الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوحدانية، مثلًا:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الأنبياء: 22)، {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} (المؤمنون: 91) هذه تُصاغ في أدلة تتكوَّن من مقدمات ونتائد؟
قضية البعث مثلًا، وإنكار البعث خطير يترتب عليه إنكار كلّ ما بعد البعث: إنكار الحشر، وإنكار الجنة والنار والحساب، والصراط والميزان والحوض، ما دام لا يُوجد بعث فلا يوجد ما بعد البعث، لذلك أيضًا اهتمَّ القرآن الكريم بهذه القضية، ولا توجد سورة تقريبًا -وخصوصًا السور المكية في مواجهة أهل مكة الذين ينكرون البعث- إلا وعنيت بهذه القضية، وأقامت عليها الأدلة.
كذلك قضية الاهتمام بالسنة، قضية وجوب الاحتجاج بالسنة، قضية وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وحينما أدخل إلى الآيات سأستعرض عددها لأبين صدق هذه المقولة من أنها قضية قرآنية.
إذن هي قضية قرآنية لاهتمام القرآن الكريم بها عبر عدد الآيات الكثيرة، أو من خلال الآيات الكثيرة التي تحدَّثت عن هذه المسألة، وأيضًا طريقة العرض؛ ما بين آيات تحذِّر من المخالفة، ما بين آيات تدعو إلى وجوب الطاعة، ما بين آيات تبيِّن جزاء المخالفين وجزاء المطيعين، وما بين آيات تعلّق الإيمان على وجوب طاعة النبي صلى الله عليه وسلم.
أدلة حجية السنة من القرآن الكريم
منهج القرآن في معالجة القضية وطريقة عرض القرآن الكريم طريقة عجيبة، تنخلع لها القلوب فعلًا حقيقة؛ لأن المسألة خطيرة فالقرآن الكريم اهتم بها جدًّا؛ من طريقة ذكر الآيات، ومن طريقة عرض الآيات.
مثلًا من الممكن أن أستدل بآية البقرة في آخرها: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} وأيضًا مثلًا في قول الله
-تبارك وتعالى قبل ذلك في سورة البقرة: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِين} (البقرة: 252){وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِين} تقتضي الإيمان برسالته واتباعه في كل ما يأمر به وينهى عنه، لكن قد يجادلني البعض: أنا مؤمن برسالته لكن الآية ليست قاطعة في وجوب اتباعه، سنغلق الباب أمام هذا النقاش العقيم بالتركيز على الآيات التي قطعت في وضوح وجلاء بما لا يدع مجالًا للبس والتوقف في إعلان الآيات صراحة عن وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
ولذلك سأبدأ بسورة النساء بعد أن وضحت طبيعة العلاقة أو منهج الاستدلال بالآيات يقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (النساء: 59) في الآية مجموعة من الدلالات التي تُبيّن وجوب اتباع السنة، وتحذّر من خطورة اجتنابها أو الابتعاد عنها، بل تعلق الإيمان على ذلك.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} هذا نداء بصفة الإيمان، وحين نستعرض القرآن الكريم نجد القرآن الكريم قد نادى بأوصاف متعددة، نادى الناس جميعًا:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُم} (البقرة: 21)، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (الأعراف: 158)، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} (الحج: 73) فالناس جميعًا مُرادون بهذا النداء، ونادى بني آدم:{يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} (الأعراف: 26){يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} (الأعراف: 27)، وقد تكرر النداء بـ "يا بني آدم" في القرآن الكريم خمس مرات:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} منها أربعة في سورة الأعراف، والخامسة في سورة يس، ونادى حتى الكفار:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} ، ونادى
الرسل: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} (المؤمنون: 51). ونادى نبينا صلى الله عليه وسلم في نداءات كثيرة {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} ، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} في مطلع سورة التحريم، وفي مطلع سورة الطلاق، وفي مطلع سورة الأحزاب، وفي آيات كثيرة:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} (المائدة: 41){يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (المائدة: 67) كل نداء من هذه النداءات مقصود، وحين يقول الله تبارك وتعالى:"يا أيها الذين آمنوا" فإن ما بعد هذا النداء هو من مطلوبات الإيمان.
وكأن الله تبارك وتعالى يقول لنا: لا تستحقون أن تُنادوا بهذا الوصف إلا بعد أن تُطبّقوا ما بعد النداء؛ لأنه من مطلوبات الإيمان، وكمثال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} (الحج: 77) من عناصر الإيمان الركوع والسجود، {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} ، ولو لم نفعل ذلك؛ لا نستحقُّ أن نُنادى بوصف الإيمان.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (آل عمران: 200){يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (الحجرات: 1){يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} (الحجرات: 2) إلى آخر هذه النداءات، فحين يقول الله تبارك وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (النساء: 59) إذن النداء بوصف الإيمان يقتضي وجوب العمل بما بعد النداء، وأنه من متطلبات الإيمان، وإلا لا نستحق أن ننادى بهذا الوصف، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} فطاعة الرسول واجبةٌ على المؤمنين بمقتضى هذا النداء وبدلالته، هذا وجه من وجوه الدلالة في الآية.
أيضًا، تكرار الفعل "أطيعوا" مع الله تبارك وتعالى ومع رسوله صلى الله عليه وسلم بينما لم
يذكر الفعل أطيعوا مع أولي الأمر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} يقول العلماء: تكرار الفعل أطيعوا هنا دلَّ على أن طاعة النبي صلى الله عليه وسلم مطلوبة تمامًا كطاعتنا لله تبارك وتعالى. هذه طاعة وتلك طاعة، أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، بينما طاعة أولي الأمر مرتبطة بطاعتهم لله تبارك وتعالى؛ لذلك لم يذكر الفعل معهم أطيعوا على وجه الاستقلال، هذه دلالة أخرى في الآية.
أيضًا، رغم أهمية هاتين الدلالتين إلا أن الآية عادت وعلَّقت الإيمان على ذلك، فقال الله تبارك وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ} علَّقت الإيمان على ردِّ التنازع إلى الله وإلى الرسول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} .
إذن، أيُّ أمر نختلف فيه حكمه إلى الله {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (الشورى: 10) وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم بمقتضى الآية، وتعليق الإيمان على ذلك يُبيّن أن الذي يُنازع في هذه المسألة ليس له حظّ في الإيمان.
ونلاحظ بلاغة القرآن الكريم: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} ما الفرق بين التعبيرين؟ واضح.
{إِلَى اللَّهِ} أي: إلى كتاب الله، وهذا من البدهيَّات، كيف سنردُّه إلى الله، وهذا فهم إجماع الأمة على ذلك: ردُّوه إلى الله أي: إلى كتاب الله تبارك وتعالى، وإلى الرسول لو قال: إلى محمد هؤلاء الناس الذين يجادلون في كل شيء ربما قال أو زعم قال: إن محمدًا قد مات، فانتهى الرَّدّ إليه بموته، لو كان التعبير فردُّوه إلى الله وإلى محمد، كيف نأتي بمحمد لنردَّ إليه الأمر، لكن بما أن رسالته باقية إلى يوم
القيامة من خلال القرآن ومن خلال السنة؛ فالرّدّ إليه باقٍ أيضًا إلى يوم القيامة، وبذلك نحن مُلزمون بمقتضى إيماننا أن نردَّ أي أمر نناقشه ونتنازع حوله ونختلف فيه إلى الله تبارك وتعالى أي: إلى القرآن الكريم، وإلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم سياق الآيات بعد ذلك سياقٌ عجيب، يبيِّن الموقف من التطبيق العملي لطوائف الناس، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} (النساء: 60) هؤلاء زعموا باختيارهم أنهم آمنوا بما أنزل إليك يا رسول الله -عليك الصلاة والسلام- وبما أنزل من قبلك أيضًا، هذا الإيمان أو هذا الزعم بمقتضى الآية السابقة يلزمهم بأن يردُّوا الأمر إلى الله تبارك وتعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم لا هم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، والحق أنهم قد أُمروا أن يكفروا به.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} الكفر بالطاغوت من ضرورات الإيمان، الطاغوت هنا مادة طغى فيها التجاوز والعدوان والاعتداء، وهو اسم لكل ما يمكن أن يتجه إليه من غير الله تبارك وتعالى؛ سواء في عبادة أو في تشريع، أو أي شيء، من ذلك.
لذلك مثلًا من مهمة الرسل أن يعلموا الناس الكفر بالطاغوت: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: 36) لا نعبد الله فقط؛ لأنه ممكن البعض يتصوّر لو لم تأتِ جملة "واجتنبوا الطاغوت" ربما يقول: أعبد الله وأعبد الطاغوت، فإغلاقًا لباب الفهم السقيم هذا نصَّت الآيات
على ضرورة الكفر بالطاغوت مع الإيمان بالله، وفي سورة البقرة قُدَّم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله لبيان ذلك، التخلية قدمت على التحلية؛ ليجتمع السياق كله، مرة تقدم التحلية، ومرة تقدم هذا.
{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} (البقرة: 256) إذن هذه هي مهمة الرسل الكفر بالطاغوت، هؤلاء رغم زعمهم بأنهم آمنوا بالله وبالرسول يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، والعقيدة الصحيحة مع الطاغوت هي الكفر به، {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} (النساء: 60) لو أحسنا الظن بهذه الطائفة، وبيّنّا موقفها هذا قد يكون عن سوء فهم، ليس عن عناد وجحود وإنكار، يعني: هم يتصورون مثلًا أن عدم استجابتهم للسنة، وأن إنكارهم لها لا يتعارض مع إيمانهم، ما موقفنا معهم أو منهم؟ سنحاول أن نفهمهم نقول لهم: هذا خطأ وخطر على إيمانكم، ويتعارض مع دلالات القرآن والسنة المطهرة.
وهذا هو الذي يعلمنا إيَّاه القرآن الكريم، قبل أن نتهمهم نُحاول أن نفهّمهم، أن نجلِّي لهم الحقائق، وهذا في قوله تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} (النساء: 61) إذن هم زعموا بأنهم آمنوا بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك، هذا الزعم يقتضي منهم أن يستجيبوا لما أمر الله تعالى به، ولما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بدل أن يستجيبوا نازعوا وجادلوا، يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، أحسنا النية نحوهم، وحاولنا أن نُفهمهم فإذا بهم لم يستجيبوا، ولذلك كان وصف القرآن لهم بالنفاق:{رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} هذا وصف الله تعالى لهم بعد أن أقيمت عليهم الحجة، ببيان الأدلة التي تحتّم ضرورة الاتباع، وفي نفس الوقت أيضًا
بإقامة الحجة عليهم في تصحيح الفهم لهم إن كان خطؤهم ناتجًا عن فهم خاطئ، لم نسارع إلى اتهامهم بادئ ذي بدء؛ إنما وضحنا لهم الحقائق جلية أولًا، هذه آية، والتناسق بين آيات القرآن الكريم والترابط بينها أمر يعرفه كل من عايش القرآن الكريم، ويعلمه لنا المفسرون، لماذا ذكر هذه الآيات بعد آية:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} ؟ وكأنها تبين موقفًا عمليًّا لما يجب أن يكون عليه المؤمنون بهذه الحقيقة؛ أنهم لا يتحاكمون إلى الطاغوت أبدًا، وإنما يتحاكمون إلى الله تبارك وتعالى وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل شأن من شئون حياتهم.
وتمضي الآيات في سورة النساء: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} (النساء: 64) هذه جملة ممكن أن نعتبرها خبرية، أو إنشائية جاءت في سياق خبري، يخبر الله تعالى، أو يأمر الله تعالى المؤمنين بأن يستجيبوا للرسول؛ بل يُبيّن الله لنا عز وجل أنها ليست قاعدة في شأن نبينا صلى الله عليه وسلم فحسب، بل هو منهج إلهي يقرّره الله تبارك وتعالى مع الرسل جميعًا، على أقوامهم أن يتبعوهم وأن يستجيبوا لهم.
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} ، إن الرسل لم يأتوا إلا لخير البشر، في كل شيء في تصحيح عقائدهم، في تصحيح أخلاقهم، في تصحيح سلوكهم، في تصحيح وتطهير أموالهم، في تصحيح علاقتهم الاجتماعية، الله عز وجل أرسل الرسل لهداية البشر، لإنقاذهم من الهلكة، وأي عاقل يفكر بطريقة صحيحة عليه أن يسير في الطريق الذي أراد الله فيه هدايته.
يسأل بعض الرجال عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما- عن فعل يفعله، لماذا فعلت هذا؟ إجابة رائعة تدل ليس على إيمان قوي متين فحسب، بل على فهم عميق، هذا
الرجل يفهم لماذا هو مؤمن؟ ولماذا يتبع النبي صلى الله عليه وسلم ويتبع القرآن، ويتبع أوامر الإسلام! يقول: لقد كنا ضُلالًا فهدانا الله بمحمد صلى الله عليه وسلم. نحن كلنا ضلالًا -يعني: أمر لا نُتهم به من قبل بعضنا حتى ننازع فيه، هذا وصف أطلقه القرآن الكريم على الناس قبل الإسلام، وامتنَّ الله عز وجل بنعمة النبي صلى الله عليه وسلم على الأمة، بهذا النبي العظيم الذي أخرجها من الظلمات إلى النور:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (آل عمران: 164) كنا ضلالًا فهدانا الله بمحمد صلى الله عليه وسلم فمثلما وجدناه يفعل نفعل، نحن هدانا الله به، طريقه هو طريق الهداية، وكل الطرق سواه هي طرق الضلالة والغواية والعياذ بالله، فأي عاقل رشيد يمشي في طريق الهداية، أو في طريق الغواية؟!.
هذا الرائع في إجابة عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما- أنه يعلمنا لماذا نحن مسلمون؟ ولماذا اخترنا الإسلام ونسير في طريق النبي صلى الله عليه وسلم؟ هو طريق النجاة من الهلكة، الفوز بالجنة هو طريق الخروج من الجهالة من الظلمات من الشرك من كل الموبقات، التي من الممكن أن تؤدي بالإنسان إلى الدرك الأسفل، والعياذ بالله.
{مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} هذه آية من أرجى آيات القرآن الكريم في العفو ورجاء الرحمة والمغفرة، إذن على البشر أن يفهموا أن الرسل لخيرهم ولسعادتهم في الدنيا والآخرة، فعليهم أن يؤمنوا بهم وأن يتبعوهم فهذه دلالة الآية.
أيضًا، في سورة النساء لا زلنا في سورة واحدة، وتركت البقرة وآل عمران؛ لأني التزمت بالآيات القاطعة في هذا حتى نغلق الباب أمام المجادلة التي لا فائدة من ورائها، يقول الله تبارك وتعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (النساء: 65)
هذه الآية خطيرة جدًّا، فيها قسم من الله تبارك وتعالى، وأسلوب القسم يتكوَّن من أربعة أركان: مُقْسِم ومُقْسَم به، ومُقْسَم عليه، وأداة قسم، المُقسم: هو الله تعالى، والمقسَم به أيضًا هو الله تبارك وتعالى، من وجوه الخطورة في الآية اتَّحد المقسم والمقسم به، وأيضًا هي من المرات القليلة التي أقسم الله تبارك وتعالى فيها بذاته بنفسه.
ما هي القضية المقسم عليها؟ {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} لا هنا نافية، بدلالة رفع الفعل المضارع بعدها بثبوت النون، وهو من الأفعال الخمسة، وهي لا تصلح من ناحية المعنى إلا أن تكون نافية، لا تصلح هنا أن تكون ناهية، عن أي: شيء ينهاهم، إنما هي نافية تنفي الإيمان.
{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} يا رسول الله في كل ما شجر بينهم، في كل شأن من شئون حياتهم، كما نرى التزمت ببيان الآيات وبيان دلالتها؛ لنستشعر خطورة المسألة.
{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} لم تتوقف الآية عند هذا الحد ولم تكتف بهذا القدر إنما انظر إلى الباقي {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} لا يجدوا في أنفسهم حرجًا، أي ضيقًا أو رفضًا أو إباء، أو تمنعًا مما قضيت ليس نفي الحرج فقط هو المطلوب، بل والتسليم والخضوع التام بحكم النبي صلى الله عليه وسلم.
بل إني أقول والله الذي يتذوق الإيمان يقبل على حكم النبي صلى الله عليه وسلم بسعادة بفرح بحمد لله على نعمة أن وفقه الله عز وجل إلى حسن الاتساء والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.
لماذا اشترط الله عز وجل علينا ضرورة الرضا بهذا الحكم؟ لا نجد في أنفسنا حرجًا، بل علينا أن نخضع له؟
هذا الاشتراط هو المتسق مع قضية الإيمان، هو الذي ينبغي أن يكون عليه المؤمن، ليس في الآية شرط شديد لا يستطيعه أحد، واضح جدُّا أن هذا هو ما يقتضيه الإيمان كيف؟ يعني لو سألنا سؤالًا متى يرفض الإنسان الحكم، حين يتصور أنه حكم جائر مثلًا، أو حكم ناقص، أو أن هناك حكمًا أفضل منه، هل يجوز شيء من هذه المعاني مع حكم الله تبارك وتعالى أو حكم النبي صلى الله عليه وسلم؛ أن نعتقد أن غيره أفضل، أو أنه يحتاج إلى تتمة؛ لنكمله من التشريعات الأخرى، أو ما شاكل ذلك؟ لا.
{ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} واضح جدًّا أن الإيمان المقنع يفرض على أتباعه أن يعتقدوا أن هذا الحكم هو أعدل الأحكام، وهو سيد الأحكام، ولذلك يخضعون له في حبّ ورضا، واستسلام، وقناعة بأن هذا الحكم خير الأحكام وسيد الأحكام وأعدل الأحكام وخير الأحكام إلى آخره.
في صحيح البخاري يقول الصحابي: "نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كنا نرى فيه خيرًا، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خير وأرشد" أصاب كبد الحقيقة، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خير وأرشد، آيات كثيرة ستأتي معنا؛ لكني أردت هنا أن أبين أن اشتراط الرضا وليس مجرد الاكتفاء بالحكم فقط؛ إنما هو ليس فيه تصعيب ولا مشقة على المسلمين، إنما هو كما قلت، هو الذي يلتقي مع حلاوة الإيمان، مع تذوق الإيمان، بل مع حمد الله على نعمة أنني وفقت إلى تطبيق هذا الحكم الشرعي الذي أصلًا شُرع لصالحي في ديني ودنياي. ولذلك كان من الإيمان الواضح الجلي أن يشترط هذا الشرط:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} .
وفي سورة النساء أيضًا يقول: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} (النساء: 66) لننظر التناسق بين الآيات {أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} (النساء: 66) يعني: لو فُرض أن الأوامر النبوية أو الأوامر الإلهية وصلت إلى حدّ أن نؤمر بقتل أنفسنا، أو أن نخرج من ديارنا نقول: سمعنا وأطعنا، {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} (النساء: 66 - 68) انظر إلى الجزاء الذي أعده الله إلى الفئة التي ارتقت في استجابتها إلى حد أنها لو كُلفت بأن تقتل نفسها، أو تخرج من ديارها؛ لقالت: سمعنا وأطعنا، ولذلك كان جزاؤها {وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} ، وليس هذا فحسب، بل ننظر إلى الآية بعدها:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} .
هذا إغراء من الله للمطيعين، أولًا لكي يطيعوا، ثم لكي يثبتوا على طريق الطاعة إلى أن يُرزقوا هذه الرفقة المباركة التي تعني العلوَّ في الدرجات في الآخرة، بعد أن كانت عالية في الدنيا بإذن الله تبارك وتعالى.
ولا زلنا مع سورة النساء أيضًا بعد ذلك بآيات في الربع الذي يلي هذا الربع: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} يخبر الله عز وجل أن طاعة الرسول هي طاعة لله تبارك وتعالى، ومن ثَمَّ فإن معصية الرسول صلى الله عليه وسلم هي معصية لله تعالى، ولا يستطيع زاعمٌ أبدًا مهما يعني جادل أو طاول أو ناقش أن يدَّعي أنه مؤمن بالله في الوقت الذي يجحد فيه سُنة النبي صلى الله عليه وسلم، أو يجحد فيه الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمكن أبدًا نزعم أننا مؤمنون بالله تبارك وتعالى في الوقت الذي نعاند أو نجحد فيه سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
سورة النساء كما نرى فيها آيات كثيرة، تركنا آية في سورة آل عمران نعود إليها لأنها واضحة في ذلك يعني هي من الآيات التي تقطع بضرورة اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ويعني أقدم لها فأقول: نحن لو سألنا أحدًا في الدنيا: هل تحب الله تبارك وتعالى؟ ستكون الإجابة بالقطع نعم، بل قد يُستنكر السؤال: وهل يوجد مؤمن لا يحب الله تعالى، لكن العلامة الفارقة بين المؤمن الحقيقي والمحبّ الدعي هي التي وضعها الله عز وجل، ونلاحظ هنا أن الذي وضعها هو الله تبارك وتعالى، لم يضعها النبي صلى الله عليه وسلم، لم نضعها نحن حتى لا يُقال: إننا نعطي النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يعطه الله تعالى له، أعوذ بالله من هذا الفهم!
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} (آل عمران: 31) ماذا تفعلون كتعبير عن حبكم لربكم؟ قل لهم يا محمد، قل للأمة جميعًا إلى يوم القيامة إن قلتم إنكم تحبون الله، فعلامة الحب هذه التي اشترطها الله عز وجل للمحبين له هي أن يُطيعوا نبيه صلى الله عليه وسلم، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
وننطلق مع سور القرآن الكريم وسنحاول أن نقف -كما قلنا- مع الآيات التي قطعت بضرورة اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، في سورة المائدة يتكلم الله عن الخمر:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (المائدة: 90، 91) هذه أحكام شرعية انظر إلى ما جاء بعدها: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} (المائدة: 92) ذكر هذه الآيات بعد هذه الأحكام الشرعية، ويقطع بأننا نطيعهم في كل أمر ونهي، حتى لو خالف أهواءنا، هب أن رجلًا يحب الخمر -والعياذ بالله- يستطيع أن يجادل:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} بعد الآيات وسياقها في التحذير الشديد: فهل أنتم منتهون؟ سؤال تحذيري خطير بعد أن بين مفاسدها كثيرًا يهمُّنا
هنا: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} قد أدَّى النبي صلى الله عليه وسلم ما عليه وبلغ في بيان وفي وضوح وفي جلاء أحكام الخمر وغير أحكام الخمر، كل ما كلفه الله تبارك وتعالى بيّنه ووضحه وجلّاه، وأشهد النبي صلى الله عليه وسلم الأمة على ذلك في خطبة الوداع:((اللهم قد بلغت، وإنكم ستسألون عن ذلك، هل بلغت؟ فيقولون: نشهد، فيرفع يديه إلى السماء ثم ينكت بها في الأرض: اللهم هل بلغت اللهم فاشهد))، {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} أي: فإن أعرضتم وجادلتم وتوقفتم، فإنما على رسولنا البلاغ المبين، وقد أدَّى ما عليه، وهي آية تتضمن التحذير، وتتضمن بيان النتيجة، فإن الذين يعاندون سيتحملون نتيجة هذه المعاناة.
أيضًا، في سورة الأنعام:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} (الأنعام: 153) هذا صراط الله المستقيم المتمثل في القرآن والسنة، الآية صريحة في الدلالة على القرآن والسنة، والنبي صلى الله عليه وسلم كتوضيح لفهم هذه الآية فيما رواه الحاكم وغيره جلس، ورسم لأصحابه على الأرض خطًّا مستقيمًا، ورسم خطوطًا فرعية تخرج من هذا الخط المستقيم على الأرض، وبيَّن لهم أن هذا الخط المستقيم إنما هو منهج الله، دين الله المتمثل في القرآن الكريم والسنة المطهرة، أو المستمد منهما، وأن هذه الخطوط الفرعية التي تخرج من هذا الخط الرئيس إنما على رأس كلٍّ منها شيطان، يحاول أن يبتعد بالإنسان عن السير على الطريق المستقيم، الذي هو كتاب الله تعالى، وسُنة النبي صلى الله عليه وسلم.
في سورة الأعراف الآيتان المتتاليتان وهما من أوضح الدلالات في حجية السنة، وضرورة اتباع النبي صلى الله عليه وسلم:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} (الأعراف: 157) يُبيّن لهم بعض مهمّات النبي صلى الله عليه وسلم في إسعاد هذه
الأمة، يأمرهم بكل ما هو خير ومعروف، وينهاهم عن كل منكر وقبيح يسبب لهم الأذى ويسبب لهم الفشل أو يسبب لهم الشر في دينهم أو في دنياهم، وينهاهم عن المنكر، {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} ، كل حلال طيب، وكل حرام خبيث، ولن تجد طيبًا أبدًا في الحرام، ولن تجد خبيثًا في الحلال، قواعد كلية أرساها القرآن الكريم:{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} جاء لرحمتنا، جاء لإنقاذنا من الهلكة، جاء لرفع الإصر، جاء لفكّ القيود والأغلال بحسن اتباعه؛ فيكون ذلك طريقًا إلى الجنة بإذن الله.
{فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} فقط {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} ، أولئك هم المفلحون جملة معرفة الطرفين، أولئك مبتدأ، وهو من أسماء الإشارة، وهو أحد أنواع المعارف، وهم ضمير فصل للتأكيد، والمفلحون خبر، والجملة المعرّفة الطرفين، جملة تفيد القصر هذا من أساليب القصر، يعني: الفلاح مقصور على هذه الطائفة التي آمنت به وعزرته -يعني: احترمته، ووقرته، وقدرته وأنزلته منزلته اللائقة به صلى الله عليه وسلم من خلال الأدلة الواردة في هذا؛ {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ} نصروه حيًّا، ونصروه ميتًا بنصرة سنته أيضًا؛ باتباعها، بالدعوة إليها، بالدفاع عنها، بالتمكين لها، بردّ الشبهات حولها.
{فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} هؤلاء فقط الذين نالوا الفلاح، والفلاح كما نعلم هو الفوز بالمطلوب، والنجاة من المرهوب، وهو نتيجة أو أمل أو رجاء يجب أن نسعى إليه جميعًا، نسأل الله عز وجل أن يرزقنا الجنة، وهي قمة ما نرجوه من فلاح، وأن ينجينا من النار وهي قمَّة ما يُخشى من المهالك، {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} (آل عمران: 185)، فهذا
هو الفوز الحقيقي الذي يسعى إليه كل مؤمن، وسبيله وهو الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم ونصرته، ونصرة دينه وسنته، واحترامه، وتوقيره، وتقديره، وإنزاله المنزلة اللائقة به من حسن الاتباع، والإيمان به، واتباع القرآن النور الذي أنزل معه.
والآية بعده {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ} (البقرة: 21) قل يا محمد للخلق جميعًا هنا، والنداء هنا للناس، لماذا؟ ليبين لهم أنه رسول إلى الخلق جميعًا، وهذه الآية من الآيات الدالة على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم في وضوح وقطع إلى كل البشر، من لدن بعثته صلى الله عليه وسلم وإلى يوم أن يرث الله الأرض ومن عليها، قل لهم يا محمد: علِّمهم أن عليهم أن يعلموا أنك رسول إليهم جميعًا، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} ما المطلوب منا؟ {فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ} (الأعراف: 158) اتبعوا هذا النبي الذي جاء إليكم جميعًا.
الفلاح في الآية السابقة كان مرتبطًا بالإيمان به ونصرته، ونصرة سنته واحترامه، واتباع النور الذي أنزل معه، وأيضًا هذه الآية تُعلّق الهداية جاءت بأسلوب الرجاء "لعلكم"، والرجاء من الله تبارك وتعالى محقق، إذا حُقق فينا ومنا ما علّق عليه هذا الرجاء، وقد علّق الله عز وجل في هذه الآية الهداية على حُسن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
والآيات مستمرة وننتقل إلى سورة الأنفال، وهي أيضًا من السور التي وردت بها آيات كثيرة تطلب طاعة الله تبارك وتعالى وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول
آياتها: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (الأنفال: 1) يعني: السورة في مطلع آياتها تحدِّد معالم أهل الإيمان اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، وأطيعوا الله ورسوله، وتُعلّق الآية الإيمان على ذلك {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ثم شَرَعت الآيات بعد ذلك في بيان صفات أخرى للمؤمنين، لكنها جعلت على رأس هذه الآيات:{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .
وتستمرّ آيات سورة الأنفال أيضًا يقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} (الأنفال: 20، 21).
وأيضًا الآية نادت بصفة الإيمان التي لها دلالتها التي أشرنا إليها، وكأننا لا نستحق أن ننادى بهذا الوصف إلا إذا أطعنا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.