الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس العاشر
(دفع الشبهات المثارة حول حُجية السنة (3))
شبهة: أن الله سبحانه تكفّل بحفظ القرآن ولم يتكفَّل بحفظ السنة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وأحبابه وأزواجه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ ثم أما بعد:
فنرد أيضًا على بعض الشبه التي أثارها المشككون في حجية السنة، رددنا على فهمهم لكثير من الآيات التي حاولوا أن يستدلوا بها على غير بابها، وبينا أن فهمهم مخالف لفهم الأمة بأجمعها من سلفها وخلفها وقديمها وحديثها.
نواصل -بعون من الله تبارك وتعالى وتوفيقه- الرد على زعمهم بأن السنة المطهرة لم تحفظ، وهي شبهة أثاروها أيضًا، محاولين أن يستدلوا بها على ابتعادهم عن السنة وعدم تمسكهم بها، وعدم اعترافهم بحجيتها.
يقولون: إن القرآن الكريم قد حُفظ، وهذا الحفظ قد سجله الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم في قوله تبارك وتعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} (الحجر: 9) وإن هذه الآية تدل على أن القرآن وحده هو الذي حُفظ، ويستدلون أيضًا بأن السنة تعرضت لمشاكلَ كثيرة من وضّاعين، ومن من حاولوا أن يضيفوا إليها، وأن يحذفوا منها وأن يسقطوا الاحتجاج بها
…
إلى آخر ما يحاولون إثارته من شبه؛ ليستدلوا بها على أن السنة النبوية لم تُحفظ، وما دامت لم تحفظ فهي يتطرق إليها الشك والاحتمالُ، ومن ثم لا تكون لها حجية في الشرع، ولا نستطيع أن نحتكم إليها.
هذا هو هدفهم الذي يحاولون أن يصلوا إليه، وأن يحاولوا أيضًا إثباته من خلال الأدلة.
الرد من مجموعة من الجوانب:
أولًا: اتفقنا من خلال الأدلة من القرآن الكريم: على أن السنة تبين القرآن الكريم، وبداهةً لا يُمكن حفظ المُبيّن -وهو القرآن الكريم- بدون حفظ المبيّن -وهو
السنة المطهرة- وإلا لما كان هناك معنى؛ لأن السنة غير المحفوظة -على زعمهم- تُبيّن نصًّا محفوظًا اعترفوا هم بحفظه فقط دون السنة المطهرة، ما قيمة حفظ المبيَّن إذا لم يحفظ المبيِّن الذي بينه؟! اللهم إلا إذا نازعوا في أن السنة تبين القرآن الكريم، وحينئذٍ يتصادمون مع القرآن نفسه كما أوردنا قبل ذلك.
على أن الذكر في آية الحجر: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} كثيرٌ من العلماء قال: بأن المراد به القرآن والسنة، المراد به رسالة الإسلام، وقالوا: إن الآيات التي وردت تبين هذا، ويقصدون سياق الآيات التي تكلمت عن الكافرين، وأنهم يستهزئون بالقرآن الكريم:{ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُون * وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ * مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ * وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ * إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 3: 9) هؤلاء السفهاء من الكفار يستهزئون برسول الله صلى الله عليه وسلم ويتهمونه بالجنون، وما دام مجنونًا فإن الذي أتى به -سواء من القرآن أو من السنة- لا يمكن أن يكون محفوظًا، ولا له قيمة؛ لأنه صدر عن شخص مجنون، فدافع الله عز وجل عن نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله- سبحانه وتعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .
فسياق الآيات يُشعر بأن الذكر المراد في الآية إنما هو القرآن والسنة؛ أي: كل الذي نطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء به من عند الله تبارك وتعالى ردًّا على هؤلاء الكافرين المستهزئين الذين سخروا من رسول الله صلى الله عليه وسلم واتهموه بالجنون -قاتلهم الله وانتقم منهم بقوته سبحانه وتعالى.
وهذا الفَهم كثير من العلماء قاله، وقالوا: إن المراد أيضًا بـ {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الضمير في "له" يعود على رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: نزلنا الذكر
وحفظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَستلزم بالضرورة حفظ سنته، حفظ ما قاله، يعني: كيف يحفظ هو في ذاته فقط من الاتهامات؟ إنما أيضًا يحفظ من الاتهامات الظالمة؛ من اتهامه بالجنون، من أن ما جاء به ليس من عند الله، بأنه لا ينطق عن الحق
…
إلى آخر ما اتهموه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} حفظ للقرآن الكريم، وحفظ لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
ابن جرير -رحمه الله تعالى- في تفسيره قال: الضمير في قوله تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} يعود على محمد صلى الله عليه وسلم وإنا لمحمد حافظون ممن أراده بسوء من أعدائه، هذا رأي أورده بعد أن بيّن أيضًا أن:{وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} أي: يعود على القرآن الكريم أيضًا في المقام الأول، ونزيد نحن في استدلال ابن جرير نقول: حفظ النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي حفظ سنته، هذا من البدهيات، وإلا فلا معنى لحفظ النبي صلى الله عليه وسلم مع عدم حفظ سنته؛ لأن الباب للتشنيع عليه ولاتهامه وللسخرية منه سيظل مفتوحًا ما لم تُحفظ سنته بحفظ الله تبارك وتعالى. أيضًا هذا الرأي -أي: الضمير في عودته على رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله الألوسي -رحمه الله تعالى- ونسبه إلى الفراء، وقال -النقل عن الفراء-: وإنا للنبي الذي أنزل عليه الذكر لحافظون من مكر المستهزئين، كقوله تعالى:{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة: 67) يقول الألوسي: والمعول عليه الأول -أي: الرأي الأول- في أن المراد به القرآن، وابن كثير أيضًا ذكر هذا الرأي في تفسيره.
يقول -رحمه الله تعالى-: ومنهم من أعاد الضمير في قوله تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} على النبي صلى الله عليه وسلم كقوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} والمعنى الأول أولى؛ أي: المعنى الأول أن المراد به القرآن وهو المناسب للسياق.
انتهى كلام ابن كثير.
وذكره الزمخشري -رحمه الله تعالى- في (الكشاف) عند تفسيره لهذه الآية، رأيًا ثانيًا، لكنه لم يستبعده كما استبعده ابن كثير وكما استبعده الألوسي، وفي تفسير أبي السعود -رحمه الله تعالى- المسمى بـ (إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم) ذكره أيضًا ولم يستبعده، وذكره الفخر الرازي -رحمه الله تعالى- في تفسيره الموسوم بـ (التفسير الكبير ومفاتح الغيب)، ونسَبَه إلى الفرّاء وقال: زاد أيضًا، وقوّى ابن الأنباري هذا القول؛ يعني: ابن الأنباري قوى القول بأن مرجع الضمير يعود أيضًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم واعتبره رأيًا قويًّا، ونقل الفخر رحمه الله في تفسيره قول ابن الأنباري هذا.
إذن نحن أمام جملة من العلماء، وإن كان بعضهم قد استبعد إلا أنهم ذكروه رأيًا من بين الآراء في الآية، يعني: هذه الأقوال من قديم ليست من واردة اليوم وليست من فهمنا نحن؛ حتى يتهمنا البعض بأننا ندافع عن السنة بتعسف، هي أقوال قديمة موجودة: أن المراد بالحفظ أيضًا للقرآن وللنبي صلى الله عليه وسلم وكما قلنا: من المعلوم بداهة أن حفظ النبي صلى الله عليه وسلم يستلزم حفظ سنته، وإلا فإن الباب لم يغلق أمام سخرية الساخرين ومعاندة المعاندين، وجحود الجاحدين إذا بقيت السنة من غير حفظ على زعمهم.
وعلى فرض أن المراد بالذكر في الآية -كما قلنا- هو القرآن الكريم فقط؛ فإننا نؤكد أن حفظ القرآن بالضرورة يستلزم حفظ السنة، وأنه لا معنى لحفظ السنة بدون حفظ القرآن الكريم، وهذا أمرٌ من البداهة بوضوح؛ بحيث لا نقف عنده كثيرًا.
على أنه أيضًا توجد أدلة أخرى من القرآن الكريم في حفظ السنة، من ذلك: قوله تبارك وتعالى في سورة القيامة عن القرآن الكريم: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِه * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة: 16 - 19) قد يقال: إن آية الحجر: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}
دلالتها ليست إلا عن طريق اللزوم والتتبع؛ يعني: يلزم من حفظ القرآن حفظ السنة، والسنة تتبع القرآن، فكما حُفظ القرآن تُحفظ السنة، وهذا الدليل قد يعترض عليه البعض، إلا أن آيات سورة القيامة التي قرأناها نصّ صريح في حفظ الله تبارك وتعالى للسنة بطريق الأصالة والاستقلال، وليس عن طريق اللزوم أو الدلالة الالتزامية.
دلالة الآيات على ذلك من وجوه:
أن بيان القرآن الكريم على الله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} الله عز وجل تكفل ببيان القرآن كيف؟ أوكل إلى نبيه صلى الله عليه وسلم هذه المهمة، كما في سورة النحل:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) يترتب على ذلك أن الله تبارك وتعالى أوحى ببيانِ القرآن الكريم للنبي صلى الله عليه وسلم كما أوحى له بالقرآن الكريم ذاته، الله عز وجل قال:{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} يعني: نحن الذين سنبين القرآن الكريم ثم في سورة النحل في أكثر من آية أوكل الله مهمة بيان القرآن للنبي صلى الله عليه وسلم.
إذن، كما أوحى الله تبارك وتعالى بالقرآن للنبي صلى الله عليه وسلم أوحى أيضًا ببيان القرآن للنبي صلى الله عليه وسلم وهي السنة المطهرة، وكون السنة المطهرة وحيًّا من عند الله تبارك وتعالى هذا أمر ثابت بالأدلة، يترتب على أن الله عز وجل أوحى بالسنة كما أوحى بالقرآن للنبي صلى الله عليه وسلم على أن هناك وحيًّا متلوًّا وهو القرآن الكريم، ووحيًّا غير متلو وهو السنة المطهرة، وما دامت السنة وحيًّا من عند الله تبارك وتعالى وهي بيان للقرآن الكريم، فإن الله قد حفظ القرآن الكريم وحفظ بيانه، حفظ القرآن الكريم وحفظ السنة، وإلا كيف نفرق بينهما مع أن كليهما وحي من عند الله تبارك وتعالى ومع أن الله هو الذي تكفل ببيان القرآن على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم!!
هل يُنكر أحدٌ يفهم الأدلة الواضحة أمامه في أن الله تبارك وتعالى قد أنزل الذكر، وأنزل بيانه بالسنة المطهرة، مع افتراض أن الذكر هو القرآن الكريم فقط على حدّ ما زعموا، قد يشغب مشاغب ويقول:{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} أي: الله وحده هو الذي يُبين القرآن الكريم، وليس النبي صلى الله عليه وسلم وليس الأمة من علمائها الوارثين للنبوة، بدليل قوله تبارك وتعالى:{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} .
الرد على هذا الإشكال أو هذه المشاغبة من وجهين:
أولًا: تعارض ذلك مع القرآن الكريم: في أن الله تعالى أوكل لنبيه صلى الله عليه وسلم مهمة ما في القرآن الكريم، أنت إذا قلت: إن الله تبارك وتعالى وحده هو الذي بين القرآن الكريم ولم يبينه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبينه علماء الأمة فقد تعارضت مع القرآن الكريم على الأقل فيما يتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم الواضح القاطع الصريح في أن الله تبارك وتعالى كلّف نبيّه مهمة بيان القرآن الكريم كما في قوله تبارك وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ، أيضًا يتعارض هذا مع قوله تبارك وتعالى:{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} من الذي جمعه؟ لو قلت: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة: 19) تفيد بأن الله وحده هو الذي بيّنه وليست السنة، الآية التي قبلها:{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} أي: وقراءته، من الذي جمع القرآن الكريم؟ المسلمون جمعوه جمعين: في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه الجمع الأول، وفي عهد عثمان -رضي الله تعالى عنه- جمعه الجمع الثاني، في مصحف عثمان، ومعروف القصة للجميع، وهذه مسائل تدرس في علوم القرآن.
إذن، الأمة هي التي جمعت القرآن، والنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي بين القرآن الكريم للأمة من خلال السنة المطهرة.
إذن، لو قلت بأن علينا بيانه مقصود بها الله عز وجل تعارضت مع القرآن الكريم من زاويتين:
الزاوية الأولى: آية النحل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} وأيضًا في سورة القيامة: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَه} قبلها قال: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} والله عز وجل لم يجمع القرآن؛ بمعنى أنه لم يجمعه الجمع المعروف أنه جمع الآيات
…
، الوحي كان ينزل بها إلى كذا، لكن لم يوجد بيننا كتاب يقول: هذا جمع الله تبارك وتعالى للقرآن الكريم، إنما كان يوحى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يبلغ الأمة بترتيب الآيات وترتيب السور، ثم إن الكل يعلم أن الخليفة الأول رضي الله عنه هو الذي جمع القرآن كله، ثم جاء الخليفة الثالث رضي الله عنهم أجمعين- وجمع الأمة على مصحف عثمان الذي نعرفه جميعًا.
إذن، من يشاغب في هذا فإنه لا يشاغب معنا إنما يعاند القرآن الكريم، فهذا يتصادم مع القرآن الكريم، وكما حفظت الأمة القرآن الكريم فهي أيضًا حفظت السنة المطهرة بوسائل متعددة وبجهد جبار في ذلك يُدرّس في مواد خاصة في مادة مثلًا تاريخ السنة أو مناهج العلماء، نتتبع فيه جهد الأمة في صيانة السنة المطهرة.
إذن، وضح من خلال آيات القيامة أنها تحتوي على الدليل القاطع الأكيد في حفظ الله تبارك وتعالى للسنة المطهّرة.
وأشرنا إلى أن السنة وحيٌ من عند الله رب العالمين، هذا ثابت بالقرآن والسنة، في قوله تبارك وتعالى:{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} (النجم: 1: 5){وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} صلى الله عليه وسلم {إِنْ هُوَ} أي: كل ما ينطق به: {إِلَّا وَحْيٌ} هذا أسلوب قصر عن طريق النفي والاستثناء، يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق إلا بوحي من الله تبارك وتعالى سواء كان من القرآن الكريم أو من السنة
المطهرة، وإن حاول البعض أن يجعل الضمير في قوله تعالى:{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ} أي: القرآن، فهذا تضييق:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} ستقصرها على القرآن أيضًا، هو نطق بالقرآن وبغيره، نطق بالسنة المطهرة، فكيف تجعل الضمير يعود على بعض المنطوق ويترك البعض الآخر؟ حتمي هنا أن نقول:{إِنْ هُوَ} أي: القرآن والسنة؛ أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق في أي شيء ينطق به إلا بالقرآن الكريم والسنة المطهرة أي: بوحي من الله تبارك وتعالى.
وأيضًا في آيات كثيرة في سور متعددة في البقرة وآل عمران والأحزاب، والجمعة: يمن الله علينا بأنه: {بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (الجمعة: 2)، هذه الآيات التي ورد فيها ذكر القرآن والحكمة: يتلى عليكم الكتاب والحكمة تقتضي هذه الآيات أن الحكمة غير القرآن، بدليل المغايرة، ويعلمهم الكتاب والحكمةَ، لا بد أن تكون الحكمة غير القرآن؛ لأنه من البدهيات المعروفة عند النحويين أنه لا يجوز عطف الشيء على نفسه، بل إن العطف يقتضي أن المعطوف غير المعطوف عليه، إذن الحكمة غير الكتاب.
الآيات الأخرى من البقرة وآل عمران والأحزاب والجمعة بينت أن الحكمة غير الكتاب بدليل العطف الذي يقتضي المغايرة، ثم جاءت آية النساء لتبين أن القرآن والحكمة كليهما نازلٌ من عند الله تبارك وتعالى:{وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} بقي أن نقول: إن الحكمة هي السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأتنا بغير القرآن والسنة، فلزم حتمًا أن تفسّر الحكمة بالسنة، ولذلك يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في (الرسالة): فسمعت من أرضى من أهل العلم يقول: إن الحكمة هي السنة.