الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأخرجه الإمام أحمد في (المسند) وآخرون، من حديث أبي هريرة أيضًا، وذكره في عدة مواطن من مسنده.
وأخرجه النسائي من حديث أبي هريرة أيضًا في كتاب: الجنائز، باب التعزية
…
إلى آخره.
هذا الحديث يملأ دواوين السُّنة، لا يوجد كتابٌ من كتب السُّنة إلا وقد رواه، والحديث بذلك في أعلى درجات الصحة، يعني: لا ينازِع في صحته أحدٌ أبدًا من أئمة الشأن المعتمدين ممن لهم دارية وعمق في تخصص الحديث وعلومه قديمًا وحديثًا، ويكفي أن صاحبي (الصحيح) -رحمهما الله تعالى- روياه في صحيحيهما، فهو من المتفق عليه عند علماء الأمة، ويعتبر من الأحاديث التي أجمعت الأمة على تلقيهما بالقبول، بالتالي هو في أعلى درجات الصحة.
الرد على ما أثير حول الحديث من شبهات
لكنهم أثاروا حوله بعض الشبهات التي نحاول أن نوجزها فيما يلي:
يقولون: إن الملائكة لا يتعرضون للعاهات.
ويقولون أيضًا: إن الصالحين من عباد الله لا يكرهون الموتَ، فكيف بالرسل، بل كيف بأولي العزم من الرسل وسيدنا موسى منهم -خمسة من أولي العزم من الرسل، وهم أفضل الأنبياء: نوح، وموسى، وعيسى، وإبراهيم، وسيدنا محمد -صلى الله عليهم جميعًا- هؤلاء أولي العزم من الرسل- فكيف بنبي من أولي العزم من الرسل يكره الموت، مع أن الصالحين يحبون الموت؟ وفي رأيهم من هذا الأمر استدلوا بحديث:((من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه)) وهو حديث في الصحيحين أيضًا: ((ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه)).
أيضًا: هل كان موسى عليه السلام خائفًا من عقاب الله؛ لأنه وكزَ المصريَّ وقتلَه؟ وهل كان خائفًا حتى لا يحاسب على هذا الأمر؟
ويقولون أيضًا: إن الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- أورد هذا الحديثَ في كتاب: الفضائل، فأيّ فضائل لنبي الله موسى في هذه القصة؟!!
يقولون أيضًا: إن القرآن الكريم يُلصِق تهمة خشية الموت باليهود: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} (البقرة: 94، 95) يقولون: وها هو الحديث ينسب ذات التهمة إلى نبي الله سيدنا موسى عليه السلام.
نلاحظ أن معظم التهم تدور حول أن نبي الله موسى عليه السلام الحديث يُسَجِّل عليه أنه خائف من الموت.
أيضًا يقولون: إن هذا يعتبر من باب التعدي على موظّف أثناء تأدية عمله، ملك الموت جاء ليؤدي رسالته، فاعترض عليه سيدنا موسى وآذاه في أثناء تأدية عمله.
هذا طبعًا من الكلمات الحديثة التي تعاقب عليها القوانين الوضعية، أن يعتدي مواطن على موظف أثناء تأدية عمله، وهذه شبهة لا تستحق أن تذكر؛ لأن أنبياء الله لا يعامَلُون كموظفين في دولة ما، لكن على كل حال نحن نذكر الشُّبَه التي أثاروها، سواء التي تستحق الرد أو التي لا تستحق الوقوف عندها.
هذه معظم التهم التي أثاروها، والمشكلات التي ذكروها حول هذا الحديث الصحيح.
يقولون أيضًا: إن هذا الحديث يتعارض مع القرآن الكريم في قوله تبارك وتعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} (الأعراف: 34)
يعني: كيف يُمهِل الله نبيه موسى إلى أجل آخر، ولو اختاره فماذا يكون الحل، والمفترض أن الآجال محددة؟
أيضًا: هل يستأذن ملك الموت أحدًا قبل قبض روحه؟ إذا كان هذا لا يحدث فلماذا كان المفترض أن يحدث هذه المرة هنا؟
هذه بعض الإشكالات وبعض الشُّبَه التي أثارها المثيرون حول هذا الحديث قديمًا وحديثًا، والذين ينفخون في مثل هذه الشُّبَه الآن يتصورون أنهم أتوا بما يُوقِع العلماء، أو بما يوقع الدنيا في حيص وبيص ولن نستطيع أن نَرُدّ على ذلك.
أول شيء في الرد:
أن ملك الموت جاء لسيدنا موسى على هيئة رجل، وسيدنا موسى ظن أنه رجل يريد إيذاءَه، هو لم يقل له: إني ملك الموت وجئت لأقبض روحك، إنما الرواية التي معنا -كما قرأناها- هذا أولها:((أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام فلما جاءه صكَّه، فرجع إلى ربه فقال: أرسلتَنِي إلى عبد لا يريد الموت)) إذن جاء الملك على هيئة رجل.
ونقف مع مجيء الملك على هيئة رجل أولًا، فهذا أمر وارد وثبت بالأدلة بالنسبة لسيدنا النبي صلى الله عليه وسلم في قصص كثيرة، وأشهرها الحديث المعروف عند المحدثين باسم حديث جبريل عليه السلام وهو المرويّ، صدَّر به الإمام مسلم صحيحه:((بينما نحن جلوس ذات يوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرَى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحدٌ، فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى أسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخِذيه، وقال: يا محمد، ما الإيمان؟))
…
إلى آخره، سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، وعن الإسلام،
وعن الإحسان، هو حديث معروف مشهور في أعلى درجات الصحة، وفي نهاية الأسئلة:((انصرف الرجل فطلبه النبي صلى الله عليه وسلم فطلبوه، فلم يجدوه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا جبريل، آتاكم يعلمكم أمورَ دينكم)).
إذن الملائكة يتشكلون على هيئة البشر أحيانًا، وأحيانًا كما في (الصحيح) أيضًا كان يأتي الملك سيدُنا جبريلُ على هيئة دحية الكلبي، صحابي معروف عند الصحابة -رضوان الله عليهم- جميعًا. إذن تَخَلّق الملائكة بخِلقة البشر هذا أمر مكَّنهم الله منه، هم لا يصنعون ذلك إلا بإرادة الله تبارك وتعالى. ويقول العلماء: إنَّ مَنْ يكون على غير هيئة البشر، إذا أخذ هيئة أخرى على غير هيئته التي خلقه الله عليها، هذا يتم بإرادة الله، ولِحِكَمٍ يريدها الله عز وجل يُحْكَم بقانون الهيئة التي اتخذها، الجن أيضًا أعطاهم الله القدرة على التشكل بأشكال مختلفة: يأتون على هيئة حيوانات، أو على هيئة بشر. هذا أمر معروف وعليه الأدلة، ونحن لا ننتقل للكلام عليه.
لكن الذي أريد أن أوضّحه أن الملك أو الجن إذا أخذ هيئة البشر حُكِم بقانون البشر، بمعنى أنه تكون له يد وعين، ومن الممكن أن يَلطِم وأن يُلطَم
…
إلى آخره.
إذن سيدنا موسى تعامَل مع بشر، لم يخبره أنه ملك الموت وجاء ليقبض روحه.
هذه مسألة أُولى، مجيء الملك على هيئة البشر وأنه جاء لموسى عليه السلام بهذه الهيئة، وأن موسى عليه السلام تعامل معه على أساس هذه الهيئة التي جاء بها عليه.
ثانيًا: ظَنَّ سيدنا موسى أنه رجل يريد إيذاءَه، فدفع الإيذاءَ عن نفسه بما لم يكن يقصده من فقء العين، كما نعلم أن سيدنا -موسى عليه السلام كان قويًّا متينًا، هذا ثبت في القرآن الكريم:{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} (القصص: 26) وأيضًا في قصة الخلاف بين الإسرائيلي والمصري:
{فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} (القصص: 15) سيدنا موسى وكزه، لم يضربه بآلة قاتلة، ولم يضربه ضربًا شديدًا، رزقه الله القوةَ، هذه لحِكَم أخرى، وعلى رأسها أنه يتعامل مع قوم متعِبين مرهِقين جدًّا، بنو إسرائيل هؤلاء رأى منهم سيدنا موسى ما لا يحتمل وما لا يُتَصَوّر، لكن لأمور أرادها الله تعالى كان سيدنا موسى قويًّا جدًّا فوكزه، إذا أحد منا وكز إنسانًا آخر، هل هذه الوكزة تقضي عليه؟ لكنها بالنسبة لسيدنا موسى لأنه كان قويًّا قضت عليه، فلعل سيدنا موسى لَطَمَهُ لطْمةً لا يقصد بها أن يفقأ عينه فحدث ذلك.
أما قضية: هل الملك له عين، فهل تفقأ؟
قلنا: إن الملك إذا أخذ هيئة البشر حُكِمَ بقانونها؛ فيُصبِح له عين، وله أرجل، وله أيدٍ، ومن الممكن أن يُلحِق الأذى بأيّ عضو من هذه الأعضاء، لأنه في الحالة التي تخلَّق فيها على هيئة البشر، أو أخَذَ في هيئة البشر، يُحْكَم بقانون البشر؛ فيتعرض لما يتعرض له البشر من كل شيء، هذا أمر قرره العلماء والأدلة قامت عليه، يمشي ويركب، ويلبس الثوب الأبيض، ويتكلم باللسان العربي الفصيح، كما جاء مع سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم: ((شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرَى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، وجلس كما يجلس البشر جميعًا، وأسند ركبتيه إلى ركبتَي النبي صلى الله عليه وسلم ووضع يديه على فخذَي النبي صلى الله عليه وسلم وسأله: يا محمد
…
)) إلى آخره، ثم انصرف بعد أن قال الأسئلة التي أراده الله عز وجل أن يقولها.
إذن جاء الملك على هيئة بشر، لم يخبر سيدنا موسى بأنه ملَك الموت، سيدنا موسى ظنَّه رجلًا يريد إيذاءَه، فدفعه عن نفسه، هذه الدَّفعة كانت قويةً من غير
قصد إيذاء، إلا أنها فقأت عينَ الملك، فذهب إلى ربه يشكو له وقال له:((إنك أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت)).
هذه بعض التلخيصات للرد على هذه الشبهة:
الإمام النووي في (شرح مسلم) يقول:
أولًا: ربما أذِنَ الله لموسى في تلك اللطمة؛ امتحانًا للملك نفْسِه الذي يقوم بهذه المهمة، يعني: امتحانًا للملطوم نفسه وهو الملك، كأن الله تبارك وتعالى يريد أن يقول له: ستتعرض لبعض المشاكل أثناء تأدية مهمتك، فعليك أن تتحملها، وأظن أنه لا توجد مهمة أبدًا في الدنيا من غير أن تكون لها بعض المشاكل الجانبية، وعلى الذين كُلِّفوا بمهامّ أن يتحملوا بعض المشاقّ التي تتعلق بأدائهم لهذه المهمة، وعليهم أن يصبروا وأن يحتسبوا، وأن يطلبوا الأجر من الله تبارك وتعالى.
هناك وجه آخر في القضية قاله العلماء، قاله الإمام النووي، وقال القرطبي، وقاله القاضي عياض في تفسيرهم لفقء موسى لعين ملك الموت: إن هذا كان أمرًا معنويًّا، يعني: بمعنى أنه ليست هناك عين حقيقية فُقِئَت ولا شيء، والمراد أنه غَلَبَه بالحجة، يُقَال في المجاز عند أهل البلاغة وفي اللغة: فلان فقأ عين فلان أي: أفحمه، وأقام عليه الحجة، ومع أنهم ذكروا هذا الرأي إلا أنهم قالوا: إنه وجه ضعيف، يردّه ما ورد في الحديث نفسه من أنْ عاد إلى الله تعالى، فردَّ الله إليه بصرَه، فلو لم يكن هناك فقء حقيقي للعين ما كان هناك معنى لقوله:((فردّ الله عليه عينه)).
أيضًا ليس في الحديث تصريح بتعمُّد سيدنا موسى عليه السلام لإيذاء الملك، وهذا وجه قاله القاضي عياض، وقاله المازاري، وقاله غيرهم، أين هو النص في الحديث
الذي يبيِّن أن سيدنا موسى تعمَّدَ إيذاء الملك، هو يقول:((صكه))، مثل:{وَكَزَه} في الآية القرآنية، فقضى عليه من غير قصد للقتل أبدًا، وأيضًا هنا صكه ففقأ عينه من غير قصد للإيذاء.
إذن ليس في الحديث ما يدل أبدًا على أن سيدنا موسى تعرض بالقصد المتعمَّد بالإيذاء لملك الموت حين جاءه.
أيضًا يقول القرطبي في (المفهم):
هي عين متخيَّلة لا حقيقة، أو هي معنوية بمعنى الحجة، قال: وهذان القولان لا يُلتفت إليهما لفسادهما. هذا تعبير القرطبي في (المفهم). يعني: علماؤنا من شدة إيمانهم بالحديث لم يقبلوا بالمجاز فيه، ولم يقبلوا صرْفَه عن حقيقته؛ لأنه ليست عندنا لا ضرورة إيمانية ولا ضرورة عقدية ولا أي إشكال أبدًا في فَهم الحديث على ظاهره كما ورد في كتب السنة؛ ولذلك تكاد تُجْمِع كلماتُهم على رفض التأويل المجازي لهذا الحديث، هذا وقع من قوم لا يَمتنع عندهم في فَهمهم، مثل: الإمام النووي، والإمام القرطبي، من القول بالمجاز في كثير من القضايا.
يقول القرطبي -رحمه الله تعالى-: وهذان القولان -أي: هي عين متخيلة، أو معنوية- لا يلتفت إليهما لفسادهما، وخصوصًا الأول التي هي عين متخيلة؛ لأنه يؤدي إلى أن ما يراه الأنبياء من صور الملائكة لا حقيقة لها، يعني: لو أردنا مثلًا مخافة الشُّبَه والتهم أن نصْرِف الحديث عن ظاهره بأن نقول: إنها عين متخيلة وليست حقيقية، لوقعنا في إشكال آخر، معنى ذلك أن ما يراه الأنبياء من صور الملائكة على غير هيئتهم الملائكية لا حقيقة له، يعني: من الممكن أن يكون ملكًا أو ليس ملكًا، والنبي لا يعرف ذلك، وهذه قضية خطيرة جدًّا، إنما أن يقال: إنه كما قلت لم يقصد الإيذاء، وإن العين حقيقية، غير أن ملك الموت لمَّا أتى على
هيئة رجل لم يَعْرِف سيدُنا موسى أنه ملك الموت، وأنه رأى رجلًا دخل منزله بغير إذنه، فدافع عن نفسه، فلطم عينه ففقأها من غير قصد منه، وهذا أيضًا رأي ابن خزيمة -رحمه الله تعالى-.
هناك أيضًا توجيه آخر، واعتبره القرطبي أقوى الآراء في فَهم المسألة: وهو أن ملك الموت لم يخيِّرْ سيدنا موسى في قضية الموت.
ومن بيْن الشُّبَه التي ذكرناها هناك من تساءل: هل ملائكة الموت يخيِّرون الناس أو يستأذنونهم قبل قبض أرواحهم؟ هذا ثابت بالنص في حق الملائكة، الحديث في الصحيحين رواه البخاري ومسلم:((إن الله تعالى لا يقبض روح نبي حتى يُخيِّره)). وأيضًا هذا ثابت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله خيَّرَ عبدًا، فاختار ما عند الله)) ول ذلك حتى هذا الحديث لمَّا سمعه أبو بكر رضي الله عنه بكى، وتعجب الناس من بكاء أبي بكر، هذا الحديث مرويّ في (الصحيحين) في فضائل أبي بكر -رضي الله تبارك عنه- ومن رواية أبي سعيد الخدري، يقول:"تعجبنا من بكاء أبي بكر، النبي صلى الله عليه وسلم يتحدث عن رجل خيَّره الله، فاختار ما عند الله، اختار الرفيق الأعلى، فلماذا يبكي أبو بكر؟ لكن فهِمْنا بعد ذلك أن هذا الرجل الذي خُيِّر هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمنا أن أبا بكر رضي الله عنه هو أعلمنا". هذا من الأدلة التي يستدلون بها على أن أبا بكر رضي الله عنه هو أعلم الصحابة.
لكن محل الشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم خُيِّر، وأيضًا في (الصحيحين) في مرض موته: ((بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى ((.
وواضح جدًّا في الرواية أن سيدنا موسى لم يخيره الملك، ليس في الرواية نصٌّ أبدًا يفيد أن الملك خيَّره وأنه أعلمه أنه ملك الموت، ثم بعد ذلك فعل به سيدنا موسى ما فعل، كل ذلك ليس واردًا في الرواية، وتحميل الرواية ما لم يَرِد فيها تحميل
بغير موجب أبدًا وبغير مبرر، إنما فقط ليُثيروا الشُّبَه والإشكالات التي لا تساعدهم الرواية على ذلك.
الخلاصة:
أن ملك الموت جاء على هيئة رجل ولم يخيِّر سيدنا موسى، وسيدنا موسى ظنه رجلًا يريد إيذاءه فدفعه عن نفسه فلطم عينه من غير قصد للإيذاء، وذهب واشتكى إلى ربه فردَّ الله تعالى عينه، أَذِنَ الله لموسى في تلك اللطمة؛ امتحانًا للملطوم، أيضًا هذا وجه آخر قاله العلماء، وهو لا بأس به، وكما قلنا هناك من يقول: إنه على سبيل المجاز، أي: غلَبَه بالحجة، وهذا وارد في اللغة، يقولون: فقأ عينه، أي: أقام عليه الحجة وأفحمه، ومع ذلك فعلماؤنا لم يرتضوا هذا الوجه؛ لأنهم لم يقبلوا بصرف الحديث عن ظاهره، وأيضًا لم يقبلوا أن يقال معها: إن هذه العين متخَيَّلة وليست حقيقية، وردَدْنا وبيَّنَا أن القرطبي رحمه الله بيَّن أنه قول فاسد يترتب عليه قول آخر خطير، وهو أن الأنبياء حين يرون صورًا للملائكة فهي لا حقيقة لها، وهذا أمر خطير جدًّا.
والقرطبي -كما قلنا- رجح، أو كان أقوى الأقوال عنده، أن سيدنا موسى ملك الموت لم يخيّره، فأراد أن يدفع الأذى عن نفسه بذلك، وسيدنا موسى يعلم أن الأنبياء لا تُقْبَض أرواحهم إلا إذا خُيِّروا.
في قضية أن سيدنا موسى يكره الموت:
ليس في الحديث أبدًا ما يبين أن سيدنا موسى يكره الموتَ، هو ليس فيه إلا كلمة الملك:((أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت)) سيدنا موسى لم يقل: إنه لا يريد الموت، بل بالعكس، أنا أتعجب من الذين يُثيرون الشُّبَه، ولأنهم غير
متخصصين فَهُم لا يلتفتون إلى المتون وكيفية التعامل معها، متن الحديث نفسه يردّ على هذه الشبهة، وهي شبهة أن سيدنا موسى لا يريد الموت.
لكن دعنا نقول: ((من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه)) ما هو التطبيق العملي لهذا الحديث؟ وهذا التطبيق العملي ليس من عندنا، هو في (الصحيحين)، أمّنا عائشة تسأل إن كان المراد ما يَنْتَابُنَا من كراهية الموت، فكلنا نكره الموت، كلنا نخشى الموت ونكرهه، فإن كان هذا الحديث ينطبق على هذه الحالة من كراهية الموت جميعنا نقع تحت هذا المحظور، والله عز وجل في الحديث القدسي سجَّل علينا أننا نكره الموتَ، يقول سبحانه وتعالى في الحديث القدسي:((يَكْرَهُ الموتَ وأنا أكره مَسَاءَتَه)) فكراهية الموت مُسجَّلة على البشر.
لكن حديث بالذات: ((من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه)) التطبيق العملي والفهم الذي أقوله الآن ليس من عند نفسي، إنما تطبيقه من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما سُئل: هل هذا الحديث المعنيّ به الحالة التي تنتابنا من الخوف من الموت في الدنيا؟ لا، فسره بأنه عندما يقبل الإنسان على الموت فعلًا ويعاين الآخرة، ويرى ما هو مقبل عليه، تنطبق عليه هذه الحالة، إن كان من أهل التوفيق والفلاح والسداد، فيرى موقعَه الطيب الذي أعدّه الله تبارك وتعالى له فيفرح بلقاء الله؛ لأنه سيذهب إلى تلك المكانة الطيبة السامقة السامية والجنة بإذن الله تبارك وتعالى فيفرح بلقاء الله ويفرح الله تعالى بلقائه، وإن كان مكانه على غير ذلك -ونسأل الله أن يعيذنا جميعًا من هذا- فإنه يخاف ويتألم، ويُقْبِل على الله بنفس كريهة وقلب رافضٍ، لكنه لن يتمكن من الهروب، لكنه رأى آخرته وما هو مقبل عليه من عذاب، فكره ذلك، ويكره الله تبارك وتعالى لقاءه.
لكن الذين يحتجون بهذا الحديث، ثم يرتبون على هذا القول بأن عباد الله المخلصين وهم ليسوا بأنبياء وليسوا بأولي العزم من الرسل، لا يكرهون الموت ويُقْبلون على الله بحب، فكيف بنبي من أولي العزم من الرسل يكره الموت؟!!
قلنا: الرد من عدة وجوه:
أولا: ليس في الرواية ما يفيد أن سيدنا موسى يكره الموت، هذه واحدة.
ثانيًا: حديث: ((من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه)) التفسير له الذي يبين التطبيق العملي له هو من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من سؤال أمنا عائشة، وبيّن أن المراد هي لحظة معينة، التي يُقْبل فيها المرءُ على ربه بحب أو ببغض -والعياذ بالله- وفقًا للمكانة المعَدّة له في الآخرة، التي يطَّلع عليها عند المعاينة.
ثالثًا: نصُّ الحديث يردّ على هذه الشبهة "ذهب ملك الموت" لا أدري لما لم يلتفتوا إلى هذا "ذهب ملك الموت إلى ربه، إنك يا رب أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت" ماذا كانت النتيجة؟ "قال له ربه: اذهب إليه وقل له: ضع يدك على متن ثَوْرٍ" اختر ثورًا، ضع يدك على متنه، على ظهره، وعُدَّ الشعرات التي وقعت يدك عليها. وأنا أسأل: حين يضع أحدنا يده على متن ثور، فكم يكون عدد الشعرات التي تقع تحت يده؟ آلاف الشعرات، هذا تخيير من الله تبارك وتعالى لنبيه: إن شئتَ كل هذه السنوات فهي لك. قال موسى عليه السلام: ((ثم ماذا؟ قال: الموت. قال: فالآن)). أهذا تصرف رجل يخاف الموت؟!
إذن نصُّ الحديث لو أعملوا عقولَهم في المتن لعلموا أن المتن يتضمن في طياته الرد على أخطر تهمة يتصورونها أنهم وجَّهوها للحديث، وهو أن سيدنا موسى يكره
الموت، وهو من أولي العزم من الرسل، ثم هذا خطأ لا يقع فيه إلا اليهودُ على حد ما قالوا، اليهود وغيرهم يخافون الموت، لكن اليهود أشد وأنكى، أما كما قلتُ فالله عز وجل قد سجَّل علينا:((يَكْرَهُ الموت وأنا أكره مَسَاءَتَه)) أما اليهود فشنيعتهم أشد؛ ولذلك سُجِّل عليهم في القرآن الكريم وفي سورة البقرة وفي سورة الجمعة هذا الخوف: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} (البقرة: 96) وبيّن أنهم لن يتمنوا الموت أبدًا لا في الماضي ولا في المستقبل، بل هم يحبون العَيْش على أيّ صورة من صور الحياة أيًّا كانت هذه الحياة:{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} (البقرة: 96) حتى لو كانت حياة مُتعِبة مرهِقة فيها ذلة، فيها مهانة، هذا ليس من خُلُق أهل الإيمان ولا أهل التقوى، فهم أشنع وأشد في ذلك.
أما الخوف الذي ينتابنا نتيجة أننا نعلم أننا مقبلون على الله عز وجل وأننا سنحاسَب على ما قدمت أيدينا، ونتذكر ما قدمنا من تفريط ومن تقصير، فلا بد، بل هذا شيء طبيعي، لا يتناقض مع الإيمان أن نخاف من الموت، ولعل هذا الخوف يدفعنا إلى أن نُحسِن العمل؛ رجاءً في أن نتبوَّأ مكانة طيبة عند الله عز وجل.
أثاروا سؤالًا: كيف يضع الإمام مسلم هذا الحديث في كتاب الفضائل؟ وأيُّ فضيلة لسيدنا موسى في هذا؟!
هم حفظوا شيئًا وغابت عنهم أشياء، كل الذي تنبهوا له أو الذي وقعوا فيه تلك اللطمة، وكيف تقع، وفسروها كما يريدون، ونسُوا أنه فُتِحَ الباب أمامه ليعيش عشرات من السنين، ولكنه أقبل على ما عند الله عز وجل فهذه فضيلة، ثم سؤاله لربه أن يُدْفَن بالأرض المقدسة، هذه منقبة وفضيلة، كيف لا وهاتان منقبتان؟!