الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة التاسعة والأربعون
التلبيس على الناس
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد ..
قال تعالى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)} [البقرة]، وقال تعالى:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)} [آل عمران].
قال ابن كثير رحمه الله: «يقول تعالى ناهيًا لليهود عما كانوا يتعمدونه من تلبيس الحق بالباطل وتمويهه به وكتمانهم الحق وإظهارهم الباطل»
(1)
. أهـ
«فوبخهم على لبس الحق بالباطل، وعلى كتمان الحق، لأنهم بهذين الأمرين يضلون من انتسب إليهم، فإن العلماء إذا لبسوا الحق بالباطل، فلم يميزوا بينهما، بل أبقوا الأمر مبهمًا، وكتموا الحق الذي يجب عليهم إظهاره، ترتب على ذلك من خفاء الحق وظهور الباطل ما ترتب، ولم يهتد العوام الذين يريدون الحق لمعرفته حتى يؤثروه، والمقصود من أهل العلم أن يظهروا للناس الحق ويعلنوا به، ويميزوا الحق من الباطل،
(1)
. تفسير ابن كثير (1/ 379).
ويظهروا الخبيث من الطيب، والحلال من الحرام، والعقائد الصحيحة من العقائد الفاسدة ليهتدي المهتدون، ويرجع الضالون، وتقوم الحجة على المعاندين، قال تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)} [آل عمران].
فمن عمل بما سبق من بيان الحق وتمييزه من الباطل وإقامة الحجة على الخلق، فهو من خلفاء الرسل، وهداة الأمم، ومن لبس الحق بالباطل فلم يميز هذا من هذا مع علمه بذلك، وكتم الحق الذي يعلمه وأُمر بإظهاره، فهو من دعاة جهنم، لأن الناس لا يقتدون في أمر دينهم بغير علمائهم، فاختاروا لأنفسكم إحدى الحالتين»
(1)
.
فإن قيل: ما الفرق بين هاتين الصفتين المذمومتين اللتين اتصف بها اليهود وقد نهانا الله عنهما، وهما لبس الحق بالباطل، وكتمان الحق، فيقال: إن الناس منهم العالم والجاهل، واليهود لعنهم الله يسعون لإضلال هؤلاء وهؤلاء، فمن وجدوا لديه علمًا لا يقدرون على كتمانه عنه، اجتهدوا في إضلاله بالتلبيس عليه، إما بإظهار الحق في صورة الباطل، والباطل في صورة الحق .. أو غير ذلك من صور المكر والدهاء، ومن وجدوه جاهلًا كتموا عنه الحق وحالوا بينه وبين الوصول إليه، إما بمنعه من الاتصال بأهل العلم، أو إخفاء كتب الحق عنه.
والمقصود الأعظم من ذكر هذه الصفات تحذير أمة الإسلام
(1)
. تفسير الشيخ ابن سعدي ص 36 - 118 بتصرف.
ممن اتصف بها ممن يدعي الإسلام ويزعم أنه من أهله، يظهر ذلك حين نقرأ قوله صلى الله عليه وسلم:«لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا ذِرَاعًا، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ» ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنْ؟ »
(1)
.
وقد رأينا من أهل الأهوال والبدع ما هو مطابق تمامًا لهذه الصفات المذمومة، فتجد بعضهم لا يذكر النصوص الشرعية التي تخالف مذهبه الباطل، فإن لم يستطع إخفاءها اجتهد في إبطال معناها بالتأويلات الباطلة، فإن وجد ما يوافق هواه طار به كل مطار، وإن كان أوهى من خيوط العنكبوت، فكتاباتهم محشوة بالأحاديث المكذوبة، والأقاويل الواهية، وما كثرة الفرق الضالة في الأمة المحمدية إلا بسبب اتباعهم لهؤلاء واغترارهم بهم. ومن أظهر طرق التلبيس وأعظمها فتنة، وأكثرها انتشارًا في الأمة تتبع رخص العلماء وزلاتهم، قال سليمان التيمي:«لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله»
(2)
.
وقال ابن حزم الأندلسي: «وطبقة أخرى وهم قوم بلغت بهم رقة الدين، وقلة التقوى إلى طلب ما وافق أهواءهم في قول كل قائل، فهم يأخذون ما كان رخصة من قول كل عالم مقلدين له غير طالبين ما أوجبه النص عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم»
(3)
.
(1)
. صحيح البخاري برقم (7320)، وصحيح مسلم برقم (2669).
(2)
. جامع بيان العلم وفضله لابن عبدالبر (2/ 91).
(3)
. الإحكام في أصول الأحكام (5/ 65).
وروى البيهقي عن إسماعيل القاضي قال: دخلت على المعتضد بالله فدفع إليَّ كتابًا فنظرت فيه، فإذا قد جمع له فيه الرخص من زلل العلماء وما احتج به كل واحد منهم، فقلت: مصنف هذا زنديق، فقال: ألم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: الأحاديث على ما رويت، ولكن من أباح المسكر - النبيذ - لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح المسكر، وما من عالم إلا وله زلة، ومن أخذ بكل زلل العلماء ذهب دينه، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب
(1)
.
وقد شدد العلماء في الإنكار على من تتبع الرخص وزلات العلماء، حيث وصفوه مرة بأنه شر عباد الله كما ذكر ذلك عبدالرزاق عن معمر
(2)
، وتارة وصفوه بالفسق كما نص عليه ابن النجار، فقال: يحرم على العامي تتبع الرخص ويفسق به
(3)
، وقال الغزالي:«ليس للعامي أن يستقي من المذاهب في كل مسألة أطيبها عنده فيتوسع»
(4)
.
وبعض الناس إذا أراد أن يستفتي يسأل في كل مسألة مَنْ عُرفَ بالتساهل فيها، والإفتاء بغير ما عليه جماهير العلماء، فإذا دُلَّ على العلماء الذين يفتون بالكتاب والسنة قال: إن هؤلاء لا يعرفون إلا
(1)
. رواه البيهقي في السنن الكبرى (10/ 356) برقم (20921)، وانظر: سير أعلام النبلاء (13/ 465).
(2)
. انظر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخلال (1/ 209).
(3)
. مختصر التحرير ص 252.
(4)
. المستصفى (2/ 469).
لغة الحرام، كل شيء عندهم حرام، فهذا وأمثاله اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا، والله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112]. ولم يقل: كما أردت، قال ابن عبد البر رحمه الله:«أجمع العلماء على أن العامي لا يجوز له تتبع الرخص»
(1)
.
وأما قول بعضهم: ضع بينك وبين النار مطوع، فهذا القول لا يكون صحيحًا إلا بسؤال أهل العلم المعروفين بالتقوى، وأن يكون القصد من السؤال معرفة الحق والعلم الذي يرضي الله تعالى.
قد يقول قائل: ما أسباب السلامة من هذا البلاء؟
فأقول: أولًا: الاعتصام بالكتاب والسنة والرجوع إليهما عند الاختلاف، قال تعالى:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)} [الأعراف]، وقال تعالى:{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)} [الجاثية].
روى الحاكم في مستدركه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ: كِتَاب اللَّه، وَسُنَّة نَبِيِّهِ»
(2)
.
ثانيًا: الاقتداء بالسلف، والرجوع إليهم في فهم الكتاب والسنة، وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان وأئمة المسلمين،
(1)
. جامع بيان العلم وفضله (2/ 91).
(2)
. المستدرك (1/ 284)، وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله كما في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 125) برقم (40)، وأصله في صحيح مسلم برقم (1218).
قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} [النساء].
روى الإمام أحمد في مسنده والترمذي وابن ماجه في سننهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى ثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الأُمَّة عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً» ، قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّه، قَالَ:«مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي»
(1)
. أي هم من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي.
ثالثًا: الرجوع في النوازل إلى العلماء الربَّانيين العاملين بعلمهم، والاستفادة من مجموع كلامهم، والابتعاد عن شواذ الفتاوى الصادرة عن أنصاف العلماء والمنتسبين إلى طلبة العلم، وهم لم يرسخوا في العلم، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّ اللَّهَ لَاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا»
(2)
.
رابعًا: عدم الاستعجال فيما يصدر من فتاوى وأحكام والتأني
(1)
. سنن الترمذي برقم (2641)، ومسند الإمام أحمد (14/ 142) برقم (8396)، وسنن ابن ماجة برقم (3992)، وصححه البوصيري والشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة برقم (1492)، ورقم 203، 204.
(2)
. صحيح البخاري برقم (100)، وصحيح مسلم برقم (2673).
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.