المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الكلمة الثانية والأربعونتحقيق شهادة أن محمدا رسول الله - الدرر المنتقاة من الكلمات الملقاة - جـ ٩

[أمين الشقاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الكلمة الأولىفوائد من حديث: إن الله إذا استودع شيئًا حفظه

- ‌الكلمة الثانيةفوائد من حديث بركة الغازي في ماله حيًّا وميتًا

- ‌من فوائد الحديث السابق:

- ‌الكلمة الثالثةالتحذير من اللعن

- ‌الكلمة الرابعةتأملات في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين

- ‌ومن فوائد الحديث:

- ‌فائدة:

- ‌الكلمة الخامسةنواقض الوضوء

- ‌الكلمة السادسةآداب قضاء الحاجة

- ‌الكلمة السابعةمن آداب المجالس

- ‌الكلمة الثامنةفضل الإصلاح بين الناس

- ‌ومن فوائد الصلح:

- ‌الكلمة التاسعةوقفات مع حديث: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة

- ‌هذا الحديث اشتمل على أمور ثلاث:

- ‌من فوائد الحديث:

- ‌الكلمة العاشرةفضل الرباط في سبيل الله

- ‌ونذكر إخواننا المرابطين في سبيل الله بالأمور التالية:

- ‌فائدة:

- ‌الكلمة الحادية عشرةالخوارج صفاتهم وخطرهم

- ‌فتبين مما تقدم أن من صفات الخوارج ما يلي:

- ‌الكلمة الثانية عشرةجمع الكلمة

- ‌الكلمة الثالثة عشرةأحكام التعزية

- ‌ويُروى عن الشافعي أنه قال:

- ‌ومات ابن للإمام الشافعي فأنشد من [الطويل]:

- ‌وقد سُئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، يقول السائل:

- ‌وسُئلت اللجنة الدائمة عن صنع الطعام في التعزية من قبل أهل الميت

- ‌ومن بدع ومخالفات العزاء:

- ‌الكلمة الرابعة عشرةزيارة القبور

- ‌والمقصود من زيارة القبور شيئان:

- ‌ومن البدع والشركيات التي تحصل عند القبور، وأشير إلى بعضها:

- ‌الكلمة الخامسة عشرةالتحذير من الفتن

- ‌فائدة مهمة:

- ‌الكلمة السادسة عشرةالتلبية وأحكامها

- ‌الكلمة السابعة عشرةإسلام الكافر

- ‌سُئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية، يقول السائل:

- ‌الكلمة الثامنة عشرةالإقامة في بلاد الكفار

- ‌سُئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية، يقول السائل:

- ‌الكلمة التاسعة عشرةالعمل أو الدراسة لدى الكفار

- ‌والخلاصة: «أن إجارة المسلم نفسه للكافر ثلاثة أنواع:

- ‌سُئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية، يقول السائل:

- ‌سُئل الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله، يقول السائل:

- ‌وسُئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية، يقول السائل:

- ‌الكلمة العشرونالزواج من الكتابيات

- ‌الكلمة الحادية والعشرونشرح اسم من أسماء الله تعالى: الرحمن، الرحيم

- ‌ومن آثار الإيمان بهذين الاسمين العظيمين:

- ‌الكلمة الثانية والعشرونصفة الصلاة

- ‌الكلمة الثالثة والعشرونفضائل التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير

- ‌فمن فضائل هذه الكلمات:

- ‌الكلمة الرابعة والعشرونمن آداب الضيافة واستقبال الضيوف والزوار

- ‌الكلمة الخامسة والعشرونمن أحكام الغسل

- ‌وذكر أهل العلم الأغسال المستحبة:

- ‌الكلمة السادسة والعشرونفضل كفالة الأيتام

- ‌الكلمة السابعة والعشرونمن أحكام الأطعمة رقم 2

- ‌الكلمة الثامنة والعشرونالتحذير من اليمين الكاذبة

- ‌الكلمة التاسعة والعشرونالمسارعة في الاستجابة لأمر الله ورسوله

- ‌فمن ذلك ما حصل

- ‌المثال الثاني: قصة جليبيب:

- ‌الكلمة الثلاثونمن آداب القرآن

- ‌الكلمة الواحدة والثلاثونمن آداب المساجد

- ‌تنبيه:

- ‌الكلمة الثانية والثلاثونمن آداب الاستئذان

- ‌الكلمة الثالثة والثلاثونآداب السلام رقم 1

- ‌الكلمة الرابعة والثلاثونآداب السلام رقم 2

- ‌الكلمة الخامسة والثلاثونآداب السلام رقم 3

- ‌هل يشرع السلام على أهل المعاصي والبدع

- ‌الكلمة السادسة والثلاثونصلاة التطوع

- ‌والتطوع أنواع:

- ‌تنبيه:

- ‌الكلمة السابعة والثلاثونأوقات النهي عن الصلاة

- ‌تنبيهات:

- ‌الكلمة الثامنة والثلاثونتنظيم النسل

- ‌الفرق بين منع الحمل وتنظيمه وتحديد النسل:

- ‌الكلمة التاسعة والثلاثونالإحداد

- ‌ولعدة المتوفى عنها زوجها أحكام تختص بها، فمن ذلك:

- ‌وهذه بعض فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء فيما يتعلق بمسائل الإحداد التي يكثر السؤال عنها:

- ‌الكلمة الأربعونأشراط الساعة الكبرى العشر

- ‌الكلمة الواحدة والأربعونصفات أهل الفردوس

- ‌ومن فوائد الآيات الكريمات:

- ‌الكلمة الثانية والأربعونتحقيق شهادة أن محمدًا رسول الله

- ‌الكلمة الثالثة والأربعونالفطرة السليمة

- ‌الكلمة الرابعة والأربعونمن محاسن الدين الإسلامي

- ‌ومن فوائد معرفة هذا العلم "محاسن الدين

- ‌الكلمة الخامسة والأربعونوقفات مع قوله تعالى:{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13]

- ‌الكلمة السادسة والأربعونالتوسل المشروع والممنوع

- ‌النوع الثاني: التوسل الممنوع:

- ‌تنبيه:

- ‌الكلمة السابعة والأربعونأسباب تفرق المسلمين

- ‌الكلمة الثامنة والأربعونالتشبه بالكفار

- ‌أحكام التشبه:

- ‌الكلمة التاسعة والأربعونالتلبيس على الناس

- ‌الكلمة الخمسونالصراط المستقيم والأمة الوسط

الفصل: ‌الكلمة الثانية والأربعونتحقيق شهادة أن محمدا رسول الله

‌الكلمة الثانية والأربعون

تحقيق شهادة أن محمدًا رسول الله

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد ..

فقد سبق الكلام في كلمة سابقة عن معنى لا إله إلا الله، والكلام سيكون هنا عن شهادة أن محمدًا رسول الله، قال تعالى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة].

فقوله: من أنفسكم: أي من جنسكم، بل هو منكم أيضًا كما قال تعالى:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)} [الجمعة]. يشق عليه ما شق عليكم، أي على منفعتكم ودفع الضر عنكم، وذو رأفة ورحمة بالمؤمنين، وخص المؤمنين بذلك لأنه صلى الله عليه وسلم مأمور بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم، وهذه الأوصاف لرسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على أنه رسول الله حقًّا كما دل على ذلك قوله تعالى:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]، وكما قال تعالى:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40].

ص: 317

ومعنى ذلك الإقرار باللسان والإيمان بالقلب بأن محمد بن عبد الله القرشي الهاشمي رسول الله، أرسله الله إلى جميع الخلق من الجن والإنس، كما قال تعالى:{قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]. وفي الحديث: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي .. ذَكَر منها: وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامة»

(1)

.

«ولا يكفي الاعتراف بالقلب، بل لا بد من أمر ثالث وهو الاتباع، قال تعالى:{فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)} [الأعراف].

على سبيل المثال: أبو طالب دافع عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يعرف أنه رسول الله، لكن لم يتبعه، فلذلك لم يحسب من المسلمين، ومات على الكفر، قال الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله: «ومعنى شهادة أن محمدًا رسول الله طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يُعَبد الله إلا بما شرع

(2)

، فلا بد من الاعتراف برسالته ظاهرًا وباطنًا واعتقادًا، ولابد من اتباعه صلى الله عليه وسلم».

ويتلخص ذلك في هذه الأربع كلمات التي ذكرها الشيخ رحمه الله:

الأولى: طاعته فيما أمر: قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا

(1)

. صحيح البخاري برقم (335)، وصحيح مسلم برقم (521).

(2)

. شرح الأصول الثلاثة للشيخ صالح الفوزان ص (181 - 182).

ص: 318

لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64].فقرن طاعة الرسول مع طاعته سبحانه، وقرن معصية الرسول مع معصيته، قال تعالى:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)} [الجن].

فالذي يشهد أنه رسول الله، تلزمه طاعته فيما أمر لقوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وقوله تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} [النور: 63].

روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ:«مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى»

(1)

.

والطاعة درجات، فمنها ما هو واجب على كل مسلم، ومنها ما هو فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ومنها ما هو سنة يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، روى ابن أبي حاتم في تفسيره من حديث صفية بنت شيبة قالت: بينا نحن عند عائشة رضي الله عنها قالت: فذكرن نساء قريش وفضلهن، فقالت عائشة رضي الله عنها: «إن لنساء قريش لفضلًا، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقًا لكتاب الله ولا إيمانًا بالتنزيل، لقد أُنزلت سورة النور {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته، وعلى

(1)

. برقم (7280).

ص: 319

كل ذي قرابته، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل فاعتجرت به تصديقًا وإيمانًا بما أنزل الله من كتابه، فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان»

(1)

.

وفي صحيح البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها: «أن نساء المهاجرات صنعن ذلك»

(2)

. قال الحافظ ابن حجر: ويمكن الجمع بين الروايتين بأن نساء الأنصار بادرن إلى ذلك

(3)

.

ومن الأمثلة على ذلك حديث جليبيب كما في مسند الإمام أحمد، وجاء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خطب لجليبيب من حي من الأنصار، واعتذرت والدتها قالت الجارية: أتردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره، ادفعوني فإنه لن يضيعني، فاستجابت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطاعته فكان في ذلك لها الخير الكثير

(4)

.

الثانية: تصديقه فيما أخبر: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر عن أمور كثيرة مغيبة، أخبر عن الله وعن ملائكته، وأخبر عن أمور مستقبلية من قيام الساعة، وأشراطها، وأخبر عن أمور ماضية من أحوال الأمم السابقة، فلابد من تصديقه فيما أخبر، لأنه صدق لا كذب

(1)

. ابن أبي حاتم (8/ 2575)، ورواه أبو داود في سننه من حديث أم سلمة قالت: لما نزلت (يدنين عليهن من جلابيبهن) خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من الأكسية، برقم (4101)، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (2/ 773) برقم (4101).

(2)

. صحيح البخاري برقم (4758).

(3)

. فتح الباري (8/ 490).

(4)

. (33/ 29) برقم (19784)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم وأصله في صحيح مسلم برقم (2472).

ص: 320

فيه، قال تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم]. ومن لم يصدقه فيما أخبر فليس بمؤمن ولا صادق في شهادته أنه رسول الله، كيف يشهد أنه رسول الله ويكذبه في أخباره، كيف يشهد أنه رسول الله ولا يطيع أمره؟

قال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)} [التغابن]، وقال تعالى:{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} [الأعراف].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جِئْتُ بِهِ»

(1)

. ومن الأمثلة على ذلك:

ما رواه الحاكم في المستدرك من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى أَصْبَحَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَارْتَدَّ نَاسٌ ممَنْ كَانُوا آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَسَعَى رِجَالٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه، فَقَالُوا: هَلْ لَكَ إِلَى صَاحِبِكِ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟ قَالَ: أَوَقَالَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: لَئِنْ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ، قَالُوا: أَوَ تُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، إِنِّي لأَصُدِّقُهُ بِمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ أُصَدِّقُهُ فِي خَبَرِ السَّمَاءِ فِي غُدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَبَو بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه»

(2)

.

(1)

. صحيح مسلم برقم (21).

(2)

. مستدرك الحاكم (4/ 25) برقم (4515)، وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، فإن محمد بن كثير الصنعاني صدوق، ووافقه الذهبي وصححه الشيخ الألباني رحمه الله كما في السلسلة الصحيحة برقم (306).

ص: 321

ومن الأمثلة كذلك ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من الأمور المستقبلة مما وقع ومما سيقع في آخر الزمان، روى البخاري في صحيحه من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهو في قبة من أدم، فقال:«اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ: مَوْتِي، ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ مُوتَانٌ يَأْخُذُ فِيكُمْ كَقُعَاصِ الْغَنَمِ، ثُمَّ اسْتِفَاضَةُ الْمَالِ حَتَّى يُعْطَى الرَّجُلُ مِئَةَ دِينَارٍ فَيَظَلُّ سَاخِطًا، ثُمَّ فِتْنَةٌ لَا يَبْقَى بَيْتٌ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا دَخَلَتْهُ، ثُمَّ هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الْأَصْفَرِ فَيَغْدِرُونَ فَيَأْتُونَكُمْ تَحْتَ ثَمَانِينَ غَايَةً، تَحْتَ كُلِّ غَايَةٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا»

(1)

.

وقد حدث بعضٌ من هذه الأمور المستقبلية منها: موته صلى الله عليه وسلم، وفتح بيت المقدس في عهد عمر بن الخطاب سنة 16 هـ، ثم الموت الذي حصل في طاعون عمواس والشام سنة 18 هـ، وكذلك استفاضة المال كما في عهد الصحابة بسبب ما وقع من الفتوح واقتسام أموال الفرس والروم، ثم فاض المال في عهد عمر بن عبدالعزيز رحمه الله فكان الرجل يعرض المال فلا يجد من يقبله، والباقي سيقع كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم.

الثالثة: اجتناب ما نهى عنه وزجر: من أقوال أو أفعال أو صفات، فلا ينهى عليه الصلاة والسلام عن شيء إلا وفيه ضرر، ولا يأمر بشيء إلا وفيه خير وبر، فإذا لم يجتنب العبد ما نهى

(1)

. برقم (3176).

ص: 322

عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم صار متناقضًا، كيف يشهد أنه رسول الله ولا يجتنب ما نهاه عنه، قال تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»

(1)

.

وهذا النهي درجات، فمنه ما جاء به الشرع على وجه الجزم، وهو النهي المحرم، ومنه ما هو على سبيل الكراهة ومنه ما هو على وجه الأولى تركه، ويمثل ذلك بالنهي عن أكل الثوم والبصل، ففي الحديث المخرج في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ، وَالثُّومَ، وَالْكُرَّاثَ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ»

(2)

. فإذا أكله على سبيل التهرب من صلاة الجماعة فهو محرم، وإذا أكله قبل الصلاة بقليل فهو مكروه خشية أن يكون سببًا في التأخر عن صلاة الجماعة، وإذا أكله في أي وقت غير وقت الصلاة فإن الأولى تركه خشية أن يؤذي الآخرين برائحته، أو أن تبقى رائحته إلى وقت الصلاة.

الرابعة: ألا يُعبد الله إلا بما شرع: فالعبادات توقيفية لا يجوز الإتيان بأي عبادة لم يشرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(1)

. صحيح البخاري برقم (7288)، وصحيح مسلم برقم (1337).

(2)

. صحيح البخاري برقم (855)، وصحيح مسلم برقم (564) واللفظ له.

ص: 323

«مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»

(1)

.

وروى مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم الجمعة: «فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّه، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ»

(2)

.

«ومثال البدعة: الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هذا السبب لم يشرع، ولم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة ولا القرون المفضلة، وإنما أحدثته الدولة العبيدية الرافضية لما حكمت مصر في القرن العاشر»

(3)

.

«ومن ابتدع شيئًا في الدين لم يأت به الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لم يشهد أنه رسول الله، ولم يشهد الشهادة الحقيقية؛ لأن الذي يشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقيد بما شرعه، ولا يحدث شيئًا من عنده، أو يتبع شيئًا محدثًا ممن سبقه»

(4)

.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(1)

. صحيح البخاري برقم (2697)، وصحيح مسلم برقم (1718).

(2)

. برقم (867).

(3)

. رسالة الإبداع في كمال الشرع وخطر الابتداع للشيخ ابن عثيمين رحمه الله ص (20 - 23).

(4)

. شرح الأصول الثلاثة للشيخ صالح الفوزان ص (178 - 186).

ص: 324