الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفيد رفع يديه أثناء الدعاء؛ لكنها جاءت في وقائع مختلفة ومناسبات متعددة، كل قضية منها أو واقعة منها على حدة لم تبلغ حد التواتر؛ لكنّ القدر المشترك بينها وهو رفع اليدين في الدعاء قد ورد فيها جميعًا؛ كأن يروى عنه مثلًا في الحرب دعا فرفع يديه، في صلاة الاستسقاء رفع يديه
…
القدر المشترك بين هذه الروايات جميعًا هو رفع الدعاء؛ فوصل الأمر بذلك إلى تواتر المعنى باعتبار مجموع الروايات المتعددة في ذلك، هذا أمر قاله الكتاني في (نظم المتناثر) وهو معروف، وقاله السيوطي في (الأزهار المتناثرة) إلخ، وقاله غيرهم في التفريق بين تعدد الواقعة وبين تواتر اللفظ، كلاهما قسم خاص؛ هذا تواتر معنوي، وهذا تواتر لفظي.
الدرجة التي يفيدها الحديث المتواتر من العلم
الدرجة التي يفيدها الخبر المتواتر من العلم:
حصول العلم في النفس له طرق متعددة: هناك علم وُلدنا به "علم فطري": مثلًا أن الله عز وجل ركز معرفتنا به في فطرنا؛ فقال سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} (الأعراف: 172) هذا أمر ولدنا به، هناك أمر نراه بالمشاهدة يتحقق به العلم القطعي اليقيني: السماء فوقنا والأرض تحتنا، هناك علم يتحقق بالبداهة: الواحد نصف الاثنين، والاستدلال عليه يكون صعبًا، والاستدلال على البدهيات يزيدها تعقيدًا:
وليس يصح في الأذهان شيء
…
إذا احتاج النهار إلى دليل
فما الدرجة التي يفيدها الخبر المتواتر من العلم؟
هل أقطع مثلًا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال هذا الحديث، أو يغلب على ظني أنه قد قاله؟
ذهب الجمهور من المحدثين والأصوليين إلى أن الحديث المتواتر يفيد العلم اليقيني
القطعي، يعني: مقطوع ومتيقن بصدق نسبته للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا مجال للشك أو الإنكار في ذلك، ولا يحتاج -بعد ثبوت تواتره- إلى أدلة أو براهين؛ فمتى ثبت التواتر أفاد العلم اليقيني المقطوع به لدى سامعه، كما يُقطع أيضًا بصدق نسبته إلى قائله
…
إن كان الخبر منقولًا عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن غيره ما دامت قد توافرت شروط التواتر؛ فأصبح الخبر يقينيًّا، ولا نحتاج بعد ثبوت التواتر إلى أدلة أخرى لكي نطمئن إليه أو لكي نتيقن وقوعه.
هناك أناسٌ جادلوا في هذا، منهم: الكعبي، وأبو الحسن من المعتزلة، ومنهم: إمام الحرمين، والغزالي من أهل السنة، يعني: قال بأن الخبر المتواتر يفيد العلم النظري وليس القطعي اليقيني.
الفرق بين العلم القطعي اليقيني، والعلم القطعي النظري من زوايا:
منها مثلًا: أن العلم اليقيني الضروري الذي يفيده الخبر المتواتر يستقر في النفس مثل البدهيات؛ فلا يمكن دفعه عن النفس، كما أنه لا يحتاج -كما ذكرنا مرارًا- إلى أدلة تثبته أو إلى براهين تؤكده، ولا يحتمل الخلاف حوله كمثل الخلاف الذي يجري في النظريات.
أما العلم النظري؛ فإنه يحتاج إلى براهين ويتوصل إلى نتائج بمقدمات.
كمثال لهذا العلم النظري -وهو أيضًا يصل إلى نتيجة قطعية؛ لكن بعد نظر واستدلال-: نظريات الهندسة: حين يقولون مثلًا: إن المثلث المتساوي الأضلاع متساوي الزوايا، هذه نظرية هندسية، هي إلى الآن مجرد افتراض، علينا أن نثبته؛ لن نتوصل إلى القطع بها كنتيجة علمية مؤكدة إلا بعد أن نستدل عليها؛ فمثلًا يعلموننا في الهندسة أن نقول: أن الفرض هو كذا، الفرض هو رأس
النظرية: المثلث المتساوي الأضلاع متساوي الزوايا، المطلوب: إثبات هذا الفرض، البرهان: بما أن
…
وبما أن
…
وبما أن
…
إذن النتيجة: هي أن المثلث المتساوي الأضلاع متساوي الزوايا أو المثلث المتساوي الزوايا متساوي الأضلاع، وصلنا إلى هذه النتيجة وأصبحت معلومة يقينيًّا مقطوعًا بها بعد أن استدللنا عليها، هذا هو العلم النظري القطعي.
كلمة "نظري" بمعنى: أنه جاء بناء على استدلال ونظر، و"قطعي" بمعنى: أنه وصلنا إليه كنتيجة مقطوع بها يعني: حتميّة
…
الخبر المتواتر لا يحتاج إلى نظر واستدلال، هو بمجرد ثبوت التواتر يفيد القطع واليقين، ونسبة الخبر إلى قائله نسبة يقينية مقطوع بها؛ خلافًا لما ذكرناه من الكعبي وأبو الحسن من المعتزلة وإمام الحرمين والغزالي الذين يقولون: إن إفادة الخبر المتواتر للعلم هي إفادة نظرية.
وأيضًا، من الفروق بين العلم الضروري والعلم النظري: أن العلم الضروري يقع لكل سامع به -سواء كان عالمًا أو ليس من أهل العلم- يقع القطع به، أما العلم النظري؛ فلا يقع القطع به إلا لمن هو عنده أهلية النظر، ولمن هو يدرك هذا التخصص، وهذا الفهم، مثلًا المثال الذي ضربناه: المثلث المتساوي الزوايا متساوي الأضلاع؛ الرجل العادي لا يشتغل بها، ولا يهتم بها إلا المتخصصون في العلوم الهندسية ويأخذون هذه النظرية بعد تأكيدها لتطبيقها في أمور علمية متعددة ينتفعون بها في حياتهم.
وهناك من ينكر إفادة المتواتر للعلم لا نظري ولا قطعي، وهؤلاء لا يستحقون عناء الرد عليهم أصلًا؛ لأنه مخالف للبدهيات، وأجدر الآراء بالقبول -وهو الحق لا جدال في ذلك- هو رأي الجمهور الذي يؤكد أنه: متى توافر الخبر أصبح
العلم به علمًا ضروريًّا، يعني: توفر في قلوبنا وفي يقيننا بعد أن تواتر الخبر؛ لكنه بعد ذلك لا يحتاج إلى نظر واستدلال.
هذا -على كل حال- هو الدرجة التي يفيدها الخبر المتواتر من العلم، وإذا طبقنا ذلك على الحديث النبوي: يفيدنا أنه متى ثبت تواتر الحديث فقد تيقَّنَّا بالضرورة بصدق نسبته للنبي صلى الله عليه وسلم، وأصبح الإيمان بذلك إيمانًا حتميًّا لا يستطيع أحدٌ بعد أن يثبت تواتر الحديث أن يتكلم في صدق نسبته للنبي صلى الله عليه وسلم بعكس ما يتكلمون به في شأن الخبر الآحاد.
ولذلك ترتب على ذلك كلام العلماء في قضية أخرى وهي: ما حكم منكره وجاحده؟
ما دمنا قد قطعنا بأنه يفيد العلم اليقيني القطعي الضروري، ولا يحتاج بعد ثبوت التواتر إلى أدلة وقطعنا بصحة نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه النسبة المقطوع بها قد تحققت بكثرة الطرق المعتبرة المؤكدة لذلك؛ فأصبح الخبر المتواتر قطعي الثبوت. رتبوا على ذلك مسألة وهي أن منكره وجاحده كافر؛ لأنه ما دامت نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقطوعًا بها؛ فإن جاحده مكذب للرسول صلى الله عليه وسلم وهذا بلا جدال يخرج صاحبه من الإيمان.
يقول فضيلة الدكتور أديب صالح عن حكم الحديث المتواتر: ولقد قرر العلماء أن المتواتر يفيد العلم اليقيني الذي لا مجال فيه للتكذيب ويكفر جاحده؛ لأنه قطعي الثبوت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاحده مكذّب للرسول، وشأنه في إفادة العلم شأن ما يفيده الحس بالمشاهدة وغيرها.
يريد أن يقول في مسألة إفادة العلم: كما نرى بأدوات الحس، يعني: كما أرى
بعيني الشيء وكما أسمع بأذني وأتيقن يقينًا جازمًا لا شبهة فيه؛ فكذلك إذا ثبت تواتر الخبر فقد أفاد درجة العلم التي تفيدها المشاهدة.
وهكذا نرى أن المتواتر لا يحتاج إلى شيء من البحث والنظر، كما نعلم مثلًا وجود عمر وعلي في الصدر الأول، وكما نعلم وجود دمشق وبغداد وقرطبة من غير حاجة إلى البحث والتأمل.
إذن الخبر المتواتر يفيد العلم القطعي، وبالنسبة للحديث فإن نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقطوع بها.
الحديث المتواتر جرى نقاش بين العلماء؛ هل هو موجود بكثرة في السنة؟
ابن الصلاح يقول: من تطلب المتواتر عز وجوده، لعله يقصد المتواتر اللفظي بنصه؛ لكنّ المتواتر كثير جدًّا في الأحاديث.
وابن حجر -رحمه الله تعالى- يرد على كلام ابن الصلاح في ادعاء العزة في وجود الخبر المتواتر يقول:
وما ادعاه من العزة ممنوع، وكذا ما ادعاه غيره من العدم؛ لأن ذلك نشأ عن قلة الاطلاع على كثرة الطرق وأحوال الرجال وصفاتهم المقتضية لإبعاد العادة أن يتواطئوا على الكذب أو يحصل منهم اتفاق على ذلك. ومن أحسن ما يقرر به كون المتواتر موجودًا وجود كثرة من الأحاديث: أن الكتب المشهورة المتداولة بأيدي أهل العلم شرقًا وغربًا المقطوع عندهم بصحة نسبتها إلى مصنفيها إذا اجتمعت على إخراج حديث وتعددت طرقه تعددًا تحيل العادة تواطؤهم على الكذب -إلى آخر الشروط- أفاد العلم اليقيني، ومثل ذلك في الكتب المشهور كثير.
وأيضًا السيوطي ينقل كلام ابن الحجر السابق في (التدريب) ويؤكده ويعقّب عليه بأنه ألف في الأحاديث المتواتر كتابًا، ثم اختصره في كتاب آخر، هذا كله يدل على أن المتواتر موجود، وأنه قد أُلِّفت فيه الكتب.
من الفوائد أيضًا المتعلقة بالحديث المتواتر أن نقول: إنهم حين يذكرون كلمة "المتواتر" هكذا مطلقة؛ فإنما يقصدون المتواتر اللفظي.
أيضًا، من المسائل الهامة: حين نقول بوجود المتواتر في السنة بكثرة؛ فليس معنى ذلك أن الأغلب في السنة هو الخبر المتواتر؛ وإنما الأغلب هو الآحاد، وهذا لا يقلل من شأن الآحاد ولا يزيد في المتواتر. إذن الحديث المتواتر موجود؛ لكنّ الأغلبية في السنة للحديث الآحاد.
المؤلفات كثيرة في الحديث المتواتر، منها كتاب (قطف الأزهار) و (الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة) و (الفوائد المتكاثرة في الأخبار المتواترة) وكلها للسيوطي، وهناك من جعلهما كتابين فقط وليست ثلاثة كتب، و (البرهان) للزركشي، ألف قبل السيوطي كتابًا في الأحاديث المتواترة أشار إليه السخاوي في (فتح المغيث)، وهناك (نظم المتناثر من أحاديث المتواتر) تأليف أبي الفيض جعفر الحسن الشهير بالكتاني، وهناك (اللآلئ المتناثرة في الأحاديث المتواترة) لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن محمد بن علي بن طولون الحنفي الدمشقي الصالحي، وهناك (لقط اللآلئ المتناثرة في الأحاديث المتواترة) لأبي الفيض محمد مرتضى الحسيني الزبيدي المصري.
وهناك كتب كثيرة، ومعظم هذه الكتب مطبوع بفضل الله عز وجل ومعظمها أيضًا في جزء واحد لا يصعب طلبه من المكتبات، ولا يصعب الوقوف عليه مما لا نطيل بذكر التفصيلات حول هذه الكتب كثيرًا، ذكرناها للفائدة.
هناك أحاديث متواترة كثيرة: من أمثلتها: حديث: ((من كذب عليّ متعمدًا؛ فليتبوأ مقعده من النار)) ابن الصلاح في مقدمته رحمه الله قال: نقله من