الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما مادة شبه بمعنى الشبيه، فهذه قد وردت في أحاديث كثيرة، منها مثلًا:((وأما الشبه في الولد، فإن الرجل إذا غَشي المرأة فسبقها ماؤه؛ كان الشبه له، وإذا سبق ماؤها كان الشبه لها)) الشبه هنا بمعنى المماثلة، وهذا الحديث رواه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء باب خلق آدم وذريته، هو جزء من حديث، وأيضًا رواه مسلم في كتاب الحيض، باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها، في قصة غير قصة البخاري، يعني: كل واحد ساق للحديث قصة غير الآخر، لكن القدر المشترك منها هو استعمال كلمة الشبه هنا بمعنى الدلالة على المماثلة.
الخلاصة: أن القرآن الكريم والسنة المطهرة استَعملا كلمة الشبه بالمعنيان الذي قلناهما، نقلًا عن كتب اللغة، ونخلص في النهاية إلى أن مادة شبه فيها معنى التشابه والتماثل، وفيها معنى الالتباس والإشكال في اللغة، وفي الشرع: ما التبس أمره، فلا يُدرى ما هو من باب الحلال أم الحرام، وهذا يرجع فيه إلى أهل الاختصاص.
موقفنا من الشُبه وواجبنا نحوها
لو أن أحدنا عرضت له شبهة في أمر من الأمور، ما هو موقفه؟ وفي الحقيقة تعرضت لها لأنها مسألة إيمانية مهمة، وتمثّل جانبًا من جوانب العظمة والروعة في الإسلام وعلاجه لما يعتلج في النفوس البشرية.
نحن في رحلة الإيمان لنا أعداء، من الشيطان ومن النفس والهوى، كما هو ثابت بأدلة كثيرة، وقد ينزغ الشيطان في صدر المؤمن بما يُخالف الشرع، وقد تحدِّثه نفسه أو هواه شياطين الإنس أو الجن، فما هو الحل؟
عند الإمام مسلم في كتاب الإيمان، روى الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- بسنده إلى أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا وكذا؟ حتى يقول له: من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذْ بالله، ولينتِه)) وفي رواية: ((فليقل: آمنت بالله)).
إذن، ممكن تثار شبهة في النفوس، الشيطان يلقيها، أو أيّ جهة أخرى تلقيها من شياطين الإنس الآن، من الذين نقرأ لهم أو نسمع لهم في أي مكان، ما هو الحل؟
وأنقل كلامًا عن الإمام النووي -رحمه الله تعالى- في أثناء شرحه لهذا الحديث في (شرح مسلم) يقول -رحمه الله تعالى: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((فمن وجد ذلك فليقل: آمنت بالله))، وفي الرواية الأخرى:((فليستعذ بالله، ولينْتَه)) فمعناه: الإعراض عن هذا الخاطر الباطل، والالتجاء إلى الله تعالى في إذهابه.
بعض نزغ الشيطان يكفي في ردِّه أن تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وقد ورد في ذلك قول الله تبارك وتعالى:{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (فصلت: 36){فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (النحل: 98) لكن إذا كانت شبهة؛ يعني: كثير من الخواطر البشرية السيئة يكفي في ردِّها أن تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، كما ورد في الحديث، ولتقطع المواصلة في التفكير عن هذا الخاطر بأي طريقة كانت؛ كأن تخرج من المكان الذي أنت فيه، كأن تغلق الكتاب الذي تقرأ فيه مثل هذا الكلام، أو الشريط الذي تسمع فيه هذا الكلام، أو تنتقل إلى مجموعة من أصحابك الصالحين تدير معهم حديثًا آخر بأي شكل كان.
لكن لو كانت شبهة، ينقل الإمام النووي عن الإمام المازري في (المعلم) قوله:
قال الإمام المازري رحمه الله: "ظاهر الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يدفعوا الخواطر بالإعراض عنها، والرّدّ لها، من غير استدلال ولا نظر في إبطالها، لكن: والذي يقال في هذا المعنى: إن الخواطر على قسمين؛ فأما التي ليست بمستقرة، ولا اجتلبتها شبهة طرأت فهي التي تُدفع بالإعراض عنها، وعلى هذا يُحمل الحديث، وعلى مثلها يُطلق اسم الوسوسة، فكأنه لمّا أراد أمرًا طارئًا بغير أصلٍ؛ دُفع بغير نظر في دليل، إذ لا أصل له يُنظر فيه، وأما الخواطر المستقرة التي أوجبتها الشبهة فإنها لا تُدفع إلا بالاستدلال والنظر في إبطالها".
كلام ثمين حقيقة ويفرّق بين أمرين مهمين:
الأمر الأول: الخواطر التي لا تعتمد على أدلة، وهي من باب نزغ الشيطان أو حديث الهوى كما قلت: شياطين الإنس والجن، هذه لا أصل له، ولا تعتمد على أدلة؛ فالوقوف معها مَضيعة للوقت وللجهد، ويكفي الله عز وجل كفانا إيَّاها، بجهد بسيط وبأن نستعيذ به سبحانه وتعالى من نزغ الشيطان في صدورنا، لكن التي فيها شبهة أدلة لا بد من العمل على إزالة هذه الشبهة، هذا تفريق مهم، وهو كثير في المسائل العلمية، ووقفت عنده لأن له صلة بالمادة العلمية التي ندرسها المتعلقة بالشبه حول السنة.
حقيقة، كثير من الشبه لا يستحق أن يُردَّ عليه، لكن البعض حاول أصحابها أن يُلبسوها ثوب البحث العلمي، وأن يقيموا عليها بعض الأدلة؛ فيجب الرد عليهم بأدلة، وليس الهدف من هذا الرّدّ أن نرضيهم، فقد لا يرضون أبدًا، وربنا عز وجل حدثنا عن اليهود والنصارى أنهم لن يرضوا عنَّا أبدًا:{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (البقرة: 120) وإنما الإجابة على هذه الشبه والإشكالات إنما لتنقية صدورنا، وصدور أولادنا أبناء الإسلام.
في هذه الأيام المعرفة أبوابها مفتوحة كثيرة جدًّا عبر الحاسب الآلي، والإنترنت، والفضائيات، ولا نستطيع أبدًا إغلاق أبواب هذه الفتن؛ إنما المراد تحصين شبابنا وأولادنا ضدَّ هذه الفتن، التي هي في الحقيقة لا تعتمد على أدلة، لكن ما دام قد أثاروها وحاولوا أن يُقيموا حولها كلامًا يريدون به التنغيص على الإسلام وأهله؛ فلا بد من الرّدّ عليهم. إذا كان الأمر يعتمد على الأدلة فقاوم هذا الأمر بالأدلة، الإسلام دين العلم، دين التفكير الناضج، دين الاعتماد على الأدلة:{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111)، إن كان الذي يثير إشكالًا له أدلة نقف مع هذه الأدلة، نناقشها، ونرد عليها، ونفحمها، ونبطلها، وإن كانت لا تعتمد على أدلة نُعرض عليها أيضًا، هذا أسلوب اعتمده القرآن الكريم واعتمدته السنة المطهرة، {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} (الجاثية: 24) لم يردّ عليهم؛ لأن هذا مسخ للفطرة وانحراف بها، واحد ينكر إن الكون له رب يسيره، واحد يقبل أن هذا الإبداع في الكون وتلك العظمة في تسيير أموره من غير من يدبّر ذلك. هذا لا يتوقف عنده؛ بينما مثلًا أقام القرآن على الأدلة على الوحدانية، لأنها أم القضايا في الإسلام:{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} (المؤمنون: 91){لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الأنبياء: 22)، هذه تعتبر أدلة، ويمكن ترتيبها في مقدمات ونتائج، لكن لأن قضية الوحدانية هي أم القضايا التي يتفرع عنها كل القضايا في دين الإسلام؛ لذلك اهتم القرآن بها، وأقام الأدلة عليها، وردَّ شُبَهَ المنكرين لها.
أما قضية أن يكون الله موجودًا -جل في علاه- هذا أمرٌ فطرنا الله عليه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} (الأعراف: 172، 173)، إذن ردّ القرآن الكريم على بعض الشبه، ولم يهتم ببعض الشُّبَه الأخرى.
{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111) جاءت في أكثر من آية ردًّا على من يُثير شبهًا، أنت لا تملك دليلًا، ولذلك لم يردّ القرآن عليه في مثل هذه الأمور، وإنما طلب منه الإتيان بالدليل حتى يُردَّ عليه. إذن هو اهتم ببعض القضايا فرد عليه بالأدلة وترك بعض الأمور؛ لأنها تَفتقد الأدلة، ومن ثَمَّ يكون الوقوف معها مضيعة للوقت، وإتلافًا للجهد في غير طائل، والأولى أن تنصرف هممُ المسلمين، وأن يستثمروا جهدهم ووقتهم فيما ينفع المسلمين في دينهم ودنياهم.
إذا عرفنا الشبه نقول: المشكلات التي يثيرها أعداء الإسلام حول السنة، الخلط الذي يُثيره أعداء الإسلام من المستشرقين ومن غيرهم حول السنة المطهرة، من يوم أن قال الرسول صلى الله عليه وسلم السنة. وسيظل هذا الأمر، لم يخلُ عصر من العصور ممن يثيرون الشبه حول السنة.
وجاءت الفرق الإسلامية وكان لها موقف من السنة يدرَّس في تاريخ السنة وفي موقف الفرق منها: المعتزلة، والخوارج، والمرجئة، وغيرهم، والشيعة وغيرهم، وامتدادًا إلى العصر الحديث من العلمانيين، والجاحدين، والمنكرين، والمستشرقين يُثيرون الشبه حول الإسلام، وحول سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
لماذا كان هجومهم على السنة؟
لأنها هي خط الدفاع الأول عن الإسلام، لأنها التي تبين القرآن الكريم، لأنها هي التي تُشرع كما يُشرع القرآن الكريم، وهم يعلمون أن الهجوم عليها إنما هو هجوم على الإسلام ذاته، ممثلًا في مصدريه الرئيسين "القرآن الكريم والسنة المطهرة"، لو سُلم لهم هذا -والعياذ بالله- ما بقي لنا من إسلامنا شيء، ولذلك هذا الذي يجعلنا نقول: إن السنة لن يتوقف الهجوم عليها في أي عصر، طالما للإسلام أعداء من داخل أرضه ومن خارج أرضه.
وأيضًا نطالب في الجهة المقابلة أن يكون للسنة المطهرة جنود يُدافعون عنها في كل زمان ومكان، وأن يُقبلوا على دراستها بروح الجندية، ولذلك أنا أطلب من أبنائي الذين يسمعونني الآن أن يُقبلوا على دراسة السنة بهذه الروح، ويعلمون أنهم على ثغرٍ من ثغور الإسلام يُحاول الأعداء أن يتسلَّلوا إلى الإسلام من قِبَله، ومن ناحيته، ليس بأسلوب عسكري، وإنما بأساليب ناعمة قد تخفى على البعض، وقد يلبسون لباس العلم، ويتمسَّحون بردائه ويُوهمون المتلقي أنهم يتتبَّعون المناهج العلمية.
وبالله التوفيق وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.