الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة الثانية عشرة
جمع الكلمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد ..
فمن المقاصد العظيمة للشرع، الحث على جمع الكلمة ووحدة الصف بين المسلمين، قال تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103].
قال ابن عباس رضي الله عنهما لسماك الحنفي: «يا حنفي! الجماعة الجماعة، فإنما هلكت الأمم الخالية لتفرقها، أما سمعت الله تبارك وتعالى يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}»
(1)
.
وقد وردت النصوص الكثيرة بالنهي عن التفرق، والأمر بالاجتماع والائتلاف، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]. فبرأ الله نبيه صلى الله عليه وسلم من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، كما نهانا عن التفرق والاختلاف، فقال:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105]
(2)
.
(1)
. تفسير القرطبي (5/ 250).
(2)
. مجموع الفتاوى (24/ 171).
روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ الله يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ»
(1)
.
قال النووي رحمه الله: «قوله: إن الله يرضى لكم ثلاثًا، فهو أمر بلزوم جماعة المسلمين، وتآلف بعضهم ببعض، وهذه إحدى قواعد الإسلام»
(2)
.
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث الحارث الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ الله أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا، وَيَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا» الحديث، وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم:«وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ اللَّهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ: بالْجَمَاعَةِ، والسَّمْعِ، وَالطَّاعَةِ، وَالْهِجْرَةِ، وَالْجِهَاد في سبيل اللَّهِ، فَإِنَّ مَنْ خَرَجَ مِنَ الْجَمَاعَةِ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ إِلَّا أَنْ يَرْجِعَ»
(3)
.
قال البغوي رحمه الله: «بعث الله الأنبياء كلهم بإقامة الدين والألفة والجماعة، وترك الفرقة والمخالفة»
(4)
.
وكان السلف الصالح يحثون الناس على لزوم الجماعة
(1)
. برقم (1715).
(2)
. شرح صحيح مسلم (12/ 237).
(3)
. (28/ 4006) برقم 17170 وقال محققوه: حديث صحيح.
(4)
. معالم التنزيل (4/ 122).
ويحذرونهم الفرقة، روى الإمام أحمد في مسنده، والترمذي في سننه أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس بالجابية فقال: يا أيها الناس! إني قمت فيكم كمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا فقال: «أُوصِيكُمْ بِأَصْحَابِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ، حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ وَلَا يُسْتَحْلَفُ وَيَشْهَدَ الشَّاهِدُ وَلَا يُسْتَشْهَدُ، أَلَا لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ، عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ
…
» الحديث
(1)
.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «يا أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة، فإنهما السبيل في الأصل إلى حبل الله الذي أمر به، وإن ما تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في الفرقة»
(2)
.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «والجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك»
(3)
.
قال الطحاوي رحمه الله في العقيدة الطحاوية: «ونرى الجماعة حقًّا وصوابًا، والفرقة زيغًا وعذابًا»
(4)
.
(1)
. مسند الإمام أحمد (1/ 268 - 269) برقم 114، والترمذي في سننه برقم 2165 واللفظ له، وقال محققو المسند: إسناده صحيح.
(2)
. رواه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (158 - 159).
(3)
. اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 122) برقم 160، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله كما في تعليقه على مشكاة المصابيح (1/ 61).
(4)
. متن العقيدة الطحاوية.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل من هم يا رسول الله؟ قال:«الجماعة» ، وفي رواية «ما أنا عليه وأصحابي»
(1)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وهذا التفريق الذي حصل من الأمة - علمائها ومشايخها وأمرائها وكبرائها - هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها، وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله، كما قال تعالى:{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة: 14].
فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به، وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا، فإن الجماعة رحمة والفرقة عذاب»
(2)
.
ومن أمثلة السلف الصالح التي تبين حرصهم على جمع الكلمة، ووحدة الصف، وتأليف القلوب، وعدم الفرقة والخلاف، وتقديم المصالح العامة على المصالح الخاصة، ما حصل من تنازل الحسن بن علي رضي الله عنهما عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، حيث سُمي ذلك عام الجماعة؛ لاجتماع كلمة
(1)
. سنن الترمذي 2641، ومسند الإمام أحمد (14/ 142) برقم 8396، وسنن ابن ماجه برقم 3992، وصححه البوصيري والشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة برقم 1492.
(2)
. الفتاوى (3/ 421) بتصرف.
المسلمين على معاوية، وكان هذا مصداقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ»
(1)
.
ومنها ما حصل بين ابن عمر ومعاوية رضي الله عنهما، فقد روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر قال:«دخلت على حفصة قلت: قد كان من أمر الناس ما ترين، فلم يُجعل لي من الأمر شيء، فقالت: الحق فإنهم ينتظرونك، وأخشى أن يكون احتباسك عنهم فرقة، فلم تدعه حتى ذهب، فلما تفرق الناس خطب معاوية قال: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه، فلنحن أحق به منه ومن أبيه، قال حبيب بن مسلمة: فهلا أجبته؟ قال عبد الله: فحللت حبوتي وهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام، فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع، وتسفك الدم، ويحمل عني غير ذلك، فذكرت ما أعد الله في الجنان، قال حبيب: حفظت وعصمت»
(2)
.
ومنها ما حصل بين عبد الله بن مسعود وعثمان رضي الله عنهما، وذلك أن أمير المؤمنين عثمان حج عام 29 هـ وهو خليفة، وأتم الصلاة في منى، ولم يقصرها، فعاتبه في ذلك عبدالرحمن بن عوف، واعتذر له عثمان بأنه قد تزوج بمكة فكان في حكم المقيم لا المسافر، وبأن أناسًا من أهل اليمن ظنوا أن الصلاة للمقيم
(1)
. صحيح البخاري برقم 2704.
(2)
. برقم 4108.
ركعتان، فأتم عثمان رضي الله عنه لذلك.
وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يصلي معه أربعًا وهو لا يرى ذلك، وكان يقول: ليت حظي من أربع ركعتين متقبلتين، فقيل له: لماذا تصلي خلفه إتمامًا وأنت ترى القصر، قال: الخلاف شر.
وفي الختام .. فإن وصيتي لعموم المسلمين وخاصتهم: التمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولزوم جماعة المسلمين، والابتعاد عن أسباب التفرق والاختلاف، والسير على منهج السلف الصالح في تقديم المصالح العامة على المصالح الخاصة فيما يحقق التعاون على البر والتقوى، واجتناب الإثم والعدوان.
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثَلَاثٌ لَا يَغِلُّ عَلَيْهِنْ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ، وَالنَّصِيحَةُ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ، وَلُزُومُ الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تَكُونُ مِنْ وَرَائِه»
(1)
.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
. (27/ 301) برقم 16738، وقال محققوه: حديث صحيح لغيره.