الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة الثامنة والعشرون
التحذير من اليمين الكاذبة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد ..
فقد عظم الإسلام شأن اليمين، وحذر من التساهل بها؛ لأنها عهد وميثاق يجب أن يُعطى حقه، قال تعالى:{وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89].
قال القرطبي: «المعنى: أقلوا الأيمان لما فيه من البر والتقوى، فإن الإكثار يكون معه الحنث وقلة رعي لحق الله تعالى»
(1)
أهـ.
قال تعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10)} [القلم]، يعني كثير الحلف، قال تعالى عن المنافقين:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14)} [المجادلة]. وقال تعالى عنهم أيضًا: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} [التوبة: 56]، فبين سبحانه في هذه الآيات أن الحلف الكاذب من صفات المنافقين
(2)
.
ومن أشد أنواع الأيمان الكاذبة اليمين الغموس، وهي التي
(1)
. تفسير القرطبي (4/ 13).
(2)
. تفسير ابن كثير (14/ 5).
تغمس صاحبها في الإثم ومن ثم في النار
(1)
، قال العلماء: هي التي يحلفها على أمر ماضٍ كاذبًا عالمًا، وعدُّوها من كبائر الذنوب.
روى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ عَلَيْهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ الله وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)} [آل عمران]. فَجَاءَ الْأَشْعَثُ، فَقَالَ: مَا حَدَّثَكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ فَقَالوا: كَذَا وكَذَا، قَاَل: فِيَّ أُنْزِلَتْ، كَانَتْ لِي بِئْرٌ فِي أَرْضِ ابْنِ عَمٍّ لِي، فَأَتَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:«بَيِّنَتُكَ أَوْ يَمِينُهُ» ، قُلْتُ: إِذًا يَحْلِفُ عَليهَا يَا رَسُولَ اللَّه، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم:«مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ صَبْرٍ هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَقِيَ اللَّهَ يَومَ القِيَامَة وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ»
(2)
.
وروى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّه لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّة» ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّه؟ قَالَ: «وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاك»
(3)
.
(1)
. النهاية في غريب الحديث (3/ 724).
(2)
. صحيح البخاري برقم (2357)، وصحيح مسلم برقم (138).
(3)
. برقم (137).
وروى البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو ابن العاص، أن أعرابيًا جَاءَ إِلَى النَّبيِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسولَ الله: مَا الْكَبَائِرُ؟ قَالَ: «الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ» ، قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «ثُم عُقُوق الوَالِدين» ، قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «الْيَمِينُ الْغَمُوسُ» ، قُلْتُ: وَمَا الْيَمِينُ الْغَمُوسُ؟ قَالَ: «الَّذِي يَقْتَطِعُ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، هُوَ فِيهَا كَاذِبٌ»
(1)
.
واليمين الغموس من الكبائر الموجبة للنار كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)} [آل عمران].
جاء في فتوى اللجنة الدائمة: «اليمين الغموس من كبائر الذنوب، ولا تجدي فيها الكفارة لعظيم إثمها، ولا تجب فيها الكفارة على الصحيح من قولي العلماء، وإنما تجب فيها التوبة والاستغفار»
(2)
أهـ.
(3)
. ومعناه: أن يحلف صاحب السلعة أنه أُعطي فيها كذا وكذا، أو أنه اشتراها بكذا وكذا،
(1)
. برقم (6920).
(2)
. فتاوى اللجنة الدائمة (23/ 133).
(3)
. صحيح البخاري برقم (2087)، وصحيح مسلم برقم (1606).
وهو كاذب في ذلك، وإنما يريد التغرير بالمشتري ليصدقه بموجب اليمين، فيكون هذا الحالف عاصيًا لله آخذًا للزيادة بغير حق، فيعاقبه الله بمحق البركة من كسبه، وربما يتلف الله ماله كله»
(1)
.
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّه إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ كَانَ لَهُ فَضْلُ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ فَمَنَعَهُ مِنَ ابْنِ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِدُنْيَا فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا سَخِطَ، وَرَجُلٌ أَقَامَ سِلْعَتَهُ بَعْدَ الْعَصْر فَقَالَ: وَاللَّه الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، لَقَدْ أُعْطَيْتُ بِهَا كَذَا وَكَذَا، فَصَدَّقَهُ رَجُلٌ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77]»
(2)
.
(3)
.
ومن القصص التي تُذكر في هذا الشأن ما حدثني به أحد المشايخ نقلًا عن أحد القضاة، يقول: تخاصم لدي رجلان كبيران في السن،
(1)
. الخطب المنبرية في المناسبات العصرية للشيخ صالح الفوزان (2/ 297).
(2)
. صحيح البخاري برقم 2358، وصحيح مسلم برقم 108.
(3)
. فتح الباري (13/ 203).
تنازعا وليس لأحدهما بينة، فقلت للمُدعى عليه: هل تحلف أن هذا المال هو مالك؟ فقال: نعم، فذكرته بالله وأن اليمين الغموس أمرها عظيم، فأصر على موقفه، ثم حلف على ذلك، قال القاضي: وأنهيت الجلسة ثم خرجا، أما المُدعى عليه فإنه لما فتح الباب ليخرج سقط عند الباب فأسرعنا إليه، وإذا به قد فارق الحياة.
أما القصة الثانية: فحدثني أحد المشايخ نقلًا عن أحد موظفي المحكمة في مدينة من مدن المملكة، يقول: جاء رجل كبير في السن يشتكي إلى القاضي رجلًا آخر أخذ منه مالًا، فقال له القاضي: هل لديك بينة؟ فقال: لا، فقال: إذًا يحلف المدعى عليه، فحلف المُدعى عليه ثم خرج من المحكمة، فجعل المدعي كبير السن يدعو عليه دعاءً عظيمًا يهز الجبال من شدته، فما هي إلا أيامًا معدودة لم تتجاوز العشرة أيام إلا ويحصل حادث للمُدعى عليه فيموت من ساعته.
والقصص في هذا كثيرة، ولعل فيما ذُكر عبرة لمن تفكر.
ونسأل الله تعالى ألَّا يجعل لنا عند أحد من المسلمين مظلمة، وأن يجعلنا من أوليائه وأحبابه الذين ينفعون إخوانهم المسلمين، وأن يتوفانا وهو راض عنا غير غضبان.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.