الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة الثامنة والأربعون
التشبه بالكفار
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد ..
فقد وردت الأدلة من الكتاب والسنة في النهي عن التشبه بالكفار، قال تعالى:{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)} [الجاثية]. «فأخبر سبحانه أنه أنعم على بني إسرائيل بنعم الدين والدنيا، وأنهم اختلفوا بعد مجيء العلم بغيًا من بعضهم على بعض، ثم جعل محمدًا صلى الله عليه وسلم على شريعة شرعها له وأمره باتباعها، ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، وقد دخل في الذين لا يعلمون كل من خالف شريعته، وأهواؤهم كل ما يهوونه وما هم عليه من الهدى الظاهر الذي هو من موجبات دينهم الباطل، وموافقتهم فيه اتباع لما يهوونه، ولهذا يفرح الكافرون بموافقة المسلمين لهم في بعض أمورهم، ويودون لو يبذلون مالًا عظيمًا لتحصيل ذلك، ولو فرض أن الفعل ليس من اتباع أهوائهم فمخالفتهم فيه أحسم لمتابعتهم في أهوائهم، وأعون على حصول مرضاة الله في تركها»
(1)
.
(1)
. مختصراقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (1/ 22) بتحقيق د. ناصر العقل بتصرف.
«ومنها قوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 149 - 150].
(1)
.
روى أبو داود في سننه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ»
(2)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وأقل أحواله يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم، كما في قوله تعالى:{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]، فقد يحمل هذا على
(1)
. مختصر اقتضاء الصراط المستقيم اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 23) بتحقيق د. ناصر العقل.
(2)
. برقم 4031، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: هذا إسناد جيد، كما حسنه الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري (6/ 98).
التشبه المطلق، فإنه يوجب الكفر، ويقتضي تحريم أبعاض ذلك، وقد يحمل على أنه صار منهم في القدر المشترك الذي شابههم فيه، فإن كان كفرًا أو معصية أو شعارًا للكفر أو للمعصية كان حكمه كذلك»
(1)
.
وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا ذِرَاعًا، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ» ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنْ؟ »
(2)
.
وروى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخُذَ أُمَّتِي بِأَخْذِ القُرُونِ قَبْلَهَا شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ» . فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَفَارِسِ وَالرُّومِ؟ فَقَالَ: «وَمَنِ النَّاسُ إِلَّا أُولَئِكَ»
(3)
.
(4)
.أهـ
(1)
. مختصر اقتضاء الصراط المستقيم ص (88 - 89) بتحقيق د. ناصر العقل.
(2)
. صحيح البخاري برقم (7320)، وصحيح مسلم برقم (2669).
(3)
. صحيح البخاري برقم 7319.
(4)
. مختصر اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بتحقيق: د. ناصر العقل ص 49.
وأما الإجماع، فمن ذلك أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وكذلك الصحابة والأئمة من بعده وسائر الفقهاء جعلوا في الشروط المشروطة على أهل الذمة من النصارى وغيرهم فيما شرطوه على أنفسهم: أن نوقر المسلمين، ونقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس، ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم، كسوة أو عمامة، أو نعلين
(1)
.. إلى آخر الشروط.
وروى الحافظ أبو الشيخ الأصفهاني في شروط أهل الذمة بإسناده: أن عمر رضي الله عنه كتب: أن لا تكاتبوا أهل الذمة، فيجري بينكم وبينهم المودة، ولا تُكْنوهم وأذلوهم ولا تظلموهم
(2)
.
ومن ذلك ما ورد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: «من بنى ببلاد الأعاجم، وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك، حشر معهم يوم القيامة»
(3)
. وغير
(1)
. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 363 - 365): رواه حرب [وهو الكرماني [بإسناد جيد، وقال محققه د. ناصر العقل: أخرج البيهقي أكثره مع اختلاف في السياق بسنده في السنن الكبرى، كتاب الجزية باب الإمام يكتب كتاب الصلح على الجزية (9/ 202). وانظر أحكام أهل الذمة لابن القيم ص 452 - 453، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضًا (1/ 365): وهذه الشروط أشهر شيء في كتب الفقه والعلم، وهي مجمع عليها في الجملة بين العلماء من الأئمة المتبوعين وأصحابهم وسائر الأئمة.
(2)
. نقلًا عن اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 367)، وانظر أحكام أهل الذمة لابن القيم رحمه الله ص 452 - 455.
(3)
. سنن البيهقي الكبرى (9/ 234)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وروي بإسناد صحيح عن أبي أسامة حدثنا عون عن أبي المغيرة عن عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما قال: من بنى ببلاد الأعاجم وصنع نيروزهم ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حُشر معهم يوم القيامة. اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 200).
ذلك من الآثار عن الصحابة ومن بعدهم.
(1)
.
بل إن التشبه في الظاهر دليل على التشبه باطنًا، قال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 118].
والحال شاهد على ذلك، فمن تزيا بزي أهل العلم
(1)
. مختصر اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. تحقيق د. ناصر العقل ص 220 - 221.
والصالحين وجد من نفسه قوة على الاقتداء بهم، والابتعاد عن خلاف ذلك، والعكس أن من تزيا بزي السفهاء وأهل الفسق، سهل على نفسه متابعتهم وتقليدهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وقد رأينا اليهود والنصارى الذين عاشروا المسلمين، هم أقل كفرًا من غيرهم، كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى هم أقل إيمانًا من غيرهم ممن جرد الإسلام»
(1)
.
والتشبه منهي عنه وإن لم يقصده فاعله، فعلى سبيل المثال: لو حلق لحيته ولم يقصد التشبه بالكفار، فإن فعله تشبه لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ أَحْفُوا الشَّوَارِبَ، وَأَوْفُوا اللِّحَى»
(2)
.
كما يحصل التشبه وإن لم يكن من عمل الإنسان، ويمثل ذلك بالتشبيب، قال صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ»
(3)
. فالتشبيب من فعل الله وخلقه لا من فعل العبد، ومع ذلك فتركه وعدم تغييره من التشبه المنهي عنه، فما بالك إذن بمن يختار ما عليه أهل الكفر والفسوق على ما عليه أهل الهدى والصلاح.
وحين جاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه بأبيه أبي قحافة يوم فتح مكة يحمله حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأى رأسه كأنها
(1)
. مختصر اقتضاء الصراط المستقيم، تحقيق: د. ناصر العقل ص 220.
(2)
. صحيح مسلم برقم (259).
(3)
. صحيح البخاري برقم (3462)، وصحيح مسلم برقم (2103).