الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الواحد والعشرون في المفهوم
المفهوم هو: معنى يستفاد من اللفظ في غير محل النطق.
وهو ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: مفهوم الموافقة.
القسم الثاني: مفهوم المخالفة.
وإليك بيانهما:
القسم الأول
في مفهوم الموافقة
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
مفهوم الموافقة هو دلالة اللفظ على ثبوت حكم المنطوق به للمسكوت عنه وموافقته له نفياً وإثباتاً، مثل قوله تعالى:(فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) فالمنطوق به هو: تحريم مجرد التأفيف والتضجر، ولكن اللفظ قد دل بمفهومه على تحريم ضرب الوالدين وشتمهما، وسبهما، وقتلهما، وأيِّ نوع من أنواع الإيذاء؛ لأنه إذا حرم مجرد التأفيف فمن باب أولى أن يحرم ما هو أشد منه مما لم ينطق به الشارع.
* * *
المسألة الثانية:
يتنوع مفهوم الموافقة إلى نوعين:
النوع الأول: مفهوم موافقة أولى: وهو: ما كان المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به، أي: أن المناسبة بين المسكوت عنه وبين الحكم أقوى وأشد منها بين المنطوق وبين هذا الحكم، فيكون المسكوت أولى منه بالحكم، وهو ما يسمى بالتنبيه بالأدنى على الأعلى، مثل قولنا: إذا كان مجرد التأفيف قد حرم فمن باب أولى تحريم الضرب والقتل؛ لأنه أشد في الإيذاء وذلك من الآية السابقة.
النوع الثاني: مفهوم الموافقة المساوي، وهو: ما كان المسكوت عنه مساوياً للمنطوق به في الحكم، أي: أن المناسبة بين المسكوت عنه وبين الحكم على قدر المناسبة الموجودة بين المنطوق وبين هذا الحكم.
مثاله: قوله تعالي: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا) فالمنطوق به هو: تحريم أكل مال اليتيم.
والمفهموم منه: تحريم إحراق مال اليتيم أو تبذيره؛ لأنه مساو لأكله المحرم بجامع: إتلاف المال.
وقلنا بهذا النوع الثاني، لأنا نعلم قطعاً أنه ربما يفهم ثبوت الحكم في المسكوت عنه من ثبوته للمنطوق به مع عدم أولويته بالحكم، وذلك الفهم مناط الحكم لغة من غير حاجة إلى إعمال الذهن في البحث عن هذا المناط، ولا فرق بين المساوي والأولوي؛ حيث إن كلاً منهما يفهم من معنى النص بمجرد فهم اللغة إلا أن الاحتجاج بالمفهوم الأولوي أقوى من الاحتجاج بالمفهوم المساوي.
وبناء على ذلك: فإن ثبوت حكم المنطوق للمسكوت في حال المساواة إنما يكون بطريق اللفظ والنص.
المسألة الثالثة:
دلالة مفهوم الموافقة دلالة لفظية معنوية وليست دلالة قياسية؛ لأن التنبيه بالأدنى على الأعلى، أو بأحد المتساويين على الآخر أسلوب فصيح تستعمله العرب للمبالغة في تأكيد الحكم في محل السكوت، وهو أفصح عندهم من التصريح بحكم المسكوت عنه - فتجدهم يقولون:" هذا الفرس لا يلحق غبار هذا الفرس "، وهذا عندهم أبلغ وأفصح من قولهم:" هذا الفرس سابق لهذا الفرس ".
ولأن الحكم الثابت بمفهوم الموافقة يتنبه له أي عارف باللغة دون الحاجة إلى اجتهاد أو إعمال فكر، أو استنباط وتأمل دقيق، أو مقدمات شرعية، أو استنتاجية.
وبناء على ذلك: فإنا نتعامل مع مفهوم الموافقة كما نتعامل مع الألفاظ، لذلك قلنا: إنه ينسخ وينسخ به، ويخصص وغير ذلك وهو أقوى من القياس.
* * *
المسألة الرابعة:
مفهوم الموافقة حجة، أي: طريق من طرق استنباط الأحكام الشرعية؛ لإجماع الصحابة رضي الله عنهم حيث إنهم فهموا ذلك من خطاب الله تعالى ورسوله، ومن مخاطباتهم فيما بينهم، ففهموا من قوله تعالى:(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)) أن ما زاد على مثقال ذرَّة أولى في أن الشخص يراه يوم القيامة.
ولأن هذا الأسلوب من الدلالة معروف عند أهل اللغة بل هو أبلغ في الدلالة من التصريح عندهم، فيكون حجة عندهم، وما هو حجة لغة يجب أن يكون حجة شرعاً ما لم يقم دليل يدل على أن الشارع أراد معنى خاصاً.
وبناء على ذلك: فإن مفهوم الموافقة يكون حجة عن طريق اللفظ، فتحريم ضرب الوالدين أخذناه من مفهوم قوله تعالى:(فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) كما سبق.
القسم الثاني
في مفهوم المخالفة
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
مفهوم المخالفة هو: دلالة اللفظ على ثبوت حكم للمسكوت عنه مخالف للحكم الذي دل عليه المنطوق نفياً أو إثباتاً، فقوله صلى الله عليه وسلم:" في سائمة الغنم الزكاة "، دل بمنطوقه: أن الغنم السائمة فيها زكاة، ودل بمفهوم المخالفة: أن الغنم المعلوفة لا زكاة فيها.
* * *
المسألة الثانية:
أنواع مفهوم المخالفة هي:
النوع الأول: مفهوم الصفة. أي: أن يأتي خطاب وُيعلق حكمه على صفة لا توجد هذه الصفة في كل مدلول: فإن هذا يدل على نفي ذلك الحكم عما انتفت عنه تلك الصفة كقوله صلى الله عليه وسلم: " في سائمة الغنم الزكاة " يدل على نفي الزكاة عن غير الغنم غير السائمة وهي: المعلوفة.
وقلنا ذلك: لأن تخصيص الحكم بالصفة لا بد له من فائدة؛ صوناً للكلام عن اللغو، ولا يسبق إلى الذهن من فوائد ذكر الصفة سوى انتفاء الحكم عما عدا الموصوف بتلك الصفة،
فثبت أنه يحمل تخصيص الحكم بتلك الصفة على نفيه عند عدم تلك الصفة.
ولأن الحكم المرقب على الخطاب المقيد بالصفة معلول بتلك الصفة؛ لأن ترتيب الحكم على الوصف يشعر بالعليَّة - كما سيأتي بيانه في القياس.
وانتفاء العلة يوجب انتفاء الحكم، فيلزم من ذلك انتفاء الحكم فيما انتفت عنه تلك الصفة.
وبناء على ذلك، فإنه لو قال:" وقفت هذا على أولادي الفقراء "، فإن غير الفقراء لا يدخلون.
* * *
تنبيه: تقييد الحكم بالصفة في جنس يدل على نفي الحكم عما عدا الموصوف بها في ذلك الجنس لا غير، فقوله عليه السلام:" في سائمة الغنم الزكاة " يدل بمفهومه: أن معلوفة الغنم لا زكاة فيها فقط، أما معلوفة الإبل والبقر ففيها زكاة.
وقلنا ذلك لأن دلالة المفهوم مخالفة لدلالة المنطوق، والمنطوق لم يتناول إلا الجنس المذكور، فمخالفه كذلك لا يخالف إلا الجنس المذكور؛ تحقيقاً لمعنى المخالفة.
النوع الثاني: مفهوم التقسيم وهو أن يذكر قسمين، ويذكر
حكم أحد القسمين: فإن هذا يدل على انتفاء ذلك الحكم عن القسم الآخر، كقولك:" عندي زيد وبكر أما زيد فهو كريم "، فإن هذا يدل على نفي الكرم عن بكر.
ودليل ذلك هو دليل حجية مفهوم الصفة.
النوع الثالث: مفهوم العلة، وهو: دلالة اللفظ المقيد بعلة على ثبوت نقيض حكمه للمسكوت عنه الذي انتفت عنه تلك العلة، كقوله:" حرمت الخمرة لإسكارها "، فإن هذا يدل بمفهومه على أن ما لا إسكار فيه حلال. ودليل ذلك هو نفس دليل حجية مفهوم الصفة.
النوع الرابع: مفهوم الحال، وهو: دلالة اللفظ المقيد بحال من الأحوال على ثبوت نقيض حكمه للمسكوت عنه الذي عدمت فيه تلك الحال كقوله تعالى: (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ)، فحرمت المباشرة في حالة معينة وهي: الاعتكاف، ودل بمفهوم الحال المخالف: حل المباشرة في غير الاعتكاف، ودليل ذلك نفس دليل حجية مفهوم الصفة.
النوع الخامس: مفهوم المكان، وهو: دلالة اللفظ الذي علق الحكم فيه بمكان معين على ثبوت نقيض هذا الحكم للمسكوت عنه الذي انتفى عنه، كقول السيد لعبده:" لا تدخل هذه الغرفة "، فإنه يدل بمفهوم المكان المخالف: أنه يباح له أن يدخل جميع الغرف إلا هذه الغرفة، ودليل ذلك هو دليل حجية مفهوم الصفة.
النوع السادس: مفهوم الزمان، وهو: دلالة اللفظ الذي علَّق الحكم فيه بزمان معين على ثبوت نقيض هذا الحكم
للمسكوت عنه الذي انتفى عنه، كقول السيد لعبده:" ادخل علي يوم الجمعة "، فإنه يدل بمفهوم الزمان المخالف أنه لا يدخل عليه في بقية أيام الأسبوع، ودليل ذلك هو: دليل حجية مفهوم الصفة.
النوع السابع: مفهوم الشرط، وهو: أن يعلق الحكم على شيء بحرف " إن " أو غيره من أدوات الشرط: فإنه يدل على انتفاء الحكم عند عدم الشرط كقولك: " لك جائز إن نجحت "، فإن هذا يدل على عدم الجائزة إذا لم ينجح.
وقلنا ذلك: لأن أبا يعلى بن أمية قال لعمر بن الخطاب: ما لنا نقصر وقد أمِنَّا، وقد قال تعالى:(فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا)، حيث فهم أبو يعلى من تخصيص القصر بحالة الخوف: عدم القصر عند عدم الخوف، ولم ينكر عليه عمر، بل قال: عجبتُ مما عجبت منه، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال:" صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ".
ولأن كتب اللغة والنحو ناطقة بأن كلمة " إن " تسمى عند أهل اللغة بحرف الشرط، والشرط هو: ما ينتفي الحكم عند انتفائه، فيقال:" الطهارة شرط لصحة الصلاة "، فيلزم من انتفاء الطهارة انتفاء صحة الصلاة، فيكون انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط معنى عاماً في جميع موارد استعماله، فوجب جعله حقيقة فيه.
وبناء على ذلك: فإن المطلقة ثلاثاً الحائل لا تجب النفقة عليها، أخذاً بمفهوم الشرط في قوله تعالى:(وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)، فقد جعلت الآية النفقة للبائن بشرط: أن تكون حاملاً، فينتفي الحكم عند انتفاء الشرط، فيثبت عدم وجوب النفقة للمطلقة ثلاثاً الحائل.
النوع الثامن: مفهوم الغاية، وهو: أن تقييد الشارع للحكم بغاية يدل على نفي الحكم فيما بعد الغاية؛ لأن ما بعد الغاية يقبح الاستفهام عنه، فلو قال السيد لعبده:" لا تعط زيداً حتى يقوم " و " اضرب عمراً إلى أن يتوب "، فإنه يقبح من العبد أن يسأل ويقول: إذا قام هل أعطيه درهماً؛ وإذا تاب هل أضربه؟ وسبب هذا القبح: أن الجواب قد فهم بدون ذلك، فالسؤال يكون تحصيل حاصل، فلو لم يفهما لما قبح الاستفهام عنهما، ولأن غاية الشيء: نهايته، ونهاية الشيء: منقطعه، ومعروف أن الشيء إذا انقطع وانتهى صار خاصاً بحكم، وصار ما بعده خاصاً بحكم آخر، وهو ضده.
وبناء على ذلك: فإن الزوجة تحل بعد الزواج بزوج آخر؛ استدلالاً بمفهوم الغاية الوارد في قوله تعالى: (فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ).
وكذلك: أن الغسل يجزئ عن الوضوء؛ استدلالاً بمفهوم
الغاية الوارد في قوله تعالى: (حَتَّى تَغْتَسِلُوا) حيث إن مفهومه: إن اغتسلتم فلكم أن تقربوا الصلاة، فلولا أن الغسل يجزئ عن الوضوء لم يكن للمغتسل أن يقرب الصلاة.
النوع التاسع: مفهوم العدد، وهو: أن تقييد الحكم بعدد مخصوص يدل على نفي ذلك الحكم فيما عدا ذلك العدد، سواء كان زائداً أو ناقصاً، لأن الحكم لو ثبت فيما زاد على العدد كما ثبت في العدد المذكور لم يكن لذكر العدد فائدة، وكلام الشارع لا يجوز أن يعرى عن الفائدة ما أمكن، كما لا يجوز أن يخلى ذكر الصفة والشرط والغاية عن الفائدة، فثبت أن فائدة ذكر العدد هي: أن ينفي الحكم عما عدا المقيد بعدد.
والاْمة قد عقلت وفهمت من تحديد القذف بثمانين: نفي الزيادة، ونفي النقصان.
وبناء على ذلك: فإن يجب الوضوء من ثلاث قطرات من الدم؛ استدلالاً بمفهوم العدد من قوله صلى الله عليه وسلم: " ليس في القطرة والقطرتين من الدم وضوء إلا أن يكون دماً سائلاً ".
وكذلك: لو قال لوكيله: " بع هذا الثوب بمائة ريال "، فإن باع وكيله هذا الثوب بأكثر من مائة أو أقل فإنه لا يصح البيع.
النوع العاشر: مفهوم الاستثناء من النفي، وهو: أن الاستثناء من النفي يُفهم منه الإثبات، فلو قال: " لا عالم في
المدينة إلا زيد "، فإنه يدل على نفي كل عالم سوى زيد، وإثبات كون زيد عالماً؛ لأن هذا يتبادر إلى ذهن كل سامع لغوي فهو من أدل الألفاظ على علم زيد وفضله.
ولإجماع الأمة على أن القائل: " لا إله إلا الله " يُعتبر موحداً مثبتاً للألوهية لله تعالى، ونافياً لها عما سواه.
وبناء على ذلك: فإنه لو قال: " ليس له علي شيء إلا درهماً " فإنه يكون مقراً بدرهم، لأن الاستثناء من النفي إثبات.
النوع الحادي عشر: مفهوم " إنما "، وهو: أن تقييد الحكم بلفظ " إنما " يدل على الحصر وإثبات الحكم، ونفيه عما عداه؛ لأن هذا هو المتبادر إلى أفهام أهل اللغة والعارفين بأساليب اللغة العربية من هذا اللفظ؛ إذ لم يستعمل لفظ " إنما " في موضع من النصوص الشرعية أو الأشعار العربية إلا ويحسن فيه الحصر والنفي، والأصل في الاستعمال الحقيقة من ذلك قوله تعالى:(إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ)، وقوله:(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) وقوله صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات "، وقوله الشاعر:
أن الضامن الراعي عليهم وإنما. . . يُدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي
وإذا كانت: " إنَّ " للإثبات، و " ما " للنفي حال انفرادهما، فيجب استصحاب ذلك وإبقاء ما كان على ما كان في حال اجتماعهما في التركيب.
وبناء على ذلك: فإنه لو أخبر مخبر قائلًا: " إنما العالم زيد "، فإن هذا يُفهم أن العلم محصور على زيد، وأن غيره لا علم عنده.
النوع الثاني عشر: مفهوم حصر المبتدأ في الخبر، وهو: أن حصر المبتدأ في الخبر يدل على الحصر؛ لأن أهل اللغة يفرقون بين قول القائل: " زيد صديقي "، وقوله:" صديقي زيد " بأن الثاني يفيد الحصر، ولولا أن الثاني يفيد الحصر لما حصلت التفرقة بينهما، فكل من قال بالتفرقة بينهما قال: إن تلك التفرقة بإفادة الحصر في الثاني دون الأول.
وبناء على ذلك: فإن قوله صلى الله عليه وسلم: " الشفعة فيما لم يُقسم "، وقوله:" تحريمها التكبير وتحليلها التسليم " وقولنا: " العالم زيد " و" صديقي زيد " يفيد حصر الشفعة فيما لم يقسم، وحصر التحريم في التكبير، وحصر التحليل في التسليم، وحصر العلم والصداقة في زيد.
النوع الثالث عشر: مفهوم اللقب، وهو: تقييد الحكم أو الخبر باسم وهذا ليس بحجة، أي: أنه إذا قيد الحكم أو الخبر
بإسم فلا يدل ذلك على نفي الحكم عما عداه، فلو قال قائل:" زارني محمد " فإن هذا لا يدل على أن غيره لم يزره؛ لأنه لو كان تقييد الحكم بالاسم يدل على نفي الحكم عما عداه، لما حسن من الإنسان أن يخبر أن زيداً يأكل إلا بعد علمه أن غيره لم يأكل، وإلا كان مخبراً بما يعلم أنه كاذب فيه، أو ربما لا يأمن الكذب، وحيث استحسن العقلاء ذلك مع عدم علمه بذلك دل على عدم دلالته على نفي الأكل من غير زيد.
وبناء على ذلك: فإنه لو أوصى بعين لزيد، ثم قال بعد ذلك: أوصيت بها لعمرو، فإن هذا لا يُعتبر رجوعاً عن الوصية لزيد، بل يشرك بينهما؛ لأنه لا يفهم من كونه أوصى بها لزيد أنه ما أوصى بها لعمرو، والثاني لا ينفي الأول.
وكذلك لو قال في الخصومة: " إن زوجتي ليست بزانية "، فإن هذا لا يعتبر قذفاً لزوجة خصمه، فلا يجوز إقامة الحد على القائل.
* * *
المسألة الثالثة:
شروط مفهوم المخالفة - إن قولنا: إن مفهوم الصفة، والتقسيم، والعلة، والحال، والمكان، والزمان، والشرط، والغاية،
والعدد، وإنما، والاستثناء من النفي، وحصر المبتدأ في الخبر كلها حجة ليس هذا على إطلاقه بل يشترط لذلك شروط هي:
الشرط الأول: أن لا يرجع حكم المفهوم المخالف على
أصله المنطوق به بالإبطال، لأن المفهوم فرع المنطوق، ولا يقدم الفرع على أصله، ويسقط به.
الشرط الثاني: أن لا يوجد في المسكوت دليل خاص يدل على نقيض حكم المنطوق، فإن وجد ذلك الدليل الخاص كان هو المعمول به دون المفهوم، لذلك لم نعمل بمفهوم الشرط في قوله تعالى:(فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) لذلك جاز القصر عند عدم الخوف، وذلك لوجود دليل آخر في ذلك وهو قوله صلى الله عليه وسلم:" صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ".
الشرط الثالث: أن يذكر القيد مستقلاً، فلو ذكر على وجه التبعية لشيء آخر فلا مفهوم له كقوله تعالى:(وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ)، فتقييد ذلك في المساجد لا مفهوم له؛ لأن المعتكف ممنوع من المباشرة مطلقاً.
الشرط الرابع: أن لا يكون هناك تقدير جهالة بحكم المسكوت عنه من جهة المخاطب.
الشرط الخامس: أن لا يكون القيد قد خرج مخرج الأغلب المعتاد كقوله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ)، حيث إن الآية أفادت أن الخُلع إنما يكون عند خوف عدم القيام بما أمر الله به من قِبل كل من الزوجين، فلا يفهم من ذلك: أنه عند عدم الخوف لا يجوز الخلع، لكن
جاءت الآية بذلك لأن الأغلب أن الخلع لا يكون إلا عند خوف عدم القيام بما أمر الله به.
كذلك قوله تعالى: (وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ)، فإن وصف الربائب بكونهن في الحجور جار وموافق للغالب لمن تزوج امرأة معها ابنتها فإنه يربيها في بيته، فهذا الوصف لا مفهوم له، إذ لا يجوز للرجل أن يتزوج من ابنة امرأته، ولو تربت في غير بيته.
الشرط السادس: أن لا يكون المقصود من القيد هو: المبالغة في التكثير كقولك: " جئتك ألف مرة ولم أجدك ".
الشرط السابع: أن لا يكون المقصود من القيد: المبالغة في التنفير كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) فهذا لا مفهوم له؛ حيث لا يدل بالمفهوم المخالف: أن الربا القليل حلال.
الشرط الثامن: أن لا يكون المقصود من القيد: الحث على الامتثال، كقوله صلى الله عليه وسلم:" لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا ". فالوصف بالإيمان لا مفهوم له؛ لأنه سيق للحث على الامتثال لأمر الله في الإحداد ثلاث ليال على الميت، وليس المقصود منه: جواز ما زاد إن كانت لا تؤمن بالله.
الشرط التاسع: أن لا يكون المقصود من القيد: إظهار الامتنان، كقوله تعالى:(وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا) فإن هذا لا مفهوم له؛ لأنه سيق لإظهار المنة بطيب اللحم الطري، وليس المقصود من ذلك الوصف - وهو
قوله: (لَحْمًا طَرِيًّا) كون اللحم غير الطري ممتنع كله.
الشرط العاشر: أن لا يكون الكلام الذي ورد فيه القيد جواباً لسؤال سائل، فإن كان كذلك فلا مفهوم له؛ لأن فائدة المنطوق قد وردت خاصة بذلك السؤال، كما لو سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن سائمة الغنم هل فيها زكاة فأجاب بوجوب الزكاة في سائمة الغنم، فإن هذا الجواب لا يدل على أن المعلوفة لا زكاة فيها.
الشرط الحادي عشر: أن لا يكون الشارع قد ذكر القيد للقياس عليه، فإن وجدت جميع شروط القياس فلا مفهوم له، كقوله صلى الله عليه وسلم:" خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية، والغراب الأبقع، والفأرة، والكلب العقور، والحُدَيَّا "، فهذا لا مفهوم له؛ حيث إن الشارع ذكرهن لما فيهن من الأذى، فيجوز أن نلحق بهن كل ما فيه أذى.
الشرط الثاني عشر: أن لا تظهر أولوية المسكوت عنه بالحكم، أو مساواته فيه للمنطوق، وإلا استلزم ثبوته في المسكوت عنه، فكان مفهوم موافقة، لا مفهوم مخالفة.
* * *
تنبيه: بهذا نكون قد انتهينا من الدليل الأول وهو الكتاب، والدليل الثاني وهو السنة وما يشترك فيه الدليلان من وجود النسخ فيهما، ودلالة ألفاظهما على الأحكام الشرعية، ويليه الدليل الثالث وهو: الإجماع.