسبب راجع إلى اللغة كقوله تعالى: (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، فإن إفادته شمول علمه تعالى جميع الأشياء ثبت عن طريق اللغة من غير توقف.
النوع الثاني: أن تكون إفادته للمراد بسبب راجع إلى العقل كقوله تعالى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ)، فاللغة اقتضت طلب السؤال من القرية، وهو غير ممكن عقلاً، بل إن المقصود هو طلب السؤال من أهل القرية؛ لأن الأبنية لا يوجه إليها أسئلة، فتعين المضمر من غير توقف.
القسم الثاني: المبيّن بغيره، وهو: الذي لا يستقل بإفادة معناه، بل يفتقر إلى دليل يبينه من قول أو فعل، وذلك الدليل يُسمَّى مبيِّناً.
* * *
المسألة الرابعة:
يحصل البيان بما يلي:
أولاً: القول: أي يحصل البيان به وُيسمَّى البيان بالكلام، وهو: التلفظ صراحة بالمراد؛ لوقوعه في الشريعة؛ حيث بين الرسول صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: (وَآتُوا الزَّكَاةَ) بقوله: " فيما سقت السماء العشر، وفيما سقى بالسانية نصف العشر " وهو كثير.
ثانياً: الفعل: أي يحصل البيان به؛ لوقوعه في الشريعة؛ حيث إنه لما نزل قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ)، وقوله:(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ)، بين النبي صلى الله عليه وسلم كيفية الصلاة وكيفية الحج بفعله.
ثالثاً: الكتابة، أي: يحصل البيان بالكتابة؛ لوقوعه؛ حيث روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كتب إلى عماله في الصدقات، وكتب كتاباً بعثه مع عمرو بن حزم إلى أهل اليمن بين فيه الفرائض والسنن والديات.
ولأن الكتابة تقوم مقام القول اللساني، والجامع: أن كلاً منهما يقوم بتأدية الذي في النفس.
رابعاً: ترك الفعل، أي: يحصل البيان بترك الفعل، حيث
إن النبي صلى الله عليه وسلم إذا ترك فعل شيء فإنه يتبين من ذلك نفي وجوب ذلك الشيء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقع في فعله محرم، ولا ترك واجب.
خامساً: السكوت، أي: يحصل البيان بالسكوت، فلو سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم حادثة، وسكت: فإن سكوته يدل على أنه لا حكم للشرع في هذه الحادثة، وهذا يعتبر بياناً لها؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقرّ على الخطأ.
سادساً: الإشارة، أي: يحصل البيان بالإشارة؛ لوقوعه؛ حيث روي أن النبي صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه شهراً، فلم بلغ تسعة وعشرين يوماً دخل عليهن فقيل له: إنك آليت شهراً فقال: " الشهر هكذا وهكذا "، وأشار بأصابعه العشر وقبض إبهامه في الثالثة: يعني تسعاً وعشرين يوماً.
* * *
المسألة الخامسة:
إذا اجتمع القول والفعل وكل واحد منهما صالح لأن يكون بياناً للمجمل، وكانا متفقين في الدلالة على حكم معين، فإن أحدهما يكون هو المبيِّن، والآخر يكون مؤكداً له من غير تعيين؛ لحصول المقصود به.
* * *
المسألة السادسة:
إذا اجتمع القول والفعل، وكل واحد صالح لأن يكون بياناً للمجمل، وكانا مختلفين، أي: ما يفيده القول يخالف ما يفيده الفعل، فإنه يقدم القول مطلقاً سواء تقدم القول أو الفعل، أو لم يعلم شيء من ذلك؛ لأن القول يدل بنفسه على البيان بخلاف الفعل فإنه لا يدل على كونه بياناً إلا بواسطة دلالة القول عليه،
والدال بنفسه أقوى من الدال بغيره.
وبناء على ذلك: فإنا قدمنا قوله صلى الله عليه وسلم: " من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد عنهما حتى يحل منهما جميعاً "، على ما فعله علي رضي الله عنه حيث طاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع.
لذلك قلنا: إن القِران يكفي فيه طواف واحد وسعي واحد.
* * *
المسألة السابعة:
يجوز البيان بالأدنى والمساوي، كما يجوز البيان بالأقوى؛ لأن المبيِّن أوضح من المبيَّن في الدلالة على المراد، فوجب العمل بالواضح وإن كان أدنى من المبيَّن أو مساوياً له.
وبناء على ذلك: فإنه يجوز تخصيص وتقييد القطعي كالقرآن والسنة المتواترة بالظني كخبر الواحد والقياس، كما يجوز بيان المجمل القطعي بالظني.
* * *
المسألة الثامنة:
لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة: لأن وقت الحاجة وقت للأداء، فإذا لم يكن مبيناً تعذَّر الأداء، فالبيان إذن ضرورة من الضروريات التي لا بد منها.
ولأن تأخير البيان عن وقت الحاجة يعتبر تكليفاً بما لا يطاق وهو: لا يجوز، حيث لا قدرة للمكلف حينئذٍ على الامتثال.
مثل: ما لو قال: " حجوا هذا العام "، ثم إذا جاء وقت الحج لم يبين لهم كيفية الحج وطريقته.
* * *
المسألة التاسعة:
يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة وهو وقت وجوب العمل بمقتضاه؛ لأنه لا يترتب على فرض جوازه محال؛ وغاية ما في الأمر هو: جهل المكلف بما كلف به مدة منْ الزمن، وهذا ليس بمحال، ولا يؤدي إلى المحال.
ولوقوع تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة في الشريعة، حيث إنه لما نزل قوله تعالي:(وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ)، أخرَّ بيان أفعال الصلاة وأوقاتها حتى بين ذلك جبريل عليه السلام، ثم بين الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك لأمته قائلاً:" صلوا كما رأيتموني أصلي "، ولما نزل قوله تعالى:(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) بين الرسول صلى الله عليه وسلم طريقة الحج بعد ذلك بمدة قائلاً: " خذوا عني مناسككم " والوقوع دليل الجواز.
وبناء على ذلك: فإنه يجوز للرسول صلى الله عليه وسلم أن يؤخِّر التبليغ لما أوحي إليه من قرآن أو غيره إلى وقت الحاجة إليه.