الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة الرابعة والأربعون
من محاسن الدين الإسلامي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد ..
فإن الدين الإسلامي الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أكمل الأديان وأفضلها، وأعلاها وأجلها، وقد حوى من المحاسن والكمال والصلاح والرحمة والعدل والحكمة ما يشهد للَّه تعالى بالكمال المطلق وسعة العلم والحكمة، ويشهد لنبيه صلى الله عليه وسلم أنه رسول الله حقًّا، وأنه الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى:{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم].
فهذا الدين الإسلامي أعظم برهان، وأجل شاهد لله بالتفرد بالكمال المطلق كله، ولنبيه صلى الله عليه وسلم بالرسالة والصدق، قال الله تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19].
ومحاسن الدين الإسلامي عامة في جميع مسائله ودلائله، وفي أصوله وفروعه، وفيما دل عليه من علوم الشرع والأحكام، وما دل عليه من علوم الكون والاجتماع، والأمثلة على ذلك كثيرة:
المثال الأول: إن دين الإسلام مبني على أصول الإيمان المذكورة في قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ
إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)} [البقرة]. فهذه الأصول العظيمة التي أمر الله عباده بها هي الأصول التي اتفق عليها الأنبياء والمرسلون، وهي محتوية على أجلِّ المعارف والاعتقادات من الإيمان بكل ما وصف الله به نفسه على ألسنة رسله، وعلى بذل الجهد في سلوك مرضاته، فدين أصله الإيمان بالله وثمرته السعي في كل ما يحبه ويرضاه، وإخلاص ذلك لله، هل يتصور أن يكون دين أحسن منه وأجلَّ وأفضل؟ ودين أمر بالإيمان بكل ما أوتيه الأنبياء والتصديق برسالاتهم، والاعتراف بالحق الذي جاءوا به من عند ربهم، وعدم التفريق بينهم، وأنهم كلهم رسل الله الصادقون، وأمناؤه المخلصون، يستحيل أن يتوجه إليه أي اعتراض وقدح.
فهو يأمر بكل حق، ويعترف بكل صدق، ويقرر الحقائق الدينية المستندة إلى وحي الله لرسله، ويجري مع الحقائق العقلية الفطرية النافعة، ولا يرد حقًّا بوجه من الوجوه، ولا يصدق بكذب، ولا يروج عليه الباطل، فهو مهيمن على سائر الأديان، قال تعالى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} [آل عمران].
المثال الثاني: شرائع الإسلام الكبار: الصلاة، الزكاة، صوم رمضان، وحج البيت، فالذي يتأمل الصلاة يجد أنها من أفضل
الأعمال، ومع ذلك لا تجب في اليوم والليلة إلا خمس مرات، سبع عشرة ركعة، من لم يستطع القيام يصل قائمًا، فإن لم يستطع فقاعدًا، فإن لم يستطع فعلى جنب، يتطهر بالماء، فإن عدمه أو تضرر باستعماله تطهر بالتراب، وأما الصيام فإنه يصوم المقيم القادر، فإن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر.
والزكاة فيها إصلاح حال الفقراء، وسد حاجة المسكين، وقضاء دين المدين، والتخلق بأخلاق الكرام من السخاء والجود، والبعد عن أخلاق اللئام:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)} [التوبة].
وفي الحج بذل الأموال وتحمل المشقات، طلبًا لرضا الله، وفيه التعظيم والخضوع التام للَّه، والتذكر لأحوال الأنبياء والمرسلين والأصفياء والمخلصين، وتقوية الإيمان بهم، وشدة التعلق بمحبتهم، والتعارف بين المسلمين والسعي في جمع كلمتهم، واتفاقهم على مصالحهم الخاصة والعامة مما لا يمكن تعداده، فإنه من أعظم محاسن الدين وأجل الفوائد الحاصلة للمؤمنين، قال تعالى:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)} [الحج].
المثال الثالث: ما أمر به الشارع وحث عليه من وجوب الاجتماع والائتلاف ونهيه وتحذيره عن التفرق والاختلاف، على هذا الأصل الكبير من نصوص الكتاب والسنة شيء كثير، قال تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].
وقد علم كل من له أدنى معرفة منفعة هذا الأمر، وما يترتب عليه من المصالح الدينية والدنيوية، وما يندفع به من المضار والمفاسد، ولا يخفى أن القوة المعنوية المبنية على الحق هذا أصلها الذي تدور عليه، كما أنه قد علم ما كان عليه المسلمون في صدر الإسلام من استقامة الدين، وصلاح الأحوال والعزة التي لم يصل إليها أحد سواهم إذ كانوا مستمسكين بهذا الأصل، قائمين به حق القيام، موقنين أشد اليقين أنه روح دينهم يزيد هذا بيانًا وإيضاحًا قول عمر رضي الله عنه:«إنا كنا أذل قوم، فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله»
(1)
.
المثال الرابع: أن دين الإسلام دين رحمة وبركة وإحسان، وحث على منفعة الإنسان، فما عليه هذا الدين من الرحمة وحسن المعاملة والدعوة إلى الإحسان، والنهي عن كل ما يضاد ذلك، هو الذي صيره نورًا وضياءً بين ظلمات الظلم والبغي وسوء المعاملة، وانتهاك الحرمات.
وهو الذي جذب قلوب من كانوا قبل معرفته ألد أعدائه
(1)
. مستدرك الحاكم (1/ 236 - 237) وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وقال محققه: إسناده صحيح.
حتى استظلوا بظله الظليل.
وهو الذي عطف وحنا على أهله حتى صارت الرحمة والعفو والإحسان تتدفق من قلوبهم على أقوالهم وأعمالهم، وتتخطاهم إلى أعدائهم، حتى صاروا من أعظم أوليائه، فمنهم من دخل فيه بحسن بصيرة وقوة وجدان، ومنهم من خضع له ورغب في أحكامه وفضلها على أحكام دينه لما فيها من العدل والرحمة، قال تعالى:{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)} [الممتحنة]، وقال تعالى:{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، وقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء]. وفي الصحيحين من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّمَا يَرْحَمُ الله مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ»
(1)
.
المثال الخامس: أن من محاسن الدين الإسلامي أنه ما حرم شيئًا عليهم إلا عوضهم خيرًا منه، مما يسد مسده ولا يغني عنه كما بين ذلك ابن القيم رحمه الله.
حرم عليهم الاستقسام بالأزلام، وعوضهم منه دعاء الاستخارة، وحرم عليهم الربا، وعوضهم التجارة الرابحة.
وحرم عليهم القمار وعوضهم منه أكل المال بالمسابقة بالخيل والإبل والسهام، وحرم عليهم الحرير، وعوضهم منه أنواع الملابس الفاخرة من الصوف والكتان والقطن، وحرم
(1)
. جزء من حديث في صحيح البخاري برقم (1284)، وصحيح مسلم برقم (923).
عليهم شرب المسكرات، وعوضهم عنه بالأشربة اللذيذة والنافعة للروح والبدن، وحرم عليهم الخبائث من المطعومات، وعوضهم عنها بالمطاعم والطيبات.
المثال السادس: دين الإسلام هو دين الحكمة ودين العقل والفطرة والصلاح والفلاح، يوضح هذا الأصل ما هو محتوٍ عليه من الأحكام الأصولية والفروعية التي تقبلها الفطر والعقول، وتنقاد لها بوازع الحق والصواب، وما هي عليه من الأحكام وحسن الانتظام، وأنها صالحة لكل زمان ومكان، فأخباره كلها حق وصدق، لم يأت - ويستحيل أن يأتي - علم سابق أو لاحق بما ينقضها أو يكذبها، وإنما العلوم الحقَّة كلها تؤازرها وتؤيدها، وهي أعظم برهان على صدقها، قال تعالى:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)} [فصلت].
وقد حقق المحققون المنصفون أن كل علم نافع ديني أو دنيوي أو سياسي فقد دل عليه القرآن دلالة لا ريب فيها، قال تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)} [الأنعام].
فليس في شريعة الإسلام ما تحيله العقول، وإنما فيه ما تشهد العقول الزكية بصدقه ونفعه وصلاحه، وكذلك أوامره ونواهيه كلها عدل لا ظلم فيها، فما أمر بشيء إلا وهو خير أو راجح، وما نهى إلا عن الشر الخالص، أو الذي مفسدته تزيد على مصلحته، وكلما تدبر اللبيب أحكامه ازداد إيمانًا بهذا الأصل، أو علم أنه تنزيل من حكيم حميد، قال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ