المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أدلة ابن حزم وابن القيم وغيرهما على حفظ الله سبحانه للسنة - الدفاع عن السنة - جامعة المدينة (بكالوريوس)

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 معنى الشبهة، واستعمالاتها، وموقفنا تجاهها

- ‌أهمية السنة في الإسلام

- ‌تعريف الشبهة لغة واصطلاحًا، وبعض استعمالات القرآن والسنة لها

- ‌موقفنا من الشُبه وواجبنا نحوها

- ‌الدرس: 2 الاستشراق وموقفه من السنة المطهرة

- ‌تعريف الاستشراق والمستشرقين

- ‌ملامح منهج المستشرقين في دراسة الإسلام

- ‌الدرس: 3 علاقة السنة المطهرة بالقرآن الكريم

- ‌العلاقة بين القرآن الكريم والسنة المطهرة

- ‌محاور العلاقة بين القرآن الكريم والسنة النبوية

- ‌الدرس: 4 تابع علاقة القرآن الكريم بالسنة المطهرة

- ‌المحور الثالث من محاور العلاقة بين القرآن الكريم والسنة النبوية

- ‌نقاط حول علاقة السنة المطهرة بالقرآن الكريم

- ‌الدرس: 5 أدلة حجية السنة المطهرة (1)

- ‌معنى الحُجِّيَّة

- ‌أدلة حجية السنة من القرآن الكريم

- ‌الدرس: 6 أدلة حجية السنة المطهرة (2)

- ‌تتمة أدلة حجية السنة من القرآن الكريم

- ‌تحذير القرآن الكريم من مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الدرس: 7 أدلة حجية السنة المطهرة (3)

- ‌أدلة حجية السنة من الأحاديث النبوية الشريفة

- ‌من أدلة حجية السنة: دليل الإيمان

- ‌أدلة حجية السنة من خلال إجماع الأمة

- ‌الدرس: 8 أدلة حجية السنة المطهرة (4)، دفع الشبهات المثارة حول حجية السنة (1)

- ‌بقية الأدلة على حجية السنة

- ‌دفع شبه منكري حجية السنة

- ‌الدرس: 9 دفع الشبهات المثارة حول حجية السنة (2)

- ‌قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء}

- ‌قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}، {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا}

- ‌قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}

- ‌قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ…}، {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ}

- ‌قوله تعالى: {…إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا}

- ‌قوله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}

- ‌الدرس: 10 دفع الشبهات المثارة حول حجية السنة (3)

- ‌شبهة: أن الله سبحانه تكفّل بحفظ القرآن ولم يتكفَّل بحفظ السنة

- ‌أدلة ابن حزم وابن القيم وغيرهما على حفظ الله سبحانه للسنة

- ‌شبهة: عرض السنة على القرآن

- ‌الدرس: 11 دفع الشبهات المثارة حول حجية السنة المطهرة (4)

- ‌تقسيم الحديث باعتبار عدد الرواة

- ‌التواتر لغة واصطلاحًا

- ‌شروط الحديث المتواتر

- ‌الدرس: 12 دفع الشبهات المثارة حول حجية السنة المطهرة (5)

- ‌أقسام الحديث المتواتر

- ‌الدرجة التي يفيدها الحديث المتواتر من العلم

- ‌حديث الآحاد

- ‌الدرس: 13 دفع الشبهات المثارة حول حجية السنة المطهرة (6)

- ‌الشبه المثارة حول حجية خبر الواحد، والرد عليها

- ‌أدلة الإمام الشافعي على حجية خبر الواحد

- ‌الدرس: 14 دفع الشبهات المثارة حول حجية السنة المطهرة (7)

- ‌بقية الأدلة على حجية خبر الواحد عند الشافعي

- ‌الأدلة على حجية خبر الواحد من (صحيح البخاري) ومناقشتها

- ‌الدرس: 15 دفع الشبهات المثارة حول حجية السنة المطهرة (8)

- ‌شبهة: وضع الأحاديث في القرنين الأول والثاني نتيجة لتطور المسلمين

- ‌شبهة: استغلال الأمراء الأمويين والعباسيين علماء المسلمين لوضع ما يثبت ملكهم

- ‌الدرس: 16 بين المدرسة الحديثية والمدرسة العقلية

- ‌دفع ما أثير حول المدرسة الحديثية من شبهات

- ‌بيان خطأ المدرسة العقلية التي تُخضع النصَّ للعقل

- ‌ملامح المدرسة العقلية

- ‌الدرس: 17 حديث الذباب، ودفع ما أثير حوله من شبهات

- ‌تخريج الحديث، وبيان درجته

- ‌الرد على ما أثير حول الحديث من شبهات

- ‌الدرس: 18 حديث الإسراء والمعراج، ودفع ما أثير حوله من شبهات

- ‌تخريج الحديث، وبيان درجته

- ‌تفاصيل رحلة الإسراء والمعراج، وبيان ما حدث فيها من معجزات

- ‌الرد على ما أثير حول رحلة الإسراء والمعراج من شبهات

- ‌الدرس: 19 حديث فقء موسى عليه السلام لعين ملك الموت، ودفع ما أثير حوله من شبهات

- ‌تخريج الحديث، وبيان درجته

- ‌الرد على ما أثير حول الحديث من شبهات

- ‌ذكر ما تضمَّنه الحديث من فوائد عظيمة

- ‌الدرس: 20 حديث السحر، ودفع ما أثير حوله من شبهات

- ‌تخريج الحديث وبيان درجته، وشرح بعض معانيه

- ‌شرح حديث السحر

- ‌الرد على ما أثير حول حديث السحر من شبهات

- ‌الدرس: 21 تابع حديث السحر، ودفع ما أثير حوله من شبهات

- ‌ذكر ما تضمَّنه الحديث من فوائد عظيمة

- ‌قواعد كلية ينبغي للمسلم معرفتها أثناء دفاعه عن السنة

الفصل: ‌أدلة ابن حزم وابن القيم وغيرهما على حفظ الله سبحانه للسنة

ومن السنة المطهرة أيضًا أحاديث كثيرة، تبين أن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق إلا بوحي، وأوضح شيء في هذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد بسند صحيح من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله تعالى عنهما- حين كان يكتب كل شيء يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم فنهته قريشٌ عن ذلك، فرفع الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:((اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق)) يقسم النبي صلى الله عليه وسلم على أنه لم يخرج منه إلا حق؛ أي: إلا وحي من عند الله تبارك وتعالى-حق وصدق نزل به الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه)) المثل الذي أوتيه مع الكتاب هو السنة التي بينت القرآن الكريم.

كل هذه بإيجاز أدلة على أن السنة وحي، وما دامت وحيًّا وما دامت هي مبينة للقرآن الكريم فإذن لا بد أن تحفظ كما حفظ القرآن الكريم، ولذلك قلنا عن آيات سورة القيامة: إنها تدل دلالة قاطعة وصريحة في غير لبس على أن السنة محفوظة بحفظ الله تبارك وتعالى.

‌أدلة ابن حزم وابن القيم وغيرهما على حفظ الله سبحانه للسنة

الإمام ابن حزم رحمه الله تبارك وتعالى في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام) يضيف دليلًا قويًّا وعظيمًا، يقول -رحمه الله تعالى-: لمّا بينا أن القرآن هو الأصل المرجوعُ إليه في الشرائع، نظرنا فيه فوجدنا فيه إيجاب طاعة ما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجدناه عز وجل يقول فيه واصفًا لرسوله صلى الله عليه وسلم:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} فصحّ لنا بذلك أن الوحي ينقسم من الله عز وجل إلى رسوله صلى الله عليه وسلم على قسمين؛ أحدهما: وحيٌ متلو مؤلف تأليفًا معجز النظام وهو القرآن، والثاني: وحي مروي منقول غير مؤلّف ولا معجز النظام ولا متلو لكنه مقروء، وهو الخبر الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المبيّن عن الله عز وجل مراده منّا.

ص: 185

قال الله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ووجدناه تعالى قد أوجب طاعة هذا الثاني -يقصد السنة- كما أوجب طاعة القسم الأول الذي هو القرآن، ولا فرق، فقال تعالى:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (المائدة: 92) فكانت الأخبار التي ذكرنا أحد الأصول الثلاثة التي ألزمنا طاعتها في الآية الجامعة لجميع الشرائع؛ أولها عن آخرها، وهي قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ} (النساء: 59) فهذا أصلٌ وهو القرآن، ثم قال تعالى:{وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} فهذا ثان وهو الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال تعالى: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} فهذا ثالث وهو الإجماع المنقول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحّ لنا بنصّ القرآن أن الأخبار -أي: الأحاديث- هي أحد الأصلين المرجوع إليهما عند التنازع، قال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (النساء: 59).

والبرهان على أن المراد بهذا الرد إنما هو إلى القرآن وإلى الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الأمة مجمِعة على أن هذا الخطاب متوجّه إلينا، وإلى كل من يُخلق ويُركب روحه في جسده إلى يوم القيامة من الجِنة والناس، كتوجهه إلى من كان على عهده صلى الله عليه وسلم وكل من أتى بعده عليه السلام وقبلنا ولا فرقَ؛ يعني: الأمة كلها من أول النبي عليه الصلاة والسلام بعد الصحابة إلى يوم القيامة مخاطبة بهذه الأصول، عند التنازع رد الأمر إلى القرآن الكريم وإلى السنة المطهرة وإلى أولي الأمر، وقد علمنا علم ضرورة أنه لا سبيلَ لنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني: كيف سنرد الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن انتقل إلى الرفيق الأعلى؟ هذا معنى كلامه، لا بد أن يكون الأمر إلى سنته.

يقول: وحتى لو شغب مشغب بأن هذا الخطاب إنما هو متوجه إلى من يمكنه لقاء رسول صلى الله عليه وسلم لما أمكنه هذا الشغب في الله عز وجل إذ لا سبيل لأحد إلى مكالمته تعالى،

ص: 186

فبطَلَ هذا الظن، وصح أن المراد بالرد المذكور في الآية التي نصصنا، إنما هو إلى كلام الله تعالى وهو القرآن الكريم، وإلى كلام نبيه صلى الله عليه وسلم المنقول على مرور الدهر إلينا جيلًا بعد جيل، يعني: الرد في الآية: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} يستلزم بالضرورة الرد إلى القرآن وإلى السنة، لو شغب مشاغب وقال: الرد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حي، أي: فردوه إلى الرسول، فهل يمكنه أن يشاغب على هذا القول في الرد لله تعالى؟ يعني: فإذا فهمت هذا الفهم، فكيف تفهم الرد إلى الله تبارك وتعالى؟ هل يمكن لأحد منا أن يكلم الله تعالى ويسأله عن شيء؟ مستحيل، فإذن لزم بالضرورة الواضحة الجلية أن الرد إنما يكون إلى كتاب الله تبارك وتعالى وإلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم يواصل كلامه -رحمه الله تعالى- ويقول:

وأيضًا آية النساء المذكورة: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} ذكر للقاء، ولا مشافهة أصلًا، ولا دليل عليه وإنما فيه الأمر بالرد فقط، ومعلوم بالضرورة أن هذا الرد إنما هو تحكيم، وأوامر الله تعالى وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم موجودة عندنا، منقول كل ذلك إلينا، فهي التي جاء نص الآية بالرد إليها دون تكلف تأويل ولا مخالفة ظاهر.

ثم يواصل كلامه ويقول:

والقرآن والخبر الصحيح بعضهما مضافٌ إلى بعض، وهما شيء واحد في أنهما من عند الله تعالى، وحكمهما حكمٌ واحد في باب وجوب الطاعة لهما؛ لما قدمناه آنفًا في صَدْر هذا الباب، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} (الأنفال: 20، 21) فبين الله تعالى بهذه الآية أنه لم يرد منا الإقرارَ بالطاعة

ص: 187

لرسول الله صلى الله عليه وسلم بلا عملٍ بأوامره واجتناب نواهيه، وهذه صفة المقلّدين؛ فإنهم يقولون: طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبة، فإذا أتاهم أمر من أوامره يقرون بصحته، لم يصعب عليهم التولي عنه وهم يسمعون -نعوذ بالله من ذلك- وقال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9) وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} (الأنبياء: 45) فأخبر تعالى -كما قدمنا- أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم وحيٌ، والوحي ذكرٌ بلا خوف، يعني: من غير أن نخاف نقول: والوحي بلا خوف الذكر، والذكر محفوظ بنص القرآن الكريم، فحين يقول الله تبارك وتعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فبالضرورة الذكر هنا يشمل القرآن والسنة؛ لأن كليهما وحي من عند الله تبارك وتعالى والذكر -الذي هو القرآن والسنة- محفوظ بنص الله تعالى.

بعد هذه المقدمات الطويلة؛ من أننا أمرنا من أن نطبق القرآن والسنة، وأن نرد التنازع إلى الله وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأن هذا الرد لا يمكن إلا من خلال اللقاء والمشافهة، الآية لم تشترط ذلك، ويصعب بل يستحيل مخاطبة الله عز وجل ومن المعلوم أيضًا من المقدمات التي ذكرها أن الأمة كلها إلى يوم القيامة مطالبة برد الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع القرآن الكريم، هل نقول: إن هذه الآية المخاطب بها الصحابة فقط؟ وحتى لو قلنا هذا، هل الأمة لا تجب عليها العمل بالآية؟ وحتى لو قلت ذلك، هل يمكن مخاطبة الله تبارك وتعالى؟

إذن، كل هذه المقدمات تؤكد حتمًا أن الرد إنما هو إلى القرآن الكريم وإلى السنة المطهرة، وكلاهما وحيٌ من عند الله تبارك وتعالى والوحي ينذر به النبي صلى الله عليه وسلم كما قال القرآن:{قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} .

بعد هذه المقدمات يخلص ابن حزم -رحمه الله تعالى- إلى هذه النتيجة التي سقنا

ص: 188

هذا الكلام من أجلها يقول: فصح بذلك أن كلامه صلى الله عليه وسلم كله محفوظ بحفظ الله عز وجل مضمون لنا أنه لا يضيع منه شيء؛ إذ ما حفظ الله تعالى فهو باليقين لا سبيل إلى أن يضيع منه شيء، فهو منقول إلينا كله، فلله الحجة علينا أبدًا، وقال تعالى:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (الشورى: 10)، فوجدنا الله تعالى يردنا إلى كلام النبي صلى الله عليه وسلم على ما قدمنا آنفًا، فلم يسع مسلمًا يقر بالتوحيد أن يرجع عند التنازع إلى غير القرآن والخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أن يأتي عما وجد فيهما -أي: أن يبتعد ولعلها خطأ مطبعي- أو أن يبتعد عما وجد فيهما، فإن فعل ذلك بعد قيام الحجة عليه فهو فاسق، وأما من فعله -أي: ابتعد عن القرآن والسنة- مستحلًّا للخروج عن أمرهما وموجبًا لطاعة أحد دونهما؛ فهو كافر لا شك عندنا في ذلك.

على كل حال، مهما يكن الحكم فالمراد من نقل كلام ابن حزم بكل هذه المقدمات التي أشار إليها وهي واضحة جلية: أن السنة النبوية محفوظة بحفظ الله تبارك وتعالى وقد أقام الله الحجة علينا بحفظ القرآن والسنة، فلله الحجة علينا أبدًا، ومن ثم لا يسع مسلمًا أبدًا يقر بالتوحيد أن يرجع عند التنازع إلى غير الله تبارك وتعالى وإلى غير الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن فعل ذلك بعد قيام الحجة عليه فهو فاسق إن لم يستحل ذلك، وأما من فعله مستحلًّا فهو كافر لمصادمته للقرآن الكريم.

هذا كلام ابن حزم رحمه الله تبارك وتعالى عن حفظ السنة، وأن هذا أمر واضح وجلي ولا ينازع في ذلك منازع، ثم أردفه بالحكم على مَن يعاند في ذلك إما جحودًا وإما استبعادًا.

الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- يضيف أيضًا أدلةً من كلام الله تبارك وتعالى-

ص: 189

في القرآن الكريم على تكفله سبحانه وتعالى جل جلاله بحفظ السنة، وذلك في مثل قوله تبارك وتعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة: 3)، وقال تعالى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (آل عمران: 85)، وقال تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} يقول ابن قيم الجوزية -رحمه الله تعالى-: فنقول لمن جوّز أن يكون ما أمر الله به نبيه صلى الله عليه وسلم من بيان شرائع الإسلام غير محفوظ، وأنه يجوز فيه التبديل، وأن يختلط بالكذب الموضوع اختلاطًا لا يتميز أبدًا: أخبرونا عن إكمال الله تعالى لنا لديننا، ورضاه الإسلام لنا ديننا، ومنعه من قبول كل دين سوى الإسلام؟ أكل ذلك باقٍ علينا ولنا إلى يوم القيامة؟ أم أن ذلك كان للصحابة فقط أو لا للصحابة ولا لنا؟ هذه آيات تبين أن الله عز وجل اختار لنا الإسلام دينًا، ويمنُّ علينا بنعمة كماله وتمامه -جل في علاه- وأنه صلى الله عليه وسلم أوكل إلى نبيه صلى الله عليه وسلم مهمة بيان الإسلام.

فهل ما بين به النبي صلى الله عليه وسلم من شرائع الإسلام غير محفوظ؟ وهل يجوز فيه التغيير والتبديل؟ وهل يجوز أن يختلط بالكذب الموضوع اختلاطًا لا يتميز أبدًا؟ كيف نقول بذلك؟! وكيف نفهم أن الله أكمل لنا ديننا ورضي الإسلام دينًا ولن يقبل منا أي دين سوى الإسلام؟! هل الاحتمالات العقلية أو التقسيمات العقلية البدهية التي لا تحتمل غير ذلك، هل كل هذا الأمر لن يقبل غير الإسلام وهو الذي ارتضاه لنا وأكمله وأتمه، هذا الأمر باقٍ علينا إلى يوم القيامة أو هو للصحابة فقط أو ليس لنا ولا لهم؟ هل هناك تقسيم عقلي غير هذا؟ أبدًا لا يوجد تقسيم عقلي غير هذا.

فإن قالوا: لا للصحابة ولا لنا -كلام ابن القيم رحمه الله تعالى- كان قائل هذا القول كافرًا لتكذيبه الله جهارًا، وهذا لا يقوله مسلم، وإن قالوا: بل كل ذلك

ص: 190

لنا وعلينا وإلى يوم القيامة، صاروا إلى قولنا ضرورة، وصح أن شرائع الإسلام كلها كاملة، والنعمة بذلك علينا تامة، وهذا برهان ضروري وقاطع على أن كل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين وفي بيان ما يلزمنا محفوظ، لا يختلط به ما ليس منه أبدًا.

وإن قالوا: بل كان ذلك للصحابة فقط، قالوا: الباطل، وخصصوا خطاب الله بدعوى كاذبة؛ إذ خطابه بالآيات الكريمة التي أشرنا إليه -يقصد:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (آل عمران: 85){إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (آل عمران: 19) إلى آخره- عموم لكل مسلم في الأبد، ولزمهم مع هذه العظيمة -أي: وهي اقتصار الأمر على الصحابة فقط- أن دين الإسلام غير كامل عندنا نحن الأجيال المتأخرة عن الصحابة، فكأن الله أكمل الدين للصحابة فقط ولم يكمله لنا، والله تعالى رضي لنا ما لم يحفظه علينا، وألزمنا منه ما لا ندري منه أين نجده.

إذن سنجد فيها كلام الوضاعين، لا هو حفظ كلام النبي صلى الله عليه وسلم الذي قاله ولا منع منه كلام الوضّاعين الذين زادوا فيه وحرّفوا فيه، فافترض علينا اتباع ما كذبه الزنادقة ووضعوه على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم أو وهم فيه الواهمون ممن لم يقله نبيهم صلى الله عليه وسلم وهذا بيقين ليس هو دين الإسلام، بل هو دين إبطال لدين الإسلام جهارًا، ولو كان هذا -ومعاذ الله أن يكون- لكان ديننا كدين اليهود والنصارى، الذين أخبر الله تعالى عنهم أنهم كتبوا الكتاب بأيديهم، وقالوا: هذا من عند الله، وما هو من عند الله، ونحن قد أيقنا بأن الله تعالى هو الصادق في قوله:{فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: 213) وأنه تعالى قد هدانا للحق، فصح يقينًا أن كل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم هدانا الله تعالى له، وأنه حق مقطوع به،

ص: 191

حفظه الله تعالى وقد قال تعالى: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} (فاطر: 43) وقال تعالى: {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} (يونس: 64) فلو جاز أن يكون ما نقله الثقات -الذين افترض الله علينا قبول نقلهم والعمل به والقول بأنه سنة الله وبيان نبيه- يمكن في شيء منه التحويل أو التبديل؛ لكان إخبار الله تعالى بأنه لا يوجد لها تبديل ولا تحويل كذبًا، وهذا لا يجيزه مسلم أصلًا، فصح يقينًا لا شك فيه: أن كل سنة سنها الله عز وجل ورسوله، وسنها رسوله صلى الله عليه وسلم لأمته لا يمكن في شيء منها تبديل ولا تحويل أبدًا، وهذا يوجب أن نقل الثقات في الدين يُوجب العلم بأنه حق كما هو من عند الله سبحانه وتعالى.

انتهى كلام ابن القيم رحمه الله تعالى.

أيضًا من الأدلة على ذلك، يقول الشيخ عبد الغني عبد الخالق -رحمه الله تعالى- في كتابه القيم (حُجية السنة): كما يثيرها أصحاب الشبهة أن الله تبارك وتعالى تكفل بحفظ القرآن دون السنة على زعمهم كما يدل عليه قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ولو كانت السنة حجة ودليلًا مثل القرآن، لتكفل الله بحفظها، والجواب، يقول رحمه الله: أن الله تعالى قد تكفل بحفظ الشريعة كلها؛ كتابها وسنتها، كما يدل عليه قوله تعالى:{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (التوبة: 32) ونور الله شرعه ودينُه الذي ارتضاه لعباده، وكلّفهم به، وضمنه مصالحهم، والذي أوحاه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من قرآن أو غيره؛ ليهتدوا به إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة.

وبعد أن بيّن مرجع الضمير في قوله تبارك وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} على الوجه الذي أشرنا إليه عاد وقال رحمه الله: ولقد حفظها

ص: 192

الله تعالى كما حفظ القرآن الكريم، فلم يذهب منها ولله الحمد شيء على الأمة، وإن لم يستوعبها كل فرد على حدة، ينقل عن الشافعي في (الرسالة) -رحمه الله تعالى- يقول في صدد الكلام على (لسان العرب): ولسان العرب أوسع الألسنة مذهبًا، وأكثرها ألفاظًا ولا نعلم يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي، ولكنه لا يذهب منه شيء على عامتها، حتى لا يكون موجودًا فيها من يعرفه، والعلم به عند العرب كالعلم بالسنة عند أهل الفقه؛ لا نعلم رجلًا جمع السنن فلم يذهب منها على شيء فإذا جمع علم عامة أهل العلم بها أتى على السنن، وإذا فرق علم كل واحد منها ذهب على شيء منها، ثم ما كان ذهب عليه منها موجودًا عند غيره

إلى آخر ما قال.

وخلاصة القول: أن العلماء يجمعون من خلال الآيات المتعددة التي ذكرت على أن الله تبارك وتعالى قد حفظ القرآن الكريم وحفظ السنة المطهرة، وهذا أمر حتمي.

من الأدلة من السنة على أن الله عز وجل حفظ السنة الحديث الذي أشرنا إليه أيضًا وخرجناه: ((أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن كان عبدًا حبشيًّا تأمر عليكم، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)) إلى آخره: ((وتركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي)) هذا ورد عند الحاكم وغيره، كلها أدلة على حفظ السنة.

حين يأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأن نتبع السنة وأن نعض عليها بالنواجذ، فهل يأمرنا باتباع شيء غير محفوظ؟ كلا وحاشا! هذا الذي يقول ذلك إنما يفتري على الله الكذب،

ص: 193

ويزعم ما لا دليلَ له عليه؛ إذ كيف يطلب منا النبي صلى الله عليه وسلم أن نتمسك بالسنة وأن نعض عليها بالنواجذ في الوقت الذي لم تحفظ فيه، وهي عرضة للتغيير أو للتبديل أو للزيادة أو النقصان إلى آخره؟!.

هذا دليل من السنة أيضًا ونضم إليه كل الأدلة التي تطلب منا اتباع السنة، كيف يأمرنا باتباع ما لم يحفظ؟ وكيف يستقيم هذا الأمر مع شيء غير محفوظ؟

كما قلنا مرارًا: المناقشة في البدهيات مضيعة للوقت والجهد، لكن الأمر لأنه دين ولأنه دفاع عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم فنحن نتوقف مع هذه الأفهام التي لم توفق إلى الفهم الصحيح لكتاب الله تبارك وتعالى ولسنة النبي صلى الله عليه وسلم لما النبي عليه الصلاة والسلام يقول:((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)) من أطاع النبي صلى الله عليه وسلم دخل الجنة يطيعه في شيء غير محفوظ، ويعلق النبي صلى الله عليه وسلم الجنة والنار على ذلك؟ إلا إذا كان الله تبارك وتعالى قد حفظها كما حفظ القرآن الكريم.

نختم هذه النقطة بالإشارة إلى مسألة مهمة، وهي أيَضًا تتضمن دليلًا على حفظ السنة المطهرة، وهو تتبع جهد الأمة في صيانة السنة، نستطيع أن نسميه بالدليل التاريخي أو الدليل الواقعي، تتبع جهد الأمة في الحفاظ على السنة، البعض يتصور أن تعرض السنة للوضع وللشبهات ولإثارة البلبلة نحوها دليلٌ على أنها لم تحفظ، بالعكس، هذا من أقوى الأدلة على حفظها. يعني: حاولوا ولم يتمكنوا، من الذي قال: إن العصمة للسنة أو الحفظ لها يقتضي ألا تتعرض أبدًا لأي محاولات للنيل منها؟ بل كيف تظهر قيمة الحفظ وقيمة الرعاية والعناية من الله تبارك وتعالى لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما لم تتعرض السنة لمحاولات؟

كمثال توضيحي يقرب المسألة إلى الأذهان، حين قال الله تبارك وتعالى:

ص: 194

{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة: 67) هل عصمة الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وحفظه له صلى الله عليه وسلم من الناس تعني أنه لا يتعرض لمحاولاتِ الإيذاء؟ هل قال أحد بذلك؟ أبدًا، بل إن قيمة حفظ الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم لا تظهر إلا من خلال محاولات الإيذاء، ثم ترد هذه المحاولات على أعقابها، تعرض للإيذاء طوال الفترة المكية، وتعرض للإيذاء في المدينة المنورة في غزوة أُحد، وتعرض في سنة 7 في خيبر، لمّا المرأة اليهودية وضعت السم في الشاة، والشاة قد نطقت أن بها سمًّا والنبي صلى الله عليه وسلم أن يأكل منها بعد أن كان قد مضغ بعَضًا منها، هذه العصمة يدبرون ويكيدون، والله يحبط مكرهم وكيده، م ويرده إلى نحورهم، هنا تظهر قيمة الحفظ والعناية والرعاية.

كذلك السنة تعرضت، وهذا التعرض هو الذي ضاعف من همة العلماء، وشحذ من قواهم لكي يتصدوا لهذه الموجات التي تحاول النيل من السنة، بل إني أقول: أن السنة ستظل إلى يوم القيامة الخط الأول للدفاع عن الإسلام، وهي أيضًا محط الهجوم الأول لأعداء الإسلام؛ لأن الكل يعلم أن الإسلام قرآن وسنة، وأننا لا نفهم القرآن إلا في ضَوْء السنة، وكررنا: من أن السنة تبين القرآن الكريم، وتشرع مع القرآن الكريم، والقاصي والداني يعرف هذه الحقيقة، إذًا سنظل نهاجم السنة؛ لأن الهجوم عليها يعني الهجوم على القرآن، والهجوم عليهما يعني الهجوم على الإسلام، الإسلام في نهاية الأمر قرآن وسنة.

ولذلك تحتاج السنة في كل زمان ومكان وفي كل عصر ومصر إلى طائفة من أهل العلم يدرسونها بروح الجندية، وهم يعلمون أنهم على ثغر من ثغور الإسلام، يحاول الأعداء أن يتسللوا إلى الإسلام من قِبله، لكنهم يجدون هؤلاء الجنود المرابطين المدافعين المنافحين الذابين عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا كان الأمر من لدن الصحابة رضي الله عنهم ومرورًا بالعصور الذهبية للسنة، وسيظل هذا الأمر إلى يوم القيامة بإذن الله تبارك وتعالى.

ص: 195